عنوان البحث: البلاغة والتّداوليّة في آيات العقيدة في سورة الإخلاص (دراسة تحليليّة)
اسم الكاتب: فاطمة سالم برغيلة
تاريخ النشر: 16/07/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 38
تحميل البحث بصيغة PDFالبلاغة والتّداوليّة في آيات العقيدة في سورة الإخلاص (دراسة تحليليّة)
Rhetoric and Pragmatics in the Verses of Faith in Surat Al-Ikhlas
(An Analytical Study)
Fatima Salem Berghayle فاطمة سالم برغيلة([1])
تاريخ الإرسال: 15-5-2025 تاريخ القبول: 27-5-2025

الملخص
تناولت هذه الدّراسة سورة الإخلاص من خلال البلاغة، السّياق العقدي، التّداوليّة، وأفعال الكلام، مسلطة الضوء على دور هذه العناصر في ترسيخ عقيدة التوحيد. تُعد السورة نصًا محوريًا في العقيدة الإسلامية، إذ تقدم مفهوم الوحدانيّة بأسلوب موجز ورفيع، يخاطب العقل والقلب معًا. تناولت الدّراسة السّياقات المختلفة التي تعزز فهم النّص، ومنها السّياق التّاريخي والاجتماعي الذي يعكس مواجهة النّبي ﷺ تساؤلات المشركين حول طبيعة الإله. جاء النّص القرآني ردًا واضحًا ومباشرًا لتأكيد تفرد الله وتنزيهه عن أي شريك أو مثيل.
كما تناولت الدّراسة السياق العقدي الذي يُبرز الحاجة الملحّة لتقديم توضيح شامل عن صفات الله وكماله، ما يرسخ مفهوم التّوحيد في مواجهة التّصورات الوثنية السّائدة. البلاغة في السورة تميزت بالإيجاز وقوّة التّعبير من خلال كلمات مثل “أحد” و”الصمد”، التي تبرز تفرد الله واستغناءه الكامل عن الخلق. بالإضافة إلى ذلك، ركزت الدّراسة على دور التّداوليّة في توجيه الخطاب بما يتناسب مع السّياق الزّمني والاجتماعي، مشيرة إلى أفعال الكلام مثل “قل” و”لم يلد” كنماذج تعكس قوة النص في نقل الرّسالة الإلهيّة بوضوح وإقناع.
خلصت الدّراسة إلى أن سورة الإخلاص تمثل نموذجًا للإعجاز القرآني، إذ تتكامل البلاغة والعقديّة والتّداوليّة لتقديم رسالة شاملة. وأوصت بتطبيق هذا النوع من التحليل على سور قرآنية أخرى لتعزيز الفهم المتكامل للنصوص القرآنية.
الكلمات المفتاحيّة: سورة الإخلاص، البلاغة القرآنية، أفعال الكلام، التّداوليّة.
Abstract
This study examines Surah Al-Ikhlas through the lenses of rhetoric, speech acts, and pragmatics, aiming to highlight its role in establishing Islamic monotheism. Surah Al-Ikhlas is a pivotal text that succinctly encapsulates the essence of Tawheed (monotheism) in a refined and eloquent style that appeals to both the intellect and the heart.
The research delves into the various contexts that enhance the understanding of this Surah, including its historical and social setting, which reflects the Prophet Muhammad’s ﷺ encounters with the polytheists’ inquiries about the nature of God. The Qur’anic response came as a clear and direct declaration of Allah’s uniqueness and transcendence.
The study also highlights the rhetorical precision of the Surah, characterized by its brevity and profound linguistic choices, such as the terms “Ahad” (The One) and “Al-Samad” (The Self-Sufficient Master), which emphasize Allah’s absolute uniqueness and independence from creation. Furthermore, it explores the pragmatic elements of the Surah, demonstrating how its message aligns with the socio-historical context to address polytheists directly while maintaining universality. Speech acts, such as the imperative “Say” and the repeated negations, serve to reinforce the message of monotheism and Allah’s transcendence.
The study concludes that Surah Al-Ikhlas exemplifies Qur’anic inimitability, where rhetoric, pragmatics, and speech acts integrate seamlessly to deliver a comprehensive theological message. It recommends applying this analytical approach to other Qur’anic chapters to deepen understanding and uncover further dimensions of the Qur’anic text.
1. Keywords:
Surah Al-Ikhlas, Qur’anic Rhetoric, Speech Acts, Pragmatics.
المقدمة
يُعدُّ القرآنُ الكريمُ أحدَ أعظمِ النصوصِ التي أثّرت في تطوّرِ الفكرِ الإنسانيِّ والثقافةِ العالميّةِ، إذ يمثّلُ نموذجًا متفرّدًا يجمَعُ بين البلاغةِ الرفيعةِ والدقّةِ في التعبيرِ عن المفاهيمِ العقائديّةِ والإنسانيّةِ. يتميّزُ القرآنُ الكريمُ بأسلوبِه الفريدِ الذي يتجاوزُ حدودَ الجماليّاتِ اللغويّةِ ليصلَ إلى مستوياتٍ عميقةٍ من التأثيرِ الخطابيِّ والتواصليِّ. ومن بينِ الموضوعاتِ التي تبرزُ في النصوصِ القرآنيّةِ قضيّةُ التوحيدِ، التي تُعدُّ جوهرَ العقيدةِ الإسلاميّةِ وأساسَ العلاقةِ بينَ الإنسانِ وخالقِه.
تُعَدُّ سورةُ الإخلاصِ، على الرَّغمَ من قِصرِها النّسبيِّ مقارنةً بسُوَرٍ أُخرى، نموذجًا بلاغيًّا مُكثّفًا يعكسُ عُمقَ التركيزِ القرآنيِّ على التوحيدِ. فهي تجمعُ في آياتِها القليلةِ بينَ الإيجازِ والإعجازِ، ما يجعلُها محورًا غنيًّا للدّراسةِ من منظورِ البلاغةِ وتحليلِ النصوصِ. تتيحُ دراسةُ هذه السورةِ الفرصةَ لفهمِ كيفيّةِ استخدامِ الأساليبِ اللغويّةِ المتنوّعةِ لنقلِ مفاهيمَ عقائديّةٍ عميقةٍ بأسلوبٍ مباشرٍ ومؤثّرٍ.
على الجانبِ الآخرِ، يُمثّلُ علمُ التّداوليّة إطارًا حديثًا لفهمِ النصوصِ من خلالِ تحليلِ علاقتِها بسياقِها التواصليِّ. يُتيحُ هذا العلمُ مقاربةً جديدةً للنصوصِ القرآنيّةِ عبرَ دراسةِ الأفعالِ الكلاميّةِ، والأهدافِ التواصليّةِ، والعلاقاتِ بينَ المتحدِّثِ والمخاطَبِ، ما يُسهمُ في تفسيرِ الأثرِ الخطابيِّ للنصوصِ في سياقاتِها المختلفةِ.
من خلالِ الجمعِ بينَ المنهجينِ البلاغيِّ والتداوُليِّ، يُمكنُ استكشافُ الأبعادِ العميقةِ للنصوصِ القرآنيّةِ وفهمِ الآليّاتِ التي تجعلُها مؤثّرةً في قلوبِ متلقّيها وعقولِهم عبرَ العصورِ. إنَّ هذا التوجّهَ العلميَّ يُتيحُ فهمًا أكثرَ شمولًا للنصِّ القرآنيِّ، فيتجاوزُ دراسةَ الألفاظِ والأساليبِ إلى تحليلِ الوظائفِ التّواصليّةِ التي تؤدّيها النصوصُ في تحقيقِ أهدافِها العقائديّةِ والفكريّةِ.
2. أهمّيّة البحث: تكتسب هذه الدّراسة أهمية خاصة في مجال الدّراسات القرآنيّة، إذ يسعى الباحث من خلالها إلى تقديم قراءة تحليليّة تجمع بين البلاغة والتّداوليّة في آيات العقيدة، خصوصًا في سورة الإخلاص. تكمن أهمية هذا البحث في كونه يتناول نصًا محوريًا في العقيدة الإسلاميّة، ويعكس المفاهيم الأساسيّة للإيمان بالله الواحد الأحد. كما أنّ البحث في هذه السّورة من زاويتين متكاملتين، البلاغة والتّداوليّة، يعزز من فهمنا للكيفية التي يستخدم فيها القرآن الكريم أساليب متنوعة لتحقيق التواصل الفعّال مع المتلقي، سواء من خلال الأسلوب البلاغي الذي يعبّر عن جماليات اللغة أو من خلال الإحالات التّداوليّة التي تشير إلى السّياقات المختلفة التي يُستعمل فيها النص.
إن الجمع بين البلاغة والتّداوليّة في هذا البحث يسهم في إبراز كيف أن القرآن الكريم لم يكن مجرد خطاب لغوي بل كان أداة تواصليّة في المقام الأول، كان الهدف منها إيصال رسالة الله سبحانه وتعالى بطرق تواكب مختلف الأزمان والبيئات.
تتمثل الإشكالية المركزية في هذا البحث في تساؤل رئيس:
كيف يمكن للبلاغة القرآنية والتّداوليّة أن تساهم في فهم أعمق للخطاب العقائدي في سورة الإخلاص؟
يتفرع عن هذا التساؤل العديد من الأسئلة الفرعيّة، مثل:
- كيف يسهم الأسلوب البلاغي في إبراز معاني التوحيد وتأكيد العقيدة في سورة الإخلاص؟
- ما الدور الذي تؤديه التّداوليّة في تحديد السياقات المتعددة التي يعمل من خلالها النص القرآني؟
- ما هو أثر الأفعال الكلامية في توصيل رسالة عقيدة التوحيد للمتلقّي؟
3. أهداف البحث: يهدف هذا البحث إلى:
- تحليل الأساليب البلاغيّة في سورة الإخلاص: دراسة الألفاظ، الأسلوب، البلاغة، والتراكيب اللغوية المستخدمة في السورة.
- دراسة الجانب التّداولي للنص القرآني: تحديد الوظائف التّواصليّة التي تؤديها السورة في مخاطبة المتلقي وفهم السياق الذي جاء فيه إنزال هذه السّورة.
- دراسة دور الأفعال الكلامية في سورة الإخلاص: تحليل كيفيّة استخدام الأفعال الكلاميّة لتوصيل رسالة عقيدة التوحيد بشكل واضح ومؤثر في المتلقي.
4. منهجية البحث: يعتمد هذا البحث على المنهج التحليلي الذي يدمج بين الأدوات البلاغيّة والتّداوليّة في تحليل النصوص القرآنيّة. سيكون العمل في هذا السياق قائمًا على دراسة شاملة للآيات التي يتضمنها النّص، مستعينًا بالمفاهيم البلاغيّة والتّداوليّة لفهم كيف تعمل الآيات على إبراز معاني العقيدة وتوجيهاتها.
يتمثل التحليل البلاغي في دراسة الأسلوب القرآني في استخدام الصور البيانيّة، الطباق، والمقابلة، وطرائق الإيجاز والإطناب، مع التركيز على الأسلوب الذي يبرز التوحيد ويعزز من فهم العقيدة الإسلامية. كما ستُستخدم الأدوات التّداوليّة لتحليل السّياقات التي تشكل التفاعل بين النص القرآني والمتلقي، مع الإشارة إلى كيفيّة تأثير هذه السياقات في توجيه الرّسالة الدّينيّة.
5. الدّراسات السّابقة
على الرغم من وفرةِ الدراساتِ التي تناولتِ البلاغةَ القرآنيةَ والتفسيريةَ، فإنَّ الجمعَ بين البلاغةِ والتّداوليّة في القرآنِ الكريمِ لا يزالُ حقلًا بحاجةٍ إلى المزيدِ من البحثِ والدّراسة، خاصةً في معالجةِ التفاعلِ بين السياقِ والأسلوبِ البلاغيِّ لفهمِ النصوصِ القرآنيةِ بشكلٍ أعمق.
من بين العلماءِ الذين كانَ لهم دورٌ بارزٌ في دراسةِ البلاغةِ القرآنيةِ، الإمامُ عبدُ القاهرِ الجرجانيُّ في كتابهِ الشهيرِ “دلائل الإعجاز“، حيثُ استعرضَ أسرارَ الإعجازِ البلاغيِّ للنصوصِ القرآنيةِ وأهميةَ البناءِ اللغويِّ في التأثيرِ والإقناعِ. كذلك، قدَّمَ الشيخُ محمَّدُ الطاهرِ بنُ عاشورَ في تفسيرهِ “التّحريرُ والتنويرُ“ رؤًى عميقةً تتعلَّقُ بالتّفسيرِ البلاغيِّ، مع تسليطِ الضوءِ على الأساليبِ اللغويةِ التي تعزِّزُ فهمَ الآياتِ ضمنَ سياقاتها.
أمَّا في مجالِ التّداوليّة، فقد شهدتْ بعضُ الأبحاثِ الحديثةِ اهتمامًا متزايدًا بالعلاقاتِ السّياقيةِ للنصوصِ القرآنيةِ، ودورها في فهمِ تفاعلِ المتلقِّي مع الخطابِ الإلهيِّ. من أبرزِ الدراساتِ الحديثةِ التي جمعتْ بين هذينِ المجالينِ، بحثٌ بعنوان: “الملامحُ الإنجازيةُ في سورةِ الإخلاصِ“ للباحثةِ رانيا أحمد رشيد شاهين، من قسمِ اللغةِ العربيةِ والدّراساتِ الإماراتيةِ في كليةِ التقنيةِ العليا بالإماراتِ. نُشِرَ البحثُ في مجلةِ العلومِ الإنسانيةِ والاجتماعيةِ، المجلدِ (5)، العددِ (11)، بتاريخِ 30 سبتمبر 2021م.
تناولتِ الدّراسة الأساليبَ الإنجازيةَ المستخدمةَ في سورةِ الإخلاصِ، مع تحليلٍ سياقيٍّ يبرزُ الأبعادَ البلاغيّةَ والتّداوليّة للنصِّ، ممَّا يضيفُ إسهامًا مميَّزًا إلى هذا المجالِ.
تشكلُ هذهِ الدراساتُ قاعدةً علميةً مهمَّةً يمكنُ الاستفادةُ منها في تعزيزِ فهمِ التكاملِ بين البلاغةِ والتّداوليّة في القرآنِ الكريمِ، وتحديدًا في تحليلِ آياتِ العقيدةِ مثل سورةِ الإخلاصِ.
المبحث الأوّل: الأساليب البلاغيّة في سورة الإخلاص وأثرها في تأكيد معاني التوحيد
- تعريف البلاغة في السّياق القرآني : إنّ البلاغة القرآنيّة تعدُّ من الأسباب التي تجعل القرآن الكريم معجزة لُغويّة تتحدّى قدرات البشر على الإتيان بمثله، وهي علم يهتم بدراسة الأساليب البيانيّة والفصاحة في القرآن الكريم، وتشمل تحليل النصوص القرآنية في الألفاظ، والتراكيب، والصور البيانية، والمعاني التي تحملها، كما تتميّز البلاغة في القرآن أنّها تجمع بين جمال التّعبير ودقّة المعنى وتؤدّي معانيها بأسلوب يجعل النص القرآني مؤثّرًا في النّفس البشريّة ومقنعًا في الحجّة، ومن مكوّنات البلاغة في القرآن الكريم: الفصاحة والبيان والمعاني والبديع.
والبلاغة في القرآن ليست مجرد تزيين لفظي، بل هي أسلوب يعكس الحكمة الإلهية ويخدم الغاية من نزول القرآن، وهي الهداية والإرشاد. يشير ابن عاشور (1984) إلى أنّ البلاغة في القرآن تشمل استخدام التّشبيه، الاستعارة، الإيجاز، والمجاز كأدوات تساعد في غرس الأفكار والمفاهيم في نفوس المتلقين بشكل لا ينسى وتُلفت انتباههم إلى المعاني العميقة؛ فالأسلوب القرآني يخاطب العقول والقلوب في آن واحد، ما يجعله فعّالاً في التأثير والإقناع(ص20).
كما يُعدُّ القرآن الكريم منبعًا للبلاغة العربية، وذلك لما يحمله من نظم فريد وصياغة لفظيّة محكمة. ومن وجوه إعجاز القرآن هو بلاغته التي تعجز الإنس والجن عن الإتيان بمثلها، والقرآن يتفوق على الشّعر العربي الفصيح في الأسلوب لأنّه يجمع بين حلاوة الألفاظ وقوّتها، ومرونتها، ومناسبتها لجميع مستويات البشر.
- بلاغة التوحيد في سورة الإخلاص: سورة الإخلاص، على الرّغم من قِصَرِ آياتِها، تُعَدُّ نموذجًا مُتكامِلًا يُجسِّدُ البلاغةَ القرآنيّةَ التي تُميِّزُ النّصَّ القرآنيَّ عن سِواه. فهي تَجمعُ بين الإيجازِ والإعجازِ بأسلوبٍ مُحكَمٍ وبيانٍ مُدهِش، فتُلخِّصُ عَقيدةَ التوحيدِ بكاملِها في أربعِ آياتٍ فقط. هذا الإيجازُ البَليغُ يُعبِّرُ عن قُدرةِ القُرآنِ على التّعبيرِ عن أعظَمِ المعاني بأقلِّ الألفاظ، مِا يجعلُ السّورةَ واضحةً وعَميقةً في الوقتِ نفسه. كُلُّ كلمةٍ في السّورةِ مُختارةٌ بعِنايةٍ لتُؤدِّيَ دورًا مُحدّدًا في تَرسِيخِ مَفهومِ التوحيد؛ فـ”الله” اسمٌ جامعٌ لكلِّ صِفاتِ الكمالِ، و”الصّمد” يَدُلُّ على الاكتفاءِ الذاتيِّ للهِ واحتياجِ الخَلقِ إليهِ، بينما “لم يَلِدْ ولم يُولَدْ” تُبرِزُ تَنزيهَ اللهِ عن كُلِّ صُوَرِ النّقصِ أو التّشبيهِ بالمخلوقات.
التّكرارُ في السّورةِ ليسَ مَجرّدَ تَكرارٍ لَفظيٍّ، بل يُعَزِّزُ التأكيدَ ويُرسِّخُ المعنى في الأذهانِ، خاصّةً في العِبارةِ “قُل هو اللهُ أحدٌ”، التي تُجَسِّدُ التّفرّدَ الكاملَ للهِ. وعلى الرّغمِ من غيابِ الصُّوَرِ المَجازيّةِ التقليديّةِ، فإنَّ السّورةَ تُحقِّقُ جمالَها البلاغيَّ من خِلالِ بساطتِها الظاهرةِ وعُمقِها الباطن، إذ يَعكِسُ غيابُ المَجازِ حقيقةَ التّوحيدِ المُطلقةَ التي لا تَقبَلُ التّشبيهَ أو التّمثيل.
أمّا في الصّوتِ والإيقاعِ، فإنّ الكلماتَ تَمتازُ بتَناسُقِها وجَمالِ وَقعِها، إذ يُضيفُ الجِناسُ والسّجعُ وَقعًا مُميّزًا يَجعَلُ السّورةَ سهلةَ الحِفظِ ومُؤثّرةً في النّفوس. هذا الجَمالُ الصّوتيُّ يُكمّلُ الإعجازَ البَيانيَّ للسّورةِ، فيُخاطِبُ العَقلَ والوِجدانَ معًا ليُؤدّي إلى الإقناعِ والتأثيرِ العَميقِ في النّفسِ البشريّةِ. تَجمعُ سورةُ الإخلاصِ بينَ جَمالِ التّعبيرِ ودِقّةِ المَعنى بأسلوبٍ يَخدُمُ الغايةَ العُظمى للقُرآنِ، وهي الهِدايةُ والإرشادُ، ما يَجعلُها نَموذجًا خالدًا للبلاغةِ الإلهيّةِ التي تَتحدّى قُدراتِ البَشرِ على الإتيانِ بمِثلِها.
- التوكيد البلاغي ودوره في تأكيد التوحيد: التوكيد لغةً يدلّ على التوثيق والتشديد، يقول أحمد بن فارس: “وَكَد: الواو والكاف والدال كلمة تدلّ على شدّ وإحكام” (الرازي، 1997، ج6، ص138). وبلاغيًا، يُعرّف التوكيد أنّه “تمكين الشّيء في النّفس وتقوية أمره، وفائدته إزالة الشكوك وإماطة الشبهات عمّا أنت بصدده” (الطالبي، 2002، ج2، ص94). أمّا نحويًا، فقد قال ابن جنّي: “التوكيد لفظ يتبع الاسم المؤكَّد لرفع اللبس وإزالة الاتساع” (ج1، ص84).
وفاقًا لهذه التّعريفات، يُظهر التوكيد في سورة الإخلاص كيف يهدف الخطاب القرآني إلى ترسيخ مفهوم التوحيد وإزالة أيّ شكّ أو التباس قد يتعلّق به. يبدأ التوكيد في السّورة بالأمر الإلهي “قُل” الذي يُبرز أهمّيّة ما سيُقال ويمنح الرّسالة طابعًا رسميًا لا يقبل التأويل. يقول ابن عاشور: “افتتاح هذه السّورة بالأمر بالقول لإظهار العناية بما بعد فعل القول… وضمير ﴿هو﴾ ضمير الشّأن لإفادة الاهتمام بالجملة التي بعده” (التحرير والتنوير، ج30، ص601).
ثم يأتي وصف الله سبحانه وتعالى بـ”أحد”، وهو تعبير يحمل أسمى درجات التوكيد البلاغي، فيُظهر تفرد الله المطلق في الألوهية وتنزيهه عن الشّريك. يقول ابن عاشور: “وصف الله بأنّه ﴿أحد﴾ معناه: أنّه منفرد بالحقيقة التي لوحظت في اسمه العلم، وهي الإلهيّة المعروفة” (التحرير والتنوير، ج30، ص602).
النفي القاطع في قوله تعالى: ﴿لم يلد ولم يولد﴾ يُبرز تنزيه الذّات الإلهيّة عن أي تصوّر بشريّ أو علاقة تناسليّة. هذا النفي يحمل طابعًا تأكيديًا قويًا من خلال نفي الاحتمالات جميعها التي قد تخلّ بعقيدة التوحيد. يضيف ابن عاشور: “فأفاد وصف أحد أنّه منزّه عن الجنس والفصل والمادة والصورة، والأعراض والأبعاض، والأعضاء والأشكال والألوان، وسائر ما ينافي الوحدة الكاملة” (التحرير والتنوير، ج30، ص602).
إضافةً إلى ذلك، يأتي وصف ﴿الصمد﴾ ليُكمل الصورة البلاغيّة، فيُفيد الاكتفاء الذاتي المطلق، ما يعزّز من مكانة الله كملاذ للخلق جميعًا من دون أن يكون بحاجة إليهم. هذه الصفة تُؤكّد كمال الله سبحانه وتعالى في ذاته وصفاته وأفعاله، وهي جزء لا يتجزأ من تأكيد معنى التوحيد في السورة.
من خلال هذه الأساليب البلاغيّة المتقنة، تُبرز سورة الإخلاص كيف استُخدم التوكيد كأداة بلاغيّة فعالة لترسيخ مفهوم التوحيد في العقول والقلوب، ما يجعلها نموذجًا متكاملًا لإعجاز القرآن البلاغي.
- الإيجاز والإعجاز في معاني التوحيد
الإيجاز والإعجاز من أبرز سمات البلاغة القرآنيّة، إذ يُظهران قدرة النّص على إيصال المعاني العظيمة بأقل عدد من الكلمات، ما يترك أثرًا عميقًا في النفوس ويثبت المعاني بأقوى أسلوب. في سورة الإخلاص، يتجلّى الإيجاز والإعجاز بشكل فريد، إذ تختصر السورة معاني التّوحيد وتفرد الله سبحانه وتعالى بصفات الكمال في أربع آيات فقط، ليصل مضمونها إلى كل متلقّي بطريقة واضحة وشاملة.
افتتحت السورة بالأمر الإلهي “قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ”، فيحمل لفظ “قُلْ” دلالة التّبليغ الواضح وتأكيد أهمية الرّسالة. يشير ابن عاشور(1984) إلى أنّ افتتاح السّورة بالأمر بالقول يُظهر “العناية بمضمون الرّسالة ويُضفي طابعًا رسميًا عليها” (ج30، ص613). أمّا لفظ “أَحَدٌ”، فهو قمّة الإيجاز الذي يحمل معاني التفرّد المطلق في الألوهيّة، إذْ يعبّر عن “منفرد بالحقيقة الإلهيّة المعروفة” هذه الكلمة الوحيدة تحمل في طياتها ما لا يمكن للتفصيل أن يوضحه بالقوّة نفسها، فالواحد يشير إلى الكمال المطلق وصفات الجلال جميعها، إذ إنّ الواحد الحقيقي هو الذي تكون ذاته منزّهة عن أي تركيب أو تعدد. وهذا التنزيه يشمل استحالة الجسميّة أو التحيّز أو وجود أي شريك له في الصّفات أو الذات. (البيضاوي، 1998، ج5، ص347).
في قوله تعالى: “اللَّهُ الصَّمَدُ”، يظهر الإيجاز جليًا في اختيار لفظ “الصَّمَد” الذي يعبّر عن كمال الاكتفاء الذاتي لله عز وجل، وعن كونه الملجأ الوحيد للخلق. يوضّح ابن عاشور(1984) أنّ “الصمد هو المقصود في الحاجات، ما يدلّ على الكمال المطلق في صفات الله” (ج30، ص614). هذا الاختيار الموجز لكلمة واحدة يغني عن شرح طويل في بيان كمال الله.
الصمد هو السيد الذي تُرفع إليه الحوائج وتُقصد إليه الرغبات، وهو الملجأ الذي يُستغاث به في الشدائد والمصائب (الرازي، 2008، ج32، ص362).
الإعجاز في السورة يظهر بوضوح في النّفي القاطع في قوله تعالى: ﴿َمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ”. هذا الأسلوب ينفي كل أشكال النقص التي قد تُلحق بالذات الإلهية، ويؤكد تنزيه الله عن أي صفة بشرية. يقول ابن عاشور: “النفي بأسلوب قاطع يزيل أي لبس أو شبهة قد تعلق بذهن السامع” ( ص614).
كما أنّ استخدام النفي والتوكيد معًا في قوله: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ يؤكد تنزيه الله عن أي شريك أو مثيل، ما يعزّز العقيدة في وحدانيته؛ هذا النفي يُظهر تفرد الله بصفاته، إذ لا يوجد له نظير أو شبيه في كماله وجلاله (ابن عاشور، 1984، ج30، ص614).
لم يكن له كفوًا أحد، أيْ ليس له من خلقه مثل، ولا نظير ولا شبيه فنفى عنه، ولم يكن له كفوًا أحد العديل والنّظير والصاحبة والولد(الخازن، 1994، ج4، ص498).
بهذا الإيجاز المعجز، تحقّق سورة الإخلاص غايتها في ترسيخ مفهوم التوحيد بأقل عدد من الكلمات وأكثرها قوة وتأثيرًا، ما يجعلها نموذجًا خالدًا لبلاغة القرآن الكريم ووسيلة فعّالة في توجيه العقول والقلوب إلى عبادة الله وحده.
المبحث الثاني: التّداوليّة في سورة الإخلاص
- مفهوم التّداوليّة
- التّعريف اللغوي والاصطلاحي
التّداوليّة (Pragmatics) هي فرع من اللسانيات يُعنى بدراسة استخدام اللغة في السياقات الاجتماعيّة، مركّزةً على المعاني التي تتجاوز الكلمات الظاهرة. لغويًا، يُشتق المصطلح من الكلمة الإغريقيّة “pragma” بمعنى الفعل والتّنفيذ، كما يوضّح معجم مقاييس اللغة مفهوم التّداوليّة بوصفها حركةً وتحوّلًا في المعاني.
اصطلاحيًا، تتناول التّداوليّة كيف يُفسَّر الكلام وفاق النوايا والسياق، إذ أشار يول إلى أنّها تدرس “ما يُقال وما يُراد قوله” (يول، 2010، ص19)، كما وصفها موريس أنّها علاقة العلامات بمستخدميها ضمن وظائف تواصلية (الخفاجي، 2017).
- الأبعاد التّداوليّة في سورة الإخلاص
- دراسة السّياق والمتحدث والمقصد في السّورة: تُعدُّ سورة الإخلاص إحدى الرّكائز الأساسيّة في العقيدة الإسلاميّة، إذ تقدّم وصفًا موجزًا ومتكاملًا لله سبحانه وتعالى، متفردًا بصفاته وأسمائه. لفهم هذا النّص القرآني العميق، تُعدُّ دراسة السياق، والمتحدث، والمقصد عناصر حاسمة لتحليل دلالاته وفهمه.
2.1.1. السّياق
1. السّياق التّاريخي والاجتماعي
نزلت سورة الإخلاص في مكّة في وقت كانت الأسئلة حول طبيعة الإله الذي يدعو إليه النبي محمد ﷺ متكررة، وردًّا على تساؤلات المشركين عن نسب الله وصفاته، جاء الخطاب الإلهي بعبارة: ﴿قل هو الله أحد﴾، مؤكِّدًا تفرّد الله بالوحدانية وتنزيهه عن الشبيه والمثيل.
هذا السّياق التّاريخي يعكس حاجة السورة إلى تقديم مفهوم التوحيد بوضوح وقوّة (الطبري، ج24، ص687).
2. السّياق العقدي
السورة تُرسخ أصول العقيدة الإسلاميّة، إذ تؤكّد أنّ الله منزَّه عن أيّ نقص أو شريك. في بيئة تعج بمفاهيم تعدّد الآلهة، تُعد هذه السورة إعلانًا واضحًا لوحدانيّة الله واستغنائه عن الخلق (ابن كثير،2009، ج7، ص690).
3. السّياق البلاغي
في إطار التّحدي البلاغي للمجتمع العربي في مكة، تميزت السّورة بإيجازها وقوة عباراتها. كلمة ﴿أحد﴾ في السّياق اللغوي تُبرز التفرّد المطلق لله، وهي كلمة تُستخدم بعناية لإزالة أي التباس حول وحدانية الله (الزمخشري، 1997، ص818).
2.1.2. المتحدث والمخاطب
1. المتحدث
المتحدث الأساسي في السورة هو الله سبحانه وتعالى الذي يوجه النبي ﷺ بقوله: ﴿قل﴾؛ أيْ قل يا محمّد لِمن سألوك عن صفة ربّك سبحانه وتعالى واستخدام هذه الصيغة يُبرز مصدر الخطاب، ويُضيف ثقلًا على معناه، إذ يتحدّث الله سبحانه وتعالى مباشرة ليوضّح صفاته(ابن كثير، 1999، ج8، ص527).
2. المخاطب
السّورة في ظاهرها تُخاطب النبي ﷺ ليُبلغ المشركين بحقيقة الله، لكنّها تتجاوز ذلك إلى خطاب عالمي شامل. فهي تخاطب البشريّة جمعاء لتوضيح مفهوم التوحيد والتنزيه الإلهي، ما يجعل السّورة رسالة أزلية تُجيب عن أسئلة تتجاوز زمن النزول (ابن عاشور، 1984، ج30، ص617).
2.1.3. المقصد
1. ثبات وحدانيّة الله
المقصد الأول للسورة هو إعلان أنّ الله واحد أحد، مُتفرد بذاته وصفاته، لا شريك له، هذه الرسالة تردّ على العقائد الوثنيّة التي كانت ترى تعدّد الآلهة أو تنسب لله الولادة أو الشبيه (الطبري، ب.ت، ص688).
2. تنزيه الله عن الصفات البشرية
الآيات ﴿لم يلد ولم يولد﴾ و﴿ولم يكن له كفواً أحد﴾ تُوضّح أن الله منزَّه عن كل صفة نقص، كالحاجة إلى الإنجاب أو الشريك، ما يؤكّد كماله المطلق واستغناءه عن الخلق (ابن كثير، 1981، ص238).
3. ترسيخ العقيدة التّوحيديّة
السّورة تُقدم وصفًا لله يعكس جوهر الإيمان الإسلامي: التّوحيد. تُخاطب العقول والقلوب بلغة واضحة تُلزم المخاطب إعادة النظر في معتقداته (الزمخشري، 1987، ص622).
تُظهر دراسة سورة الإخلاص من خلال السّياق، والمتحدث، والمقصد كيف أنّ هذه السّورة الصّغيرة في عدد كلماتها تُلخص العقيدة الإسلاميّة وتُقدم تصورًا واضحًا لله سبحانه وتعالى. السّياق التّاريخي والاجتماعي والعقدي يُفسر اختيار الكلمات والأسلوب، بينما يُبرز المتحدث والمقصد الأثر العميق للسورة في تشكيل الفكر الإسلامي.
- تأثير السّياق في فهم معاني السورة.
السياق، سواء أكان تاريخيًا أو لغويًا أو اجتماعيًا، يُعد أداة أساسيّة لفهم معاني النّصوص القرآنيّة، ومن بينها سورة الإخلاص. لفهم السورة بصورة أكثر عمقًا، يجب تحليل السّياق الذي نزلت فيه ودراسة تأثيره على تفسير معانيها.
1. السّياق التّاريخي والاجتماعي
نزلت سورة الإخلاص في مكة إذ كان المشركون يسألون النبي ﷺ عن طبيعة الله، متأثرين بمفاهيم شركيّة تصوّر الآلهة ككائنات لها شركاء أو أبناء. هذا السّياق يفسر نفي السّورة لمفاهيم مثل الولادة والإنجاب في قوله: ﴿لم يلد ولم يولد﴾، ما يبرز ردًا مباشرًا على هذه التصورات الوثنية (الطبري، د.ت، ص410).
كما أنّ التركيز على كلمة ﴿أحد﴾ جاء لمعالجة الاعتقاد بتعدّد الآلهة، إذ أكّدت السورة تفرّد الله وعدم شبيهه أو مثيله (ابن كثير، 1981، ص238).
2. السّياق العقدي: السورة تُقدَّم كإعلان للعقيدة الإسلاميّة في مواجهة تصورات دينية مشوشة. السياق العقدي يظهر في نفي السورة لأي صفة نقص تُلصق بالله، مثل الاحتياج أو التّشبيه بالمخلوقات. كلمة ﴿الصمد﴾ في هذا السياق تُعبِّر عن استغناء الله الكامل واعتماد كل المخلوقات عليه، وهو معنى يكتسب دقته عندما نأخذ بالحسبان الثقافة المكيّة التي تعطي أهمية كبرى للقوة والاستغناء (الزمخشري،1987، ص622).
3. السّياق البلاغي واللغوي: اختيارات السورة اللغوية تأثرت بسياقها التداولي؛ فمصطلحات مثل ﴿أحد﴾ و﴿الصمد﴾ وعبارات النفي المتكررة : ﴿لم يلد ولم يولد﴾ و ﴿ ولم يكن له كفوا أحد﴾ تتلاءم مع الحاجة إلى تقديم رسالة واضحة ومباشرة تزيل اللبس عن طبيعة الله. هذا الاستخدام البلاغي يعكس قدرة النص على التأثير في بيئة لغويّة تشتهر بالفصاحة والاهتمام بالإيجاز والبلاغة (الجرجاني، 2006، ص186).
إنّ السياق بمختلف مستوياته، سواء أكان تاريخيًا، اجتماعيًا، أو بلاغيًا، يشكل مفتاحًا لفهم معاني سورة الإخلاص. السورة لا تكتفي بتقديم عقيدة التّوحيد، بل تفند بشكل منهجي وشامل المعتقدات السّائدة في زمن نزولها، ما يجعل السّياق جزءًا لا يتجزأ من تفسيرها.
4. الأفعال الكلاميّة في سورة الإخلاص
- تصنيف الأفعال الكلاميّة (تصريحيّة، إنجازيّة، التزاميّة).
علم التّداوليّة، خاصة عند تحليل النصوص القرآنيّة، يقدم أدوات غنيّة لفهم الأفعال الكلاميّة وتصنيفها. في سورة الإخلاص، تتجلى أنواع متعددة من الأفعال الكلاميّة، تتنوع بين التّصريحيّة والإنجازيّة والالتزاميّة. هذه الأفعال تحمل دلالات تعزز فهم النّص وترسخ مقاصده العقديّة.
- الأفعال التّصريحيّة: الأفعال التّصريحيّة تهدف إلى تقديم المعلومات ونقل الحقائق. في سورة الإخلاص، يظهر هذا النوع بوضوح في العبارة: ﴿هو الله أحد﴾.
- هذه الجملة تحمل إعلانًا وتصريحًا صريحًا عن وحدانية الله وتفرده، ما يضع أسس العقيدة الإسلاميّة.
- الهدف هنا هو الإخبار بحقيقة ثابتة، مدعومة بالصيغة التقريريّة التي تميزها (الجرجاني، 1991، ص184)
- الأفعال الإنجازيّة: الأفعال الإنجازيّة تتميز أنّها تحقق معنى أو تأثيرًا مباشرًا بمجرد النطق بها. في السورة، تأتي الكلمة الافتتاحية ﴿قل﴾ كفعل إنجازي:
- استخدام الأمر للنبي ﷺ ليُبلغ المخاطبين بحقيقة الله يُحقق فعلًا مزدوجًا: نقل الرسالة وتنفيذ الأمر الإلهي في ذات الوقت.
- هذا الفعل يحمل بعدًا تداوليًا، إذ يوجّه المخاطبين نحو استيعاب الرسالة وتنفيذ مقتضياتها (الزمخشري، 1987، ص620)
- الأفعال الالتزاميّة: الأفعال الالتزاميّة تعبر عن تعهد أو تأكيد على حقيقة أو موقف. في السورة، يتجلى الالتزام في جملة: ﴿ولم يكن له كفوا أحد﴾.
- هذه العبارة تؤكد التزام الله بوصف ذاته وتنزيهه عن أي شبيه أو مكافئ.
- الالتزام هنا ليس بشريًا، بل يعكس التزام النص القرآني بترسيخ المفاهيم التوحيديّة (ابن عاشور، 1984، ج30، ص617)
إنّ التفاعل بين هذه الأفعال يخلق نصًّا يحمل قوة تداوليّة استثنائيّة:
- التّصريحيّة تعمل على تأصيل الحقائق الإلهيّة.
- الإنجازيّة تُشرك المخاطب في أداء الفعل التداولي.
- الالتزاميّة تعزز ثبات الرسالة وتضمن استمرار تأثيرها.
تقدّم سورة الإخلاص نموذجًا قرآنيًا غنيًا بتوظيف الأفعال الكلاميّة، إذ تُوظف التّصريحيّة لإخبار الحقيقة، والإنجازيّة لإحداث الأثر، والالتزاميّة لترسيخ المفاهيم. هذا التّنوع يُبرز بلاغة النّص القرآني وقوته في التأثير على المتلقي، ما يجعله نصًا خالدًا ومؤثرًا عبر الزّمان والمكان.
- دور الأفعال الكلاميّة في إيصال عقيدة التّوحيد للمتلقي: تشكل سورة الإخلاص نموذجًا قرآنيًا غنيًا بالأفعال الكلاميّة التي تخدم هدفًا مركزيًا هو ترسيخ عقيدة التوحيد في نفوس المتلقين. هذه الأفعال ليست مجرد وسيلة لغويّة لنقل المعاني، بل هي أداة بلاغيّة ودلاليّة تتكامل لتوصيل مضمون عقدي عميق، يتمثل في الإيمان بوحدانيّة الله وتنزيهه عن كل نقص.
افتتحت السورة بالأمر الإله: ﴿قل﴾، وهو فعل إنجازي لا يقتصر على كونه توجيهًا للنبي ﷺ، بل يحمل دلالة تداوليّة تتجاوز ذلك. يأمر الله نبيه ﷺ بأن يعلن هذه الحقيقة المطلقة للمتلقين، ما يجعل المتلقي ذاته شريكًا ضمنيًا في الرّسالة. هذا التوجيه الإنشائي يُعدّ أداة لإشراك المخاطب في تلقي الرّسالة واستيعاب مضمونها، إذ يدرك المتلقي أنّه ليس أمام نص نظري، بل أمام خطاب عملي يستدعي التّفاعل العقلي والوجداني (الزمخشري، 1987، ص620).
العبارة المحوريّة:﴿هو الله أحد﴾ تحمل في بنيتها فعلًا تصريحيًا يُعلن تفرد الله ووحدانيته. هذه الصياغة المختصرة والمباشرة تُركز المعنى في كلمات قليلة ولكنها عميقة، ما يجعل المتلقي يدرك عظمة الله وانفراده المطلق في صفاته. هذا التّصريح لا يترك مجالًا للشك أو التّأويل، بل يقرر حقيقة قطعيّة تُبنى عليها العقيدة الإسلاميّة. التّكرار الضمني في وصف الله بـ﴿أحد﴾ يعزز من قوة الرّسالة، إذ يجعل المتلقي يعيد التأمل في مضمونها، ويضعه أمام حقيقة إلهيّة لا تقبل الجدل (الطبري، 2001، ص411).
أمّا الجمل الآتية مثل:﴿الله الصمد﴾، فتمثل انتقالًا إلى مستوى آخر من الخطاب، إذ تُعرّف المتلقي بجانب من صفات الله الكماليّة. الصّمديّة هنا ليست مجرد وصف لله، بل هي فعل كلامي يعكس استغناء الله عن كل شيء واعتماد كل شيء عليه. هذا التعريف يُبرز استحقاق الله للعبادة وحده، ويجعل المتلقي يدرك موقعه كعبدٍ في حاجة دائمة إلى خالقه. هذا النّوع من الأفعال الكلاميّة يتجاوز الإخبار إلى بناء قناعة عقليّة وروحيّة لدى المتلقي، ما يعزز فهمه لأهمية الاعتماد على الله وحده (ابن عاشور، 1984، ج30، ص618).
وفي الجمل الأخيرة مثل: ﴿لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد﴾، نجد استخدامًا للأفعال التّصريحيّة التي تحمل وظيفة نفي مطلق للشرك أو المماثلة. هذه الصياغة تؤكد أنّ الله مُنزَّه عن الولادة أو الإنجاب، وهو تنزيه يتماشى مع سياق الرّد على عقائد شركيّة كانت سائدة آنذاك. النّفي هنا لا يعمل فقط على إغلاق الباب أمام الشّكوك، بل يُلقي بظلاله على العقل البشري، محرضًا المتلقي على التأمل في عظمة الله الذي لا يمكن مقارنته بأي كائن آخر (ابن كثير، 1999، ص238).
من الجانب البلاغي، يظهر التّوازن بين الأفعال الكلاميّة التّصريحيّة والإنجازيّة والالتزاميّة في السورة. التّصريحات تعلن الحقائق، بينما الأوامر تُشرك المتلقي في التّفاعل مع النص، والالتزامات تُرسخ المفاهيم في نفس المتلقي. هذا التّداخل يُبرز الطبيعة الحوارية للسورة، إذ لا يكون المتلقي مجرد مستمع، بل شريكًا في استيعاب الرسالة وإعادة تشكيل فهمه للعقيدة.
سورة الإخلاص ليست مجرد بيان عقدي، بل هي خطاب تداولي متكامل، يستهدف العقل والقلب معًا. الأفعال الكلاميّة فيها تخدم غاية سامية، هي إيصال عقيدة التوحيد بأسلوب يتسم بالوضوح والعمق، مع قدرة على التأثير في كل من يسمعها أو يقرأها. هذه القوة البلاغية تجعلها نصًا خالدًا ومؤثرًا، قادرًا على مخاطبة كل الأجيال في مختلف الأزمنة والأماكن.
الخاتمة
- النتائج: أظهرت الدّراسة أن البلاغة والتّداوليّة في سورة الإخلاص أدَّتا دورًا محوريًا في إبراز جوهر العقيدة الإسلاميّة؛ وتوضيح مفهوم التوحيد بأسلوب موجز ورفيع. ومن أبرز النَّتائج:
- الإيجاز البلاغي: اعتمدت السورة على كلمات قليلة ذات معانٍ عميقة وقوية، مثل ﴿أحد﴾ و﴿الصمد﴾ التي تفيد التفرد المطلق واستغناء الله عن الخلق، ما يعكس بلاغة القرآن في تقديم المعاني المركزة والمباشرة.
- الوضوح التّداولي: جاءت السورة في سياق تاريخي واجتماعي يتطلب خطابًا مباشرًا لتفنيد العقائد الوثنية وتقديم عقيدة التوحيد بشكل لا يحتمل اللبس أو التأويل، ما جعل الرسالة تتسم بالشّموليّة والخلود.
- التّفاعل مع البيئة اللغويّة: استثمر النص في قدرات اللغة العربيّة ومهارات أهلها البلاغيّة، ما أكسب السورة قوة إقناعية وجعلها نموذجًا يتحدى أساليب الخطاب السّائدة آنذاك.
- التأثير العقائدي: قدمت السورة وصفًا لله يرسخ المفاهيم الأساسيّة للعقيدة الإسلاميّة، كالاستغناء الكامل لله وتنزيهه عن كل نقص، وهو ما انعكس على تقوية الإيمان وتصحيح المفاهيم السائدة.
بهذا، تُعد سورة الإخلاص مثالًا فريدًا على التقاء البلاغة والتّداوليّة في خدمة العقيدة الإسلاميّة، فدمجت بين الدّقة اللغويّة والوضوح العقدي لتقديم رسالة إلهية تصلح لكل زمان ومكان.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- ابن عاشور، م. الطاهر. (1984). التّحرير والتّنوير (ط. 1). تونس: الدار التونسية للنشر.
- ابن كثير. (2009). تفسير القرآن العظيم (ط1). ت: حكمت بن بشير بن ياسين. دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، السعودية.
- ……. (1981). مختصر تفسير ابن كثير (ط7). ت: محمد علي الصابوني. دار القرآن الكريم، بيروت.
- ابن منظور، محمد بن مكرم. (1987). لسان العرب (ط1). دار صادر، بيروت.
- الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب. (1991). المفردات في غريب القرآن. ط1. المحقق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، الدار الشامية – دمشق بيروت.
- بولان، إلفي. (2018). المقاربة التّداوليّة للأدب (ط1) . رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة.
- البيضاوي، ناصر الدين أبو سعيد عبدالله. (1998). أنوار التنزيل وأسرار التأويل(ط1). ت: محمد عبد.
- الجرجاني، عبد القاهر بن عبد الرحمن. (1991). أسرار البلاغة (ط1). دار الجيل، بيروت.
- ………………………………. (2006). دلائل الإعجاز. القاهرة دار الفكر.
- الخازن، علاء الدين علي بن محمد. (1994). لباب التأويل للخازن في معاني التنزيل(ط1). ت: محمد علي شاهين. دار الكتب العلمية، بيروت.
- الرازي، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني. (1979) معجم مقاييس اللغة، ت: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت.
- الرازي، أبو عبد الله محمد بن عمر. (2008). مفاتيح الغيب (ط3). دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- الزّمخشري، محمود بن عمر أحمد. (1987). الكشّاف (ط3). ت: مصطفى حسين أحمد. دار الريان للتراث، القاهرة.
- الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير. (د.ت). جامع البيان عن تأويل آي القرآن (د.ط). دار التربية والتراث، مكّة المكرمة.
- الطبري، م. ب. ج. (2001). جامع البيان عن تأويل آي القرآن (ط. 1). بيروت، لبنان: مؤسسة الرسالة.
- الطالبي، ابن ابراهيم يحيى بن حمزة بن علي بن ابراهيم. (2002). الطراز لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز(ط1). المكتبة العنصرية، بيروت.
- مجمع اللغة العربية. (2004). المعجم الوسيط (ط4). مكتبة الشروق الدولية، جمهورية مصر العربية.
الدّوريات
- الخفاجي، محسن حسين علي، التّداوليّة عند علماء العربية دراسة تطبيقية في النّحو والدلالة، مجلة العلوم الانسانية، المجلد24/العدد الأوّل_آذار/2017.
الرّسائل الجامعيّة
- الغزاوي، كاظم جاسم منظور. (2012). التّداوليّة في الفكر النقدي، أطروحة دكتوراه، جامعة بابل.
[1]– طالبة دكتوراه في جامعة القديس يوسف – بيروت- قسم اللغة العربيّة وآدابها.
PhD student at Saint Joseph University – Beirut – Department of Arabic Language and Literature.Email: fatmeberghayle@gmail.com