ابن خلدون في مقدّمته سابق لزمانه
د. محمّد أمين الضنّاويّ*
يُعدّ ابن خلدون من أعلام الفكر الإسلاميّ، وإمام المؤرّخين العرب منذ القرن الثامن الهجريّ حتّى اليوم، وكان تراثه خير أستاذ تتلمذ عليه أعْلام البيان العربيّ في عصر النهضة الأدبيّة الحديثة في مصر وسائر بلاد الشرق العربيّ.
لقد عدّ “فون كريمر” المستشرق النمساويّ ابن خلدون مؤرّخًا للحضارة الإسلاميّة، وعدّه “دي بوير” فيلسوفًا، لكن الاتِّجاه كان لدراسة فلسفة ابن خلدون الاجتماعيّة التي تسمّى اليوم بعلم الاجتماع، وقد سبق ابن خلدون في هذا المجال “أوجست كنت” و”ميكنيا فيللي” إلى الدرس النقديّ للتّاريخ.
إنّ مقدّمة ابن خلدون تراث جليل خالد يمتاز بالجدّة والابتكار، وتُعدّ منهاجًا جديدًا في فهم التّاريخ وتحليله ونقده، وفي فهم الظواهر الاجتماعيّة وتعليلها. وصف ابن خلدون موضوع مقدّمته بقوله هو: “العمران البشريّ والاجتماع الإنسانيّ”، وقد تحدّث فيها عن العمران البشريّ على الجملة وأصنافه، والعمران البدويّ، وذكر القبائل والأمم البربريّة، وتحدّث عن الدول والخلافة والملك، وذكر المراتب السلطانيّة من العمران الحضريّ، والبلدان والأمصار، وعن الصنائع والمعاش، والكسب ووجوهه، وعن العلوم واكتسابها وتعلّمها. إنّ بحوث ابن خلدون في المقدّمة هي تمهيد لدراسة التاريخ وفهمه، وهي بحوث جديدة كلّ الجدّة، وتشمل بحوثه فيها جوانب من علوم الاجتماع، وفلسفة التاريخ، والاقتصاد السياسيّ.
ألّف ابن خلدون مقدّمته وهو في مدينة تلمسان سنة 779هـ، وقد أمضى خمسة شهور في تدوينها، ثمّ نقّحها وهذّبها بعد ذلك مرّات عدّة، ويقول عنها في آخر الجزء السابع في كتابه: “واكتملت المقدّمة على هذا النحو الغريب الذي اهتديتُ إليه في تلك الخلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتّى امتخضت زبدتها، وتألّفت نتائجها”، ثمّ أتمّ أوّل نسخة من تاريخه سنة 784هـ، وتشمل المقدّمة، وأخبار البربر، وزناتة، وتاريخ العرب قبل الإسلام وبعده، وتاريخ الدول الإسلاميّة المتعدّدة إلى عصره. لقد كانت نظرة ابن خلدون إلى التّاريخ نظرة عالِمٍ سابقٍ لزمنه، فقد وضع في مقدّمته أصول علم التاريخ، فكانت الأثر الوحيد من نوعه في التراث العربيّ الإسلاميّ.
ولابن خلدون في مقدّمته رأيّ في العرب عجيب، فهو يذهب إلى “أنّهم لا يتغلّبون إلاّ على البسائط، وإذا تغلَّبوا على أوطان أسرع إليها الفساد والخراب، وإذا حصل لهم الملك، وهم أبعد النّاس عن الصنائع، ومبانيهم يُسرع إليها الفساد،
وحملة العلم في الإسلام عجم”. وهذا الرّأي الغريب حيّر الباحثين فعلّلوه بأسباب متعدّدة متناقضة، ويقول في هذا الدكتور عبد المنعم خفاجي: إنّنا في هذا القول أمام أمرين:
الأوّل: إنّ ابن خلدون يريد بقوله العرب البَدو، لا عرب الجزيرة العربيّة، وهذا الرأي يحتاج إلى إثبات.
الثاني: إنّ ابن خلدون يقصد العرب، ويريدهم، ويتكلّم عليهم، فكأنّما يقصد العرب حين ضَعُف الدين في نفوسهم، لأنّهم حين تمسّكوا بإسلامهم، وشريعتهم كانوا في القمّة.
ويذكر أيضًا أنّ أهل البادية مغلوبون لأهل الأمصار، ويذكر أحوال الموالي وغيرهم، وما يعرض للدول من الحجر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ جامعيّ سابق، وأحد رئيسَيْ تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة، مجلّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، له العديد من المؤلَّفات.
على السلطان، والاستبداد به، ومشاركته في نفوذه وألقابه. وآراء ابن خلدون في الفصل الخامس من المقدّمة عن المعاش ووجوهه، والكسب، والصنائع مباحث قيّمة في الاقتصاد السياسيّ، والاجتماعيّ، وقد اقتبس منها علماء الاقتصاد السياسيّ في الغرب بعض الأفكار والآراء. إلاّ أنّ الدارس لمقدّمة ابن خلدون يرى أنّها كانت أفكارًا فلسفيّة، وكانت دراسته للفلسفة، وعلومها، وتاريخها، ونشأتها تدلّ على أنّه من أنصارها، ومحبّيها، وعارفي أمرها، لا بل إنّ المقدّمة نفسها لون من ألوان الفلسفة في عصرنا الراهن.
لقد شغلت مقدّمة ابن خلدون أذهان العلماء، والمفكّرين طوال عصور التاريخ، ونالت من الاهتمام، والعناية أضعاف ما ناله تاريخه الكبير. وابن خلدون بتاريخه احتلّ الذروة في التفكير الإسلاميّ، وقد وضعته مقدّمته بين العلماء الخالدين في تاريخ الإنسانيّة الفكريّ، ولا تزال نظريّاته، وآراؤه موضع اهتمام الباحثين، والمؤرّخين، والفلاسفة، وعلماء الاجنماع إلى اليوم. وممّا لا شكّ فيه أنّ ابن خلدون يستحقّ تقدير المفكّرين والتاريخ والإنسانيّة جمعاء.