تحويل فعل الأمر (افعل) من صيغة (لا + تفعل) في القرآن الكريم
دراسة في الشّكل والمعنى
إيمان مسلم الجابريّ([1])
ملخص البحث
يطرح البحث فرضيّة سبك فعل الأمر بصيغة (افعل) من الصّيغة (لا + تفعل) مستعينًا بالضّد الدّلاليّ لمعنى اللفظ من جانب، وبالسّياق من جانب آخر. انطلاقًا من واقع إمكان سبك المصدر من الصيغة الشّكليّة للتركيب (أن+ الفعل المضارع ). ونقل الشّكل من التركيب الفعليّ والحرف إلى الاسميّة مثال ذلك:( يعجبني أن تقوم ) = ( يعجبني قيامك ) في الاسميّة وتحويل الفعل ( تقوم ) إلى الاسم (قيام). والفرق بين هذا السّبك وما نطرحه في البحث هو أن سبك المصدر خروج من الفعليّة إلى الإسميّة بينما فرضيّة البحث لا تتكلف هذا الخروج وإنّما يكون التحويل من الفعل إلى الفعل، ومن الجزم إلى الجزم في النهي لأنّ النّهي هو جزم أيضًا ([2]). ويكون بذلك التّحويل أكثر قربًا وتسويغًا. ولمن يسأل عن جدوى هذا الطرح أقول: هو من باب اختبار إمكان اختزال الصّيغة إلى صيغة أقرب للأمر والتّنفيذ، وهي صيغة (افعل ) والكشف عن وجوه توظيف اللغة في النّص القرآنيّ. ويبقى في إطار البحث والتّجريب في إمكانيّة صياغات اللفظ مع الحفاظ على خصوصيّة التوظيف في القرآن الكريم بوصفه النّص اللغويّ المعجز.
Absetrc
The imperative form is the form of (do) of the form (do + do) the form (do + do) for the meaning of the pronunciation on the one hand, and the context on the other side. It is normal to start from the natural form of the tense (present + verb). An example of this is: (I like you to rise) = (I like you to rise) in the nominative and transposition of the verb (qiyam). The difference between this and a return to assertion of assertiveness in the prohibition, because the prohibition is also assertive. Tou conversion is thus more approachable and justified. He will not ask about the feasibility of this expression, and this makes it from the beginning of the accusative, and the formula went to the formula (I do) and disclose the use of the language in the Qur’an text. It remains within the framework of research and experimentation in the possibility of obtaining opportunities to obtain employment services in translation in the Holy Qur’an translated into the miraculous linguistic text.
المقدمة
سبب اختيار البحث
تدور البحوث اللغوية والنّحوّية في إطار إثراء اللغة العربيّة ورفع مكانتها بين اللغات وهذا الّسبب الأكثر أهمّية. واختيار هذا الموضوع جزء من ذلك . وقد لاحظت إمكانيّة سبك فعل الأمر مفردًا من الصّيغة المركبة. وهو طرح غير مسبوق في البحوث الحديثة، وفي أصول النّحو يوجد سبك المصدر من (أنّ + الفعل المضارع) وهو معروف لا نحتاج التفصيل به. أكّد إمكانيّة ذلك النّماذج التي وردت في القرآن مثل: اصبروا ولا تصبروا فهو سبك باللفظ (اصبروا) وليس فقط المعنى في الأمر مثل (تحملوا) أو ما شابه من تعدد صور الأمر. وكذلك: لاتقولوا وقولوا. ومثلها في غير اللفظ لا تقربوهن واعتزلوهن. وبذلك يطمئن القلب للدّخول في البحث وإنجازه .
أهميّة البحث
تكمن أهمّية الطرح في الكشف عن سر استعمال القرآن الكريم لصيغة (لاتفعل) مع إمكانيّة تحويل النّهي إلى الأمر(افعل). والأمر الآخر هو لفت نظر الدّارسين إلى وجود هذا التحويل في القرآن الكريم لرفد البحوث بهكذا طروحات في الشّكل والدّلالة غير مسبوقة .
منهج البحث
تتبع الباحثة منهجًا وصفيًّا تدعمه بالتفسير وتطبيق الفرض إجرائيًّا لإثبات صحّة ماذهبت إليه في إمكان تحويل صيغة النّهيّ إلى الأمر المباشر، ثم الكشف عن تعبير القرآن بصيغة النّهي وترك صيغة الأمر. وهو سبك فعل الأمر (افعل) من صيغة (لاتفعل). ويتابع البحث أسباب توظيف الصيغتين في سياقاتها في الدّراسة الدّلاليّة لأنّنا نريد وصف الشّكل ودراسته في إطار الفرض للكشف عن المعنى. أمّا نماذج البحث فقد أخذنا ما يتقوّم به البحث من الصيغ التي جُرِّدت في كتاب دراسات لأسلوب القرآن الكريم للشيخ عبد الخالق عضيمة .
خطة البحث
بعد المقدمة والمهاد النّظري تقسم الدّراسة إلى مبحثين : ندرس في الأول عرض النّماذج وتطبيق الإجرائيّات (التّحويل) لإثبات صحة الفرض. و رصد أساليب تشكيل المعنى في سياقات التّوظيف المتنوعة للحصول على الفوارق بين التوظيفات الدلالية للصّيغ. ويكون على ثلاثة مباحث بضمنها دراسة المعنى منثورة بين أجزاء البحث في مباحث هي الأول : يتابع سك صيغة الأمر من النّهي المباشر. والمبحث الثّانيّ من النّهيّ بمعونة السّياق. والمبحث الثالث حين يكون الأمر والنّهيّ في سياق واحد. ثم تجمل النتائج في آخر البحث.
مصادر البحث
يستقي البحث مادته من السّياق القرآني نفسه، ويحتاج التفاسير لتوضيح الألفاظ الغامضة، وتبقى كتب اللغة والنّحو في مقدمة المصادر وخاصة القديم منها ومن الكتب الحديثة، اعتمدت الجرد الذي قام به الشّيخ عبد الخالق عضيمة في كتابه دراسات لأسلوب القرآن الكريم .
الصّعوبات التي واجهت البحث
إنّ سعة الوقت لهي اليوم أكبر التّحديات. فبين إلقاء المحاضرات، ومتابعة الطلاب والامتحانات وأخبار الوباء( كوفيد 19 ) واضطراب الأوضاع الصّحيّة وما نتج عنها من اضطرابات اجتماعيّة واقتصاديّة ونفسيّة أصبح من الصّعب جدًا تحقيق إنجاز مادة بحثيّة والأصعب الكتابة، والله هو الموفق .
مهاد نظري
لا بدّ للنّظريات العلمية اعتماد ملاحظات محددة تخضعها للتفسير والبحث للخروج بظواهر جديدة يصوغها الباحث قواعد عامة قابلة للتطبيق([3]) لا بدّ لصحة الفرض من مصاديق سنعمل على إثباتها في الإجرائيّات المعتمدة في عرض النّماذج البحثيّة
أمّا ضوابط الأخذ للنّماذج وصحة ذلك فإنّ مادة البحث اعتمدت على جرد الصيغة (لا + تفعل) في كتاب دراسات لأسلوب القرآن الكريم ([4]). نأخذ المادة التي جُرّدت لعرضها في إجرائيّات تثبت مصداق الفرض، وتعرض على شكل مجموعات تعنون بحسب خصائصها المتشابهة، ثم نقوم بتطبيق الفرض على بعض منها لمقتضى الحال. نستنتج الضوابط بعد استكمال الإجرائيّات على النّماذج واختبارها. مثلًا، ما دور السّياق اللفظيّ في صحة تحويل الصّيغة ؟ نلفت نظر القاريء الكريم إلى أمرين أساسيين هما: الأول: إنّ النّماذج المعروضة للتّطبيق تختص بصيغة (لا + تفعل) وذلك يعنيّ خروج صيغة الغائب والمتكلم من التحويل. الأمر الآخر هو اختصاص العمل بالنحو واللغة فقط بعيدا عن مباحث الأصول وفلسفة النهي في الأحكام الشرعية وغيرها .
قد نتهم طرح البحث بقولنا: إذا حذفت (لا) يصبح الفعل بصيغة الأمر ولا جدوى من التّحويل. لكن ذلك غير صحيح و صيغة (لاتفعل) هي نفيّ للفعل أمّا صيغة (افعل) بمعنى الإثبات و( إذا قلت قم إنّما تأمره بأنّ يكون منه قيام، فإذا نهيت فقلت: لا تقم، فقد أردت منه نفي ذلك) ([5]). وفي هذا المعنى لم يطلب منه النّفي للقيام وإنّما الضّد منه وهو الجلوس. وللتأكد نجرب الأمر بالقول (لا تذهب) و(اذهب) هل المعنى نفسه عند حذف (لا) ولا حاجة للتحويل؟ الجواب كلا فعند تحويل الفعل (لا تذهب) يصبح (ابق) والفرق واضح . وقد يترادف الفعلان في سياق واحد مثل: لاتقربوهن، واعتزلوهن .
متى يستعمل القرآن الكريم صيغة (لا تفعل) ؟
من بديهيات البحث الوقوف عند الفرق بين الصيغتين في استعمال القرآن الكريم .
فرضية البحث
يفترض البحث إمكانيّة تحويل صيغة إلى صيغة أخرى تتمثل بسبك فعل الأمر من صيغة النهي (لا + تفعل) لقصد أراده السّياق وهو عند استعمال صيغة الأمر يكون الفعل لم يقع بعد ويكون وقوعه احتمالًا فقد يقع أو لايقع . أمّا استعمال صيغة النّهي فيكون الفعل قد حصل بالفعل ويكون النّهي طلب إيقاف الفعل أو إزالته بدلالة النّفي بـ (لا) سواء في النّهي المجازيّ في الدعاء، أو على وجه الحقيقة. وليس فقط وقوع الفعل وإنّما تجدده بصيغة المضارع التي تدل على التكرار والتّجدد. وهذا دليل على وقوع الفعل في النّهي بدليل التّجدد لأن مالم يقع لم يتجدد . ودليل آخر : في معنى لاتركضوا وارجعوا في سورة الأنبياء قوله تعالى : ﴿لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ ﴾ الأنبياء13 يقول: (لاتركضوا وارجعوا ) وفي السّياق ورد تحقق فعل الركض لقوله:( فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون). وهذا دليل قاطع على صحة الفرض في أن صيغة النّهي تأتي مع الفعل المتحقق والحاصل. وإذا لم تكن ثمة قرينة في السياق تدل على حصوله ، أو كان السياق ومقتضى الحال.
أسئلة البحث
أولًا : يعالج البحث أربعة أسئلة هي : لماذا نطبق اجرائيات التّحويل على النّهي لسبك صيغة الأمر؟
السؤال الثّانيّ هو: مامعنى أن يأتي سك الصّيغة على مستويين (المباشر،غير المباشر ) ؟
السؤال الثالث: لماذا يأتي النّهي والأمر في سياق واحد ؟
السؤال الرّابع : ومتى يعبر القرآن بالنهي ومتى بالأمر ومتى بالنّهي والأمر معًا ؟
المبحث الأول: المسكوك المباشر
لـ (افعل) من الصيغة (لاتفعل)
سأقوم في هذا المبحث بعرض مايتقوم به البحث من نماذج صيغة النّهيّ (لا + تفعل) لنجري عليها تحويلًا إلى صيغة الأمر لإثبات إمكان استخدام صيغة الأمر المباشر (افعل) وما استخدام النّهي إلا لقصد ودلالة سنبين ما نتمكن من تبيينه والله من وراء القصد والتوفيق. مثال ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
في هذا المثال نجد ثلاث صيغ في النّهي قابلة للتحويل وهي (لا تؤاخذنا ) ويقابلها اعف عنا والصّيغة الثانية (لاتحمل) ويقابلها اغفر لنا. والثالثة (لاتحملنا) ويقابلها ارحمنا.
دلالة استعمال النّهيّ في سورة البقرة
أمّا تطبيقه في هذه المواضع فنجده في النّهي (لاتؤاخذنا) يعني أنّ المؤاخذة حصلت والعقوبة نازلة بهم، وهم يطلبون إزالة العقاب. أمّا فعل الأمر فيما يقابل النّهي بحسب توجيه أبيّ حيان فإنّهم يطلبون تحصيل العفو من الله للخلاص من العقاب النازل بهم .
(لاتحمل)، (اغفر لنا) في النهي يدل على وقوع شدة التكليف وهو الإصر ومعناه : العبيء الذي يأصر حامله أي يحبسه مكانه لايستقل به لثقله . استعير للتكليف الشّاق([6]). إذًا؛ يريدون الخروج من شدة التكليف ، ويطلبون بصيغة الأمر الذي أفاد الدّعاء الرحمة (لاتحمّلنا)، (ارحمنا)، وفي هذا النّهي نفهم أنّهم قد حملوا مالاطاقة لهم به ويطمحون برحمة الله ان يخلصهم. بدليل فعل الأمر ارحمنا. في النهاية أن( لا) الّنهي كانت تنفي ما كان واقع متجدد في الفعل المضارع والنفي لإزالة الفعل الحاصل عموما .
دلالة استعمال النّهيّ في سورة ال عمران
قوله تعالى : ﴿ رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)﴾ . لا تزغ والزوغان الانفلات كما حصل لمن تأول القرآن على هواه وخاصة في تأويل المحكم والمتشابه ([7]). وزيغ القلب يتسبب عن عوارض تعرض للعقل من خلل في ذاته، أو دواع من الخلطة أو الشهوة، أو ضعف الإرادة … ولايدري المؤمن أية ساعة تحل فيه أسباب الشّقاء ([8]) يقابل ذلك التثبيت فتكون الصيغة المقابلة هي:(ثبّت) قلوبنا، وقوله تعالى:﴿ رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)﴾
والمُخزي في اللغة هو المُذل المحقوروأخزيته ألزمته حجة أذللته معها ([9]) بذلك يكون الفعل (استرنا) مقابل (لاتخزنا) وبالتالي يكون الدعاء بنفي الخزي وهو أمر مفزع ومخجل أما الستر فهو تحصيل حاصل لنفي الخزيّ.
ورد قوله: (لاتزغ، لاتخزنا) صيغتا النهي وقد عبر بالأولى عن الخوف من انحراف القلب بعد الهداية، والثانية الخوف من الخزي يوم القيامة.هل ينطبق الفرض في كون الفعل بالنّهي يدل على حصول الحدث ؟ الجواب نعم الفعل المضارع يدل على التجدد والتكرار وبالتّالي فهو حاصل كما تثبت القاعدة بالتجدد، ولكن حصول الفعل في في ذهن المتكلم وليس في الواقع يراه متجسدا حتى كأنّه حاصل. فلشدة خوفه على إيمانه يخشى انحراف القلب، ولشدّة خوفه من ذنبه يخشى الخزي والإذلال يوم الحساب. أو القصد لا تبلنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا([10]) وعند البلاء يكن المعنى دخولهم في البلاء ومنه الزيغ والارتداد .
تنطبق بذلك الفرضيّة في حصول الفعل في صيغة النّهيّ فلوقال: ( ثبت قلوبنا) ما كان له فيها خيار ولا يستحق الأجر على الإيمان. لأن الله يريد العبد أن يؤمن ويجدد إيمانه، وهذا ما أرجحه. وكذلك في( لاتخزنا) لو قالوا استرنا ماكانت لتصح من شخص لم يقترف ما يحتاج الستر. وبذلك جاء اختيار النّهي ابلغ من الأمر في السّياق .
دلالة استعمال النّهيّ في سورة النساء
مثال ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) ﴾ لاتعضلوهن: ومعنى العضل في التفسير هوالحبس والتضييق([11]) والنّهيّ هنا عن التضييق على المرأة واستحلال مالها كرهًا([12])، ويقابلها ( اطلقوهن).أو( سرحوهن ) ولم يستعمل الأمر لخصوصيّة قصدية يريدها القرآن .
يعطي اللفظ صورة مظلومية وإهانة المرأة من قبل وليها والذي نهى عنه الله سبحانه والعضل مستعمل في ربط الحيوان عمومًا يقول الراّغب: (عضلته: شددته بالعضل المتناول من الحيوان وتجوز به في كل منع شديد) ([13]). بل الشدة والإهانة. وقد استعمل صيغة النّهيّ لإزالة العضل وأمر بتحرير المرأة لأن الفعل واقع كما أثبت الفرض ولم يستعمل الأمر(سرحوهن) لأن الأمر يطلب التحرير بشكل عام سواء كانت المرأة محبوسه أو لا .
دلالة استعمال النّهي في سورة التّوبة
مثال :﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ سورة التوبة -40 وفي هذا المثال قوله تعالى (لاتحزن) وهو نهي عن الحزن ويكون الأمرالمسكوك منه (افرح) .
تفيد دلالة استعمال النّهي أنّ الحزن كان قد وقع من السّامع بالفعل وتلبس بإحساسه فجاء النّهي ليزيل هذا الفعل النّفسي من أصله. ولو استعمل فعل الأمر (افعل) بقوله: افرح مقابل لاتحزن ما كان ليصح المعنى في مقتضى حال لا يوجد مبرر للفرح فيه. والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مهدد بالقتل بسبب قريش وهم يتبعونه للغار. وظهر أن الحزن بسبب الفزع بدليل قوله: ﴿ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا﴾ في السّياق نفسه. وفي سورة لقمان قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ سورة لقمان-13. ويسك من هذا النهي فعل أمر مباشر هو (وحد) من التوحيد واليقين ان لا خالق سوى الله سبحانه . ويظهر لي أن الأفعال المعنوية وإن لم تحصل يرد فيها النهي المخبر عن حصولها كما في ( لاتحزن ،لاتزغ ، لاتخزنا )
دلالة استعمال النهي في سورة لقمان
أمّا عن دلالة النّهيّ في لاتشرك فهو كما في (لاتزغ) لشدّة خوف لقمان على وقوع ابنه في الشّرك صوره بأقرب حالة وكأنّه حصل منه الشّرك فأراد النّهي أن يزيل الفعل من أصله. أمّا عن صحة تطبيق الفرض البحثيّ فقد نوهنا مسبقًا إلى أنّ الحالات العباديّة والنّفسيّة يتعامل معها القرآن الكريم كأنّها حاصلة لقربها من التحقق في عوارض النفس الطارئة. إذًا لايزال معنا تحقق الفرض في كون صيغة لاتفعل في حالات وقوع الفعل .
﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ الزمر-53. القنوط اليأس. والجملة إنّ الله يغفر الذنوب جميعا تعليل للنّهيّ عن اليأس من رحمة الله ([14]) والقنوط أيضًا: اليأس من الخير([15]) إذًا؛ القنوط هو اليأس فإن مقابل الفعل لاتقنطوا يكون (تأملوا) رحمة الله. واليأس يقابله الأمل.
دلالة استعمال النهي في سورة الزّمر
في سياق الحديث عن الرزق وعد سبحانه وتعالى عباده الذين أسرفوا على أنفسهم وارتكبوا الذنوب وابتعدوا عن الله بالغفران وعدم القنوط ، ولكن طلب منهم الإنابة إليه بالاستغفار والقرب ومعنى لاتقنطوا : أي لا ينقطع رجاؤكم وتيأسوا فيؤدي القنوط بكم إلى الامتناع من التوبة [16]. فصيغة النهي أفادت شدة انغماس المخاطبين باليأس فكان لهذه الصيغة من القوة بإزالة القنوط جذريا من نفوس الناس بواسطة النهي . وماكان ليصح ذلك في صيغة الأمر المباشر مقابل النهي لو قال تأملوا . فالأمل برحمة الله والذنب لايجتمعان .
وقوله تعالى في سورة الذاريات: ﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) ﴾
في هذه الآية حديث القرآن الكريم عن ضيف ابراهيم وعن خوفه منهم بسبب امتناعهم عن الأكل وقوله : لاتخف يقابله الفعل (اطمئن) لأن الاطمئنان عكس الخوف .
دلالة استعمال النّهي في سورة الذّاريات
جاء قوله تعالى: لاتخف للنبي ابراهيم عليه السلام يعني وقوع الخوف بسبب امتناع الضيف عن الأكل بدليل أول الآية (فأوجس). وأوجس من وجس، وهو الصوت الخفي والتوجس: التسمع، والإيجاس: وجود ذلك في النّفس، وهو حالة تحصل في النفس بعد الهاجس، لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر([17]) ومعنى أوجس: وقع في نفسه الخوف([18]) وقد تأكد وقوعه ومخالطته إحساسه باستعمال صيغة النّهي والفعل المضارع ولو قالها بصيغة الأمر (اطمئن) لم يكن الخوف متحققًا وما كانت صيغة الأمر بقوة النّهي عن الخوف وقد أفاد وقوعه. وجاء في قوله تعالى: ﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ سورة القيامة- 16 .
في هذا المثال خطاب الله سبحانه عز وجل للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (لاتحرك) وهو يحاول حفظ الوحي وترديده، وقد وردت بصيغة النّهيّ. ويقابلها بصيغة الأمر (سكّن)، لأنّ السكون عكس الحركة.
دلالة استعمال النّهيّ في سورة القيامة
لكن من خلال السّياق يفهم أنّ الله سبحانه حين وجد النّبيّ يلاقي شدّة في محاولة ترديد القرآن للاحتفاظ به أمره بأن لايحرك به لسانه أي لا يحاول ترديده وحفظه لأنّه تعالى تعهد بجمعه في صدر النبي صلى الله عليه واله وسلم ثم إظهاره على لسانه ومضمون الطلب: (استمع) وهو مايقابل النهي في (لاتحرك) ([19]). أمّا في إطار الفرض البحثيّ في كون الفعل في صيغة النّهيّ حاصل فهذا يثبت أن النّبي كان يحرك لسانه ويردد الوحي محاولا حفظه. وما كان ليخبرنا بهذا المعنى لو قال (سكن) لسانك لوجود القيد (به) فقد منع ترديد القرآن ولم يمنع حركة اللسان مطلقًا .
المبحث الثانيّ : المسكوك غير المباشر
بمعونة السّياق مثال : ﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُون ﴾ سورة التوبة- 81
النّفير: مايستقبل من الجهاد والمخلفون الذين قالوا لاتنفروا، وهم الذين تخلفوا عن غزوة تبوك([20])، وقولهم لاتنفروا في الحر خطاب بعضهم بعضا وكانت غزوة تبوك في وقت الحر([21])، ويقابل الجهاد (القعود) بدلالة قوله تعالى: ﴿ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً﴾ النساء- 95 ويقابل صيغة النّهي (لاتنفروا)، (اقعدوا).
دلالة استعمال النّهي في سورة التّوبة
في ضوء فرضية البحث وهي استعمال صيغة النّهي (لا تنفروا) موظفًا دلالة اللفظ وصيغة النّهيّ. لإيقاف الاستعداد نفسيًّا كان أو واقعيًّا. وعبّر بصيغة النّهيّ لتصوير قوة رفضهم للجهاد في سبيل الله والتثاقل عنه ([22]). ولو استعمل صيغة الأمر المباشر (إفعل) في مايقابل الضد من عدم النفور للجهاد وهو القعود أي (اقعدوا) لما كان بالقوة نفسها وبذلك يصح فرض البحث في أن صيغة النهي تأتي لبيان أن الفعل وقع بل تجدد بصيغة المضارع ، ولو لم يكن وقع لما صح منه التجدد والتكرار. والمعنى بنسبة ولو ضئيله تفيد معنى النفور للجهاد من البعض منهم كما يفهم من السياق قسم ينهى عن التهيؤ للجهاد وقسم يتهيأ له . يثبت ذلك في السياق السابق قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38)﴾ . وهكذا يكون الفعل واقع ومتجدد في العزوف عن الجهاد. ﴿وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ الدّخان-19 وعكس العلو الخضوع لله ومعنى ذلك أن كلمة ( اخضعوا) هي المقابل فلماذا لم يستخدم (اخضعوا) ؟ الجواب لأنّ العلو قد تحقق وحصل بدليل صيغة النّهيّ، والفعل المضارع فالنّهي أريد به الكف عن الطغيان والعلو ولو قال اخضعوا يكون الفعل عرضة لعدم الحصول.
دلالة استعمال النهي في سورة الدخان
ما يُفهم من اللفظ، وما يخبر به السّياق أن الكلام عن قوم فرعون، وعصيانهم للنبي موسى عليه السلام ودلالة النّهي والفعل المضارع الصّادر من النبي موسى لقومه، ولفرعون تثبت طغيانهم، وعلوهم على الله وعلى نبيه برفض الدعوة والسّعي لقتل النبي. اذًا، فهم داخلون في الفعل والنّهي لإيقاف طغيانهم وعلوهم على الله، وصيغة الأمر (اخضعوا) أو استجيبوا أو آمنوا موجودة وبالإمكان سكها من النّهي، لكن ماكانت لتوصل معنى العلو والطغيان الذي نقله الفعل وأداة النّهيّ. ينتج لدينا حقيقة استعمال القرآن الخاص للألفاظ وقوة توظيفها. وقد جاء قوله تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ الأنفال – 27. في هذه الآية وردت كلمة (لاتخونوا ) ويفهم من السّياق أن المعنى في النهي هو (اخلصوا ، أطيعوا)([23]) وفي الآية المعنى: من ضيع شيئًا ما أمر الله به، وركب شيئًا ما نهى عنه فليس ينبغي أن يكون عدلًا ([24]). وأرى أنّ المستفاد من السياق استخلاص الصيغة (صونوا). ومعنى الخون: النقص كما أن معنى الوفاء التمام ومنه تخوّنه إذا تنقصه ، ثم استعمل في ضد الأمانة والوفاء … وفي الآية معنى النّهي لاتخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ([25]
دلالة استعمال النهي في سورة الأنفال
أمّا السياق فيخبر عن مخاطبة الله سبحانه للمسلمين بأن يحفظوا نعم الله عليهم بالنصر ويتقوا ويصونوا الله والرسول بتنفيذ الأوامر وتجنب النواهي وهذا من النواهي عن الخيانة. وبعد تحقق سبك صيغة الأمر من النهي تأتي مرحلة الكشف عن سبب استخدام صيغة النهي بالذات . ويكون الجواب أن فعل الخيانة قد حصل أو أوشك على الحصول ونهى ليحذرهم من الخيانة بالتحديد ولو استعمل .
المبحث الثالث: الأمر والنّهيّ في سياق واحد
من ملاحظات البحث مجيء الصيغتين الأمر والنهي في سياق واحد فما خصوصية ذلك ؟
أولًا : المشتق من لفظ فعل النهيّ
جاء في قوله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ سورة البقرة -104. لا يمكن أن نحول (لاتقولوا) إلى الأمر (اصمتوا) والسّبب أنه كرر اللفظ للتوكيد على القول من جهة وايراد النّهي والأمر في سياق واحد. ولا يخلو تكرار الصّيغتين بلفظ واحد من دلالة التّوكيد على الفعل المنهي عنه والمأمور بغيره. وهذا من أهم مصاديق البحث التي صادفتني في الطرح ففي الوقت الذي كنت اختبر مصداق البحث، وأجرّب مترددة وإذا بهذه النّماذج تفاجئني بوجود الأمر والنهي في سياق واحد وكأنه يخبرني بإمكانية التحويل .
دلالة وحدة اللفظ في النّهي والأمر
ورد الفعل (لاتقولوا) لأنه حصل منهم القول فأراد إيقاف ذلك بالنهي . وزيادة للتوكيد أورد فعل الأمر باللفظ نفسه والسياق نفسه . وأصل راعنا كلمة لدى اليهود يتسابون بها وهي (راعينا) فأخذوا يخاطبون به رسول الله بالتورية عن كلمة اليهود وفي نيتهم معنى السب ، وفي الظاهر يطلبون المراعاة منه صلى الله عليه وآله . فنزلت الآية بالنهي وأمروا أن يقولوا ماهو بمعناها (انظرنا) وهي من الانتظار يثبت ذلك التوجيه السياقي أن النّهي كان ([26]) بعد حصول الفعل كما وضعنا من أسس الفرض.﴿ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الطور-16
اعتدنا تحويل الفعل من صيغة النهي إلى الأمر لكشف إمكانية التحويل في الصيغة ودلالة ايراد صيغة النهي مع إمكان وجود الأمر المباشر . فما هو عكس لاتصبروا ؟ الجواب الجزع عكس الصبر فكيف تكون صورة المعنى بالشكل المتحول ؟ اصبروا أو اجزعوا. لأنّه أراد توكيد المعنى في سياق تكذيبهم بالنّار فأورد الفعل بتكرار اللفظ.
دلالة وحدة اللفظ في صيغة النّهيّ والأمر :
في هذا السّياق ورد الفعل المثبت (اصبروا) بلفظه في صيغة (لاتصبروا) وصار أمامنا سؤالان هما جدوى استخدام الصيغتين بلفظ واحد في سياق واحد، وعند ملاحظة السّياق في سورة طوروجدنا سياق الحديث عن إرسال أهل النّار الى النار جزاء بما فعلوا ويخبر أنّهم كانوا بها يكذبون. وفي اللغة أنّ التكرار توكيد فهل كرر الفعل بلفظه ليؤكد لهم أنها النار التي كذبوا خبرها ؟ الجواب نعم بدليل قوله تعالى: ﴿ أفسحر هذا أم أنتم لاتبصرون ﴾ الطور – 15 وعن دلالة صيغة النّهي وحصول الصبر منهم أقول نعم بين ذلك القرآن وأنّهم صبروا او تمنوا الصبر ليجتازوا محنتهم . واخبرأن الله لايهمه صبروا أم جزعوا . وبنفس اللفظ قال: (اصبروا) ولأنّ الأمر يعني طلب فحسب، حصل أم لم يحصل أعقبه بقوله لا تصبروا لأنّه توقع منهم عدم الصّبر. أو بقي أن نرى هل بالإمكان استخدام (اجزعوا) بدلًا من (لاتصبروا) كما في التّحويلات الّسابقة ؟ الجواب لايمكن، فقد تساوى الصبر ووالجزع لديهم، فليس للصبر مزية وليس له نفع في العاقبة بأن يجازى عليه الصّابر جزاء الخير([27]). وبذلك يصح ماكنا بصدده من إثبات فرضية البحث .
ثانيًّا :الأمر المشتق من غير فعل النهي
هذا الفعل حالة أخرى وهي اشتقاق فعل الأمر من غير النهي فماهو الفرق عن الحالات السابقة وهو اشتقاق الأمر من النهي أو العكس وفي سياق واحد وقد تبين أن السبب هو التوكيد بدلالة السياق .
مثال ذلك قوله تعالى:﴿ لاتركضوا وارجعوا.لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ﴾ الأنبياء- 13
فمركب النّهيّ : لاتركضوا، وصيغة الأمر المقابلة للمعنى هي في الإثبات (إرجعوا). والقول محذوف والقائل ، ربما بعض الملائكة([28]). وقد استعمل الفعل في النّهيّ، وما يتحول إليه في فرضنا في البحث وهو عكس الرّكض (التوقف) فلماذا لم يأت بالفعل (توقفوا) ؟ الجواب إنّ التّوقف صار ضمن قوله (ارجعوا) فلا بدّ لمن يرجع أن يتوقف أولًا، ثم يرجع عند الاستجابة لأنّ فعل الأمر لا يفترض حصول الفعل كما أثبتنا في صيغة النهي الذي جاء بعد تحقق الفعل (يركضون) في السياق السابق للنهي .
دلالة النّهيّ والأمر
في معنى لا تركضوا وارجعوا في السّياق نجد القوم يهرعون من بأس الله لقوله : ﴿ فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون ﴾. وبسبب التّصريح بفعل يركضون السّابق على صيغة النّهيّ (لاتركضوا) اقتضى نفي الفعل بلفظه في النهي، وهذا دليل على صحة الفرض في البحث الذي يقول إنّ صيغة النّهي تأتي مع الفعل الواقع والمتحقق . فحين ورد قوله : (لاتركضوا) كان سبقه (يركضون) ومعنى ذلك أن الركض المنهي عنه قد وقع فعلًا. أمّا استعمال النهي والأمر في سياق واحد فإنما يدل على قوة الموقف وشدته ، فليس أشد على المجرمين من نزول العذاب، ولايخلو من تهكم وتوبيخ ([29]) والمثال: في قوله تعالى : وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ سورة البقرة- 222 ويمكن القول إنّ تحويل الصّيغة في الآية من النّهي إلى الأمر المباشر يكون كالآتي :
في قوله تعالى : لا تقربوهن . كيف يسك فعل الأمر المباشر ؟ لاتقربوهن بوصفها صيغة نفيّ، لابد أن ننظر إلى الإثبات فيكون عكسها : (ابتعدوا) ولكن لا يمكن أن يقول ابتعدوا بصيغة الأمر لأنّ معنى التّقارب، وإن افترضنا حصوله إلا أنّه لم يصل لدرجة المس لذلك صلح النّهيّ ولم يصلح الأمر .
دلالة الأمر والنّهيّ
اعتزلوا، لاتقربوا هما صيغتان تعضد إحداهما الأخرى لتقوية المعنى، ولأنّ الأمر غير متحقق فهو مجرد طلب، وأورد صيغة النهي لتقوية الطلب، ومع إمكانيّة سك فعل الأمر (ابتعدوا) من صيغة النهي (لاتقربوهن ) إلا أنّه لم يستخدمه لأن التقرب لم يصل لحد المس ّ ليطلب منهم الابتعاد.
لما قال اعتزلوهن . توقع عدم تحقق الاعتزال فأعاد الطلب بصيغة أقوى وهي بـ (لاتقربوهن) ومعنى تحقق القرب هنا لايصل إلى حد المس وإلا كان أورد الأمر من (لاتقربوهن) وهو (ابتعدوا) عنهن .
الخاتمة
أولًا : من نتائج البحث المهّمة أن استعمال صيغة النّهيّ في الأمور النفسيّة جاءت على الشّكل الآتي، مثل :
(لاتقنطوا، لاتحزن، لاتصبروا، لاتخونوا، لاتغلوا، لاتخف، لاتشرك، لاتزغ، لاتخزنا) أكثر منها في المادية مثال (لاتحرك،لاتنفروا، لاتركضوا ) .
ثانيًّا: النتيجة الأخرى هي أنّ صيغة لاتفعل وردت في الدّعاء، والتّوجيّه العباديّ الحاصل أو القريب من الحصول.
ثالثًا : يأتي الأمر والنّهي في سياق واحد لتقوية الطلب فيقول: ( لا تركضوا وارجعوا، اعتزلوهن ولا تقربوهن، قولوا ولا تقولوا) وفي كل سياق منها نجد الأمر يعضد النّهي لتقوية النهي أو العكس .
رابعًا: تأتي الصيغة (لاتفعل) في بيان تحقق الفعل وحصوله .
خامسًا : تنوع التّعبير بالصّيغة (لاتفعل) بحسب السّياقات، وما تحتاج من صور التعبير وأشكالها للدّلالة على المعنى، فمرّة يأتي التحويل لصيغة الأمر من اللفظ، ومرة بمعونة السّياق، ومرة يأتي النّهي والأمر في سياق واحد .
سادسًا: وردت صيغة النّهي والأمر مشتقتان من لفظ واحد، وذلك لتوكيد المعنى الذي صرح بتكذيبه في السياق أو لقوة الطلب وأهمّيّة تنفيذه. مثل: لاتقولوا وقولوا. وهذا للأهميّة، واصبروا أو لاتصبروا. وفي هذا توكيد قدومهم على النّار التي كذبوا بها ويثبت ذلك بقرائن السّياق اللفظيّة.
سابعًا: أثبت البحث إمكانيّة تحويل الصّيغة من النّهي (لا + تفعل) إلى (إفعل) .
ثامنًا : كشف البحث عن خصوصية استعمال (لاتفعل) على الرّغم من إمكانية تحويل الصيغة إلى (إفعل)
الهوامش
1- ينظر : الجمل – الخليل بن أحمد الفراهيدي : 190
2- ينظر : رؤية في المنهج التحويلي – م. م. أحمد كاظم العتابي – مجلة كلية التربية – كلية الآداب – جامعة واسط – العدد السادس : 37
3- دراسات لأسلوب القرآن الكريم – الشيخ عبد الخالق عضيمة – دار الحديث – القاهرة : القسم الأول – الجزء الثاني : 430
4- ينظر : الاصول لابن السراج – دار الرسالة : 2/ 157
5 – : الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل – أبو القاسم محمود بن عمالزمخشري : 1/ 359
6- ينظر التحرير والتنوير – الطاهر بن عاشور – الدار التونسية للنشر : 2/ 169
7- ينظر : التحرير والتنوير : 3/ 170
8- ينظر :البحر المحيط – ابو حيان الاندلسي – ت : عادل احمد عبد الموجود واخرون – دار الكتب العلمية – بيروت : 3/ 147
9-[1] ينظر : الكشاف : 1/ 367
10-[1] ينظر : التفسير المحيط : 3/ 212
11- ينظر : الكشاف : 1 / 522- دار إحياء التراث
12- مفردات ألفاظ القرآن – الراغب الأصفهاني – ت : صفوان عدنان داوودي – دار القلم – دمشق : 571
13- ينظر : التحرير والتنوير – 24 / 42
14- لسان العرب – ابن منظور الافريقي – دار صادر : 7/ 386
15- ينظر : نظم الدرر في تناسب الآيات والسور – برهان الدين البقاعي – دار الكتاب الاسلامي – القاهرة : 16 / 534
16- مفردات ألفاظ القرآن : 855
17- ينظر : لسان العرب : 6/ 253
18- ينظر : التحرير والتنوير : 29 / 349
19- ينظر : التحرير والتنوير : 10 / 206
20- ينظر : التحرير والتنوير 10 / 281
21- ينظر : الكشاف : 2/ 258
22- ينظر : التحرير والتنوير 9/ 321
23- لسان العرب : 13/ 154
24- الكشاف : 2/ 202
25- ينظر : الكشاف : 1/ 200
26- ينظر : الكشاف : 4/ 412
27- ينظر الكشاف : 3/ 106
28- ينظر : الكشاف : 3/ 106
المصادر
1-القرآن الكريم
2-الأصول لابن السراج – ت: الدكتورعبد الحسين الفتليّ- مؤسسة الرّسالة.
3– برهان الدين البقاعي نظم، الدّرر في تناسب الآيات والسّور، دار الكتاب الإسلاميّ، القاهرة
4-ابن منظور الافريقيّ، لسان العرب، دار صادر
5-أبو حيان الاندلسيّ البحر المحيط ، ت: عادل احمد عبد الموجود وآخرون، دار الكتب العلمية، بيروت.
6- الخليل بن أحمد الفراهيدي الجمل، ت: د. فخر الدين قباوة – مؤسسة الرّسالة.
7- الرّاغب الأصفهاني مفردات ألفاظ القرآن، ت: صفوان عدنان داووديّ، دار القلم، دمشق.
8– الشيخ عبد الخالق عضيمة، دراسات لأسلوب القرآن الكريم، دار الحديث، القاهرة
9-الطاهر بن عاشور -التحرير والتنوير– الدّار التّونسيّة للنشر.
10- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم محمود بن الزّمخشري
البحوث 3
رؤية في المنهج التحويلي – م. م. أحمد كاظم العتابيّ – مجلة كلية التربية – كلية الآداب – جامعة واسط – العدد السّادس.
– جامعة الكوفة – كلّية التربيّة – قسم علوم القرآن والتربية الإسلاميّة.[1]