قرارات مجلس الأمن بخصوص التّفتيش عن أسلحة الدّمار الشّامل في العراق وموقف إيران منها 1991-2003 دراسة تاريخيّة
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
قرارات مجلس الأمن بخصوص التّفتيش عن أسلحة الدّمار الشّامل في العراق وموقف إيران منها 1991-2003
دراسة تاريخيّة
Security Council Resolutions Regarding the Inspection of Weapons of Mass Destruction in Iraq and Iran’s Position1991-2003
A Historical Study
RAMMAH SAAD MARHOON م. م. رماح سعد مرهون([1])
تاريخ الإرسال:14-10-2025 تاريخ القبول:20-10-2025
الملخص: turnitin:1%
يدرس البحث قرارات مجلس الأمن الدّولي المتعلقة بالتفتيش عن أسلحة الدّمار الشّامل في العراق بعد حرب الخليج الثانية، وما تبعها من إجراءات رقابيّة فرضتها الأمم المتحدة لضمان نزع السّلاح العراقي . يسلّط البحث الضوء على تطور الموقف الدّولي من هذه القضيّة، وتأثيرها في السّيادة العراقيّة والعلاقات الإقليميّة، مع التّركيز على موقف إيران التي تابعت التّطورات عن قرب متأثرة بعلاقاتها التّاريخيّة والجدليّة مع العراق. كما يناقش البحث الأبعاد السياسيّة والأمنيّة لهذه القرارات وانعكاسها على التّوازن الإقليمي في الشّرق الأوسط.
الكلمات المفتاحيّة : العراق، إيران، حرب الخليج الثانية، أسلحة الدّمار الشّامل
Summary
The research examines the decisions of the United Nations Security Council regarding the inspection of weapons of mass destruction in Iraq after the Second Gulf War, and the subsequent monitoring measures imposed by the UN to ensure Iraqi disarmament in accordance with Resolution 687 of 1991 and later resolutions. The study highlights the evolution of the international stance on this issue and its impact on Iraqi sovereignty and regional relations, with a focus on Iran’s position, which closely followed developments influenced by its historical and conflictual relations with Iraq. The research also discusses the political and security dimensions of these decisions and their implications for the regional balance in the Middle East.
Keywords: Iraq, Iran, Second Gulf War, Weapons of Mass Destructi
المقدمة : بعد حرب الخليج الأولى (1990–1991) أقرّ مجلس الأمن سلسلة من القرارات التي فرضت على العراق الالتزام بإزالة أسلحة الدّمار الشّامل، والقبول بتفتيش دولي وإشراف فنّي من وكالات متخصّصة. كان أهم هذه القرارات هو قرار مجلس الأمن رقم 687 (1991) الذي رسّخ شرط نزع السّلاح كشرط لوقف العمليّات القتاليّة، وأنشأ الإطار القانوني لعمليّات التّفتيش والمراقبة التي نفّذتها اللجان، والوكالات الدّوليّة ذات الصّلة. على هذا الأساس تشكّلت آلياتٍ مثل اللجنة الخاصة للأمم المتحدة للمراقبة والتّحقق (UNSCOM) ثمّ لاحقًا مفوضيّة المراقبة والتّحقق والتّفتيش ( (UNMOVIC، إلى جانب دور الوكالة الدّوليّة للطاقة الذريّة (IAEA) في المسائل النوويّة. ابتدأت القرارات بالقرار 687 (3 نيسان/أبريل 1991 الذي يُعد أهم وأشمل قرار في هذا الملف نصّ على وقف إطلاق النار بين العراق وقوات التحالف، بشرط أن يلتزم العراق بتدمير جميع أسلحته الكيميائية والبيولوجية والصواريخ الباليستية التي يتجاوز مداها 150 كيلومترًا ، وأنشأ لجنة خاصة تُعرف بـ “أنسكوم” (UNSCOM) للإشراف على عمليات التفتيش والتدمير، مرورا بالقرارا القرار 699 (17 حزيران/يونيو 1991 الذي أكد على مسؤولية العراق المالية عن تكاليف عمليات التفتيش والتدمير التي تنفذها اللجنة الخاصة والوكالة الدولية للطاقة الذرية ، ثم القرارت 707 و 715 و1051 و1115 و1134 و 1154 التي طالبت بالاستمرار بالتفتيش وضرروة استجابة العراق ، ثم القرار 1284 (17 كانون الأول/ديسمبر 1999) الذي أنشأ لجنة جديدة باسم “أنموفيك” (UNMOVIC) خلفًا للجنة أنسكوم. وختاما القرار 1441 الذي شكّل الأساس الذي استندت إليه الولايات المتحدة ودول التحالف في غزو العراق عام 2003 . هذه السّلسلة من القرارات والآليات كانت محوريّة في شكل تعامل المجتمع الدولي مع خطر انتشار أسلحة الدّمار الشّامل في المنطقة.
أهمية البحث : بعد تحرير الكويت واجهت الأمم المتحدة، مهمّة استئصال برامج العراق للنووي والكيمياوي والبيولوجي والصّواريخ البعيدة المدى، وما تلا ذلك من عقودٍ من المفاوضات والتّقارير والاشتباكات حول مستوى تعاون بغداد مع فرق التفتيش. في التّسعينيات نفّذت UNSCOM وIAEA مئات عمليّات التفتيش وأرشفت كميات كبيرة من المواد والمعدات، لكن تردّي الثّقة المتبادل واتهامات بالتجسّس، والانسحاب الجزئي أدّت إلى تجميد عمل المفتشين أحيانًا (خصوصًا 1998) ثمّ إعادة تشكيل الآليات تحت اسم UNMOVIC قبل 2002، وصولًا إلى قرار 1441 (2002) الذي أعاد التّشديد على «الامتثال الكامل» ومنح التفتيشين حقوقًا إضافيّة، وهو ما كان جزءًا من سجل أدّى لاحقًا إلى تصاعد التوتّر الإقليمي والدّولي
وتكمن اهمية دراسة هذه الموضوعات من كونه يُمثل أحد أكثر الملفات حساسية في العلاقات الدولية الحديثة، إذ تجمع بين التاريخ والسياسة الواقعية والأمن الإقليمي.وتكشف كيف تم توظيف آليات مجلس الأمن في إدارة الأزمات الدولية، ليس فقط كوسيلة قانونية لنزع السلاح، بل كأداة لتحقيق توازنات سياسية بين القوى الكبرى. كما أن البحث يتيح تحليل تجربة في تطبيق نظام التفتيش الدولي، وما نتج عنها من جدل حول حدود السيادة الوطنية وشرعية التدخل باسم الأمن الجماعي.
أهداف البحث
- الأمن الإقليمي: أنّ الادعاءات الامريكية بكون برامج أسلحة الدّمار الشّامل المزعومة في العراق كانت تشكّل تهديدًا مباشرة للدّول المجاورة؛ بما في ذلك إيران التي كانت من اول مدعي بانها ضحية استخدام الأسلحة الكيماويّة خلال حرب العراق–إيران. لذلك فإنّ مسألة التفتيش، والامتثال ترتبط بأمن شعوب المنطقة وسلامتها.
- احترام القانون الدّولي وآليات الأمم المتحدة: دراسة أثّر قرارات مجلس الأمن على فعاليّة أدوات الرقابة، والتفتيش الدّولي تبيّن حدود وجذرية هذه الآليات حين تواجه مقاومة دولة ذات سيادة.، علما بانه استُخدِم مجلس الأمن من قبل الولايات المتحدة كأداة للضغط السياسي لا مجرّد هيئة قانونية، بخصوص التفتيش فقد حرصت على أن تتضمّن القرارات بنودًا مفتوحة وفضفاضة تمنحها القدرة على تفسيرها سياسيًا، لا قانونيًا كما تبيّن أن بعض فرق التفتيش، كانت تضم عناصر على صلة بالمخابرات الأمريكية والبريطانية. استخدمت واشنطن هذه الفرق لجمع معلومات استخباراتية، متجاوزة الهدف القانوني المتمثل في نزع السلاح.
- دروس لمنع الانتشار: التّجربة العراقيّة تشكّل حالة اختبار لسياسات نزع السّلاح، والتّحقق الدولي، والعلاقات بين الاستخبارات الوطنيّة والآليات الأمميّة، ونتائجها تؤثر في صياغة سياسات مضادة للانتشار مستقبلًا.
إشكاليّة البحث: ظهرت إشكاليّة مركزيّة تتمثل في التوتر بين فعاليّة قرارات مجلس الأمن وأدوات التفتيش من جهة، ومحدودية قدرة هذه الأدوات على تحقيق شفافيّة مطلقة، وثقة متبادلة مع الدولة الخاضعة للتفتيش من جهة أخرى. تتفرّع الإشكاليّة إلى أسئلة محددة: إلى أي حدّ نجحت قرارات مجلس الأمن وآليات التّفتيش في كشّف برامج أسلحة الدّمار الشّامل في العراق وإزالتها؟ وكيف أثّرت مواقف الأطراف الإقليميّة—وخاصة إيران—في شكل هذه القرارات وتطبيقها، وفي تقييم المجتمع الدّولي لمدى امتثال بغداد؟
فرضيّة البحث :الفرضية المركزيّة لهذه الدّراسة تتمثل في أنّ قرارات مجلس الأمن، وأنظمة التّفتيش نجحت جزئيًّا في تفكيك، وإحكام الرقابة على أجزاء من برامج أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة، لكنّ فاعليتها قُيّدت بعوامل سياسيّة واستخباريّة (ثقة متبادلة، اتهامات تجسّس، دوافع أصحّاب المصلحة)، وأنّ مواقف الدّول الإقليميّة دعمت إطارًا دوليًّا قويًّا للتّفتيش مع رفضها للأعمال العسكريّة أحاديّة الجانب. بمعنى آخر، نجحت الآليات تقنيًّا إلى حدّ ما، لكن الانعطافات السياسيّة والإقليميّة خفّضت قدرتها على إنتاج حلّ دائم وواضح. يمكن اختبار هذه الفرضيّة من خلال تتبّع تقارير التّفتيش، قرارات مجلس الأمن، وتصريحات دولية وإقليمية في الحِقب المفتاحيّة (1991–2003).
الدّراسات السّابقة
- هانز بليكس, (2005). ، نزع سلاح العراق الغزو بدلًا من التّفتيش . بيروت لبنان: مركز دراسات الوحدة العربيّة ، الطبعة الأولى. هذه الدّراسة على شكل كتاب يضم حوالي 250 صفحة عن الإجراءات التي اتخذها مجلس الأمن الدّولي حيال أسلحة الدّمار الشّامل في العراق .
- أفراح ناثر جاسم,(2005). موقف إيران من حربي الخليج الثانية والثالثة . مجلة مركز الدّراسات الإقليميّة : جامعة الموصل , العدد 3 , 3. هذه الدّراسة على شكل بحث اكاديمي تقع في حدود 20 صفحة، تناولت موقف إيران من حربي الخليح الثانية 1991 والثالثة 2003 ومن ضمنها القرارات الدّوليّة المتعلقة بالتّفتيش عن أسلحة الدّمار الشّاملة.
- Jean . 2017: Krasno ,”The United Nations . (n.d.). and the Iraq-Kuwait Conflict, 1990–1996″
هذه الدراسة على شكل كتاب يتضمن دراسة شاملة لانشطة المنظمة المتعددة الجوانب بالعقويات التي فرضت على العراق ، واستعادة سيادة الكويت، من خلال آليات مبتكرة ومشاركة مستدامة والتعامل مع حالة طوارئ إنسانية معقدة. بحدود 844 صغحة لكنها كانت من وجهة نظر باحث غربي .
منهجيّة البحث: تعتمد الدّراسة منهجًا تاريخيًّا-تحليليًّا مركّبًا يشمل:
- تحليل وثائقي: قراءة نصوص قرارات مجلس الأمن ذات الصّلة (خاصة 687 و715 و1441 وغيرها)، وتقارير UNSCOM وUNMOVIC وتقارير الوكالة الدّوليّة للطاقة الذرية.
- مراجعة أدبيّة: استعراض البحوث الأكاديميّة والتّقارير التّحليليّة (مراكز أبحاث، تقارير، ملفات أرشيفيّة) التي تناولت فعاليّة التّفتيش والتّوظيف السياسي لها.
- تحليل تصريحات وسياسات إقليميّة:جمع مواقف إيران الرّسميّة وتصنيفها (بيانات وزارة الخارجيّة، تصريحات مسؤولين، وتقارير إعلاميّة موثوقة) تجاه التّفتيش وعمليّات مجلس الأمن، وتحليل كيف تفاعلت هذه المواقف مع التّطورات على الأرض.
نطاق البحث
- زمنيّة: تتركّز الدّراسة على الحقبة التّاريخيّة الممتدة من 1991 إلى نهاية العام 2003 كأساس تاريخي، مع إشارات تكميليّة إلى تطورات لاحقة عند الضرورة التّحليليّة.
- مفاهيميّة: تنحصر الدّراسة في قرارات ونصوص مجلس الأمن وآليات التّفتيش الدّوليّة، ولا تتعمّق في تحليل مفصّل للسياسات الدّاخليّة العراقيّة، أو الإيرانيّة إلّا بقدر ما يؤثر ذلك على مواقف التفتيش والامتثال.
- مصادريّة: تعتمد الدّراسة على مصادر رسميّة أمميّة، تقارير المنظمات الدّوليّة، وثائق بحثية وأرشيفيّة وتقارير إعلامية موثوقة؛ وستُميّز بين البيانات الرّسميّة والتّقارير الاستخباريّة أو التّحليليّة عند استخلاص الاستنتاجات.
هيكليّة البحث: سيُقسم هذا البحث على مطلبين نتناول في المطلب الأول: قرارات مجلس الأمن وعمل لجان التّفتيش الدّوليّة عن أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة، وفي المطلب الثاني: سنبحث موقف إيران تجاه قرارات مجلس الأمن الخاصة بالتفتيش عن أسلحة الدّمار البحرين وختمت البحث بخاتمة تضمنت النتائج المهمّة والمقترحات .
المطلب الأول : قرارات مجلس الأمن وعمل لجان التفتيش الدّوليّة عن أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة
صدر عن مجلس الأمن اثنا عشر قرارًا رئيسًا خلال الحقبة1991-2003 تركَّزت على نزع أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة وفرض آلية التفتيش، ابتدأت القرارات الأساسيّة بالقرار 687 الذي أنشأ نظام التفتيش عبر لجنة الأمم المتحدة الخاص ((UNSCOM، وطالب العراق بتدمير أسلحته الكيميائيّة والبيولوجيّة، والصّواريخ البعيدة المدى فقد أصدر مجلس الأمن في الثالث من نيسان 1991 القرار رقم 687 والذي يطالب النّظام العراقي بالالتزام من دون قيد أو شرط ببروتوكول جنيف لحظر الاستعمال الحربي للغازات السّامة والخانقة وما شابهها، ووسائل الحرب البكتريولوجيّة، وأن يصدق على قرار حظر واستحداث وإنتاج وتخزين الأسلحة البيولوجيّة والصّاروخيّة، وتدمير المخزون كلّها من تلك الأسلحة كما طالب القرار أن يقبل العراق، من دون أي شروط القيام تحت إشراف دولي بالسّماح المفتشين تابعين للأمم المتحدة بالبحث عن أسلحة الدّمار الشّامل، ووسائل أنتاجها وتدميرها، والتي تتضمن ما يلي:
1- الأسلحة الكيماوية والبيولوجية جميعها، ومخزونات العوامل الكيماويّة جميعها، وما يتصل بها من منظومات فرعيّة ومكونات، ومرافق البحث والتّطوير والدّعم والتّصنيع جميعها.
2- القذائف الصاروخيّة جميعها التي يزيد مداها عن 150 كم، والقطع الرئيسة المتصلة بها، ومرافق إصلاحها وإنتاجها (الحمداني ح.، 2011).
كما طالب القرار في بنده التّاسع من العراق أن يقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة، في غضون 15 يومًا من تاريخ القرار بيانًا، بمواقع وكميات وأنواع جميع المواد المحددة، ويوافق على إجراء تفتيش عاجل في المواقع، وتدمير هذه الأسلحة جميعها، ووسائل إنتاجها، تحت الرّقابة الدّوليّة، وأن يتحمل العراق تكاليف تدميرها كاملة، ومصاريف فرق التّفتيش، وأن يتعهد العراق بعدم إنتاج مثل هذه الأسلحة، وتخزينها مستقبلًا (شعبان، 1994).
وتنفيذًا للقرار المذكور قدّم نظام صدام معلومات عن خمسة مواقع، كانت قد دُمِّرت إثناء الحرب، وكانت مخصصة لإنتاج غازات الخردل والنّارين والتابون)، وأربعة مصانع لإنتاج المواد الوسطيّة، ومصنع لصنع قذائف المدفعيّة والصّواريخ بالعتاد الكيماوي والغازات السّامة، مع محزونات من غاز السّارين قدرت بحوالي 250 طنًا، وغاز التابون بمقدار 500 طن، وغاز الخردل بمقدار 280 طنا (الحمداني ح.، 2011).
ومن القرارات التي صدرت بخصوص لجان التفتيش هو القرار 707 الذي الزم العراق بكشف كامل برامج أسلحته، وتسهيل وصول المفتشين، والقرار 715 الذي وضع خطة مراقبة طويلة الأمد لضمان التزام العراق بقرارات مجلس الأمن ، (الزهري، 2013)
بدأت فرق التفتيش الدّوليّة تتوافد على العراق، فقد وصلت في 14 أيار 1991 أول بعثة تضم 60 خبيرًا، وقد حولّها مجلس الأمن بتدمير الأسلحة العراقيّة خلال 45 يومًا، لكنّ البعثة المذكورة قدمت تقريرها الذي أشار إلى أنّ البحث عن الأسلحة العراقيّة يتطلب سنتين من البحث على أقل تقدير ، وفي 22 حزيران من العام نفسه وصلت البعثة الثانية، وكانت تضم 16 خبيرًا، ولحق بها فريق ثالث في 3 تموز 1991، وانضم إلى الفريق السّابق ، وقامت فرق التفتيش بتدمير الكثير من الأسلحة والمصانع الحربيّة التقليديّة وغير التقليديّة، “والظاهر أنّه بعد أن تحقق للولايات المتحدة أهدافها العسكريّة كلّها التفت الرئيس بوش الأب إلى الهدف الأهم للاستراتيجيّة الأمريكيّة، والمتمثل بنزع أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة، وفرض نوع صارم من الأشراف على مصانع الأسلحة، لمنع نظام صدام من تهديد منطقة الخليج مرة أخرى” (هيكل، حرب الخليج أوهام القوة والنصر، 127، 1992).
حاول نظام صدام بكل جهده إخفاء كل ما أمكن من أسراره النّوويّة والعسكريّة والأسلحة ، وكان في ذهن بعثة التفتيش البحث عن كمية من اليورانيوم المخصب قدرت ما بين 20 إلى 30 كيلو غرام، كان العراق قد استطاع إنقاذها عندما قامت الطّائرات الإسرائيليّة بقصف المفاعل النّووي العراقي العام 1981 أبان الحرب العراقيّة الإيرانيّة ، فيما استطاعت الولايات المتحدة الحصول على معلومات خطيرة عن البرنامج النّووي العراقي من أحد المهندسين العراقيين العاملين في هذا المجال والذي لجأ إلى الولايات المتحدة، إذ أبلغ المسؤولين الأمريكيين بوجود وثائق مهمّة قد خبأها النّظام في مبنى وزارة العمل ، فسارعت إلى إرسال بعثة جديدة إلى العراق رأسها الأمريكي دافيد كاي، وأحيطت البعثة علمًا بالمعلومات التي قدمها المهندس العراقي، وبالفعل وصلت البعثة إلى بغداد، وانتقلت بصورة مباشرة إلى بناية وزارة العمل طالبة تفتيشها وكان لها ذلك على الرّغم من اعتراض نظام صدام، وقد عُثِر على أضابير تحتوي على معلومات واسعة حول البرامج النّووي العراقي، وأسماء العاملين فيه وعلى الرّغم من محاولة السّلطات العراقيّة منع فرقة التّفتيش من إخراج تلك الأضابير، لكن البعثة أصرت على أخذها، واضطر النظام إلى الرضوخ في نهاية الأمر، وتمكنت بعثة التّفتيش من أخذها (بليكس، 2005) .
ويبدو من تصريحات العاملين وكتاباتهم في هذا المجال، ومنهم بشكل خاص الدّكتور جعفر ضياء جعفر، والدكتور نعمان النّعيمي إلى أنّ حسين كامل ، وزير الصناعة والتّصنيع العسكري، وصهر صدام حسين المسؤول الإداري الأول والمباشر عن برامج إنتاج الأسلحة المحرمة دوليًّا، وخاصة البرنامج النووي، قد استطاع إقناع صدام حسین وكسب رضاه وتأييده، في أن تقوم الأجهزة الأمنيّة والعسكريّة بتهريب تلك المعدات والأجهزة الضخمة عن أعين الرقباء، ما أوجد عدم ثقة جديّة بين الطرف العراقي والطرف الدّولي المسؤول عن التّفتيش والرّقابة والتّدمير، إذ كانت لدى هذه اللجان معلومات مهمّة عن تلك الأجهزة، ومواقعها تحصل عليها باستمرار عبر الصور التي تلتقطها وترسلها الأقمار الصناعيّة. وقد فشلت الجهود كلّها لإخفاء تلك الأجهزة والمعدات. ولكنها أوجدت مشكلة الشّك الدّائم بوجود شيء ما يخفيه النظام عن لجان التفتيش الدّوليّة. كما أنّ النّظام قد أوعز بإتلاف الكثير من المواد الأوليّة لإنتاج السّلاح الكيميائي والجرثومي، ولكن من دون أن يسّجل محاضر رسميّة، وموثّقة حول إجراءات التّدمير التي نفذها وكميّات ما دمر ومواقع التّدمير. لم يكن النّظام العراقي قد أنتج القنبلة الذريّة ولم يكن قريبًا من إنتاجها، بل كان يحتاج إلى مدّة أطول لتّحقيق هذا الهدف، ولكن الجهود كانت منصبة على هذا الهدف بوصفه حقًا من حقوق العراق، على الرّغم من توقيع العراق على اتفاقيّة منع انتشار الأسلحة النّوويّة (حبيب د.، 2012).
واستمرت فرق التفتيش تتابع وصولها إلى العراق، وهي مخولة بالتّفتيش في أي مكان تريده، وفي أنحاء العراق جميعه، وفي كل زيارة كانت فرق التفتيش تكتشف أمورًا جديدة حول أسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة، وخاصة الأسلحة الكيماويّة والبيولوجيّة، والصّواريخ واستمر الشّدّ والجذب بين نظام صدام من جهة، وبين الولايات المتحدة ولجان التفتيش من جهة أخرى حتى يوم الإثنين 1995/8/7 عندما غادر حسين كامل المجيد وزير التّصنيع العسكري العراقي الأسبق، وصهر صدام حسين بغداد في طريقه إلى عمان في موكب ضم زوجته رغد بنت صدام وأولاده، وضم أخاه صدام كامل ومعه زوجته رنا بنت صدام وعددًا من أركان حاشيته، ونقل معه موجودات هيئة التّصنيع العسّكري من العملة الصّعبة و 9.5 مليون دولار أميركي جميعها نقدًا، وخرج الحدود بحجة اصطحاب عائلته في فسحة صيفيّة في بلاد الجيك، وأخذ حسين كامل يظهر تحت أضواء الإعلام ويدلي بتصريحات ضد نظام صدام حسين، وهو الذي كان يمثل الشّخص الثاني في النّظام بعد صدام، ولاسيما وأنّه ابن عمه، وقد زوجه ابنته كما وزج أخيه صدام كامل ابنته الثانية، وقد بدأ يطلق العنان لتصريحاته متهمًا صدام بالدكتاتوريّة والتّسلط والغباء السياسي، (الحمداني ح.، 2011).
خشي صدام حسين من المعلومات التي يملكها صهره حسين كامل بصدد ببرامج ألاسلحة ،مما قد يخلق للعراق أزمة جديدة مع مجلس الأمن، ولاسيما وأنّ الأمور كانت قد أوشكت على الانتهاء، “فأصدر أمره بدعوة الرئيس التّنفيذي للجنة الأونسكوم، والمدير العام للوكالة الدّوليّة للطاقة الذريّة إلى العراق للتباحث مع الجانب العراقي، وأصدر أمره بالإعلان إلى المفتشين عن كل ما كان حسين كامل قد امر بإخفائه، وعدم البوح به، لسحب البساط من تحت أقدام حسين كامل” (هيكل، حرب الخليج أوهام القوة والنصر، 127، 1992).
وفي السّابع عشر من اب/ اغسطس 1995 وصل إلى بغداد كل من رولف إيكيوس المدير التّنفيذي للجنة الأونسكوم، وهانز بليكس المدير العام للوكالة الدّوليّة للطاقة الذريّة، وبقيا في بغداد مدة ثلاثة أيام، وقد أُبلغا بتفاصيل البرنامج المعجل الذي كان حسين كامل قد أمر بتنفيذه في آب من العام 1990، وقدّم الجانب العراقي إليهما مجموعة ضخمة من الوثائق والتّقارير التي كان حسين كامل قد أخفاها في موقع حساس، ثم نُقِلت بعد هروبه على عجل من ذلك الموقع إلى مزرعة ومن ثم سلمت إلى مفتشي الأمم المتحدة (بجك، 2006 ).
كانت لجنة التفتيش التّابعة للأمم المتحدة المشكلة أعلاه تتميز بالجدّيّة التّامة والتّخصص الرفيع من جهة، كما أنّ قرار مجل الأمن الدّولي 687 كان صارمًا وقاطعًا في موقفه من إخلاء العراق من كل أنواع أسلحة التّدمير الشّامل، والأجهزة والمعدات والبرامج والمواد التي تستخدم لهذا الغرض من جهة أخرى. وكانت هذه اللجان تعمل بجديّة عاليّة، وكانت مزودة بمعدات التفتيش الأرضي والجوي جميعها وعبر الأقمار الصناعيّة، إذ يمكن تسجيل أي حركة غير اعتياديّة في نشاط الطّرف العراقي لإخفاء أي من تلك الأجهزة والمعدات والبرامج، وكان دافع هذه اللجان، وخاصة رئيسها بيلكس يتوزع على ثلاث مهمات، وهي:
- منع العراق بأي شكل كان من إخفاء أي جزء من أجزاء برنامجه النّووي، أو برامج بقيّة الأسلحة ذات التّدمير الشّامل.
- إنجاز مهمته بأسرع وقت ممكن لتجنب المضاعفات التي كان يقدر احتمال حصولها إن تباطأ العراق في تنفيذ ما عليه من التزامات ثابتة.
- تجنيب الشّعب العراقي مغبة استمرار الحصار الدّولي على العراق، وتجنيبه الكثير من المعاناة، إذ كان قرار رفع الحصار مرتبط عضويًّا بقرار تدمير أسلحة الدّمار الشّامل والقذائف والصوارخ كافّة والتي يتجاوز مداها ١٥٠ كم (حبيب د.، 2012).
الّا أنّ النّظام العراقي لم المخاطر التي كانت تواجه العراق، في حالة إعاقة عمل لجان التفتيش ، بل استمر برفض الاستجابة لمطالب اللجان لكسب الوقت وتجاوز تنفيذ بنود القرار، سواء من جانب رأس النظام أم من جانب القوى البعثيّة التي كانت تعمل في البرنامج النّووي والتي كان يهمها جدًا إخفاء ذلك؛ لأنّها كانت مولعة بامتلاك العراق للسّلاح النووي أسوة بإسرائيل (الطائي د.، 2018).
عاد رولف إيكيوس إلى عمان في 22 آب 1995 ، وعقد لقاءً مع حسين كامل وكان برفقته مجموعة من الخبراء العاملين ضمن مفتشي الأونسكوم، كما حضر اللقاء ممثلًا عن الدّيوان الملكي الأردني تولى مهمة التّرجمة، وقد سأل إيكيوس حسين كامل عن سبب امتناع الجانب النووي العراقي من التّصريح بأن برنامج الطارد للتّخصيب، كان يجري ضمن موقع الراشديّة وليس ضمن موقع التويثة، وقد أجابه حسين كامل أنّهم فعلوا ذلك لتحويل أنظار المفتشين عن ذلك الموقع. ثم سأله عن ما إذا كان العراق ما يزال يمتلك من الأنشطة النوويّة، وقد نفى حسين كامل وجود أي نشاط، غير أنّ الوثائق والخرائط لا تزال موجودة ضمن مجموعة من المايكرو فلم (بليكس، 2005).
وبعد أن أكملت الجهات المخابراتيّة الأجنبيّة مهمتها، وحصلت من حسين كامل على ما في جعبته كلّه من معلومات، ألقته الولايات المتحدة في قارعة الطريق وتركته الى مصيره المحتوم، ففي شباط / فبراير من العام 1996 ، عاد حسين كامل وأخوه صدام كامل وعائلتاهما إلى العراق، بعد أن صدّقا بعفو صدام حسين، وقد استقبلهما عدّي عند الحدود، لكنّه أخذ أختيه وأولادهما بسيارته إلى بغداد، وترك حسين وأخاه يعودان إلى بغداد بمفرديهما، وفي اليوم التالي لوصول رغد ورنا إلى بغداد بصحبة عدي صدرت وثيقتا طلاقيهما من زوجيهما، وكان ذلك أول خطوات انتقام صدام المنتظر ، وانتقل حسين كامل وأخيه إلى ببيت أختهما الكائن في منطقة السيديّة، حيث كان أفراد العائلة جميعهم قد تجمعوا هناك، وفي اليوم التالي أحاطت مجموعة كبيرة مسلحة بقيادة علي حسن المجيد وعدي صدام بالمنزل، وحصلت مواجهة مسلحة بين المهاجمين وأفراد العائلة الذين قتلوا جميعًا، كما قتل بعض المهاجمين، وجرى قطع رأس حسين كامل من عمه علي حسن المجيد، إذ قدّمه إلى صدام كدليل على ما أسماه غسل عار العائلة (الحمداني ح.، 2011) .
وبعد ذلك صدرت مجموعة من القرارات الأخرى التي تتعلق بتفاصيل عمل لجان التفتيش والأحداث التي رافقت عملها مثل القرار 1060 الذي صدر في سنة 1996 وأدى منع العراق المفتشين من الوصول إلى مواقع مُحددة والقرار 1051 الذي وضع نظام مراقبة صادرات وواردات العراق إلى منع إعادة بناء برامج الأسلحة.
وكذلك القرار 1115الذي صدر في العام (1997) وفرض حظر سفر على مسؤولين عراقيين بسبب عدم التّعاون مع اللجنة الدّوليّة ، والقرار 1134الذي صدر في العام 1997 ونص على تحذير العراق من عواقب عدم الامتثال. والقرار 1154 لسنة (1998) الذي هدّد العراق بالردع بأشدّ العواقب إذا لم يمتثل العراق (قبل الغارات الأمريكيّة على العراق في 1998) والقرار 1205 الذي جاء في العام (1998) ردًّا على تعليق العراق التّعاون مع لجنة التّفتيش UNSCOM .
وعلى اثر ذلك وصل إلى العراق العام 1998 فريقي تفتيش من الوكالة الدّوليّة للطاقة الذرية إلى العراق، وكان برئاسة كاري ديلون وبول ستوكس، وقد قدّم الفريقين تقريرهما لمجلس الأمن أشارا فيه إلى أن الجانب الفني العراقي كان متعاونًا إلى أبعد الحدود، وقاموا بإعلام المفتشين عن الكثير من الأمور التي كانوا في الأمس القريب يتخوفون من مجرد الاستماع إلى أية استفسارات عنها، وكانوا في السّابق يحاولون التّهرب من الإجابة على أسئلة المفتشين بشتى الوسائل ، الأمر الذي يعكس محاولة النّظام العراقي في النّهاية إلى إقناع المفتشين أنّ عمليّة نزع أسلحته قد اكتملت، ولم يعد يمتلك أيّة أسلحة للدّمار الشّامل، وليس لديه أية نوايا لإعادة أنشطته السّابقة في مجال أسلحة الدّمار الشّامل (الحمداني ح.، 2011).
ولكن الأمور سارت على عكس ما كان نظام صدام يتمنى، فقد تدهورت العلاقة العراقيّة الأميركيّة العام 1998 بعد أن صدر تقرير عن اللجنة السياسيّة المشكّلة في الولايات المتحدة في 3 حزيران من العام 1997 من شخصيات سبق أن عملت ضمن إدارة جورج بوش الأب، لصياغة سياسة خارجيّة أمريكيّة للقرن الأمريكي الجديد، وقد توصلت هذه المجموعة إلى قناعات سطرتها ضمن مذكرة بعثت بها إلى الرئيس بيل كلنتون في 26 كانون الثاني 1998 تحثّه فيها على إزاحة صدّام حسين حاسبة هذا الهدف حجر الزاوية للسياسة الخارجيّة الأميركيّة (الطائي د.، 2018).
وفي 13 كانون الثاني 1998 أبلغ ريتشارد بتلر مجلس الأمن أن العراق، قد أعلن عدم تعاونه مع فريق التّفتيش لكون غالبية المفتشين من مواطني الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا، وأضاف بتلر أنّ العراق لم يسمح لمفتشي الأونسكوم دخول أيّ من المواقع الرئاسيّة الثمانية في العراق. وفي ضوء ذلك بعث الأمين العام للأمم المتحدة فريقًا فنيًّا إلى العراق لإجراء مسح المساحات وحدود المواقع الرئاسيّة المذكورة، ولاحقًا لهذه المهمة تولى الأمين العام زيارة بغداد للمدّة 22-23 شباط من العام ذاته، وتوصل أثناءها إلى إعلان مذكرة للتفاهم مع الحكومة العراقيّة بشأن تفتيش المواقع الرئاسيّة في العراق، ووفق بنود هذه المذكرة ستسمح السلطات العراقيّة لمفتشي الأونسكوم والوكالة الدّوليّة من الدخول الفوري، وغير المشروط لتفتيش هذه المواقع بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بأسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة ، وفي المقابل تتعهد دول الأمم المتحدة جميعها باحترام سيادة العراق واحترام وحدته الوطنيّة، كما تلتزم لجنة الأونسكوم باحترام مشاعر العراقيين في الأمن والسيادة والكرامة !! ونصت مذكرة التّفاهم على ضرورة الاتفاق على أساليب إجراء التفتيش في المواقع الرئاسيّة حاليًّا ومستقبلًا (بليكس، 2005).
بعد جدل بين العراق مع لجنة الاونسكوم وتبادل الاتهامات بين الطرفين حول تنفيذ قرارات مجلس الأمن الخاصة بالتفتيش، أعلن بيل كلينتون أنّه قد أمر بتنفيذ ضربات جويّة قويّة ومتواصلة على العراق في تمام السّاعة السّادسة مساءً من يوم الأربعاء المصادف 16 كانون الأول 1998، وأن الولايات المتحدة مصممة على تجريد صدام من إمكان تطوير وإطلاق أسلحة الدّمار الشّامل، ومن تهديد جيرانه، وفي الوقت ذاته أرسل رسالة قويّة إلى صدام محذّرًا إياه بأن أي عمل متهور يقدم عليه سيدفع ثمنًا له غاليًّا (بيار سالنجر وإريك لوران).
وبدأ القصف على بغداد والمدن العراقيّة الأخرى، وعلى المرافق الاقتصاديّة والبنية التحية للعراق كافّة والمنهكة أصلًا جراء حرب الخليج الثانية، وجراء الحصار المفروض على العراق، وانتهت بذلك الآمال التي كانت معقودة على إجراء تقويم شامل لملف نزع أسلحة الدّمار الشّامل المخطط إجراؤه من مجلس الأمن والذي كان سيتيح للعراق معالجة الأمّور العالقة مع لجنة الأونسكوم والوكالة، وحسمها مرة واحدة إلى الأبد، وقد غدا موقف نظام صدام شمّاعة جاهزة تعلق عليها أميركا نياتها جميعها المعلنة والخفيّة ضد العراق ونظامه، كما أصبح في الوقت ذاته شمّاعة يعلق عليها النّظام العراقي معاناة الشّعب العراقي المعيشيّة الصعبة جميعها، فإذا اشتكى العراقيون من الجوع والحرمان قال لهم النّظام إنّه الحصار الجائر، وعدوانيّة لجان التفتيش، وإذا اشتكى العراقيون من حرمانهم من أبسط متطلبات العصر الحديث، ومن الأجهزة الحديثة والخدمات، أجاب أركان النّظام أنّ كل ذلك سيتحسن حال رفع الحصار، ولكن لا أحد يستطيع أن يعطي الجواب متى وكيف سيتم رفع الحصار؟ (الحمداني ح.، 2011).
المطلب الثاني
ومن القرارات المهمة في شأن موضوع التفتيش هو القرار 1284 لسنة (1999) الذي حلَّ لجنة UNSCOM وأنشأ لجنة الرّصد والتّحقق والتّفتيش (UNMOVIC) إذ جاء هذا القرار ملغومًا كغيره من القرارات ضد العراق. فلقد وعد بتخفيف الحصار ورفع الحظر على الكميّة التي يصدرها العراق من نفطه، ولكنه فرض قيودًا جديدة حول البضائع التي يمكن أن يصدّرها، كان من المفترض بعد تقرير لجنة التفتيش الأولى أنّ العراق خال من أسلحة الدّمار الشّامل. (بليكس، 2005) لكن فقرات القرار بخصوص هذه الفقرة كانت في باطنها سلبيّة، إذ إنّها تكلمت عن مدّة تجريبيّة للعراق بعد إعلانه خاليًا من الأسلحة تقضي بمنحه إعفاء لمدة أربعة شهور قابلة للتجديد ما يربطه من جديد بامتحان دوري يخرق سيادته (نبلوك، 2011). والأسوأ أنّ القرار دعا أيضًا إلى عودة الوكالة الدّوليّة للطاقة الذّريّة للتفتيش بعدما أنهت مهمتها قبل سنوات، وأعلنت العراق خاليًا من أي برنامج تطوير سلاح نووي تحت ضغط الولايات المتحدة الأمر الذي دفع المفتش السّابق للجنة الجديدة ليشير إلى أن التفتيش أصبح مهزلة الآن، بعدما استطاعت اللجنة السّابقة من تحقيق نسبة 99 بالمئة من النّجاح في تصفية برامج الأسلحة العراقيّة (بليكس، 2005)، وتصديقًا لذلك فإنّ العام 2002 شهد إصرار الولايات المتحدة على نزع أسلحة عراقيّة تقليديّة لا تأثير لها ولا تملك أي مجال استراتيجي. وحتى بعد احتلالها الكامل للعراق بذريعة وجود أسلحة دمار شامل، وأنها ستعثر عليها يومًا ما ولكن عذى الأمر لم يكن له حقيقة على أرض الواقع بعد احتلال العراق العام 2003 (Weiss، 2018).
وعلى هذا الاساس وبسبب هذه المخالفات الصّريحة في القرار أعلاه رفض العراق العمل به رفضًا قاطعًا، ورفض التّعاون مع تنظيمات مجلس الأمن بشأن مسألة نزع أسلحة الدّمار الشّامل، وأعلن بأنّه قد أوفى بكامل التزاماته تجاه هذه المسألة، وقد حان الوقت لكي ينفّذ مجلس الأمن التزاماته تجاه العراق، ويقرر رفع الحصار الظّالم عن العراق بموجب الفقرة 22 من قرار مجلس الأمن 687 لسنة 1991 ، ثم جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 والتي أدت إلى تدمير مركز التّجارة العالمي في نيويورك، والهجوم على البنتاجون بطائرات مختطفة من عناصر مجرمة من تنظيم القاعدة، لكي يتخذها الرئيس الأمريكي بوش ذريعة لغزو العراق وتدميره، وإسقاط نظام صدام، وقد شجعته على القيام بذلك الحرب الخاطفة في أفغانستان التي أسقطت نظام طالبان (هيكل، حرب الخليج أوهام القوة والنصر، 127، 1992).
وأخيرًا صدر القرار 1441 في العام (2002) وكانت طريقة صياغة هذا القرار في المضمون والشّكل، وفي المواعيد المحددة للتعرف إلى ما يمتلكه العراق من أسلحة الدّمار الشّامل، أو برامج لإنتاج أسلحة الدّمار الشّامل، وفي طبيعة الإصرار على لجنة الطاقة الذّريّة في أن تشكل لجان ذات خبرة عاليّة وصارمة، إذ تنهي المعلومات كافّة بمدّة قصيرة جدًا لا تتجاوز 15 أسبوعًا، إضافة إلى تقديم تقارير ٦٠ يومًا حول كيفيّة تعاون النّظام العراقي، ودعوة هذا النّظام إلى الابتعاد من أساليبه في التّحايل والمخاتلة والمراوغة في إعطاء المعلومات إلى لجان التفتيش الدّوليّة، وكان يعني أنّها الرسالة الأخيرة التي توجه إلى النّظام، وسيتبعها شن الحرب ضد النّظام العراقي في حالة عدم الاستجابة لما ورد في هذا القرار. وقد أدرك النّظام جديّة هذه الرّسالة ما دفع النّظام إلى تقديم التّقرير المفصل المرفق برسالة من وزير خارجيّة العراق ناجي صبري، تضمّنت الرّسالة فهرسًا تفصيليًّا للتقرير الذي بلغت صفحاته قرابة ١٢ ألف صفحة (حبيب د.، 2012).
والحقيقة ان القرار المذكور كان الذّريعة للحرب ضد العراق، ووصف العراق أنّه في “خرق مادي” للقرارات السّابقة، مُهددًا بعواقب وخيمة ففي شهر أيلول من العام 2002 وبعد العام على أحداث سبتمبر التي هزّت الولايات المتحدة الأمريكيّة بدأت بوادر الاستعداد الأمريكي لغزو العراق، إذ طالب الرّئيس بوش قادة العالم خلال جلسة الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة أن يواجهوا الخطر الجسيم للنّظام العراقي، وكان بوش يبدو عليه وهو يخاطب قادّة العالم، الحزم والعزم لغزو العراق موجهًا تهديدًا صريحًا للمترددين من قادة الدّول، لكي يشاركوا إلى جانب الولايات المتحدة، وإلّا فالولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا ستتصرفان بمفردهما!! (الخطيب د.، 2017).
تحدث رئيس لجنة الطاقّة الذّرية العراقيّة الدكتور ضياء جعفر بهذا الصّدد في لقاء مع جريدة النهار البيروتيّة، جاء فيه “لا أكشف أسرارًا لأنّ كل ما أعلمه معروف لدى الأمم المتحدة. ولكن ربما أقول إنّ الأمم المتحدة، والوكالة الدّوليّة للطاقة الذريّة، لم تكن نزيهة في تقويمها لما أعلنه العراق من حقائق، ولم تكن نزيهة في تقاريرها إلى مجلس الأمن، لأنّه كان في إمكانها أن تقول بشكل موثوق به للغاية ليس لدى العراق أيّ برنامج نووي. هذه كانت مسألة مهمّة جدًا في مجلس الأمن لو أعلنت الوكالة الدّوليّة ذلك، كانت ستسقط الأوراق من أيدي الأميركيين وغيرهم. هؤلاء اتهموا العراق بإعادة برامجه النوويّة وزوروا وثائق عن شراء الأورانيوم من النِّيجر وقضيّة أنابيب الألومينيوم. كل هذه اتهامات باطلة. كانت الوكالة تعلم جيدًا إن هذه الاتهامات باطلة … لكنّهم لم يقولوا ذلك صراحة في الوقت المناسب، كانوا متواطئين، وهذا واضح جدًا (حبيب د.، 2012)
وفي أيلول 2003 نشر رئيس الوزراء البريطاني توني بلير ملفًا عن قدرات العراق العسكريّة، وبعد موافقة العراق على عودة مفتشي الأسلحة التّابعين للأمم المتحدة في نوفمبر تشرين ثاني 2002 بموجب قرار جديد للأمم المتحدة ، وأكّد في التقرير أنّ العراق يتحمل العواقب الوخيمة التي قد تنتج عن انتهاك بنود القرار على الرّغم من قيام رئيس لجنة التفتيش الدّوليّة في العراق [هانز بليكس) باصدار تقرير في آذار 2003 يفيد أنّ العراق زاد من تعاونه مع المفتشين، ويقول إنّ المفتشين بحاجة إلى مزيد من الوقت للتأكد من إذعان العراق ، لكن سفير بريطانيا في الأمم المتحدة صرح في 17 مارس / آذار 2003 بأنّ السبل الدّبلوماسيّة مع العراق قد انتهت، وأُجلي مفتشو الأمم المتحدة من العراق، ومنح الرئيس بوش صدام حسين مهلة 48 ساعة لمغادرة العراق أو مواجهة الحرب، وفي الوقت نفسه كانت عمليّة نقل القوات الأمريكيّة، والبريطانيّة تجري على قدم وساق إلى الكويت والسّعودية استعدادًا لعملية الغزو الّذي كان قد اتخذه جورج بوش وتوني بلير في لقائهما بوشنطن (بجك، 2006 ).
المطلب الثاني الموقف الإيراني من قرارات مجلس الأمن الدّولي بخصوص التفتيش عن أسلحة الدّمار الشّامل
وعلى أساس هذا المعطيات المعقدة كان موقف إيران من مجمل القرارات الدّوليّة المتخذة بحق العراق، والخاصة بملف التّفتيش عن أسلحة العراق معقد وأخذ أكثر من وجه ، فمن ناحية إنّ إيران تنظر بريبة وقلق من الأسلحة الكيميائيّة العراقيّة ، خاصةً بسبب استخدام العراق للأسلحة الكيميائيّة ضد القوات الإيرانيّة خلال الحرب الإيرانيّة-العراقيّة (1980-1988) وأنّها شهدت الاستخدام الفعلي للأسلحة الكيميائيّة في تلك الحرب، ما جعلها متشككة في نوايا العراق بشأن تسليم هذه الأسلحة بعد الحرب ، فهي كانت تُعدُّ الضحيّة الرئيسة لاستخدام العراق للأسلحة الكيميائيّة في الحرب، وكانت تدعم الجهود الدّوليّة الرامية إلى التخلص من هذه الأسلحة ومنع العراق من تطويرها مجددًا (بشير، 2018).
ومن جانب ثانٍ كانت ايران ترى أن التفتيش كان أمرًا ضروريًا؛ لضمان أنّ العراق لن يمتلك أسلحة دمار شامل يمكن أن تهدد أمن المنطقة ، ودعت إلى ضرورة إجراء تفتيش شامل على المنشآت العراقيّة جميعها ذات الصّلة بأسلحة الدّمار الشّامل لضمان أنّ العراق قد سلّم هذه الأسلحة تمامًا ، فقد قال الرئيس هاشمي رفسنجاني في 1992″نؤيد أيّ جهد دولي لتدمير أسلحة الدّمار الشّامل في المنطقة التي عانى منها شعبنا” (اطلاعات، 15 أبريل، 1992) ، وفي تصريح لوكالة IRNA الإيرانيّة في 15يونيو 1996، قال علي أكبر ولايتي وزير الخارجيّة الإيراني: “(إيران تدعم أيّ جهد دولي لإجبار النّظام العراقي على الامتثال لالتزاماته بموجب قرارات الأمم المتحدة… لكن يجب ألّا تُستخدم هذه القرارات كمبرر لانتهاك سيادة الدّول” (وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية . IRNA، 2022 .)
إن وجود عراق ضعيف يمنح إيران وضعًا عسكريًّا واقتصاديًّا أقوى . غير أنّ توتر العلاقات بين وجيرانها العرب في الخليج – الذين يخشون العراق بدورهم – يمكن ان يعد دليل على اتباع سياسة خارجيّة ايرانية لم تتمكن من استثمار محنة أخطر منافس إقليمي لها،. أمّا اعتبار ذلك ” تطلعًا نحو الهيمنة، فهو أمر مطروح للنقاش، ويتوقف – غالبًا – على مدى الأمن السياسي الذي تشعر به دول الخليج العربي المحافظة، وعلى مدى تأثير الوجود الأمريكي في المنطقة في ردع الأطماع الإيرانيّة أو إثارتها (العتيبي، 2009).
ومن منظور آخر كانت إيران تركز على على الأمن الإقليمي الاستراتيجي لها ، فعلى الرّغم من الدّعم الظاهر لعمليات التّفتيش، كانت تركز على أمن المنطقة بشكل عام، وكان لديها مخاوف من أن تتسبب الحرب في الخليج في تقوية الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وهو ما قد يعزز من وجودهم العسكري في الخليج (النعيمي ا.، السياسة الخارجية الايرانية (1979 – 2011) ، 2012)، كما أنّها كانت تراقب المفاوضات الدّوليّة بشأن العراق، وكانت تدعو إلى احترام سيادة الدّول في المنطقة، وعدم استغلال التفتيش كذريعة للتّدخل العسكري أو للضغط السياسي على العراق (العابدي ف.، 2011)، ففي خطاب للأمين العام لمجلس الأمن القومي الإيراني حسن روحاني (2003) وصف القرار 1284 أنّه “خطوة نحو احتلال العراق” بينما وصف المرشد الأعلى خامنئي اجراءات التّفتيش أنّه “يجب أن يكون محايدًا، لا أن يُدار من مخابرات الدّول الكبرى” (للانباء، 2003 ).
من جانب آخر طالبت إيران بتطبيق معايير التّفتيش نفسها التي فرضت على العراق أن تطبق على إسرائيل، كاشفة عن تناقض الموقف الدّولي ، فقد تسأل وزير الخارجيّة كمال خرازي في خطابه في الأمم المتحدة العام 1998 لماذا لا يُفتش الكيان الصهيوني الذي يمتلك أسلحة نووية” (المتحدة، 1998).
امّا الرئيس الإيراني رفسنجاني أشار خلال خطاب في مجلس الشّورى الإسلامي في 20 حزيران (يونيو) 1996 إلى أنّ ” التّجربة المريرة للشّعب الإيراني مع أسلحة صدام الكيميائيّة تفرض علينا دعم نزع السّلاح… لكنّنا نرفض تحويل العراق إلى ساحة للهيمنة الأجنبيّة” (عتريسي، 2003) .
من جانب آخر كانت المعلومات التي تروج لها أوساط الاستخبارات الغربيّة، أن إيران قد بدأت برنامجًا سريًّا للتّسليح النّووي، وإذا صحّ هذا الاعتقاد فإنّ ذلك يعني تهديدًا جديدًا وخطيرًا للشّرق الأوسط، ويطغى هذا الأمر على سائر النقاط الأخرى المثيرة للجدل، وما يراه بعض مسؤولي السّلطة داخل الجمهورية الإسلاميّة من جدوى تنفيذ برنامج التّسليح النووي، كما أن هناك دليلًا قويًّا على قيام إيران بتنفيذ برنامج بحث نووي متواضع له انعكاسات عسكريّة محتملة (“The United Nations ) .
وعلى الرغم من عدم وجود أدلّة قاطعة على قيام إيران في ذلك الوقت فعلًا بإقامة البنيّة التّحتيّة، وتهيئة الأمور اللازمة لتنفيذ برنامج متكامل لتصنيع الأسلحة النووية، فقد سمحت إيران العام 1992 للوكالة الدّوليّة للطاقة الذّريّة بالتفتيش على مرافقها النوويّة المعلنة، ومنشأتها الأخرى التي يعتقد في قيامها بنشاط نووي، ولم تجد الوكالة أي دليل على اتهام إيران بمزاولة أنشطة محظورة قانونيًّا، وإن كانت أجهزة الاستخبارات الغربيّة يساورها بعض الشكّ حول قيام فريق الوكالة بالتفتيش على المواقع الصحيحة ، وقد صرّح مدير وكالة الاستخبارات الأمريكيّة جيمس وولسي في 23 أيلول / سبتمبر 1994 بقوله : ” أمام إیران 8 الى 10 سنوات كي تقوم بتصنيع مثل هذه الأسلحة، ولن تتمكن من إنجاز ذلك من دون معونة خارجيّة. وأشار أيضًا إلى جهود إيران المبذولة لشراء التقنية والأسلحة النوويّة وخاصة من روسيا. (Coker, 2003).
ومن الطبيعي أن تتأثر طموحات إيران النّووية بمدى مصداقيّة المجتمع الدولي في إقناعها أن الأسلحة النووية العراقيّة تخضع للسّيطرة الدّوليّة الدائمة. كما يجب أن تكون مقتنعة أنّه لن يظهر برنامج عراقي مرة أخرى إذا تولت السّلطة قيادة جديدة في بغداد، وإقناع إيران بذلك ليس بالأمر السّهل. ولكن من المهم – على المدى الطويل – أن تدخل إيران ضمن أي نظام لضبط التّسلح في الشّرق الأوسط، لأنّ إسرائيل لن توافق البتة على الدّخول في أيّ أنظمة ومعاهدات لضبط التّسلح في الشرق الأوسط، التي تشمل الأسلحة النوويّة، إلّا إذا خضعت إيران – وربما باكستان أيضًا – لمقاييس دقيقة للتحقق من عدم صنع الأسلحة المذكورة (مسعد ن.، 2011).
يتبين مما سبق أنّ إيران كانت تدعم جهود التفتيش الدّولي لكشف الأسلحة الكيميائيّة وأسلحة الدّمار الشّامل العراقيّة بعد غزو الكويت، وذلك استنادًا إلى تجربتها السّابقة مع الأسلحة الكيميائيّة العراقيّة. في الوقت نفسه، كانت تتبع سياسة حذرة في التّعامل مع المسائل المتعلقة بالتفتيش في العراق، إذ كانت تركز على ضرورة ضمان الأمن الإقليمي، واستغلال الملف العراقي لتحقيق مصالح سياسية أخرى، وكانت تخشى من أن يصبح التفتيش سابقة تُستخدم ضدها مستقبلًا (السويدي، 1996)، خاصة مع اتهامات غربيّة لاحقة بامتلاك إيران برامج أسلحة غير مشروعة. ولقد ظهر موقفها تجاه تلك الأحداث في بيان وزارة الخارجيّة الإيرانيّة (حزيران يونيو 1996) جاء في البيان: “إنّ القرار 1060 خطوة ضروريّة لضمان أمن المنطقة… وينبغي أن يكون نزع السلاح شاملًا، من دون انتقائيّة أو ازدواجيّة معايير” (إسلامي، 1996).
وليس ببعيد من هذه الفرضيات هو تفكير إيران لامكانّية تسوية خلافاتها مع العراق، إلى حدّ التّعاون مع بعضهما البعض ضد التّحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكيّة، فهناك بعض المجالات الأكيدة التي تتعاون فيها كلا الدّولتين – خاصة في مجال بيع كميات محدودة من البترول العراقي المهرب -ولقد ظهر ذلك فعلًا اذ جرت حالات تبادل أسرى، ورفات قتلى الطرفين العراقي والإيراني من ضحايا الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، إلّا أنّ الثقة ظلت مفقودة بين الطرفين. إلّا أن بغداد وطهران حاولتا فتح قنوات اتصال بهدف التّقارب – منها اللقاء الذي تحقق بين الرئيس الإيراني محمد خاتمي مع نائب الرئيس العراقي طه ياسين رمضان في تشرين الأول/ أكتوبر 2000 أثناء قمة دول أوبك في العاصمة الفنزويليّة كركاس، إذ اتفق فيه الطرفان على فتح المجال الجوي الإيراني أمام الملاحة من وإلى العراق، والسّماح بمرور الطّائرات الإيرانيّة من وإلى دمشق عبر الأجواء العراقيّة (محمد ع.، 2006).
ومن ناحية أخرى، إذا قدر أن يحلّ محلّ صدام حسين قائد أقل فسادًا، وأكثر وطنيّة ومعاداة للغرب، فإنّ التّقارب بين بغداد وطهران يصبح أمرًا محتملًا . وإذا ما نجحت القيادة العراقيّة الجديدة في إقناع المجتمع الدّولي بالتعجيل برفع العقوبات، فقد ترى إيران أنّ من مصلحتها إقامة علاقات طيبة معها بدلًا من الظّهور في صورة العدو . وقد يرى العراقيون بدورهم أنّ من مصلحتهم الاستجابة للمطالب الإيرانيّة بشأن قضايا معيّنة، مثل موضوع قوات المعارضة الإيرانيّة المتمركزة في العراق. وقد تجمع كلا الدولتين أرضيّة مشتركة في ما يتعلق بالجهود المبذولة لحرمان الأكراد من الحصول على أي قدر من الحكم الذّاتي، وستكون لدى كلا الجانبين بالتأكيد الرّغبة في تحدي الهيمنة العسكريّة الأمريكيّة، وتحدي الجهود الدّوليّة الرامية إلى حرمان كلا الدولتين من التسليح المتطور (Weiss، 2018).
وامام هذه المخاوف اتبعت إدارة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون منذ العام 1993 نهجًا جديدًا في إيجاد توازن بين العراق وإيران للمحافظة على درجة من الاستقرار سميّت بسياسة الاحتواء المزدوج على أساس أنّ قوة أمريكا، قد وصلت إلى مستويات لم تعدّ معها بحاجة إلى موازنة العراق وإيران ببعضهما البعض؛ وأنّها قادرة على إيجاد توازن بين الاثنين من دون الاعتماد على أي منهما (Ramazani., 1992)، وكان توقيت الاحتواء المزدوج بعد ظروف عانى فيها العراق من عقوبات الحصار الاقتصادي ، وكانت إيران في مرحلة تستعيد فيها قدراتها التي أنهكتها الحرب العراقيّة – الإيرانيّة. أما الولايات المتحدة فكانت هي القوة المهيمنة في الخليج العربي وبإمكانها مجابهة العراق أو إيران. كان هذا الاستنتاج الأمريكي مبنيًّا على ضرورة احتواء إيران التي قد تستفيد من ضعف العراق؛ وبذلك تسبب مشاكل للسياسة التي تتبعها الولايات المتحدة في المنطقة. (Gregory, 1994)
خاتمة: دعمت إيران القرارات الدّوليّة كـضمانة أمنية ضد عدوها السّابق (العراق)، لكنها ربطت ذلك بانتقاد السياسات الغربيّة والأمريكيّة خصوصًا تجاه إسرائيل، مع التّركيز على “العدالة الإقليميّة فقد طالبت طهران بتطبيق معايير نزع السّلاح على إسرائيل، كما ظهر في تصريحات رفسنجاني وولايتي، ما يعكس رؤية إيران لـتوازن القوى في الشّرق الأوسط. وكان الحذر من الهيمنة الأمريكيّة: هو الهاجس الأكبر إذ خشيت إيران من تحوُّل العقوبات والمراقبة إلى ذريعة لـتكريس الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، وهو ما اعتبرته تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
فكان موقف إيران من استمرار العقوبات الاقتصادية، هو الالتزام الشكّلي بقرارات الأمم المتحدة (لتجنب عقوبات دوليّة)، لكنها انتهكت الحصار عمليًا عبر شبكات تهريب منظمة، مستفيدةً من ضعف الرقابة على حدودها مع العراق والفساد داخل برنامج لنفط مقابل الغذاء وحاجة النّظام العراقي آنذاك إلى حلفاء لمواجهة العزلة الدّوليّة. وهذا التّضارب يعكس سياستها الواقعيّة التي تجمع بين الخطاب الثوري والمصالح الماديّة، وهو نهج نجح في تعزيز مكانتها الإقليميّة على حساب العراق.
وانتقدت العقوبات ووصفها أنّها أداة استعماريّة، مع دعم محدود للإغاثة الإنسانيّة إلّا أنّها سياسيًّا انتهكت الحظر عبر شبكات التهريب، مستفيدة من التفكّك الاقتصادي العراقي وفي الوقت نفسه وظَّفت إعلاميًّا ودينيًّا الخطاب المعادي للغرب لتقوية شرعيتها الدّاخليّة والإقليميّة.
وقدر تعلق الأمر بموقف إيران من لجان التفتيش وعملها بموجب قرارات مجلس الأمن، فقد مثلت الأحداث والتّحولات الإقليميّة والدّوليّة التي حدثت في عقد التّسعينيات من القرن الماضي قوة دفع كبيرة لبرامج التّسلح الإيراني، وتطويرها لقدرتها العسكريّة المختلفة فجوانب الضّعف التي واكبت القدرات العسكريّة الإيرانيّة خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي، لا تلغي منطق أن إيران تمتلك أكبر قوّة عسكريّة في منطقة الخليج العربي بعد خسارة العراق عقب غزو الكويت.
ولكن إيران كان ترى أنّها ستخسر الكثير إذا ما تواطأت لرد الاعتبار لصدام حسين. وإذا حدث ذلك، فإنّه سيعني رفع العقوبات المفروضة على العراق الذي سيكون قادرًا مرة أخرى على استخدام موارده الماليّة لشراء الأسلحة وتهديد جيرانه. ونظرًا لقلّة عدد سكان العراق مقارنة بإيران وثرواته الكببرة بما لديه من احتياطيات نفطيّة ضخمة غير مستفاد منها، سيكون العراق قادرًا على تخصيص نسبة مئويّة من إيراداته للإنفاق العسكري، تفوق ما تخصصه إيران للغرض نفسه. ولن يؤدي ذلك إلى تعريض المنطقة لتهديد خطير فحسب ، بل إلى إغراق السوق بالنّفط العراقي، إذ من المرجح أن يكون صدام حسين متحفزًا للانتقام ممن تسببوا في هزيمته وإذلاله في حرب الخليج الثانية.
مراجع الدراسة
أولًا: المراجع العربية
- إسلامي, ص. ج. (1996). “،العدد 6012 في 14 حزيران (يونيو) .
- اطلاعات. (1992). 15 أبريل.
- الجوعاني, س. م. (2012). السياسة الامريكية حيال العراق منذ التسعينات. اطروحة دكتوراه ، كلية العلوم السياسية جامعة النهرين .
- الحمداني, ح. (2011). صدام والفخ الأمريكي . غزو الكويت وحرب الخليج الثانية (الطبعة الاولى ). القاهرة: مركز المحروسة.
- الخطيب, ح. (2016). دور هيئة الامم المتحدة في النزاعات الدّوليّة ( العراق انموذجا) (الاولى ). بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر.
- الخطيب, د. ج. (2017). الحروب الباردة في ظل الامم المتحدة العراق انموذجا. الكوفة: سلسلة دراسات فكرية ، جامعة الكوفة.
- الزهري, خ. ع. (2013). العراق الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. (مجلة كلية الرافدين الجامعة للعلوم , كلية الرافدين الجامعة العدد ٣٢ , 11.
- السويدي, د. ج. (1996). إيران والخليج البحث عن الاستقرار . الامارات: مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية .
- الطائي, د. ح. (2018). حرب الخليج الثانية 1991 حقائق ووثائق . بغداد : مؤسسة ثائر العصامي.
- العابدي, ف. ع. (2011). السياسة الخارجية الإيرانية واثرها على امن الخليج 1999 – 2002. رسالة ماجستير ، قسم العلوم السياسية ، كلية الاداب ، والعلوم ، جامعة الشرق الاوسط. عمان الاردن.
- العالمية, م. ا. (1996). التقرير السنوي الدولي. Retrieved from https://www.who.int/data/#highlights
- العتيبي, م. ع. (2009). مجلس الأمن في مواجهة العدوان العراقي على دولة الكويت وتداعياته (1990-2008). الكويت: مركز البحوث والدراسات الكويتية .
- العلوجي, ع. ا. (2010). , الاعلام والحرب العراق انموذجا . القاهرة: دار الثقافة للنشر.
- الفاو, م. (1995). تقرير دوري الاوضاع الاقتصادية في العراق . Retrieved from https://www.fao.org/home/ar
- المتحدة, ا. (1998). محضر جلسة A/53/PV.7]. Retrieved from https://main.un.org/securitycouncil/content/alqrarat-walntayj
- المعموري, ا. س. (2016). التنظيم القانوني للمشتقات المالية واثرها على اسعار النفط. مجلة الكوفة للعلوم القانونية والسياسية, 9(28), 91.
- الموقع الرسمي للامم المتحدة :. (1996). محضر الجمعية العامة A/46/PV.43). Retrieved from الجلسة الـ51، 1996). خطاب خرازي في 24 سبتمبر 1996 أمام الجمعية العام: https://digitallibrary.un.org
- النعيمي, ا. ن. (2012). السياسة الخارجية الإيرانية (1979 – 2011) . عمان: دار الجنان للنشر والتوزيع .
- بجك, ب. ي. (2006 ). العراق وتطبيقات الامم المتحدة للقانون الدولي 1990 – 2005 دراسة توثيقية تحليلية . بيروت لبنان : مركز دراسات الوحدة العربية .
- بشير, س. ع. (2018). أثر النظام الدولي على السياسات الخارجية لإيران في الفترة ١٩٧٩ – ٢٠١٤ . اطروحة دكتوراه ، (جامعة النيلين : كلية الدراسات العليا- قسم العلوم السياسية. الخرطوم.
- بليكس, ه. (2005). ، نزع سلاح العراق الغزو بدلا من التفتيش . بيروت لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعة الاولى.
- بيار سالنجر وإريك لوران. (n.d.). حرب الخليج. باريس: منشورات أوليفيه أوربان، .
- جاسم, أ. ن. (2005). موقف إيران من حربي الخليج الثانية والثالثة . مجلة مركز الدراسات الإقليمية : جامعة الموصل , العدد 3 , 3.
- جرغون, ع. ع. (2016). العلاقات الإيرانية الخليجية ، الانفراج التوتر، . القاهرة: العربي للنشر والتوزيع.
- حبيب, د. ك. (2012). لمحات من عراق القرن العشرين العراق في العهد الجمهوري (الطبعة الاولى , Vol. الجزء الرابع ). اربيل: دار اراس للطباعة والنشر.
- حسين, س. غ. (2005). وسائل تطبيع العلاقات العراقيّة – الكويتية . مجلة مركز المستنصرية للدراسات العربية والدّوليّة : الجامعة المستنصرية , 87.
- ديب, ك. (2013). ، موجز تاريخ العراق من ثورة العشرين الى الحروب الأمريكية والمقاومة والتحرير ،. بيروت: دار الفارابي ،٢٠١٣.
- زلوم, ع. ا. (2000). العراق تحت الحصار . مؤتمر 1997 (الصفحة 217، طبعة 2002.
- شعبان, ع. ا. (1994). بانوراما حرب الخليج وثيقة وخبر دراسة ونصوص قرارات مجلس الأمن الدولي 1990 – 1994 . لندن: دار البراق , 1994) .
- شموئيل سيجف, ا. (2016). لعلاقات السرية الاسرائيلية الإيرانية الامريكية ,. (غ. السعدي, Trans.) عمان: دار الجليل للنشر والتوزيع.
- عتريسي, ط. (2003). إيران الى اين . (مجلة المستقبل العربي : بيروت العدد 288 , 29.
- للانباء, و. ف. (2003 ). تصريح ، 10 فبراير . Retrieved from https://irandataportal.syr.edu/
- محمد, ع. ا. (2006). السياسة الإيرانية الداخلية والخارجية : دراسة في تحليل صناعة القرار. الكويت: الكويت: وزارة الاعلام الكويتية.
- مسعد, ن. ع. (2011). صنع القرار في إيران والعلاقات العربية الإيرانية . بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
- نبلوك, ت. (2011). العقوبات والمنبوذون في الشرق الاوسط العراق ليبيا السودان . بيروت ، لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية ، الطبعةالاولى .
- هيكل, م. ح. (1992). حرب الخليج أوهام القوة والنصر، 127 (الطبعة الثانية). القاهرة: مركز الأهرام للطباعة والنشر.
- واشنطن،, ت. م. (2001). Retrieved from https://digitallibrary.un.org/collection/Resource%20Type?ln=e
- وكالة أنباء الجمهورية الإسلامية . IRNA. (2022 .). بيان منشورة في أرشيف الوكالة. Retrieved from https://ar.irna.ir/
- وليد الخالدي. (1999). أزمة الخليج الجذور والنتائج. ، (مجلة الدراسات الفلسطينية: بيروت ، ١٩٩١) ، العدد ٥، 12.
ثانيًا: المراجع الإنكليزية
- “The United Nations . (n.d.). and the Iraq-Kuwait Conflict, 1990–1996″ by Jean . 2017: Krasno.
- Coker, M. (2003). “Iran’s Policy Toward Iraq Since 1990” . (Middle East Journal.
- Gregory, F. (1994). “Dual Containment: U.S. Policy Toward Iran and Iraq”. I (Foreign Affairs.
- Kharrazi, K. (1996). Statement at the UN General Assembly*. UN Document A/51/PV.15. A/51/PV.15]. . Retrieved from https://digitallibrary.un.org/
- , R. ( 1992). “Iran’s Foreign Policy: Both North and South,” . Middle East Journal 46, no., 402.
- Weiss, T. G. (2018). ,”The Oxford Handbook on the United Nations”. London: (Oxford University, 2 nd edition.
[1] – طالبة دكتوراه في الجامعة اللبنانيّة – المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة- بيروت- لبنان- قسم التّاريخ
PhD student at the Lebanese University – Higher Institute of Doctoral Studies in Arts, Humanities and Social Sciences – Beirut – Lebanon – Department of History.Email: remaahsaad@gmail.com