foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

الفنون التشكيليّة في قيادة عجلة الثورة 

0

                    الفنون التشكيليّة في قيادة عجلة الثورة 

سركيس ساسين الصّيفيّ([1])

مقدّمة

تعدًّ الفنون التشكيليّة وسيلة فعّالة وحقيقيّة للتعبير عمّا يجول في خواطر الفنّان، بحيث تسمح بإطلاق العنان للخيال والإفصاح عن المخاوف الداخليّة والمتغيّرات المحيطة، فيوفّر الفنّ من خلالها فرصةً كبيرةً للتفكير في القضايا الاجتماعيّة ذات الصلات الإنسانيّة وطرحها للعالم من حولنا، فالفنّان يعمل في محيط يتأثّر بالمجريات المحلّيّة والعالميّة وبالتنوّع الثقافيّ والفكريّ. فهذا الفنّ ما هو سوى مزيج ديناميكيّ من الموادّ والمفاهيم الخاصّة والأساليب والموضوعات المتنوّعة التي تتحدّى الحدود التقليديّة، ليتخطّى من خلالها الفنّان الفهم أو التعريف. يتميّز الفنّ على أنواعه بالحوار الثقافيّ المتعلّق بالأطر السّياقيّة مثل الهُويّة الشخصيّة أو الثقافيّة، والمشاكل الاجتماعيّة وقضايا الناس، وبالافتقار الأساسيّ إلى المبدأ التنظيميّ والأيديولوجيّ الموحّد، فالأعمال في الفنون التّشكيليّة لها طابع موضوعيّ أحيانًا وثورويّ أحيانًا أخرى، تُنشأ عن طريق إعادة صياغة وسيط مادّيّ، يحدّد تكوينه إلى حدّ كبير الهيكل الرسميّ للعمل الفنّيّ، فتقوم هذه الفئة من الرسم والنحت والتصوير بترجمة ما يجول من أفكار ورؤى وحلول لما في دواخل الفنّان. وتؤدّي أيضًا التأثيرات النفسيّة لديه إلى ثورات داخليّة تتفجّر غالبًا في إعادة إنتاجٍ للواقع المرئيّ، بأعمالٍ وأفكارٍ ثورويّةٍ يترجم فيها أفكاره وآراءه الشّخصيّة، ويبثّ في إنتاجاته رسائل بدرجاتٍ متفاوتةٍ من الدقّة الحسّيّة، ليوصل للمتلقّي رؤياه من خلال أعماله بأفضل حلّةٍ وأوضح الأساليب. بعد كلّ هذا، هل من الممكن أن يتمكّن الفنّ التشكيليّ من استلام دفّة القيادة والارتقاء بالقضايا الاجتماعيّة والثورات إلى أعلى درجات الصمود والأمان؟

تعريف الثورة

الثورة في المفهوم المعاصر والأكثر حداثة، تصبو نحو الإطاحة المفاجئة والعنيفة بالنظام السياسيّ في دولة ما، وتسعى إلى التغيير الكامل لجميع المؤسّسات والسلطات الحكوميّة في جوهر وأسس النظام السابق، وذلك لتحقيق طموحات جديدة في النظام السياسيّ بحيث يكون نزيهًا وعادلًا ويوفّر الحقوق الكاملة كالحريّة والنهضة للمجتمع. بمعنى آخر، إنّ الثورة هي انتفاضة ضدّ الحكم الظالم، إنّها الحدث الذي يُحدث تغيّرات كبيرة ومفاجئة من منظور سياسيّ أو اجتماعيّ، وقد تتسارع عجلتها أحيانًا إلى درجاتٍ من العنف لو وصلت للسلّم الحكوميّ، لأضحت ككرة الثلج تنمو يومًا بعد يوم. ومن جهة أخرى يعدُّ هذا المفهوم مقياسًا لمدى الإنجازات التي تُحدثها، كالتعبير عن الثورة الصناعيّة مثلًا التي تشير إلى تغييراتٍ كبيرةٍ وأساسيّةٍ في الظروف الاقتصاديّة وتبعيّاتها على عالم التكنولوجيا. الثورة حقّ… والموطن أمّ… “ولبنان له تاريخ لا يمكن حصره في إطار جغرافيّ ضيّق، لأنّه جزء من تاريخ الحضارة الإنسانيّة”[1]، فوجب المحافظة على الوطن بكلّ ما أوتينا من قوّة، لأنّ “غيابه يشكّل حالة هلعيّة على شكل هلعٍ وتوتّرٍ يصيب جسد الطفل، ما يحوّل المجال كلّه من مكان اجتماعيّ ومادّيّ وموضوعيّ، إلى مكان يحمل خصائص الجسد المفجوع بغياب الأمّ”([2]). فلو نظرنا في التاريخ لوجدنا أنّ الثورات موجودة منذ القدم، منذ العصر الإغريقيّ، حين أشار أرسطو في مصطلح الثورة إلى التغيّرات الحاصلة بشكلٍ دوريّ على الحكومات المتعاقبة. وفي يومنا الحاليّ أصبح المفهوم المتعلّق بالثورة يشكّل تحدّيًا لكلّ من الأنظمة السياسيّة القائمة، لدرجة تصل إلى القدرة على اقتلاع منظومات الحكم، والتأثير بشكلٍ مباشر على العجلة الاقتصاديّة، إضافة إلى زعزعة البنى الاجتماعيّة والثوابت الثقافيّة كما حصل في الثورات العالميّة عبر التاريخ.

الثورات عبر التاريخ

إنّ الأفكار الثورويّة لوحدها ليست ذات قيمة، وقيامها من دون أهداف وأسس نظريّه وفعليّة توصل  إلى التغيير، هي ثورات بلا جدوى وتصبّ في مكان آخر عكس ما يحلم به الثائر. أمّا عن أبرز الثورات الشعبيّة والعسكريّة، والانتفاضات ضدّ الظلم وحركات المقاومة التي نشبت وكان لها أثر واضح على مرّ تاريخ البشريّة، نذكر أبرزها:

  • الثورة الأمريكيّة: “هي ثورة للمستعمرين حدثت بين عامَيْ 1765 و1783م، حيث هزم الوطنيّون الأمريكيّون في المستعمرات الثلاث عشرة البريطانيّين في حرب الثورة الكبرى (1775-1783) بمساعدة فرنسا، ظافرين بالاستقلال من بريطانيا العظمى ومؤسّسي الولايات المتحدة الأمريكيّة. حينها رفع المستعمرون الأمريكيون شعار(لا ضريبة دون تمثيل) ورفضوا سلطة البرلمان البريطاني الذي فرض الضرائب عليهم لعدم وجود ممثلين لديهم في تلك الهيئة الحاكمة”([3]).
  • الثورة الفرنسيّة: تعدُّ مرحلة مؤثّرة من الاضطرابات الاجتماعّية والسياسيّة في فرنسا، استمرّت من العام 1789م حتى العام 1799م، وكانت لها تأثيرات عميقة على أوروبّا والعالم الغربيّ عمومًا، انتهت بسيطرة البورجوازيّة وتصدير الأزمة من خلال الاستعمار بالتوسّع اللاحق للإمبراطوريّة الفرنسيّة. أمّا “على الصعيد العالميّ، فقد ساهمت الثورة في الإسراع بصعود الجمهوريّات والديمقراطيّات، وأصبحت نقطة محوريّة لتطوير كلّ الإيديولوجيّات السياسيّة الحديثة، وأدّت إلى انتشار الليبيراليّة، والراديكاليّة، والقوميّة، والاشتراكيّة، ونصرة المرأةوالعلمانيّة([4]).
  • الثورة الهاييتيّة: “هي تمرّد ناجح قاده العبيد الذين أعتقوا أنفسهم ضدّ الحكم الاستعماريّ الفرنسيّ في سان دومينغو التي تعرف اليوم باسم دولة هايتي المستقلّة، وقد تميّزت الثورة الهاييتيّة بمحاربتها للعبوديّة، واستمرّت لمدّة اثنا عشر عامًا منذ العام 1791م وحتى 1804م”([5]).
    • الثورة الصناعيّة: انطلقت هذه الثورة في بدايات القرن التاسع عشر من بريطانيا العظمى واستهدفت تحويل جميع الأساليب الصناعية اليدويّة إلى صناعات ميكانيكيّة، وتعدُّ هذه “الثورة من بين نقاط التحوّل المؤثّرة في الحضارة الإنسانيّة، لما تركته من أثر كبير في تطوير الحضارة البشريّة”([6]).
    • الثورة الشّيوعيّة الصينيّة: “حدثت هذه الثورة العام 1946م بقيادة (ماو تسي تونج) زعيم الحزب الشيوعي معلنًا إنهاء الحرب الأهليّة وإنشاء جمهوريّة الصين الشعبيّة العام 1949م”([7]).

تصنّف الثورات عبر التاريخ كالآتي

  • الثورات السياسيّة: يرجع سبب حدوث هذا النوع من الثورات عند شروع الدولة بإجراء حقبة من التغييرات والتطويرات على الصعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ.
  • الثورات الاجتماعيّة: تعدُّ الثورات الاجتماعيّة عادة إحدى نتاجات الثورة السياسيّة، حيث تبدأ الثورة بحالتها السياسيّة لتتطوّر بشكلها الاجتماعيّ مسبّبة العديد من الاشتباكات والخلافات بين المجموعات المتعدّدة في الآراء والتوجّهات.

نستخلص أنّ الفنّ يحمل في نواته الرؤى الثورويّة التي غالبًا ما تتميّز بالانسيابيّة، فتتصدّر للفكر السائد، وتصحّح المفاهيم، وتعزّز الانتماء الثورويّ، “فاللبنانيّ عامّة يتفاعل حضاريًّا وبصورة عفويّة طبيعيّة مع جميع التيّارات”[8]. كذلك الحال لدى الفنّان فهو أيضًا يعبّر في خطّه هذا عن مرارة وغصّة، فهو في ثورته على الواقع المهتزّ يسعى إلى التغيير نحو الأفضل، لتصحيح مسار الثورة أحيانًا، ورفض الذلّ والهوان، ومقاومة المحتلّ، ورفض نهب الشعب، وتوجيه أصابع الاتّهام إلى فساد المسؤولين وجورهم أحيانًا أخرى، فوجب تعريف الفنّ بأنواعه وصفاته وسبر أغواره ودوره الثورويّ الفعّال في إخراج الفكر البشريّ من الأمواج التي تعصف بالحياة وإرسائه على شاطئ الأمان.

تعريف الفنّ

إنّ الفنّ على اختلافه هو “تلك المهارة التي يمتلكها الإنسان والتي يستطيع من خلالها أن يعبّر عمّا يجول في داخله من أحاسيس ومشاعر، من خلال مجموعة من الأعمال المرئيّة التي تعكس ما بداخل صاحبها”([9]). فالفنّ هو ديناميكيّ بطبيعته ومتجدّد في المضمون والمبنى، في نواته نشاط ثورويّ بانسياب، يعمل حِقبة بعد آخرى على تجديد نفسه، كاسرًا السائد والثابت والرّسميّ المتأصّل، مرتقيًا بعد ذلك إلى البديل والجديد ومستندًا إليه. ليتوجّه برؤياه إلى القيم والرؤى الفكريّة والجماليّة الحديثة. وكما أشار التعريف إلى مسألة التجديد التي تتميّز بها الفنون، إذ يسعى الفنّ إلى ابتكار طرق ووسائل جديدة لتصحيح الموضوعات التي يتداولها، كما أنّه يتكيّف مع حداثة الوسائل والمتغيّرات الجديدة التي تحيط به، ليتمكّن بذلك من الاستفادة منها وإيصال رسالته والقدرة على تطوير أدائه، وذلك على عكس ما حصل للفنّ في فرنسا في القرن السابع عشر إذ  ليس هناك فنّ يدين لسلطة الدولة كما يفعل التصوير الفرنسيّ، الذي كان في عصر الملكيّة المطلقة، التي أطلقها (لويس الرابع عشر)، بأن “وضع الفنّانين، من أمثال “بوسان” و”لوران”، فرنسا في طليعة الفنّ الأوروبي، إذ وجدت فرساي انعكاسها المهيب في الفكرة القويّة للكلاسيكيّة بأسلوب التصوير الذي استمرّ لدى الفنّانين اللاحقين مثل “إنجرس”، الذي عبّرت بساطته وعظمته عن السلطة في عالم فيه “جوبيتر” في جوف عرشه”([10]). والفنّان بكونه صانع الفنّ فهو دائمًا توّاق إلى الأفضل والأجمل والأكثر تأثيرًا في مجتمعه وبيئته وثقافته، ويحاول إعادة صوغها والبحث عن معانٍ جديدة لها، في قالب يحقّق المتعة والفائدة له وللعالم.

في هذا السياق لا بدّ للفنّان، حتى يكون فعّالًا وحاضرًا من أن يملك التجربة ويتحكّم فيها ويحوّلها إلى ذكرى، ومن ثَمَّ يغيّر الذكرى إلى تعبير، ويحوّل بذلك المادّة إلى شكل. فالفنّ يؤدّي إلى تطوّر الحضارات ويرتقي بالشعوب، إنّه يعرّي المفسد والظالم ويسلّط الضوء على التغيير في السياسات والأخلاق، كما أنّه جوهريّ في عمليّة الخلق الثقافيّة، “الفنّ جائش بالفكر، دافق بالأفكار، ولا يمكن فهمه تمامًا بمعزل عن سياقه. إنّما وللمفارقة، فإنّ في وسع الفنّ إيصال رسائله متجاوزًا الزمن واللغة، بأن ينشد الإنسانيّة المشتركة، ويوصل المجتمعات اليائسة بعضها ببعض، وربّما لو انخرطت جماهير أوسع بالتقاليد الفنّيّة العالميّة المتنوّعة، لولّد المزيد من التسامح والاحترام المتبادل”([11]). جليّ إذًا أنّ الدور في هذه المعادلة يتوقّف على الفنّان بدرجة أساسيّة كونه صانع الرسالة الجماليّة والمحافظ على القيم والتراث، ذلك “أنّ استلهام التراث هو أيضًا موقف سياسيّ وثقافيّ مثمر وبنّاء شرط أن يكون بهدف الجمع وإعادة التقويم… للانخراط في سياق عصريّ ديناميّ فعّال”([12]). وبذلك فإنّ الفنّان لديه رسالة اجتماعيّة وإنسانيّة إضافة إلى أنّه يمتلك حاسّة فنّيّة وجماليّة في تلمّس واقع مجتمعه وهمومه وقضاياه، ليسعى بعدها إلى عكسها في أسلوب فنّيّ يعمل على إيصال رسالته بطريقة أكثر جاذبيّة، وتتميّز بسهولة في نقل المفاهيم إلى المتلقّي، خصوصًا في الثورات الشعبيّة التي أغلب جمهورها من العامة الذي لا يحظى بقدر جيّد من المعرفة. بالتالي يؤدي الفنّ دورًا حاسمًا في تعريفهم بالقضايا التي يناضلون من أجلها وتبسيط فهمها بقوالب فنّيّة بسيطة، ما يمكّنهم من فهم تعقيدات المشكلة والظروف التي تدور حولهم كافّة.

من صفات الفنّ أنّه يحمل في أعماقه التوتّر والتناقض، فهو لا يصدر فقط عن معاناة قويّة للواقع، بل لا بدّ له من اكتساب شكلٍ موضوعيّ، فما يبدو من حرّيّة الفنّان وسهولة أدائه، إنّما هو نتيجة لتحكّمه في مادّته، وكما يقول أرسطو: “إنّ وظيفة الدراما هي تطهير النفس من الانفعالات والتغلّب على الخوف والشفقة بحيث يتمكّن المتفرّج الذي يطابق بين شخصيّته وبين تلك الشخصيّة من التحرّر من تلك المطابقة، ويتسامى فوق صروف الأقدار، وبذلك يلقي عن كاهله مؤقّتا قيود الحياة وأعبائها”([13]). يتّضح أنّ الفنّان الثائر ليس مجرّد مجموعة انفعالات فقط، يتأثّر بأحوال محيطه، إنّما يملك إحساسًا فنّيًّا خاصًّا يجعله قادرًا على تركيب أعماله وتقديمها بشكل موضوعيّ، يجاري فيه الكثير من المكوّنات الجماليّة، وبدورها هذه المقوّمات لا تصنّف كلّ شيء على الإطلاق، بل تعدُّ رسالة الفنّان إحدى تلك المقوّمات المُهِمَّة، فيبدو جليًّا كأنه يشخّص الفنّ بالحقيقة العلميّة التي تقوم على الموضوعيّة والحياد، ويفصل بمسافة بينه وبين موضوعه بعد التعمّق فيه وتحليله حتّى يصل إلى الموضوعيّة في دراسته. “إنّ الفنّ يلبّي تطلّع الجماعات البشريّة وحاجاتها الروحيّة لمعرفة الحقيقة ومعرفة الإنسان لنفسه، وفهم أعماقه والاندماج معها عبر الانخراط مع الجماعة، والاطّلاع على تجربتها، عن طريق الفنّ، وهذا يجعل النشاط إبداعيًّا بالضرورة، ويجعل الفنّ ثورويًّا بطبيعته ووظيفته وأساليبه”([14])، فالفنّ هنا لا يعدُّ ظاهرة حديثة، يكاد يكون عمره من عمر الإنسان، وبالتالي فقد وُجد منذ وُجدت معه الحاجة إلى استخدام التعابير المتعدّدة التي تترجم نفسيّته وظروفه وأحواله أيًّا كانت وسائل التعبير. “ومن البديهيّ أن يسبق الفنّ العلم والفلسفة في محاولته تفسير ظواهر الطبيعة وكشف أسرارها بَدءًا من تأمّل النجوم في الليل ومكائد الصيد في النهار، إلى اكتشاف اللباس واللغة والنار والعجلة، وليس انتهاء بالكتابة، والرسم، والتمثيل، والغناء، والرقص”([15]). ويتّضح هنا أنّ الفنّ نشأ منذ وعي الإنسان لذاته وللمتغيّرات التي تحيط به، فنستنتج أنّ الفنّ ما هو إلّا نتاج لمرحلة الإدراك. إنّ فهم الفنّان لما يدور حوله يجعله يخالف شعوره أحيانًا بطريقة أو بأخرى، مستخدمًا الوسائل جميعها التي يتمكّن فيها من التعبير عمّا يحسّ، وبذلك فقد تدرّج في اكتشافه لوسائل التعبير عمّا يجول في مكنوناته ابتداءً من التأمّل، وانتهاءً بعالم التطوّر التكنولوجيّ اللانهائيّ في هذا العصر. ومن هذا المنطلق، ليست جدليّة العلاقة بين الفنّ والثورة غريبة، وهل الفنّ صنع الثورة أم أنّ الثورة هي من صنعت الفنّ؟ وفي حالتنا التي نناقش فيها زاوية من الثورة اللبنانيّة، فقد استجاب الفنّ للثورة، منذ أيّامها الأولى، إذ إنّ مجموعة من الفنّانين الملهبين حماسةً ورفضًا للواقع المزري، منحوا الثورة شرارة وزخمًا أشعلت جذوتها، وعبّروا عنها وعن مشروعها الذي خرجت من أجله منذ بدايتها، فتجمّعوا في الساحة ورسموا صارخين مناشدين بأعمالهم: نعم للتغيير، نعم لتحسين الأحوال… لا للظلم، لا للعنف، لا للثأر… كلّها صفات مرتبطة بالحياة القَبَلِيّة وسلوكيّاتها البالية، “والثأر هو شكل من أشكال العنف، يقوم على مجموعة من القواعد الناظمة للعلاقات الاجتماعيّة والممارسات والقيم المرتبطة به التي يتداولها الناس فيما بينهم اجتماعيًّا، وتنقل بينهم عبر الإجيال”([16]). إنّما هنا ذهب الثوّار إلى نمط آخر أكثر تحضّرًا ورقيًّا، لقد عبّروا عن مطالبهم وناشدوا المسؤولين فقط، من خلال التجمع والأغاني الثورويّة والعروض الكوميديّة على منصّة الثورة التي كانت في الغالب هي السلاح الوحيد لمواجهة الإعلام المضلّل أحيانًا والمضخّم أحيانًا أخرى لواقع ساحات الثورة بصورتها السلميّة والراقية. ويقول بلال موّاس الكوميدي الطرابلسيّ السّاخر: “إنّ النكتة والسّخرية لهما تأثير كبير جدًّا على الفئات الاجتماعيّة المتعدّدة، وتجسيد الأوضاع القائمة بقالَبٍ كاريكاتوريّ، ناصحًا الفنّانين باستخدام سلاح الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعيّ، لأنّه أقصر طريقة لتوصيل الفكرة وأقوى وسيلة للتأثير والتفاعل مع الثوار سريعًا من خلال (السيلفي فيديو) أو البثّ المباشر لمواكبة تسارع الأحداث، لأنّه لم تعد من حاجة إلى التوجّه نحو الاستديو لأداء المشهد”([17]). كما أنّ الكثير من الفنّانين المندفعين قاموا بتنفيذ أعمال مُهِمَّة ومُلهِمَة وحماسيّة في ساحة الثورة، فمارسوا دورهم الطبيعيّ من نقد للنظام السياسيّ، ورفض للفساد الذي أنتجه. لقد تجلّى الرفض للظلم والواقع بصورة واضحة من خلال تشكيل ما عرف باسم حركة “فنّانون من أجل التغيير” الذي تَشكّل ليمثّل مظلّة ورابطًا لكلّ الفنّانين والموهوبين المنظّمين للثورة، ما أسهم في زيادة فاعليّتهم وإبداعهم وتوظيف جهودهم الفنّيّة في طريق الثورة والتغيير، فلبّى مجموعة كبيرة من الفنّانين على تعدّد ألوانهم وانتماءاتهم واستجابوا لنداء الثورة وللدور الشاقّ الذي يقوم به الفنّ ويقدّمه الفنّان عمومًا.

دور الفنّ

  • الحفاظ على حيوية الثورة والإبقاء على وهج الشعلة ساطعًا بما يضمن استمراريّتها.
  • إعطاء الثورة شرعيّتها والإيمان بمشروعها وبمطالبها المحقّة.
  • التصدّي للإعلام المضلّل والمهلّل لأزلام الفساد.
  • تسليط الضوء على الفساد والعمل على ترجمته وإظهاره فنّيًّا وثقافيًّا من خلال الدور الفنّيّ المُلهِم الرافع للوعي الشعبيّ.
  • جذب اهتمام الجماهير من الشرائح والطبقات الاجتماعيّة كافّة إلى صفّ الثورة.

لقد قدّم الفنّ خلال هذه الثورة صورة أخرى من صور النضال والتحرّر، ما ساهم في الدّفع نحو التحوّل والتجديد، فكان الهدف المشترك الذي انفجر لأجله الشّارع العربي، فثورة “17 تشرين” كانت جامعةً لفئات عديدة من اللبنانييّن، ومردّ ذلك أنّها انطلقت من وضع اجتماعيٍّ مزرٍ طاول كلّ مواطن سواءً أكان طبيبًا، فنّانًا، مهندسًا، ممثلًا أو إعلاميًّا… لذلك لم يكن اختيار المنطقة الرماديّة الحياديّة مُحبّذة لدى الغالبيّة في هذه المرحلة، بل كان للأكثريّة من أهل الفنّ صوتهم الصارخ في الاعتصامات وساحات النضال والثورة. وضع الفنّانون ما يقدّمونه، من فقرات مسرحيّة انتقاديّة قصيرة ومقابلات تحليليّة وأعمال فنّيّة كالجداريّات أو الرسم المباشر، في خانة الوقوف إلى جانب الناس، فالفنّ عامّة يوجّه الرأي العام ولديه القدرة على التأثير وإيصال الصوت، بل أكثر من ذلك، فالمتلقّي لا يتأثّر فقط بالأفكار الفنّيّة المطروحة، لا بل يتبنّاها في الغالب، وفي ذلك تأكيد على الدور الذي يؤدّيه الفنّ عكس الحالات الاجتماعيّة والسياسيّة بأسلوب خاص وإيصال الرسالة بسرعة ورقيّ ووضوح. وبالتالي أضحت الثورة محطّة للتنفيس عن الصوت المكبوت داخل الفنّان، وميل نفسيّ إلى التمرّد كون النزعة واحدة والحاجات المشتركة توحّد الصفوف، “فهذا التمرّد ما هو إلا نتاج العلاقات الديناميكيّة الصادرة عن تفاعل الإنسان بميوله وحاجاته ونزاعه وحوافزه واتّجاهاته…”([18])، ويتّضح ذلك من خلال الحضور الرئيس للفنّانين في ميدان الثورة الذي تجلّى بصور متعدّدة، حيث وجدوا هناك ضالّتهم، فما كان منهم إلّا استثمار طاقاتهم وإبداعاتهم في التعبير وبحرّيّة عن ثوراتهم الداخليّة.

يتّضح أيضًا أنّ الحسّ المشترك نحو المسؤولية المجتمعيّة بين الفنّانين كان واضحًا، وأنّ دور الفنّان لا يختلف عن دور السياسيّ أو العسكريّ، بل هو أشدّ فتكًا من السلاح الناريّ في مثل هكذا ظروف، ولا ريب في أنّ الفنّ التشكيليّ اللبنانيّ قد أدّى دورًا مُهِمًّا بوصفه وسيلة للنضال والمقاومة، ومن هنا تنشأ الجدليّة، هل يخلق الفنّ ثورة، أم أنّها هي من تصنع الفنّ؟ فيولد الرابط بين انخراط أحدهما في الآخر، ليعتقد البعض أنّ الثورة هي نتيجة متغيّرات اجتماعيّة متنوّعة كالاستبداد السياسيّ، وانتهاك الحقوق وخنق الحرّيّات، والظروف المعيشيّة المتردّية التي تنعكس بشكل مباشر على حياة الناس. فيأتي دور الفنّ معزِّزًا  لفكرة الانتفاضة ومعبِّرًا عنها. “فمنَ الواضح أنّ الوظيفة الأساسيّة للفنّ كانت منح الإنسان القوّة إزاء الطبيعة، أو إزاء العدوّ، أو إزاء رفيق الجنس، أو إزاء الواقع، أو قوّة لدعم الجماعة الإنسانيّة. لم يكن للفنّ في فجر الإنسانيّة (بالجمال) غير أوهى الصلات، ولم يكن له بالنوازع الاستاطيقيّة صلة على الإطلاق. إنّما كان أداة أو سلاحًا سحريًّا في يد الجماعة الإنسانيّة في صراعها للبقاء”([19]). يرى البعض من جهة أخرى في الفنّانين أنّهم أشخاص متنوّرون فكريًّا، وأكثر شفافيّة وتأثّرًا بالظروف والأحوال المتردّية التي تعيشها بلدانهم، وهذا ما يجعلهم يقودون صفوف الثوّار ضدّ هذه الظروف، مترجمين رسائلهم بأشكال متعدّدة من الفنون ومعبّرين عن خطورة هذه الأوضاع على مستقبل الأجيال، فتصبح الثورات والاحتجاجات الخِيار الوحيد أمامهم للتخلّص من الأعباء التي تعصف بهم، ونقله إلى مستوى أعلى وأكثر انسجامًا.

طرابلس والفنون المرافقة لعجلة الثورة

كما في ثورات العالم كذلك في لبنان… “لم يستطع لبنان أن ينأى بنفسه عن الاضطرابات التي عصفت به وبالمنطقة منذ العام 1840م حتّى عصر الاستقلال، طغت المسألة الشرقيّة على مجريات الصراع، وتجلّت في شرقيّ البحر المتوسّط، أكثر من أيّ مكان آخر”([20]). وإنّ ثورة السابع عشر من تشرين الأوّل 2019-2021، هي سلسلة من الاحتجاجات المدنيّة التي جرت في لبنان، والتي اندلعت في البداية بسبب الضرائب وارتفاع الأسعار، ولكن سرعان ما توسّعت لتصبح إدانة على مستوى الدولة للحكم الطائفيّ، والركود الاقتصاديّ، والبطالة التي بلغت 46% في العام 2018، والفساد المستشري في القطاع العام، والتشريعات التي يُنظر إليها على أنّها تحمي الطبقة الحاكمة من المساءلات، كالسريّة المصرفيّة وإخفاقات الحكومة في توفير الخدمات الأساسيّة مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحّيّ وغير ذلك. هذا الحراك الفريد في تاريخ لبنان، استهدف كلّ القوى السياسيّة والتكتّلات الاقتصاديّة التي حوّلت الدولة ومؤسّساتها إلى إقطاعات حديثة وبؤر فساد، تقوم على النهب والمصالح الذّاتيّة، ومخالفة القوانين وحتّى خرق الدّستور اللبنانيّ بعبوره للطوائف، والمذاهب، والمناطق، وتنوّع شرائحه الاجتماعيّة، والمهنيّة، والثقافيّة.

لا نستطيع التحدّث عن الثورة في شمال لبنان التي لقبت “عروس الثورة”، بعيدًا من الدور الذي أدّته منصّة ساحة “عبد الحميد كرامي” من إلهاب حماس الجماهير بالأغاني الثورويّة والفعاليّات والسهرات والأمسيات الفنّيّة التي كانت تمثّل بوصلة الحركة الثورويّة ونشاطاتها المتعدّدة، فتنطلق منها التظاهرات والاحتجاجات والمسيرات الكبيرة لتجوب شوارع المدينة كافّة، معزّزة بمكبرّات الصوت أغاني الثورة من أغاني وطنيّة مشهورة. وإنّ الدور الذي أدّته المعارض الفنّيّة والرسم المباشر، إضافة إلى رسم الجداريات الضخمة على الأبنية المواجهة لتلك الساحة التي كانت تنظّمها الكيانات الثورويّة العديدة في المدينة، كانت تجسّد بأعمالها يوميّات الثورة بفئات من المبدعين من أنواع الفنون العديدة، موزّعين في الساحة والشوارع المحيطة، بصورة سلميّة وأنيقة.

لا يمكننا المرور من دون التمعّن في الدور الذي أدّاه فنّانو طرابلس، حيث كانوا للثورة روحها وميزانها، فقد استضافت “عروس الثورة” يوم الإبداع الفنّيّ الذي حمل عنوان “يوم فنّيّ ثوريّ” حيث أعطت المدينة بفنّانيها فكرةً حضاريّة عن الثورة، واستكمالًا ليوم الإبداع اللبنانيّ الذي انطلق من ساحة الشهداء في بيروت، وكانت الإبداعات مدهشة للجميع. وبذلك أضحى لهذا الفنّ سلطته على الجماهير في نقل صورة مختلفة للرأي العام، فكانت الثورة ممزوجة بالفنّ، والفنّ حينها يُترجَم كشكل من أشكال المقاومة والنضال ضدّ الفساد السياسيّ والانهيار الاقتصاديّ المستشرس.

الفنّ وصناعة الثورة

انطلقت شرارة ثورة (17 تشرين) في لبنان معتمدة على شرائح متنوّعة من الشعب اللبنانيّ الرازح تحت وطأة الجوع والحرمان والتهميش، مستفيدة من الإلهام والزّخم الثورويّ الذي أطلقه نجاح بعض ثورات الدول المجاورة كمصر وليبيا وغيرها. فتحوّلت العاصمة اللبنانيّة بيروت إلى جانب مناطق أخرى إلى قوافل من خيم الاعتصام وأسراب من الأعلام واللافتات، انطلقت غالبًا على شكل مسيرات سلميّة.

أمّا في ساحة طرابلس فقد قامت أوّل نواة للتغيير من شباب وشابّات وأساتذة وطلّاب جامعيّين وبعض من الشباب المستقلّين القادمين في غالبيّتهم من خارج الأحزاب السياسيّة، واحتشد المعارضون في ساحة “النور” حيث تجمّعوا في تلك الساحة، يأكلون ويتسامرون ويغنّون فيها…، فلم تعد التجمّعات الشعبيّة في طرابلس مجرّد حشود، إنّما تجاوزت ذلك لتشكّل فعل إيمان بالثورة من قبل الفنّانين والمواطنين، وتحوّلت إلى محطّة أساسيّة لأهل الفنّ الملتزم لقضايا الناس ومطالبهم.

احتضنت ساحة الثورة في الأيّام الأولى الفنّان “مارسيل خليفة” إلى جانب مجموعة من الفنّانين، فكانوا حريصين على تأكيد مطلبهم السلميّ بإسقاط النظام الذي يرونه فاسدًا وقمعيًّا. وفي  بيروت احتشدت الجماهير أيضًا في شوارع العاصمة، ومن ثَمَّ في المحافظات الأخرى، وبعض المديريّات في اعتصامات مفتوحة، متّخذة من الشوارع والساحات العامّة مقرًّا وسكنًا ومسرحًا ثورويًّا. وقد كانت هذه الساحات حيّة وفاعلة، حيث تحوّلت إلى ما يشبه خليّة نحل تعجّ بالفعاليّات والأحداث والفنون المتعدّدة، إضافة إلى فتح مراكز تأهيل وتدريب للكوادر في الساحات والمجالات الأخرى. وبعد، فقد كانت الثورة أكثر من سياسيّة، حيث إنّها مثّلت ثورة فكريّة وعلميّة وإبداعيّة وثقافيّة وفنّيّة، ولم تستهدف النظام السياسيّ وحسب، بل والنظام الاجتماعيّ والثقافيّ في المجتمع اللبنانيّ.

تظلّ هناك جدليّة قائمة حول طبيعة الدور الذي يؤدّيه الفنّ في الثورات والاحتجاجات الشعبيّة، وخصوصا خلال ثورات الربيع العربي كونها اندلعت جميعها بصورة سلميّة في البَدء، ثمّ تحوّل بعضها إلى كفاح مسلّح كما في حالة سوريا وليبيا. فالإخفاقات السياسيّة وما يتأتّى بعدها من اضطرابات تكوّن قوى خفيّة متخفيّة أحيانًا خلف ظاهر من الأمور يتمثّل فيها الفنّان كأنّه قادم من كوكب آخر، وفي حقيقة الأمر فالواقع غير ذلك، ففي فرنسا على سبيل المثال “عانى الفنّانون كغيرهم من التفكّك الاقتصاديّ فانحدروا إلى مستوى طبقات الفقراء والبائسين والمشرّدين وخصوصًا في باريس عاصمة الفنون التشكيليّة لذلك نما بينهم ميل شديد إلى الراديكاليّة الثقافيّة في عرين انتصار الثورة الصناعيّة. وكان سيزان، وفان غوغ، وغوغان أوّل الثائرين”([21]).

أمّا في لبنان وتحديدًا ساحة الشهداء في بيروت، فلم تتغيّر الأمور كثيرًا عن الدول المجاورة، والثورات التّى شهدها التاريخ، فقد أفضت المواجهات مع الثوار إلى تدمير خيمهم، ما خلق استنكارًا لدى الثوّار، فجاء الردّ على العنف من أهل الفنّ بإبداعات فنّيّة أبرزها مجسّم “طائر الفينيق” الذي نفّذته الفنّانة الطرابلسيّة “حياة الناظر” من مخلّفات الخراب وأعمدة الخيم المتلفة. ورمزيّة هذا الطائر هنا، في ساحات الاعتصام هي الرغبة في لبنان جديد يبزغ من رماده الطائفيّ، فرسالتها من خلاله أن يفهم أعداء الثورة أنّ شعلتها ستتّقد من جديد في كلّ مرّة يظنّون فيها أنهم أخمدوها، فالشعب اللبنانيّ يؤكّد أنّ ثورته لن تنطفئ على الإطلاق، بل ستنبعث من جديد.

حياة الناظر: طائر الفينيق (ساحة الشهداء) 2019.

في طرابلس أعلنت الثورة سلميّتها منذ انطلاقتها، وحافظت على خطّها السلميّ في الغالب، وبالتّالي فقد لجأت إلى استخدام سلاح الكلمة والفنّ والكوميديا الساخرة والرسم والأغنية في مواجهة النظام السياسيّ، فعلى صعيد طرابلس، كان هناك مشاركات فنّيّة عديدة، أبرزها كان مع الناشطة الاجتماعيّة والأستاذة في الجامعة اللبنانيّة الدكتورة “هند الصوفي”، فقد تحدّثت في عملها الفنّيّ (Installation) الذي يحمل اسم (بلّوعة، بواليع وبوالع) حيث قالت في المقابلة التي أجريت معها: “استوحيت فكرة البلّوعة لإبراز صورة الفساد، فالبلّوعة هي ثقب لتصريف المياه القذرة والمبتذلة ومياه الأمطار، والبواليع أو البلاليع هي الثقوب في وزارات الدولة، تتسرّب إلى أحشائها(تبتلع) أموال الشعب لصالح الفاسدين، وتساءلت إلى أين يذهبون بالبلد؟ وتابعت قائلة إنّ الفكرة هي من تمويلها الخاص، نفّذتها في وقت قليل جدًّا نتيجة الغضب، وما تشاهده كلّ يوم من فساد وتظاهر بالعفّة من قبل السلطة“([22]).

د, هند الصوفي (بلّوعة، بواليع وبوالع) installation ساحة النور، طرابلس، 2019

وقد كان أيضًا للفنّانة والأستاذة في الجامعة اللبنانيّة الدكتورة “رويدا الرافعي” مشاركة فنّيّة في ميدان الثورة من خلال تنفيذ مشروع يتمثّل بصنع مجسّم ضخم لأرزة لبنان سيوضع لاحقًا على مدخل ساحة النور، والعمل لاحقًا على صنع مجسم مماثل لبيروت، وأضافت في اتصال أجريته معها بتاريخ الثامن من تموز 2021م حول الموضوع قائلة: “إنّ ثورة 17 تشرين سوف تخلق لبنان الجديد الذي لطالما حلمنا به، وعن مضمون تصميمها الفنّي شرحت قائلة: “إنّ التصميم هو مجسّم  بعنوان (الأرزة

د، رويدا الرافعي (الأرزة اللبنانيّة) موادّ صلبة (50×50 سم) مبنى بلديّة طرابلس 2019

اللبنانيّة) تترجم من خلالها صورة لبنان الشموخ والعزّة والعنفوان، الوطن الصامد الذي لا يقهر، وجزع الأرزة مصمّم من كلمة 17 تشرين، فيكون بذلك هو القاعدة والأساس الذي سيحمل الوطن بفروعه كافّة، لينطلق منها فيحمل عنوان (ولادة لبنان الجديد)، وستكون مصنوعة من موادّ صلبة كالحديد والنحاس والبراغي والمسامير وغيرها، لما تحمله هذه الموادّ من دلالة على الصلابة والصمود، كصمود الشّعب اللبنانيّ. أمّا المجسّم الكبير فسيوضع لاحقًا في ساحة النور تخليدًا لذكرى الثورة وسيكون قطعًا من لوائح الكمبيوتر للدلالة على ولادة لبنان العلم والتطوّر والتكنولوجيا”([23]).

كما كان للفنّان “غيّاث الروبي” مشاركة فنّيّة إذ قام برسم صورة للشهيد “أحمد توفيق علّوش” على جدار المبنى المهجور في الساحة الذي سيخلد ذكرى شهداء الثورة وقد قال: “أقوم مع زملائي برسم صورة الشهيد أحمد توفيق الذي استشهد منذ مدّة قصيرة، طبعًا هذا الجدار يضمّ صور الشهداء حسين العطار، علاء أبو فخر واليوم أحمد، عملنا تخليد لذكراهم ونتمنّى أن لا يسقط المزيد من الشهداء”([24]).

   غياث الروبي، جداريّة أكريليك (الشهيد علاء أبو فخر) طرابلس، 2019.

قالت طرابلس كلمتها مجدّدًا للجميع هذه ثقافتنا وعنواننا المتمثّل بالسلام والمحبّة. لقد قام الفنّانون بتعزيز وهج الثورة في ميادينها المتعدّدة. وقبل التطرّق إلى الدّور الذي أدّاه الفنّ خلال الثورة فإنّنا في حاجة إلى التطرّق لأشكال الفنون، وماهيّة العلاقة بينها وبين الثورة.

أشكال الفنون في ساحات الثورة

تعدّدت صور الفنون وأشكالها في ساحات الثورة وذلك يعود، بطبيعة الحال، إلى الثراء الفنّيّ والثقافيّ الذي تتمتّع به الساحة الثقافيّة اللبنانيّة، سواء من الموروث الفنّيّ والتراثيّ، أو من الفنون الجديدة التي تدخل إلى الساحة الفنّيّة بوصف الفنّ ذي طبيعة متجدّدة يسعى إلى ابتكار أدوات ووسائل تعبير جديدة باستمرار، وقد تمثّلت تلك الأشكال الفنيّة في الآتي:

أوّلاً. الأغنية الثورويّة

كانت الأغنية الثوريّة هي العنصر الأكثر حضورًا والشكل الأوّل جماهيريًّا فيما يمكن تسميته “فنّ الثورة”، وقد برزت الأغنية منذ البدايات الأولى للاحتجاجات، وكانت في تلك المرحلة تدشين مشروع الثورة وإعلام الناس بوجودها. ويمكن القول إنّ الأغنية كانت الشكل الأوّل نظرًا لما تتميّز به من خصوصيّة فنيّة وقدرة على جذب الانتباه إلى الاحتجاجات، كونها تتضمّن رسائل بسيطة ومختصرة تتناسب والضائقة الشعبيّة.

تحتل الأغنية تاريخيًّا أهميّة خاصّة في المجتمع اللبنانيّ، حيث كان للأغنية الاجتماعيّة تأثير قويٌّ، بوصفها كانت أكثر ارتباطًا بالجماهير إذ تُظهر الواقع المعيشيّ والاقتصاديّ في محاكاة الفقراء والمعدمين. لذا فإنّ الأغنية تتمتّع بقدرة كبيرة على الانتشار والتأثير في عواطف ومشاعر المتلقّي.

وقد استخدمت الأغنية لتحقيق الكثير من الأهداف كاستقطاب الجماهير إلى صفّ الثورة، على سبيل المثال أنشودة “منرفض نحن نموت ” للفنّانة جوليا بطرس، وأغنية “طار البلد” للفنّان راغب علامة وغيرها من الأغاني التي كانت تعمل على وتر الاتحاد والاصطفاف ضدّ فساد النظام والتحرّر من الطغيان، وإيصال رسائل حياتيّة وتمسّك الشعب بأرضه وجذوره، ورفع الصوت ليتخطّى الحدود الداخليّة ويصل إلى مسامع العدوان الخارجيّ. إضافة إلى أغاني أخرى موجّهة إلى الجيش اللبنانيّ تشيد بدوره في حماية الشعب وتدعوه للوقوف إلى جانب خِياراته.

كما تطرّقت بعض الأغاني إلى تعزيز النّشاط الثورويّ وتقوية عزيمته والحفاظ على حيويّة مساره وتوهّجه. إذ يرى فنّانون وأدباء أنّ الإبداعات الفنيّة مثّلت ترجمة لصورة الثورة ضدّ النظام الحاكم كما أنّ الفنّان برسالته الهادفة واكب الثورة منذ انطلاقتها الأولى وأسهم بدورٍ بارزٍ وأساسيٍّ في التنوير، ونشر الوعي في أوساط الجماهير.

الفنّ كسلاح لثورة سلميّة

تميّزت الثورة اللبنانيّة بتمسّكها بخِيار النضال السلميّ منذ انطلاقتها وقد انفجرت الثورة بصورة غير معهودة فاجأت الداخل نفسه قبل الخارج، إذ سعت إلى تقديم صورة حضاريّة عن المجتمع اللبنانيّ من خلال رسم سلوك حضاريّ في التظاهر والتعبير عن الرأي والمطالبة بتغيير النظام السياسيّ، تاركًا خلفه الصورة الذهنيّة السلبيّة عن مدينة طرابلس. وقد لجأت الثورة هنا إلى الفنّ كسلاح فعّال ونموذج حضاريّ للتعبير عن مطالبها ومشروعها السّاعي إلى التغيير، مستخدمة كلّ القوالب والألوان الفنّيّة في إيصال رسالتها والتعبير عن روح مبادئها.

لقد كسرت الثورة كلّ الخطوط الحمراء التي كانت قد فرضتها البيئة السياسيّة للنظام الحاكم. وأبرزها نقد شخصيّة الرئيس وأركان النظام. ولا شكّ في أنّ الثورة اللبنانيّة، كما سبق وذكرنا، شهدت أحداث عنف مروّعة، فبعد أيّام من الاحتجاجات السلميّة، اندفع لبنان إلى محاور داخليّة، ما أسفر عن سقوط شهداء، وتحويل بعض أحياء العاصمة ومناطق أخرى إلى ساحات قتال. غير أنّ مثل تلك المشاهد الدامية تختلف كلّ الاختلاف عما تراه العين في ميدان التغيير، حيث  يبلسم الفنّ مثل هذه الجراح ويسهم في التقريب بين الناس. لقد قالت طرابلس مجدّدًا للجميع هذه ثقافتنا وعنواننا المتمثّل بالفنّ والمحبة والسلام، وسنكمل المسيرة.

الخلاصة

وبعد، لم تكن انتفاضة الثورة اللبنانيّة مجرّد ردّة فعل وانفعال لحظويّ تأثّر بالزخم الثورويّ للربيع العربيّ الذي بدأ من تونس، ومن ثَمَّ مصر وانتقلت أعراضه إلى لبنان، بل كانت لحظة تاريخيّة انتظرها لبنان كثيرًا، وقد جاءت اللحظة المناسبة للثورة. ولم تكن إشكاليّة طرابلس متجسّدة بالنظام السياسيّ وحسب، بل في الأنظمة الأخرى التي تسبّب في انتاجها هذا النظام، كالمنظومة الاجتماعيّة والثقافيّة وغيرها. إضافة إلى أنّ الثورة شكّلت تحوّلًا جديدًا في بنية المجتمع، وكان من أبرزها طريقة النضال والتظاهر السلميّ الحضاريّ، لقد كان الفنّ هو السلاح الأبرز الذي اتكأت عليه الثورة بكلّ ثقلها لتصنع منه وجودها، وتحقّق أهدافها في التغيير المنشود.

لذلك فقد مثّل الفنّ في الثورة دورًا جوهريًّا استهدف من ناحية، مهاجمة الظلم والنظام وتدميره فكريًّا وثقافيًّا وشلّ الغطاء الشعبيّ عن شرعيّته، ومن ناحية أخرى فقد استهدف تفكيك رواسب الماضي الثقافيّ، في محاولة لترسيخ ثقافة جديدة تتناسب والتغيير الذي تسعى إليه الثورة.

لقد كان الفنّ هو المحرّك والحامل الأساسيّ لتحقيق مثل هذه الغايات. إضافة إلى التعبير عن مشروع الثورة وروحها ومبادئها والاستفادة من الطاقات الفنّيّة التي تمتلكها الشرائح والفئات الفنيّة العديدة. ولذلك فقد أدّى الفنّ دورًا محوريًّا في صناعة الفعل الثورويّ وحشد وتجييش الرأي العام نحو الثورة، كما ساهم في تعزيز قناعات الجمهور بضرورة قيام الثورة والتغيير، وعمل الفنّ على خلق هُويّة ثورويّة موحّدة ضد النظام السابق، ورسّخت الفعل الثورويّ وثقافة الثورة والنضال والتعبير الحرّ كوسائل حضاريّة في عمليّة النضال الشعبي.

الهوامش

[1] – طالب في المعهد العالي للدكتوراه الجامعة اللبنانية الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم الفن وعلوم الفنّ.

[1] . فريحة، أنيس: دراسات في التاريخ، جروس برس، طرابلس، لبنان،1991، ط1، ص4.

[2] . مكي، عباس، المجال النفس اجتماعي العربي، بيروت معهد الإنماء العربي 1991، ص 20.

[3] . الثورة الأمريكيّة https://ar.wikipedia.org/wiki

[4] . الثورة الفرنسيّة  https://ar.wikipedia.org/wiki

[5] . الثورة الهاييتية https://ar.wikipedia.org/wiki

[6] . الثورة الصناعية https://ar.wikipedia.org/wiki

[7] . الثورة – الشيوعية – الصينية https://ar.wikipedia.org/wiki

[8] . فريحة، أنيس:دراسات في التاريخ، جروس برس، طرابلس، لبنان،1991، ط1، ص13.

[9] . https://www.mosoah.com/arts-and-entertainment/performing-arts

[10] . jonathanjonesbloghttps://ar.wikipedia.org/wiki

[11] . https://www.aljazeera.net/midan/art/finearts/2017/2/17

[12] . الستوكي، عبد الله: تأمّلات في العلاقة الجدليّة بين الحداثة والتراث، المركز الثقافي الدولي بالحمامات، تونس 1979، ص 175.

[13] .  فيشر، إرنست: ضرورة الفن، ترجمة اسعد حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998، ص 15.

[14] . الجباعي، غسان، الفن والثورة السورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الدوحة، ص 4.

[15] . الجباعي، غسان، المصدر نفسه، ص 4.

[16] . الدقر، نزار، الثأر والحداثة، العربي الجديد،1 مايو2017، سوريا.

[17] . https://www.independentarabia.co

[18] . فهمي، مصطفى، الدوافع النفسيّة، دار مصر للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة 1955، ص 15.

[19] . فيشر، إرنست: مصدر سابق ص 53.

[20] . قديح، عادل: المقاربة اللبنانيّة للفنّ التشكيلي الحديث 1875/1975، – Encyclomedia SAL بيروت، ط1، 2017، ص 161.

[21] . قديح، عادل، المصدر نفسه، ص70.

[22] . تالا غمراوي https://www.alnuhud.com/?p=13360

[23] . مقابلة صوتيّة اجريتها مع الدكتورة رويدا الرافعي بتاريخ 8/7/2021.

[24] . تالا غمراوي نفس المصدر السابق.

المصادر

  1. مكي، عباس، المجال النفس اجتماعي العربي، بيروت معهد الإنماء العربي 1991.
  2. الستوكي، عبد الله: تأمّلات في العلاقة الجدليّة بين الحداثة والتراث، المركز الثقافي الدولي بالحمامات، تونس 1979.
  3. فيشر، إرنست: ضرورة الفن، ترجمة اسعد حليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
  4. الجباعي، غسان، الفن والثورة السورية، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، الدوحة.
  5. الدقر، نزار، الثأر والحداثة، العربي الجديد،1 مايو2017، سوريا.
  6. فهمي، مصطفى، الدوافع النفسيّة، دار مصر للطباعة والنشر، الطبعة الثالثة 1955.
  7. قديح، عادل: المقاربة اللبنانيّة للفنّ التشكيلي الحديث1875/ 1975، – Encyclomedia SAL بيروت، ط1، 2017.
  8. فريحة، أنيس: دراسات في التاريخ، جروس برس، طرابلس، لبنان، 1991، ط1.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website