بين الأرسطوية وما بعدها قراءة نقدية في كتاب “فنّ الشّعر” لأرسطو
د. كريستيل نصّار([1])
مقدّمة
كتاب فنّ الشعر لأرسطو هو الكتاب المرجعيّ الأول في نقد الشّعر، ومفردة الشّعر ههنا تعني، بين ما هو مقصود من صاحب الكتاب، المسرح. وعلى الرّغم من الانقلاب الذي أحدثته التيارات الفكرية ومقاربات ما سُمي بالمسرح ما بعد الأرسطوي انتهاءً إلى مسرح الكلمة والمسرح الفلسفيّ مرورًا بالمسرح العبثيّ، والباتافيزيك وسواها، يبقى كتاب فنّ الشعر منطلقًا كلاسيكيًّا لدراسة المسرح ونقده ولتدريسه. من هُنا بعض من أهمّية بحثنا.
يستوقفني في طرح أرسطو مفهومان محوريان هما المحاكاة والتّطهر. إذ جعل أرسطو المحاكاة تعطي الشّعر فعله وبالطبع تحقق فعل المسرح ضمنًا أكان تراجيديًّا أو كوميديًّا. وهو عدَّ أنّ هذه المحاكاة، في التراجيديا بشكل خاص، هي التي ستنتج تطهّرًا. هذان المفهومان يطالان الماهية والغائيّة من المسرح، ولهما أثر امتد على سنين طويلة، إلى أن طرح بريخت (بين عامي 1947-1948) مسرحه على أنّه مسرح “لا أرسطوي”. وطرح بريخت هذا واستخدامه لهذا التّعبير إنّما يبرز امتداد الأثر الأرسطوي حتى حقبة هي البارحة بالمقارنة مع تاريخ المسرح الطويل. هنا تتجلّى واحدة من نقاط الأهمية لبحثي في كونه يتناول مفاهيم كان لها أثر امتد طويلاً في حياة المسرح. وسيكون من الفائدة بمكان للعاملين في المسرح وفي نقده أن نناقش هذين المفهومَين بالذّات لدى أرسطو ونقدّم لهما قراءة نقديّة مبنية على مقاربة شاملة للكتاب نفسه. لعلّ أبرز ما يمكن الباحثة افتراضه أنّ الطريق الذي رسمه أرسطو إلى التطهر، لا يؤدّي بالضرورة إليه، وقد يذهب هذا الطريق أحيانًا بالمُشاهِد في اتجاهات مختلفة تمامًا عمّا أراده أرسطو له. كما أنّ مسرح القرن العشرين رفض المحاكاة الأرسطويّة في إطار رفضه للعديد من المقومات والطروحات التي قال بها أرسطو. لذلك، سيعرض هذا البحث لما يضع القارئ في إطار طروحات أرسطو لأتمكّن من البناء عليها في مقاربة المحاكاة والتطهر لديه، وسينتهي إلى التّوقف عند رفض نظرية المحاكاة بما ينتج عنها من تماهٍ وتطهر في القرن العشرين من خلال طروحات بريخت الذي كان بارزًا ومباشرًا في الدفاع عن هذا التوجّه.
I. كتاب فن الشعر: نظرة تاريخيّة
لا بد لي من أن أشير إلى كون كتاب فنّ الشعر هو من أقدم مرجعيات النقد الأدبي، ويعدُّه بعض النّقاد الكتاب الأول في الدراماتورجيا (Romanska, 2016). من المعروف أنّ كتاب فنّ الشعر طُبع لأول مرة باللغة اليونانية العام 1508 في البندقيّة استنادًا إلى مخطوط وجد في باريس، ثم طُبع في برلين في العام 1831. ولا بُدّ هُنا من اللَّفت إلى الدور الذي يؤدّيه أبو بشر متى بن يونس القنائيّ([2]) في حمل كتاب أرسطو إلى الضوء عبر تعريبه لكتاب فنّ الشعر في النّصف الأول من القرن العاشر. فالناقد الإنكليزيّ المستشرق صموئيل مرجوليوث اعتمد تعريب أبو بشر متى بن يونس القنائي، عندما قام بتحقيق كتاب أرسطو بالإنكليزية وطباعته في لندن العام 1878، وقد أضاف مرجوليوث بالطبع على مَن ترجم قبله كتاب فنّ الشعر في أوروبا ما يعدُّ جديدًا استنادًا إلى بنائه على ما أتى به متى بن بشر في تعريبه وتعريفه للمأساة. وأتوقّف بهذه الإشارة عند الدور الذي أدّاه العرب في إخراج الثقافة الأوروبيّة من الظلمات، فما قام به متى بن يونس القنائي في بدايات القرن العاشر ميلاديّ (مستعينًا باسحق بن حنين كضليع باليونانيّة) لتعريب الكتاب، مهّد الطريق لابن رشد ليتعرف على الكتاب ويعيد ترجمته بعد متى بن يونس بأكثر من قرنين (ابن رشد المتوفى في العام 1198). وكان لترجمة متى بن يونس وابن رشد للكتاب أثر على الثقافة الأوروبيّة في بداية نهضتها الفكريّة، كما نتبيّن من ترجمة مارجوليوث.
بعد قراءة عدّة ترجمات لكتاب فنّ الشّعر إلى الإنكليزيّة والفرنسيّة بالإضافة إلى تعريبات له، اعتمدتُ في بحثي التّرجمة الإنكليزيّة لإنجرام بايواتر (Ingram Bywater)، لأنّ هذه الترجمة شديدة الوضوح والدقة، ولأنّ الترجمات إلى العربية التي سبقت ترجمة بدوي، اعتمدَت كلمة المأساة خارج سياقها، كما في حال ابن رشد (إذ اعتُمِد مفردة “رثاء” للدلالة على “مأساة”).
II. الغاية من المسرح بحسب أرسطو
“الهدف في كلّ الأمور هو الأساس” (Aristotle، 1920، صفحة 37)، بحسب طرح أرسطو. إذًا كي نستطيع أن نفهم فنّ الشعر (والتراجيديا بشكل خاص)، علينا أن نتبيَّن الهدف من وجوده، والغاية منه. ويطغى على طرح أرسطو كما سبق وذكرنا: المحاكاة والتطهر. نتساءل إن كان التّطهّر (عبر المحاكاة) هو الهدف الأسمى للشّعر، لما لهذه المفردة من مكانة في الأبحاث التي تتناول كتاب أرسطو أو تعود إليه. يعدُّ أرسطو أنّ أنواع الشّعر على اختلافها “هي جميعًا في تكوينها العام أنواع من المحاكاة” (Aristotle، 1920) وأنّ المحاكاة هي محاكاة لفعل، لا لأشخاص، فيكون “الفعل، الظاهر عبر الحبكة، هو المنتهى والغاية من التراجيديا” (Aristotle، 1920). ويعدُّ المعجم المسرحيّ الفرنسيّ أنّ “التطهّر هو نتيجة وهدف” (Pavis، 2002) في آن، فيبدو كما لو أنّ أرسطو يقدّم هذه النّتيجة على كلّ النتائج الأُخرى للتراجيديا (ولفنّ الشعر). وعلى الرّغم من مكانة المحاكاة لدى أرسطو، وعلى الرّغم من الأهميّة التي يُعطيها للتطهّر، فهو في الفصل التاسع يُحدِّد صراحةً الغاية من الشّعر، ويعدُّ أنّ التّراجيديا (والكوميديا وأنواع الشّعر الأُخرى) بتقديمها نموذجًا عالميًّا، أيّ ذي طابع فلسفيّ تحقِّق هدفها: “الشّعر يحمل طابعًا فلسفيًّا أكبر من التّاريخ وأكثر أهميّة منه، لأنّ الشّعر يقدّم مضمونًا ذا طابع عالمي عام، عكس التّاريخ الذي يقدّم مضامين فرديّة خاصّة. [ويعني أرسطو] بالمضمون العالمي ذاك الذي يُبرِز ما يقوله أو يفعله، ضرورةً أو احتمالاً، هذا أو ذاك النّوع من الرّجال – وتلك هي الغاية من الشّعر([3])” (Aristotle، 1920، صفحة 43). فيؤكد أرسطو بذلك على ثلاثة: المحاكاة، التطهّر، والنّموذج العالميّ.
يُعِدُّ أرسطو أنّ الكوميديا توصَّلت إلى تحقيق العالميّة (بحسب الطرح الأرسطوي للمفردة) بوضوح أكبر ممّا توصَّلت إليه التراجيديا، وبتعبيره: إنّ تحقيق هذه الغاية هو “أكثر وضوحًا في الكوميديا” (Aristotle، 1920، صفحة 43) منه في التّراجيديا؛ ويعود ذلك لكيفيّة الكتابة أو طريقة التأليف الكتابيّ المُعتمَد. فالكاتب الكوميدي (أيضًا بحسب أرسطو) يبني الحبكة ويحدّد الفعل، ثمّ يهب أسماء لشخصيّاته. أمّا في التّراجيديا، فإنّ معظم الأسماء المُعتمَدة مُستعارة من التاريخ، ما يولِّد نوعًا من اللغط، ويترك مجالًا مُبهَمًا أثناء الكتابة، فتأتي بعض التّراجيديّات (عند بعض الكُتّاب) مُلتزَمة بتاريخيّة الأشخاص والقصص التي تروى بشكل ينتقص من طابع العالميّة، الذي يطالب به أرسطو، فيها (Aristotle، 1920، صفحة 44).
برأيّ أرسطو حتى وإن كان الشعر فلسفيًّا، فإنّ ذلك لا يغيّر من موقع المحاكاة. فأرسطو يوازي بين المحاكاة وبين الشّعر. فهو يقدّم كتابه على أنّ “موضوعنا هو الشّعر” (Aristotle، 1920، صفحة 23)، ثمّ يبدأ في تحديد أنواعه، فيعدّدها ويُذيِّل قائلًا “إنّ كلّ تلك، إن أخذناها كاملة، تُعَدُّ أنواعًا من المحاكاة” (Aristotle، 1920، صفحة 23). وفي تبريره للشّعر ولأصل الشّعر، نراه يبرّر المحاكاة، والرّغبة في المُحاكاة في الطبيعة الإنسانيّة من ناحية فـ”المحاكة جزء من الطبيعة الإنسانيّة. وهي أمر طبيعي بالنّسبة إلى الإنسان (…) فهو يبدأ التّعلّم بالمحاكاة” (Aristotle، 1920، الصفحات 28-29)، وبـ”المتعة المُتولّدة من المحاكاة” (Aristotle، 1920، الصفحات 28-29) من ناحية أُخرى. إذًا؛ إن أردنا تعريفًا تكوينيًّا للشعر لأمكننا القول: الشّعر موجود بفعل المُحاكاة (مع مراعاة وسائلها، مواضيعها وطرائقها).
III. تصنيف المحاكاة: التراجيديا والكوميديا
يميّز أرسطو في كتابه بين عدّة أنواع من الشّعر ويضع ثلاثة معايير تمايز في ما بينها: الوسائل، المواضيع وطرائق المحاكاة (Aristotle، 1920، صفحة 23). وتتضمّن الوسائل: “الإيقاع، اللغة والانسجام” (Aristotle، 1920، صفحة 24). أمّا “المواضيع التي يمثّلها المُحاكي فهي الأفعال؛ ويكون فاعلها إمّا رجلًا جيّدًا وإمّا رجلًا سيّئًا” (Aristotle، 1920، صفحة 25). وطرائق المُحاكاة هي “الكيفيّة التي يُقدَّم عبرها الفعل (…) فيكون حينًا مَرويًّا، وحينًا آخر مؤدَّى من فاعله (…) أم أنّه يبقى ثابتًا في إحدى الطريقتين السّابقتين أم أنّ المحاكين يجسدون كامل القصّة بشكل درامي، كأنّما هم يؤدّون فعلًا الأحداث التي ينقلون” (Aristotle، 1920، صفحة 27).
يختار أرسطو من هذه المعايير “الموضوع” ليجعله أداة التّمييز والفصل بين التراجيديا والكوميديا: “هذا هو الفرق بين الكوميديا والتراجيديا؛ فالواحدة تجعل شخصيّاتها أسوأ من الإنسان العاديّ، والأخرى تجعلها أفضل” (Aristotle، 1920، صفحة 27). فأفعال هؤلاء النّاس هي التي تعكس طبيعتهم؛ والفرق بين الكوميديا والتّراجيديا يظهر في الموضوع وليس فقط في نوعيّة الشّخصيّة، لأنّ كلاهما يُحاكي أفعالًا، وهذه الأفعال تنسجم مع نوعيّة الشّخصيّات الفاعلة. فيما يوظِّف المعيارين الآخرين في دراسة التفاصيل والخصائص (ففي دراسته للتراجيديا يتطرّق إلى الوسائل والطّرائق).
IV. قراءة لمكانة العرض في التّراجيديا بحسب أرسطو
أجد أثناء قراءتي لكتاب فنّ الشعر “تصريحًا” يطرح لديّ تساؤلات عديدة حول موقع العرض في المسرح بالنسبة إلى أرسطو: “العرض، على الرّغم من أنّه عامل يجذب الاهتمام، هو أقلّ الأجزاء فنًّا، وأقلّها ارتباطًا بفنّ الشّعر. إنّ المفعول التّراجيديّ ممكن من دون أداء علنيّ ودون مُمثِّلين. بالإضافة إلى أنّ العرض هو مسألة تتعلّق أكثر بمصمم الأزياء منه بالشّاعر” (Aristotle، 1920، صفحة 39).
بالنّسبة إلينا، نحن الذين نعيش في القرن الواحد والعشرين، فإنّنا لا نشكّ في انتماء العرض إلى المسرح، كما أنّنا لا نطرح فكرة الاستغناء النّهائي عنه (عن العرض). وعلى الرّغم من أنّنا نجد ما يعرف بـ”المسرح في الكرسيّ”([4]) الذي لا يتطلّب عرض العمل المسرحيّ “وذلك لأسباب تتعلّق، وبحسب قاموس المسرح الفرنسيّ، بصعوبة تقديم العمل على الخشبة” (Pavis، 2002، صفحة 365) في أغلب الحالات، إلّا أنّ “المسرح في الكرسي” لا يرفض فكرة العرض نفسها؛ في حين أنّ تيّارات أُخرى تجعل من المسرح فنًّا قائمًا على العرض بشكل أساسيّ. من ناحية أُخرى نجد العديد من المُخرجين – تحت شعار مناصرة الكلاسيكيّة – يقولون بطغيان النّص على العرض في المسرح، ويحوّلون الممثل إلى قارئ لنصّ وقد ارتدى ما تجوز تسميته أزياء “تنكّريّة” لغياب الدراماتورجيا والرؤية، ما يطرح علامات استفهام كبيرة حول ضرورة العرض في هكذا حال، وحول استغباء ممكن للمشاهِد في وضع العرض بهذه الصّيغة الكسولة. وهذه إحدى النّقاط التي يرفضها أرسطو في العرض ويجعلها سببًا للانتقاص من قيمته. بالنّسبة إلى أرسطو، فإنّ التّحول من الملحمة إلى التّراجيديا، عندما كتب مؤلّفه المرجعيّ، كان حديث العهد نسبيًّا. ما يفرض تساؤلًا تقييميًّا لكلّ من عناصر الفنّ الجديد (والعرض أحدها، أو لنقل أحدثها إذ إنّ الشّعر والأوزان والقصّة… كانت قد وُجِدَت مع الملحمة من قبل، أمّا العرض، والموسيقى، فهما، وبحسب أرسطو، ما يزاد على الملحمة لتتحول إلى تراجيديا). وأرسطو، لا يعرض فقط لكلّ من العناصر المرتبطة بالتراجيديا، بل يضع موازين تشكّل أسسًا لتقييم أو نقد كلّ من هذه العناصر على حدة، ولتقييم التّراجيديا ككلّ كامل، ليستخلص – وبناءً على الأسس التي شرحها – أنّها (أيّ الدراما) “أرقى الفنون” (Aristotle، 1920، صفحة 95).
لعل موقف أرسطو هذا من العرض مرتبط بشكل أو بآخر بما يشرحه في بداية الفصل السّادس والعشرين من كتابه حين يُعِدُّ أنّ اكتساب فنّ المسرح صفة “الشّعبيّة” التي تقلّص من قيمته إنّما هي مرتبطة بالأداء المبالغ فيه (عبر “الحركة التي لا تتوقّف”) للممثلين الجدد (وهو، أيضًا بحسب أرسطو، ما يعيّرهم به من سبقهم من الممثلين). ويذهب أرسطو إلى إلقاء الملامة على العرض وطريقة الأداء، ليتمكن من بناء دفاع متماسك عن كون التراجيديا أرقى من الملحمة (Aristotle، 1920، صفحة 95).
كما أنّ افتراض حاجة التراجيديا إلى العرض لتحقيق أهدافها ينتقص بشكل من الأشكال من قيمة العقل وقدرته على الاستيعاب، وفي ذلك إهانة وانتقاص من قيمة الإنسان – في رأيّ أرسطو بالطبع – فـ”الجمهور المثقّف لا يحتاج إلى أن يُرافق النص بالحركة” (Aristotle، 1920، صفحة 93) كي يتمكّن من استيعابه وكي تتحقق المتعة التراجيدية في داخله. إذ إنّ في هكذا افتراض (أيّ أن يكون العرض ضرورة في التّراجيديّا) انسجام لأرسطو مع فلسفته القائلة: إنّ “من يستطيع الاستشراف بعقله إنما هو بالطبيعة مالك وسيّد، ومن يعمل بجسده هو تابع وعبد” (Aristotle, Politics, pp. Book1, Part2). أضف إلى ذلك أنّ الصورة المثال التي يجب أن يكون عليها الأثيني (وتحديدًا الرجل الأثيني الحُرّ) هي صورة الرّجل المفكر في شؤون الفلسفة والدّولة والحياة… هذا الرجل الذي ينبغي عليه أن يترك الأمور الدّنيا، التي تنتقص من قيمته، كالأعمال اليوميّة والأعمال اليدويّة وتربية الأطفال… وكلّ ما يتطلّب فعلًا جسديًّا إلى العبيد الذين هُم “من دون أيّة قيمة على الاطلاق” (Aristotle، 1920، صفحة 55).
وعليه، فإنّنا نفهم خوف أرسطو من إعطاء قيمة أو تقدير للعرض، الذي إنما هو عمل يتطلّب فعلًا جسديًّا، فيصبح بذلك عملًا من الأعمال الدنيا بالنسبة إليه، جاعلًا بدوره التراجيديا كعرض عملًا دونيًّا ما يحرمها قيمة الفن الراقيّ الذي يليق بالأثينيّ (أو لنقل بالانسان). واستخدم مفردة خوف لأنّ إعجاب أرسطو بالتراجيديا ونظرته لهذا الفن ورغبته بإعطائه القيمة والتّقدير ليكون “أرقى الفنون جميعًا” (Aristotle، 1920، صفحة 95)، يدفعه إلى تجنيبه النّقاط التي تنتقص من قيمته في عيون معاصريه كأن يكون فنًّا شعبيًّا (كما قد ذكرنا)، أو أن تكون حاجته للعرض عضويّة بمعنى أن يكون الأثر التّراجيدي غير ممكن الحصول إلا عبر العرض، لأنّ ذلك يجعله فنًّا دونيًّا فيقول: ” إنّ التّراجيديا وهي أرقى من جميع النّواحي، لا تحوي حتمًا هذا العنصر (أيّ العرض: وبخاصة الحركة الفائضة لمعاصريه من المؤدين)” (Aristotle، 1920، صفحة 94). وعندما لا يجد بدًّا من أن يذكر الحركة، يربطها بالرّقص لكي يرفع من شأنها ما يكفي لحماية قيمة التراجيديا.
نجد أيضًا في كتاب فن الشعر أقوالًا أُخرى لأرسطو تناقض طرحه الأوّل بشأن دونية محتملة للعرض بسبب الحركة، فأرسطو يجعل من العرض نقطة أساسيّة تميّز التراجيديا عن الملحمة كما في الفصلين الرابع والعشرين والسادس والعشرين. إذ يبيّن الفرق بينهما عبر خاصّيّات كلّ منهما، جاعلًا بذلك العرض خاصيّة للتراجيديا.
كما وأنّه في الفصل الرّابع والعشرين من كتابه فنّ الشعر، وكي يبيّن كيف أن “غير الممكن” (the improbable) موجود في الملحمة من دون التراجيديا (والذي هو عنصر أساسيّ لتحقيق “المُذهِل” (The marvellous)، وهي غاية مُرتجاة في الفنّين)، يستعين بمَثَل مرتبط بالعرض، إذ يكون تقديم غير الممكن (المذكور في الملحمة) أمام الجمهور (أيّ في العرض التراجيدي) ضربًا سخيفًا مُضحكًا (Aristotle، 1920، الصفحات 83-84). وبالتالي فإنّ أرسطو عبر هذا المثل لا يلغي الارتباط بين التراجيديا والعرض، إنّما يخلق صلة بينهما، تجعل من عدم إمكانيّة وضع غير الممكن على المسرح شرطًا لعدم استخدامه في الكتابة التراجيديّة إلّا أنّ كان خارج المرئيّ على الخشبة.
هذه الصِّلة تظهر أيضًا في أوّل الفصل الرابع والعشرين نفسه، حين يُعِدُّ أنّ “المرء لا يمكن أن يقدّم فعلًا متعدد الجوانب (أيّ عدّة أحداث متوازية) في الوقت نفسه، لأنّ الجزء المرتبط بالخشبة والممثلين يمنعه من ذلك” (Aristotle، 1920، صفحة 82)، ثم يضيف أنّ “تشابه الأحداث سرعان ما يولّد السّأم الذي يُفشل العروض التّراجيديّة” (Aristotle، 1920، صفحة 82)؛ كما أنّه، وفي الفصل الثامن عشر، يعزو عدم إمكانيّة تقديم كامل الملحمة في تراجيديا واحدة إلى انّها “إمّا ستفشل علانية، وإمّا ستحصد نجاحًا مريضًا على المسرح” (Aristotle، 1920، صفحة 65).
أمّا في الفصل السابع عشر، فإنّه ينصح الكتّاب، وبطريقة مباشرة، أن يتنبّهوا أثناء كتابة الحبكة والإلقاء إلى أن يتركوا ما يكفي من المسافة ليروا العمل بـ”عين الشّاهد” أو المُشاهِد، فلا يتركوا فيه نقاط عدم انسجام قد “تبقى غير ملحوظة لو لَمْ يرَها الجمهور” (Aristotle، 1920، صفحة 61)، ما يؤدّي إلى فشل المسرحيّة على الخشبة. هنا يذهب أرسطو إلى إعطاء العرض المسرحي دور المصفّي من الشّوائب، فيجعله الشّرط الذي يختار الشّاعر على أساسه القصّة (الحبكة)، ترتيب المشاهد، العناصر المنطقيّة، عناصر الإذهال، وغيرها ما يجب أن يُأخَذ بالحسبان أثناء كتابة التراجيديا. فعلى الكاتب “أن يُبقي حاضرًا في ذهنه كلّ القواعد (أي قواعد كتابة التراجيديا) بالإضافة إلى المؤثرات المشهديّة إذ إنّها ترتبط مباشرة بفنّ الشاعر، بما أنّه حتى هناك يستطيع ارتكاب الأخطاء” (Aristotle، 1920، صفحة 58). ويذهب أرسطو إلى أن ينصح الكاتب التّراجيدي “بأن يمثّل هو نفسه القصّة التي يكتب مؤدّيًا الحركات التي يجب أن تقوم بها شخصيّاته” (Aristotle، 1920، صفحة 61).
ولعلّي أتمكّن من الاعتبار أنّ أرسطو يرى أنّ الصلة بين التراجيديا والعرض هي صلة وثيقة عندما يقول في المقارنة النّهائيّة بين التّراجيديا والملحمة أنّ “التراجيديا تحتوي كلّ خصائص الملحمة (حتى أنّها تقبل أوزان الملحمة الشّعريّة)، بالإضافة إلى عدد لا يُستهان به من أشكال الموسيقى (عامل حقيقي في المتعة الدّراميّة) والعرض” (Aristotle، 1920، صفحة 94). إذًا، وفي خلاصة الكتاب، فإنّ أرسطو يُبقي على عنصريّ الموسيقى والعرض ليكونا الخاصّيّة المُمَيِّزة للتراجيديا.
إنّ أرسطو وفي دراسته للتراجيديا نفسها، يطرح أسس ستة لبنائها بناءً صحيحًا: ثلاث من هذه الأسس مرتبطة بالعرض فالإلقاء (diction أو ما يقصد به التركيب النطقي للأبيات)، واللّحن هما مركّبان مرتبطان بالعرض، أمّا المركّب السّادس فهو العرض نفسه. إذًا، إنّ نِصْف عدد المكوّنات مرتبط بالعرض بطريقة مباشرة (بالطبع إنّ العناصر الأُخرى، أيّ حسن بناء الحبكة والشّخصيّات والفكر أو المنطق الذي يبني داخل هذه الشّخصيات، هي عناصر ترتبط بالعرض، وإن كانت عناصر ملزمة في حال بناء نصّ مسرحي، مع أو من دون الأخذ بالحسبان إمكانيّة تحويله إلى عرض).
عندما يتكلّم أرسطو على تركيب الأبيات الشّعريّة لتأتي جميلة ويتكلّم عن أوزانها – جاعلًا الوزن السّداسيّ للملحمة أفضلها – فإنّه يعتمد بذلك على العنصر السّمعي، إذ إنّ الأوزان الشّعريّة إنّما هي قائمة على نوع من اللحن أو تقسيم إلى أجزاء سمعيّة (syllables – rime…). والسّمع أكثر ارتباطًا بالعرض منه بالنّص المكتوب، خاصّة وأن القارئ عندما يقرأ إنّما هو يربط الكلمات بقيمتها اللفظيّة أو بالحري بصورتها الصّوتيّة([5])، علمًا أنه لا يمكن اليوم، وبفضل الدراسات اللغوية، فكّ الارتباط بين اللغة وقيمتها اللفظيّة. ولو أن هذه القيمة اللفظيّة لم تكن بذات بال أو أهميّة، لكان أرسطو لم يضع الشّعر شرطًا للكتابة التراجيديّة ولم يكن ليدعو إلى استخدام مجمِّلات للكلام كتطويل أو اختصار كلمة ما أو تحويلها لفظيًّا (أو استخدام التشابيه والكنايات). وهذه المجمّلات إنّما هي ترتبط مباشرة بجماليّة سمعيّة، تهدف إلى خلق إحساس جمالي معيّن لدى القارئ-المستمع وكلّ قارئ هو مستمع، مستمع لنفسه خلال إلقائه الدّاخلي (أيّ قراءته) للنص المكتوب، ما يربط النص مرّة أخرى بالعرض.
أمّا اللحن، الذي يُعدَّه أرسطو “أوضح من أن يُشرَح” (Aristotle، 1920، صفحة 35)، فقائم على شقّين. الشّق الأول هو ذاك المرتبط باللحن الموسيقي الذي يفضّل أرسطو وجوده، كما يحبّذ وجود الغناء في العرض التّراجيدي. أمّا الشق الآخر فهو مرتبط باللحن الذي تفرضه الأبيات الشّعريّة، وهو مختلف عن اللحن الموسيقي؛ إنّه اللحن المرتبط بالإلقاء الشّعري. في جميع الأحوال، فإنّ الكلام على اللحن لا يمكن إلا أن يرتبط بالعرض إن من ناحية إلقاء الأبيات وإن من ناحية إدخال لحن موسيقيّ على العرض (إذ لا يمكن ادخال هذا الأخير على النّص المكتوب).
أمّا العنصر السّادس تصنيفًا بين عناصر التراجيديا (وبالتالي أقلّها قيمة بالنسبة إلى أرسطو)، فهو العرض بذاته. على الرّغم من أنّ أرسطو يضع هذا العنصر آخر العناصر المكوِّنة جميعًا، فإنّه لا زال يضعه كعنصر مكوّن، وليس كعنصر دخيل على التّراجيديا، وفي ذلك اعتراف منه بمكانة العرض وارتباطه بالتراجيديا. وإنّما هذه التّراتبيّة في التّصنيف ترتبط بالأسباب التي ذكرنا حول تجنب أرسطو إعطاء قيمة للعرض حرصًا منه على عدم الانتقاص من قيمة التراجيديا لتبقى أرقى الفنون.
من ناحية أُخرى، يعدُّ أرسطو أنّ “الحبكة يجب أن تكون محكمة لدرجة أنّه حتى ولو لم تتم مشاهدة التراجيديا، فإنّ مشاعر الخوف والشفقة يجب أن تملأ المستمِع بفعل الأحداث وحدها” (Aristotle، 1920، صفحة 52). وعندما يطلب أن تولد هذه المشاعر وأن يحصل التطهّر، فإنّه يطلب بعبارة أخرى أن يتصوّر المُشاهِد نفسه مكان الشّخصيّة ويتماهى معها. وإن هذه الصّورة الدّاخليّة إنّما هي نوع من العرض الداخلي، يرسم فيه المُستمِع أو القارئ صورة داخليّة للعمل (أو ما يُعرَف بالفضاء الدّرامي (Espace dramatique)) يتمثّل فيها رؤيته الخاصّة من سينوغرافيا وتصوّر للشّخصيّات وأدائها. وفي هذا التّصوّر الدّاخلي نوع من العرض الدّاخلي الذي يتمّ لمُشاهِد واحد هو المستمع أو القارئ نفسه. وإن القاسم المشترك الأساسي بين العرض الدّاخلي والعرض العامّ هو تحويل التراجيديا من صيغة الكلمة الأدبيّة إلى صيغة صورية، وهذه الصّيغة الصّورية لا تتمّ معارضتها من قبل أرسطو، فهو لا يضع شرطًا على الكتابة التراجيديا بأن تخلو من الصّور، إنّما بالعكس فإنّه يشجّع على الإضافات التي تخلق المتعة في نفس المستمع (من دون أن يحدّد طبيعتها).
عندما يعدُّ أنّ “الخوف والشفقة التراجيديين يمكن أن يتولّدا من العرض كما يمكن أن يتولّدا بفعل تركيبة المسرحيّة وأحداثها (…) فإنّ تحقيق هذا الأثر (أي الأثر التراجيدي) عبر العرض هو أقلّ انتماءً إلى الفنّ ويتطلّب مساعدة خارجيّة” (Aristotle، 1920، صفحة 52). وأرسطو هُنا في موقع من يقول بإمكانيّة خلق الفعل المَرجو من التّراجيديا أو الهدف منها عبر العرض وحده. وبما أنّ “الهدف هو أهم الأشياء” بحسب تعبير أرسطو نفسه، وإن كان تحقيق الهدف من التراجيديا ممكن عبر العرض نفسه، فلا يمكن أن يكون العرض أقل شأنًا من النّص، ولا تصحّ هذه الطبقيّة بين العرض والنص، علماً أنّنا في القرن العشرين نربط المسرح بالعرض أكثر ممّا نربطه بالنص.
يستدرك أرسطو نفسه أهمية العرض عندما يعود ليُعرّف التراجيديا على أنّها “محاكاة لفعل جدّي، له حجم([6])، تامّ بذاته، عبر اللغة التي تستخدم مجمّلات (…)؛ بصيغة دراميّة، غير سرديّة؛ تنضوي على أفعال تثير الشّفقة والخوف ليتمّ التطّهر من هذه المشاعر.” (Aristotle، 1920، صفحة 35)، على أن تكون هذه الكتابة بالشّعر وتحافظ على إيقاع وانسجام واحتمال غناء. ويكتمل هذا التّعريف للتراجيديا بمتمِّمٍ له في ختام الفصل الثّاني والعشرين فيصرّح أرسطو أنّ “التراجيديا، (هي) فن المُحاكاة عبر الفعل على الخشبة” (Aristotle، 1920، صفحة 79). ويُعِدُّ في الفصل التاسع أنّ “عمل الشاعر هو لأجل العرض العلني” (Aristotle، 1920، صفحة 45). ويكون بذلك أرسطو نفسه قد أجاب على مدى ارتباط العرض بالفن بشكل عام وبفن الشعر بشكل خاصّ بالنّسبة إليه.
V. المحاكاة والتّطهّر
- في المحاكاة
تشكّل المحاكاة الجانب الشّعري في الشّعر في نظر أرسطو([7]). لكنّ أصول المحاكاة تختلف من نوع شعري إلى آخر، فلا تكون المحاكاة في الكوميديا كالمحاكاة في التّراجيديا، وذلك لاختلاف نوعيّة الأفعال التي تُحاكى، واختلاف نوعيّة الشّخصيّات، واختلاف الأوزان الشّعريّة أيضًا.
والمُحاكاة هي خلق نسخة من أمر ما، أو اتباع نمط، نموذج أو مُثُل (Merriam Webster, 2021)، هي نوع من التّماهي أيّ نوع من النّقل أو التّقليد. بالطبع إنّ بدايات التّعلّم تتمّ عبر التماهي والمُحاكاة، فعلم النّفس يُثبت ذلك. كما أنّه يثبت كيف أنّ الطّفل يفرح لتمكنّه من القيام بما يقوم به “الكبار”. وهاتان هما النّقطتان اللتان أشار إليهما أرسطو في دفاعه عن طرحه المُحاكاة. ولكن عندما يخرج التماهي عن هذا الإطار التّعلمي الضّيّق (تجدر الإشارة إلى أنّ التّعلّم حتى وإن بدأ بنوع من التّماهي، فهو لا ينحصر به)، فهل هو سليم لصحّة الإنسان الفكريّة والنّفسِيّة؟ أم أنّه يولِّد، بدل المشاعر التي يؤدّي إلى التّطهّر منها (إن كان فعلًا يؤدّي هذه المهمّة)، إلى مشاكل أكبر كإلغاء الفرادة، والتقليل من إمكانيّة الإبداع… فينحصر الإنسان بالتّقليد وباتباع أنماط أسسها المجتمع أو السلطة أو الغير…، بما قد ينسجم ويناسب حياته وتطوره أو لا يناسبها، وبما يؤثر بالتالي في كيفية تطور المجتمع الذي ينتمي إليه؟
يضع أرسطو لحصول المحاكاة تَصوّرًا شَرطيًّا على الشّخصيّات فعليها أن تكون إمّا مشابهة للإنسان العادي وإمّا أفضل منه وبتعبير أرسطو: “التراجيديا هي محاكاة لشخصيّات أفضل من الإنسان العادي” (Aristotle، 1920، صفحة 57). وهذه الشَّرطيّة تؤدّي إلى تماهي المُشاهد بالشّخصيّة وتوحّده معها، إمّا لأنّها تشبهه، وإمّا لأنّها تشبه ما يصبو إليه – خصوصًا وأنّ مُشاهِد أرسطو هو، بشكل أساسي، الرّجل الأثينيّ الحرّ. بالإضافة إلى أنّ “طبيعة الإنسان المُحاكية”([8]) ستدفعه إلى التماهي مع الشّخصيّات التي تقدَّم أمامه (في حال العرض) أو التي يستمع إلى قصّتها([9]) (في حال قراءة التراجيديا – إذ إنّ أرسطو يرغب في أن تولّد الأثر التراجيدي من النص وحده). والتماهي مع الشخصيات يؤسِّس لأنماط سلوك مشابهة لها، إن لم يكن لأيّ سبب آخر فهو بسبب التعلم بواسطة المحاكاة. ويبدو أنّ ستالين عرف هذا السرّ في التماهي جيّدًا حين رفض أن يُقدَّم في روسيا آنذاك أيّ شكل من أشكال الأداء غير الواقعيّ، ما يساهم في تأمين استمرار لأنماط السّلوك والتفكير المشابهة للشخصيات المستقاة من المجتمع المحيط؛ ولعلّ هذا السّبب بالذّات قائم في خلفية رغبة بريخت بالتغريب ليكسر هذا التماهي ويؤسس للتغيير. ففي المحاكاة والتّماهي الحاصل عبرها شكل من أشكال التأسيس لاستمرار نمط، وربما يكون أرسطو هادفًا لاستمرار أنماط تفكير وسلوك ترتبط بالدّين القائم حينها والمسرح دُعم من الدّولة بسبب هذا الارتباط بالذّات، فكانت “نقابات العاملين في المسرح تعدُّ منظمات دينيّة، بما أنّ كل العروض كانت مقدّسة وتكريمًا للآلهة، وكانت تحظى باحترام كبير؛ وكان أعضاء هذه النقابات معفيين من الخدمة العسكريّة ومن دفع الضرائب” (Osnes, 2001, p. 105). والسعي لاستمرار الأنماط عبر المسرح فيه غسل دماغ، كان ليكون في زمن سابق مساوٍ في قوّته لبروباغاندا عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ اليوم. ولعلّ أخطر ما تؤدّي إليه المُحاكاة هو نوع من غسل الدّماغ الصامت.
- في التطهر
“يعدُّ أرسطو في فنّ الشّعر(1449b) أنّ التطهّر من الرّغبات (وبشكل خاص منها الشّفقة والخوف) يحدث أثناء تولّدهما لدى المُشاهِد الذي يتماهى مع البطل التّراجيدي” (Pavis، 2002). ويشكل قول بافيس خلاصة القناعة التي قال بها أرسطو الذي عدَّ أنّ المحاكاة التي تراعي شروط بناء التراجيديا الجيدة تنتهي بأن تنتج تطهرًا.
نستنتج إذًا؛ أنّه لإحداث التطهّر، على التراجيديا أن تثير الشّفقة والخوف. و”إثارة الشّفقة تتمّ عبر حادثة تحصل بسبب حظٍّ ونصيبٍ بائسٍ عن غير استحقاق؛ أمّا الخوف فيُثار لأنّ مَن يلقى هذا المصير يشبهنا([10])” (Aristotle، 1920، صفحة 50). أيّ أنّه يجب على الشّخصيّة التراجيديّة التي يتماهى معها المُشاهِد أن تلقى مصيرًا واحدًا مُحدّدًا مُلزِمًا: نهاية سيّئة قعر السّوء، تحمل معها الألم والتّعاسة… في موقع لا عودة منه، و”عن غير استحقاق”.
وعليه، إن كان الخوف يتولَّد من مشابهتنا للشخصيّة، تصبح دعوة أرسطو أن يعيش الإنسان حالة خوف (الخوف من أن يعاني مصيراً مُشابهاً لمصير الشّخصيّة)، ويمتنع، وبسبب خوفه، عن القيام بالسّوء، فيكون في ذلك تطهّر برأيه. إنّما، إن كان الهدف من التطهّر هو خير الإنسان، فهل أنّ الإنسان الذي يمتنع عن الفعل خوفًا من القصاص يصبح إنسانًا خَيِّرًا ؟! وهل هذا الخوف يطهّر الإنسان من الرّغبة النهائية في فعل الشرّ؟! وإن بقيت الرّغبة وقُمِعَ الفعل، فلا نعتقد أنّ في ذلك تطهُّراً، لأنّه بمجرّد غياب أو انخفاض القوّة الضّاغِطة (التي هي الخوف) قد يبتعد المتلقي عن التطهر المُفتَرَض ويعود إلى طبيعته، إذًا التطهّر لَم يحصل، وإن حصل فما هو بنهائي. أمّا إن كانت الرّغبة في تطهُّر المُشاهِد من شعور الخوف، فهل أنّ تولّد هذا الشّعور لديه أثناء قراءة أو مشاهدة التّراجيديا، سيطهّره منه مانعًا إيّاه من الظهور مُجدّدًا؟! (الأمر نفسه ينطبق على الشّفقة أيضًا، إذ لا يكفي أن يُشفق الإنسان مرّة لكي يتطهّر من الشّعور بأمر يثير الشفقة). وحتى إن وُلِد هذا الشّعور ومنع من الانتقال إلى الفعل، فهل أنّ ذلك الشعور بالخوف صحّي للإنسان؟!
نتوقّف عند كون أرسطو يرى في “تحوّل مصير شخص جيّد من السّعادة إلى البؤس” (Aristotle، 1920، صفحة 50) الصّيغة المُثلى لحبكة التراجيديا، وعند رغبته بأن تلقى الشّخصيّة “الأفضل من الإنسان العادي” (والتي يريد للمُشاهِد التماهي معها) مصيرها هذا “عن غير استحقاق”، وأن يكون مضمون التراجيديا، واستهدافها ومأسويتها، ذا طابعٍ عالمي. فهل أنّ العالمي هو هذا المصير المُحتَّم للإنسان الجيد؟ وما الرّسالة التي ستصل المُشاهِد (لأنّه إن لَم تكن من رسالة هُنا، ورسالة تنضوي على مصير سيّئ، فلن يكون من خوف لدى المُشاهِد وإن تماهى مع الشّخصيّة)؟ أهي أن يؤمن النّاس بأنّ مصيرهم سيكون حُكمًا مصيرًا سيّئًا، تَعِسًا، مليئًا بالآلام إن كانوا خيّرين؟ وأنّ لا طاقة لهم ولا سبيل أصلًا إلى إيجاد مخارج وحلول – لأنّ مصيرهم مرسوم، ومُقدَّر سلفًا؟ وأنّ لا فائدة من أن يكونوا أخيارًا؟… فإن كانت هذه هي الرّسالة التي ينبغي أن تتحوّل إلى قناعة لدى المُتفرِّج، فهي لا تطهّره إلاّ من حسِّ الثورة والرّغبة بالتّغيير (خاصّة عندما ترتبط بالخوف)، وتمنع عنه حرّيّته (في الاختيار)، وتدعوه إلى التّوقّف عن التّفكير (النّقدي) – وعن التّشكيك بِحُكم الآلهة، وربّما بحكم السُّلطة – وتحرمه من التّغيير… وكلّ تلك تشكّل حواجز أمام تطوّره، تجرّ به إلى حالة من الاستسلام، بدل أن تكون عوامل مُطهِّرة له.
هذه الرّسالة تدفع أيضًا إلى السّؤال إن كان أرسطو يعتقد فعلًا بالقدريّة (أو بحكم الآلهة المُطلَق)، ولكنّ ذلك جدل آخر([11]). إنّما إن وُجِد هذا المُعتقد في الخلفيّة الأرسطويّة، فهو يحمل معه حِملا دينيًّا ثقيلًا، ويعكس صورة الآلهة (اليونانيّة) وعلاقة الإنسان بتلك الآلهة، ويترك أثرًا لا يجوز إغفاله على التّركيبة التّراجيديّة، وعلى الهدف والنتيجة الصّادران عنها. وفي هذه الحال، تتحوّل التّراجيديا إلى نوع من المسرح الدّينيّ الذي يدعو (بتأويل محتمل) إلى الخضوع لحكم الآلهة والقدر؛ فيصبح مسرحًا وظيفيًّا تبعيًّا يخدم أهداف مموليه (ولعلّ هذا الجانب لطالما رافق المسرح وما زال، وما زال أيضًا يطرح إشكاليات عدّة بينها تأثير السياسية والمال على الفن، التّبعيّة الفنية للسلطة، حدّ الحرية الإبداعيّة للفنان من الممولين…). وحتى خارج الإطار الدّينيّ المُفتَرَض، فالرّسالة التّربويّة، أو الرّسالة المسرحيّة تنضوي على دعوة إلى الاستسلام والخنوع والقبول بالوضع القائم والرّضوخ له (مهما كانت ظروف ومُسبِّبات هذا الوضع) وإلا فالمصير هو كمصير البطل المأسويّ: الموت عن غير استحقاق. وأجد في مسرحيّة “الذباب” لسارتر ردّاً على هذه النقّطة بالذات في الطرح الأرسطوي. فلو أراد سارتر لاستطاع حمل فكرته في قالبٍ لا يشبه القالب اليوناني الأرسطوي للمسرح. ولكنّ الرّفض والثّورة على الإله اللّذين يحمّلهما سارتر للبطل، بحثًا عن حرّيّته، يعكسان – ضمن ما يعكسان – شكلًا آخر من “التّطهّر”، شكلًا أقرب إلى التّطهّر الفعليّ ممّا هو التّطهّر بالمعنى الأرسطوي. ففي ثورته، يتطهّر (وتَطَهَّرَ من الشّيء: أي بَرِء منه) أورست (بطل سارتر) حين يتمكّن من الخروج من حالة البؤس السّائدة بسبب الإيمان وتبعيّة الإله العمياء والمُعطِّلة للفكر الإنسانيّ ولحريّة الاختيار. وفي ذلك دعوة إلى وضع المُسلَّم به (وهو في هذه الحال الإيمان) الذي يعطي السُّلطة لحاملها (شخصيّة الإله في الذباب) قيد التقييم وإعادة النظّر وإعادة القراءة، ويمكنني القول، إلى وضعه جانبًا، ليكون الإنسان حرًّا. وفي المسيرة المؤدّية إلى الحرّيّة عمليّة تطهّر، لأنّ الإنسان يبرأ من كل ما يعيق حريّته، ويصبح بذاته مسؤولًا عن خياراته ومصيره (ما يصبّ في صلب طروحات الوجودية التي كان سارتر من أبرز وجوهها). أمّا من حيث المُحاكاة، فاختيار بطل يوناني معروف كأورست (الذي يُحاكي الشّخصيّة التراجيديّة بالمفهوم الأرسطوي)، واستخدام التركيبة اليونانيّة في بناء المسرحيّة يسمحان لسارتر بخلق قالب يشبه القالب الذي يدعو أرسطو إليه ما يسمح للمُشاهِد بالتّماهي مع البطل، إلى أن يصل إلى النّقطة الأخيرة من المسرحيّة حيث يكون مصير الأخت، الذي يشبه المصير التّراجيدي التّقليدي، معاكسًا لمصير أورست؛ ويكون سؤال عند المُشاهِد قد يؤدّي في هكذا حال إلى رفض الخضوع الأعمى والقبول بالألم والأسى، وفي رفض الخضوع هذا تطهّر مُحرِّر، وهو باعتقادي، أكثر تطهيرًا مِمّا يكون في نقل مصير البطل التراجيديّ الأرسطويّ إلى حياة المشاهدين.
الصّيغة التي طرحها أرسطو تتضمّن احتمال تأويل، مرفوض منا عندما يمكن الاستخلاص من التراجيديا أن لا فائدة للمشاهدين من أن يكونوا أخيارًا، وأن يسعوا إلى تطوير أنفسهم (أيّ أن يسعوا إلى “الصّورة المُحسَّنة عن الإنسان العاديّ” التي يطلب أرسطو تقديمها في التراجيديا) لأنّ النهاية واحدة: مصيرهم سيكون غاية في السّوء وسيكون الثمن باهظًا. فـ”النّوع الوسط من الرّجال” (الذي هو بين الرّجل الجيّد والرّجل الشّديد السّوء، وهو الذي يُحاكي الإنسان العادي)، الذي “ليس أصلاً صاحب عيب (أو عيوب)، يلقى (هو أيضًا) مصيرًا سيّئًا، لا بسبب عيب ولا لأنّه فاسد، إنّما لسوء تقدير منه” (Aristotle، 1920، صفحة 50). وأعتقد أنّ النّوع الجيّد من الرّجال أيضًا قد يقوم بسوء تقدير؛ إلا إنْ كان “جيّدًا” من الرّجال فقط مَنْ كان منهم مَعصومًا عن الخطأ، عندها يكون هذا النّوع افتراضيًّا، ولا يتمكّن المُشاهِد من التماهي معه. إذن يكفي سوء تقدير واحد (قد يكون كما في حال أوديب – الذي يُقدِّمه أرسطو كمثل لشرح هذه الحالة – غير ممكن تجنّبه لنقص في المُعطيات، أي لأسباب خارجة عن إرادته) وإن كان خارجًا عن إرادة الشّخصيّة ورغبتها، ليؤدّي إلى ذلك المصير، ما يجعل هذا المصير شبه حتمي لجميع النّاس. وفي هذه المُقاربة تماس مع بعض المضامين العبثيّة لكُتّاب الخمسينات في أوروبا، من حيث عبثيّة التّطوّر والاستسلام المؤدّي إلى حالة من الاستنقاع، وفي الاستنقاع هذا موت للإنسان وتشجيع لحالة “القطعان”([12]). وهي بذلك تنتزع من الإنسان الدافع نحو التطوّر، والحافز لاختيار الكينونة الخيّرة بما تحتاج هذه الكينونة إلى مجهود دائم لتقديم القيم الخيّرة على النزعات الذاتيّة التي لا تلحظ سوى حاجاتها ورغباتها من دون اعتبارات أُخرى.
كما تنضوي رسالة التراجيديا على القول بانعدام الأمان: فلا أمان في الحياة، ولا أمان للنّاس، خاصّة للأقربين إذ إنّ الأحداث المأسويّة غالبًا ما تتأتّى من العائلة أو الأصدقاء ما يجعلهم أعداء بامتياز. “في هكذا نوع من الفعل (أي عندما يكون الفعل تراجيديًّا) على الأفرقاء (أي الفاعل والمفعول به) أن يكونوا إمّا أصدقاء أو أعداء أو أنّهم لا يمتّون بِصِلة لبعضهم البعض. (…) عندما يكون فاعل الفعل التّراجيدي من العائلة – أيّ عندما يقوم بالتّخطيط لاغتيالٍ أو ما شابه أخٌ لأخٍ، أبُ لابن، أمٌّ لابن، أو ابن لأمّ – فتلك هي الأحداث التي يجب أن يسعى الشّاعر إليها.” (Aristotle، 1920، صفحة 53) (لا يعود أرسطو لتفصيل الشّرح على الأصدقاء كما فصّله للأقرباء، بينما يفصّل الشّرح عن الأعداء والغرباء، والأرجح لأنّه يعتبر الأصدقاء في نفس منزلة الأقرباء). إذًا؛ إن رأى المُشاهِد أن أسوأ السّيّئات تأتي من أقرب النّاس – أهل وأصدقاء-، ولوجود التّماهي (أو حتى لمجرّد إعمال الاستنتاج المنطقي)، سيتولد عنده شكٌّ في الأقربين وفي مَن يحاول الاقتراب منه، فيصبح في حالة عدم أمان لأنّ كلّ إنسان بالمطلَق يصبح مُرشَّحًا مُحتملًا لأذيّته، فيبات في قلق دائم (بما يشبه حالة الوسواس المرضي بحسب علم النّفس الحديث). وحال عدم الأمان تلك تولِّد بدروها، حالًا من عدم الاستقرار، فيصبح الإنسان في حال دفاعٍ مُستمِرٍّ، ما يجعل أفعاله وردود فعله ذات طابع هجوميّ عدائي أو أقلّه ذات صبغة عنيفة… إضافة إلى ذلك، فإنّ النّظرة السّوداويّة وانعدام الأمان مُجتَمعين ينحوان نحو هدم الوحدات الاجتماعيّة بدءًا من أصغرها – أيّ العائلة – وانتهاء بالمؤسّسات والمجتمع بشكل عام وبالدّولة أيضًا. وهذه النتيجة المُحتمَلة للشفقة والخوف بحسب التعريف الأرسطوي لهما أو بالحريّ بحسب الشّروط التي يضعها لتولّدهما، لا تقتصر فقط على كونها لا تحمل تطهّرًا جذريًّا، إنما بالعكس فهي تنضوي على احتمالات نتائجها وخيمة.
من ناحية أخرى، فإنّ كلمة تطهّر تأتي من فعل ينتهي إلى الطُّهر، والطهر هو التبرّؤ من السّوء (العيوب وكلّ ما هو دوني وحيواني في الإنسان) للسّمو نحو حال صفاءٍ([13]) تقترب بالإنسان أكثر من إنسانه (أو من الصّورة المُطلَقة التي يرسمها للَّه). ولا يمكن أن ننفي بالطبع فعل التطهّر الممكن بالمشهديات لدى البعض، ولكننا نتوقف لدى الكلام على المحاكاة عند مسارات تعطي نتائج معاكسة للتطهّر. فنقدّم أمثلة معاصرة عن فعل مشهديّاتٍ تنسجم مع طرح أرسطو لجهة تحقيق فعل المُحاكاة والإقناع ولجهة استيفائها للشروط التي تولّد الخوف والشّفقة، ولمواصفات الشّخصية من حيث هي تُحاكي الإنسان العادي، وتسهّل التّماهي معه، ومن حيث تركيب الحبكة؛ ونختار هذه الأمثلة من الدّراما التلفزيونيّة والأعمال السينمائيّة التي تعرض على التلفزيون والتي هي امتداد معاصر حتمي للعمل المسرحيّ. فالعديد من الأحداث التي نراها اليوم في العالم تسبّبها المحاكاة المُقنِعة([14]) لأفعال تنضوي على أفعالٍ تراجيديّة كالتي يطلبها أرسطو (وإن لَم تنحصر تلك الأفعال بالعائلة أو الأصدقاء): تقدِّم شاشات التلفزة والسينما اليوم مشاهد عنف تحاكي الحقيقة بشكل كبير، وهي تتصِّف بقدرة كبيرة على تلقيها وكأنّه حقيقية وتقوم بالإقناع، وتحقق التماهي مع البطل، ونلحظ كنتيجة مباشرة لهذه الأعمال عمليّة مُعاكسة للتّطهّر في النّفوس، فنشهد ازديادًا في أعداد الذي يقومون بأعمال عنف، فبتنا مثلًا نسمع عن العديد من الأطفال الذين يقومون بإطلاق نار في مدارسهم أو نقرأ دراسات تبيّن انخفاض السنّ التي يبدأ فيها الأطفال بسلوك عنفي غير قانونيّ، أو أنّنا نلاحظ نتيجة مُعاكسة أيضًا للتطهر إذ أنّ أناسًا أمام أخبار العنف الحقيقيّ التي يسمعون بها، يتصرّفون كما لو كانت مشاهد دراميّة، غير حقيقيّة فيخسرون بذلك الحسّ الإنسانيّ لديهم (وتبطل في هذه الحال الشّفقة والخوف، ويبطل مفعولهما المُفتَرَض). وهذا ما يؤكده مجموع خمسة عشر عامًا من “النتائج المقلقة” لدراسات في علم النّفس قامَت بتقييم آثار مشاهدة العنف على التلفاز على مواقف وقيم وسلوكيات المشاهدين، فخلصت إلى أنّ “الأطفال يصبحون أقلّ حساسيّة لآلام ومعاناة الآخرين، ويزداد خوفهم من العالم حولهم، ويصبحون أكثر قابليّة للتّصرف بشكل عنيف ومؤذٍ للآخرين”؛ وتضيف نتائج أبحاث مكمّلة إلى أنّ مشاهدات العنف “هي سبب أكثر مما هي نتيجة للسلوك العدائيّ”، خصوصًا أنّها “تزيل حساسيّة الأفراد تجاه العنف في العالم الحقيقيّ، حتى أنّ البعض ينتقل إلى درجة الاستمتاع بمشاهدة العنف بدلاً من الشّعور بالقلق الذي يكون متوقعًا في هكذا حالة” (APA, 2013). في هذه الحالة لا يحدث تطهّر، بل عكسه تمامًا. ما إشارتي إلى تلك النّتائج إلا لتبيان المفعول الممكن والمُعاكس للتطهّر الذي قد تؤول إليه الأمور إن أصبحت المُحاكاة كما أرادها أرسطو، وعن المفعول الذي يمكن لها أن تؤدي إليه كأن تولِّد رغبة في الفعل العنيف بدلًا من التّطهر منه أو أن تولِّد ردود أفعال وقيم وسلوكيات مضادة للتطهر عبر مشاهدة مصير البطل الأرسطيّ. الأمر الذي يطرح تساؤلات أخلاقيّة وتساؤلات في الصحة العامة حول التأثيرات الكبيرة لنظريّة أرسطو في أيّامنا هذه، بشكل خاص في ما ارتبط بمحاكاة الشخص الطبيعي وأفعاله ونتيجته المعاكسة للتطهر، سواء على مستوى الوسيط الفني (تلفاز، سينما، الميديا الحديثة…) أو على مستوى تقنيّات الأداء التي تدعو لمحاكاة الشّخص الواقعي مثل تقنيّات ستانيسلافسكي([15]) وأتباعها (actor studio، لي ستارسبورغ… وغيرهما).
- في الشفقة والخوف
بما أنّ التّراجيديا “تثير الشفقة والخوف لتُطَهِّر منهما” (Aristotle، 1920، صفحة 35) فهي إذًا تهدف إلى التّطهّر من هذين الشعورين المُحدّدين. وذلك غالبًا لأنّهما يشكّلان عائقًا أمام خير الإنسان؛ فلو كانا يحملان صفة إيجابيّة وكانا يتمكّنان من أن يجعلاه “رجلًا جيّدًا”، لما أراد أرسطو له (للإنسان) التّطهّر منهما، ولما كان ليستخدم فعل “التطهّر”. ولكن لِمَ تحديدًا الشّعور بالشّفقة والشّعور بالخوف؟ لِمَ هذان الشّعوران من بين مجموعة المشاعر التي يمكن أن تشكِّل إعاقة لجودة حياة الإنسان ولتطوّره وخيره وسموّه؟ وإن كانت التراجيديا ذات طابع عالميّ، فكيف يحصرها بهما؟ ولِمَ أراد أرسطو التطهّر من المشاعر وليس من الرّغبات، على الرّغم من أنّه يُعِدُّ أنّ “الرّغبة هي الدّافع الوحيد إلى الفعل” (Aristote, 1965, pp. 432 b 26 – 433 a 6)؟
يرتبط الفعل التّراجيديّ بالقتل بشكل رئيس وتندر أفعال “تراجيديّة” أُخرى كسفاح القربى والاستحواذ على ممتلكات الغير والاحتيال… فلا نجد تراجيديا تكون الحبكة فيها قائمة على الاحتيال مثلاً، أو على السّرقة، أو سواهما. فيبدو كما لو أنّه لا بدّ للتّراجيديا من أن تحتوي على فعل قتل: “عندما يكون فاعل الفعل التّراجيديّ من العائلة – أي عندما يقوم بالتّخطيط لاغتيال أو ما شابه” (Aristotle، 1920، صفحة 53). وكلّ هذه أفعال لا خير للإنسان (فاعلها) فيها، ولكنّها لا تظهر، لا هي ولا الرّغبات الدّافعة إليها كموضوع (أو أمر) يجب التّطهّر منه. فأرسطو يشدّد على التطهّر من الشّعور وليس من الرّغبة المؤدّية إلى الأفعال التّراجيديّة، إلا إن كان يساوي ما بين الشّعور بالخوف أو الشّعور بالشّفقة والرّغبة. ربّما يعدُّ أن الإنسان إن خاف من أن يلقى نفس مصير البطل لو أتمّ الفعل لمَنَعَ الشّعورُ الرّغبةَ في الفعل (وفي هذه الحال لا يكون التطهّر فعليّاً لأنّه نتيجة خوف). ولكن إن تطهّر المُشاهِد من الشّعور بالخوف يزول هذا الشّعور، وتبقى عندها الرّغبة في الفعل. وربّما لَم يميّز أرسطو بين الرّغبة المؤدّية إلى الفعل لدى الشّخصيّة والرّغبة المؤدّية إلى الفعل لدى المُشاهِد، فأراد له أن يتطهّر من الشّعور بالخوف والشّفقة بالمطلَق. وربّما تغييب هذه الرّغبات كائن لأنّ الأفعال التي تؤدّي إليها غير مرفوضة بذاتها. أو ربما لاعتباره أن لا مجال للتطهّر منها في التّراجيديا، وأنّ هذا التطهّر سيحصل في مكان آخر، بطريقة أُخرى (بيد أنّ الخبرات المتراكِمَة حتى يومنا تظهر أنّ لدى للمسرح إمكانيّة تناول كلّ ما يرتبط بالإنسان كموضوع له).
أمّا من حيث اختيار هذين الشّعورين (أي الشفقة والخوف)، فلعلّ أرسطو عدُّ، ولكون كتابه أتى بشكل دلالاتي (inductif) (وهو أمر يمكن ملاحظته أثناء قراءة الكتاب، بشكل خاصٍّ من خلال الأمثلة وربطها بالقواعد)، أنّ التّراجيديا تؤدّي إلى التطهّر من هذين الشّعورين لأنّه لاحظ هذا التّطهّر لديه شخصيًّا أو لدى بعض الآخرين (وهو أمر نستبعده للأسباب التي ذكرنا سابقًا). ولعلّه عدَّ أنّ شعور الإنسان بالشّفقة أو بالخوف يُخفضه إلى مراتب دُنيا (في نظر أرسطو وربّما مجتمعه أيضاً). أو عدَّ أنه يُقدِّم عبر التراجيديا الدروس التّطبيقيّة في الأخلاق، فهو على مثال سقراط وأفلاطون يعتقد أن الفضائل هي أساس الحياة الجيدة، وأنه لا بُد من تعلم المهارات الاجتماعيّة والعاطفيّة بالممارسة لتوضع الأخلاق في خدمة جودة حياة الإنسان؛ وأيّ سبيل بنظر أرسطو أفضل من محاكاة القارئ والمشاهِد لما يراه في التراجيديا لتعلم ممارسة هذه الفضائل! من ناحية أُخرى، إنْ كان أرسطو يرغب بتطهّر الإنسان من الخوف لأنّه قد يدفع به إلى أفعال تقلّل من سموّه ومن جودة حياته، أو لأنّه قد يشكل عائقًا أمام أفعال بنّاءة (وليس لدينا ما يؤكد بأن أرسطو هدف إلى ذلك، لكون هذه الفكرة أكثر ارتباطاً بعلم النّفس الحديث)، فذلك أمر مُبرَّر. ولكن ما الضّير في أن يشعر الإنسان بالشّفقة؟ وما الغاية التي تُوجِب على الإنسان التّطهّر منها وتدفع أرسطو إلى إعطاء الأوّلوية إلى التطهّر منها على التّطهّر من مشاعر ورغبات أُخرى (وبالتالي من أفعال أُخرى) أكثر إساءة وضررًا إلى الإنسان من الشّفقة. فالشّفقة هي “الرّحمة والحنان” (مجمع اللغة العربية، 2004)، أيّ هي شعور متعاطف يولِّد الرّغبة في المُساعدة أو الإحسان. هكذا تعريف قد ينسب إلى الشّفقة جانبًا من الكبرياء (بالمعنى السّلبي للكلمة)، ولكنّ أرسطو الذي يُعدُّ العبيد هُم مجرد ممتلكات (Pol. 1.5 1254a13-18)، وغير الإغريق مساوين للعبيد (Pol. 1.2 1252b4-1252b8)، والنّساء أدنى قيمة من الرّجال (Pol. 1.13 1260a10-14) لا يُمانع برأيي في أن يشعر الإنسان بهذا النّوع من الكبرياء وهو لا يبغي بالتّالي التّطهّر منه (خاصّة لدى الرّجال الأحرار وهو في كتابه يتوجّه إليهم أوّلًا). أمّا الوجه الآخر الذي يبيّنه تعريف الشّفقة، فهو الرّحمة والحنان اللذان سيولِّدان الرّغبة في المُساعدة، وتلك رغبة ذات قيمة إيجابيّة في ذاتها ولا أرى داعيًا إلى التّخلّص منها. فلا أعرف بالتالي ما هو هدف أرسطو من أن يضع هكذا شرط للتراجيديا (هو شرط لأنّه يربط تراجيديّة الفعل به، فالفعل التراجيدي يجب أن يولِّد الشفقة)؟ وكيف يربط متعة المُتلقّي بهذا الشرط خاصّة وأنّ لا تأثير له (إنّه لا يستمتع بالمساعدة فهو عاجز عن تقديمها وإن رغب في ذلك)؟
إنّ أرسطو يرفض تَولّد المشاعر الإنسانيّة لدى المتلقّي، ففي كلامه على “العقد التي يجب تجنّبها” يبرّر إحداها بـ”أنّ حبكة كهذه يمكن أن تولِّد مشاعر إنسانيّة فينا، لكنّها لن تثير لا الشّفقة ولا الخوف” (Aristotle، 1920، صفحة 50). ألا يمكن أن نعدُّ بناء على ذلك أنّ المشاعر الوحيدة المَطلوب تحريكها لدى المُشاهِد في طرح أرسطو، هي الشّفقة والخوف، فتبدو المشاعر الإنسانيّة وكأنّها مَرفوضَة في التّراجيديا؟! ما المقصود بالمشاعر الإنسانيّة؟ فإن كانت المشاعر الإنسانيّة تعني التّعاطف (compassion)([16])، ففي التّماهي مع البطل ومُعايشة خبرته تعاطف معه، وفي الشّفقة ذاتها تعاطف لا مفرّ منه. وإن كانت المشاعر الإنسانيّة تتخطى ذلك لتشمل مختلف المشاعر التي يشعر بها الإنسان من حبّ، وكره، وحسد، وشهوة، وفرح، وانقباض… ألا يمكن أن نرد مسببات الفعل التراجيديّ إلى تلك المشاعر الإنسانيّة في هكذا حال، فيدخل أرسطو في مناقضة نفسه في قبول النتيجة ورفض المسبب؟! ومن ثمّ ما المانع من الشّعور الإنسانيّ؟ فإن كان هذا الشّعور سلبيًّا، تكون التراجيديا، ضمن المنطق الذي يطرحه أرسطو، فرصة للمتفرّج ليتطهّر من الشّعور السّلبي (لأنّ غيره يُتمّ عنه الفعل السيء الذي يرغب في أن يقوم به فيشعر بإشباع لحاجته – بالانتقام مثلًا في حال شعوره بالكره)؛ فالحسد والكره وما إلى ذلك من المشاعر أكثر إعاقة لتطوّر الإنسان من الخوف والشّفقة، وإن كان لا بدّ من تطهّر فيجب أن يكون من تلك. أمّا إن كان الشّعور إيجابيًّا، فذلك أيضًا يخدم أهداف أرسطو الذي في دفاعه عن المُحاكاة كأساس لفن الشّعر يعدُّ أنّها تُعلِّم (وهذه طبيعة إنسانيّة) وتحقّق المتعة بذلك، فالمتعة المتأتّية من التعلّم تسمح بتثبيت مضمون التعلُّم لدى المُشاهِد-المُتعلِّم، وهذا المضمون في هذه الحال هو إمّا فعل إيجابيّ يولَّد شعورًا إيجابيًّا، أو تفاعل عاطفيّ إيجابيّ إن أدّى إلى فعل سيؤدّي حُكمًا إلى فعلٍ إيجابيّ. وهذا المنظار يلتقي مع طرح أفلاطون القائل إنّه إن استخدمَت المحاكاة للتعليم، فيجب أن تتم فقط محاكاة الفضائل “فلا نحفظ في دولتنا إلا الشّعراء الذين يلتزمون بمحاكاة الخير” دون سواه (Platon, p. 398 b)، بما يقترح ضمنًا أن محاكاة الفضائل تعلّم المشاهدين أو القارئين فعل الفضائل (بالطبع لا نقترح تبنّي بناء العمل المسرحي على محاكاة الفضائل فقط، لكن ضمن التساؤل الذي نسعى للإجابة عليه، يقدّم أفلاطون جوابًا متحملًا لنتائج تحريك مشاعر إيجابية). وبما أنّ أرسطو يبغي الخير للإنسان – ولذلك يريد تطهيره، فلِمَ يُمانع أن يتعلّم من المشاعر الحسنة ومن الأفعال التي تأتي بها أو تتأتّى عنها (مع العلم أن ذلك يمكن أن يحدث دون أن ينتقص من تراجيديّة الفعل)؟
- المحاكاة والتطهر وعلاقتهما بشروط التراجيديا الأُخرى
نرى على قدر من الأهمية طرح السؤال: ما علاقة الطبقيّة بالتطهر في فنّ الشعر؟ فقد قال أرسطو إنّ الهدف من الشّعر هو إبراز “الأفعال المُحتَملَة أو الممكنة لهذا أو ذاك النّوع من الرّجال” (Aristotle، 1920، صفحة 48) (وهو يقصد في قوله الأفعال ذات الطابع التراجيدي، لأنّ أرسطو وفي أكثر من مكان يرفض هذا أو ذاك من الأفعال – أو الحبكات – لأنّه “يثير المشاعر الإنسانيّة”، أو لأنّه “شنيع” أو لأنّه “غير تراجيدي”). إذً؛ إن أخذنا مَثَل عائلة يرغب الأب فيها بقتل ابنه، وهذا فعل تراجيديّ (أيضًا بحسب التّصنيف الأرسطويّ)، وإن كان هذا الرّجل هو دون مستوى الرّجل العادي من حيث كونه عبدًا (وهو حينها “دون أيّة قيمة على الإطلاق” (Aristotle، 1920، صفحة 55)، وأراد لسبب يشبه أيّ سبب يقبل به أرسطو في حال رجل حرّ، أن يقتل ابنه، فهل ينتفي عن الفعل القائم صفة التراجيدي؟ من الملاحظ أن أرسطو لا يعترف بقتل أب من هذه الفئة من الرجال لابنه كفعل قادر على تحقيق التطهّر. إنما إنّ قتل الملك ابنه، فتلك شخصية وذاك فعل يليقان بالتراجيديا، وفي هكذا حال يصلح الفعل لإحداث التّطهر. إنّنا نرى في رفض اعتبار العبد الذي يقتل ابنه شخصيّة لائقة بالتّراجيديا (خلافًا لحال ملك يقتل ابنه)، تفكيرًا طبقيًّا يبني عليه أرسطو ليعدَّ أنّ شخصية من غير الأبطال الذين يريدهم لا تستحق أو لا تمكّن أو لا يصحّ التماهي معها، وبعدم التماهي لا تحقِّق التطهّر. وهو بذلك يُغفِل بُعدًا إنسانيًّا أساسيًّا يقوم عليه التواصل العاطفيّ بين البشر وتأثير بعضهم على الآخر، بُعد يتخطى الفوارق الاجتماعيّة والطبقيّة والماليّة والجندريّة والعرقيّة وسواها ليضع الناس على تواصل عميق في ما بينهم. ما يطرح استفهامًا منطلقًا من التفكير التعصبيّ في خلفية طرح أرسطو المرتبط بالشّخصيات: أيريد أرسطو للرجل من الطبقة العُليا (تحديدًا الرجل الأثيني الحُرّ) أن يتطهر من الخوف والشفقة ليتمكّن من متابعة إظهار الازدراء واللامبالاة تجاه مَن هُم أدنى منه؟ فإنّ وضع الشاعر مضمونًا مشابهًا لمثل العبد الذي قدمناه، فهو يكسر شروط أرسطو تجاه نوعية الشّخصيات بأصلها وانعكاسها الطبقيّ، لكنه لا يغفل عن مقومات فنّ الشّعر الأُخرى، ما سيسمح لو تم تبنيه بمطواعية في المضمون حتى لو رغبنا في الالتزام بشروط أرسطو الأُخرى كافة، وهو برأينا بفعل مضمونه الإنسانيّ المشابه سيحقق المحاكاة والتّماهي ونتائجهما (أقلّه لدى مُشاهِد من غير معاصريّ أرسطو الذين قد لا يتماهون بالفعل مع العبد بسبب العصبيّة السائدة في حينه والتي هي حالة مجتمعيّة كانت قائمة في حينه ولا ينفرد أرسطو شخصياً بها). من حيث الهدف من التراجيديا، فهو يتحقّق في حالة العبد أيضًا لأنّها تعكس الأفعال المُحتَمَلة لنوع مُعيَّن من الرّجال (وهي بذلك تحاكي فعلًا عالميًّا). أمّا من حيث شروط الحبكة المُثلى وشروط الشّخصيّة المثُلى، فهي لا تنطبق على هذا المثل، وهو لا يشكّل تراجيديا مَقبولة بالنسبة إلى أرسطو، وذلك على الرغم من كون الهدف، وبحسب أرسطو نفسه، هو أكثر الأمور أهمّيّة. هذا التّضاد يدفعنا إلى التساؤل بما يجب أن نقتنع (خاصّة بما أن أرسطو يقدّم الإقناع على محاكاة الممكن، إذًا على الواقع)، أو ما يجب أن نتبنّى من الطّرح الأرسطوي؟ أنعطي الأولويّة للحالة العالميّة أم للتطهّر؟
من جهة أُخرى، إن جُعِل العبد بطل التراجيديا لا يجب أن يمنع ذلك حصول التّماهي، أو من تولُّد الشفقة والخوف، وبالتالي التّطهّر (إن كان من إمكانيّة له) على الرّغم من كون هذا النّموذج من الرجال لا يُشكِّل مثالًا (archetype) عن الرّجل العاديّ (أو العاديّ المُحسَّن) الذي يريده أرسطو، إذ إنّ تاريخ النّصوص (خاصّة وأنّ أرسطو تكلّم عن شرط حدوث الأثر التّراجيديّ بواسطة النصّ دون العرض) والعروض المسرحيّة حتى يومنا الحاضر يحملان الكثير من الأمثلة التي تُبرز هذه الإمكانيّة. فكم من مرّة تماهى الجمهور مع سارق أو قاتل وشعر بفرح لخلاصه أو بحزن لسجنه، كم من مرّة شعر المُشاهِد بالشّفقة والرّثاء لحال هذا النّوع من الشّخصيّات، أو شعر بالخوف عليها أو معها… وقد استخدمت هكذا مشهديات برأينا لأغراض سياسيّة وقمعيّة (لكن هذا مبحث آخر). وكم من المَشاهد التي تُحاكي خدمًا أو عبيدًا أو…، وتلك أمور افتراضيّة بالنّسبة إلى المشاهد “العاديّ” اليوم، لا تمنع التّماهي ولا تمنع تولّد الشّعورين المَقصودين والتّطهر بحسب المفهوم الأرسطويّ. وهذه المشاعر تدفعنا إلى السّؤال عن ضرورة الالتزام بالشّروط التي وضعها أرسطو لتحقيق المثال في التّراجيديا. وهنا نسجّل عيبًا على شروط تحقيق المأساة هو التفكير الطبقي وبصمات يتركها على المسرح.
VI. الموقف من الأرسطوية في المسرح: بريخت
نجد لدى العديد من المسرحيّين في القرن العشرين طروحات تبتعد من الطرح الأرسطوي إن من ناحية مفهوم الجميل، أو القواعد الدّراميّة، أو من ناحية الغاية من الفنّ، حتى أنّ بعضها يذهب إلى مناقضته في زمن المسرح ما بعد الأرسطويّ وخاصة في زمن المسرح ما بعد الدّراميّ. بين هؤلاء نتوقّف عند برتولد بريخت الذي “يحدد مسرحه الملحميّ على أنّه ’ضد – ميتافيزيقيّ، ماديّ، ولا أرسطوي. وهو لا يشبه بشيء الطريقة المجانيّة التي يستخدِم بها المسرح الأرسطويّ التعاطف السّلبي للمُشاهِد‘. ويذهب بريخت إلى تعريف ممارسته المسرحيّة الخاصة انطلاقًا من تضادها مع الأرسطوي” (Burns، 1990، صفحة 204).
المسرح عند برخت قائم “بقصد التّرفيه” و”وظيفة التّركيبة المسرحيّة في أعمّ صورها هي أن توفِّر اللذة” (بريخت، صفحة 23). وهو يذهب حتى إلى مقاربة للمسرح الأرسطويّ بما يجعله مرتبطا بالمتعة: “التطهر الذي دعا إليه أرسطو – التطهير عبر الخوف والشفقة، أو من الخوف والشفقة – هو تطهير يحدث ليس فقط بطريقة ممتعة، إنما تحديدًا لأجل المتعة” (Brecht, 1964, p. 181). إذًا؛ إنّ المفارقة الأولى بين بريخت وأرسطو هي تحديد الهدف من المسرح إذ إن بريخت يبغي منه متعة الترفيه واللّذة ويذهب حتى إلى محاولة إسقاط الهدف نفسه على الغاية التي يضعها أرسطو للمسرح، بيد أنّ أرسطو يبغي من المسرح أن يطرح أمرًا فلسفيًّا تعليميًّا يُقصد به خير المشاهِد (عبر إعطاءه أمثولة غير مباشرة – بواسطة الطّرق التي أشرنا إليها سابقًا) وخير المشاهد يعني التّطهر؛ ولعلّ أبرز ما يسجّله بريخت هُنا عدم اعتبار التّطهر كهدف بحد نفسه للمسرح إنّما وسيلة لتحقيق المتعة. يتكلّم أرسطو بدوره على المتعة ولكنّها لديه “متعة الخوف والشّفقة” (Aristotle، 1920، صفحة 53) بهدف توليد التّطهّر، إذًا؛ المتعة بحسب أرسطو ترتبط بالسّعي بالإنسان نحو الخير (كما يُحدّده)، وهي وسيلة وليست هدفًا. ويمكننا أن نتلمّس عند أرسطو استمتاعًا غير مُعلن بشكل واضح في المسرح (نصًّا وعرضًا – وبشكل خاص في العرض)، لكنّه على الرّغم من ذلك لا يضع المتعة شرطًا للمسرح بل يعدَّها نتيجة له، كما هي أيضًا نتيجة للملحمة (ولا نقصد هُنا المسرح الملحمي لبريخت)، ونتيجة للتعلُّم… وعلى الرّغم من أنّ بريخت يجعل من مسرحه مسرحًا تعليميًّا، فهو يحدّد المتعة كهدف أوّل مُعلَن له، ويجعل منها شرطًا مُلزِمًا لأيّة تركيبة مسرحيّة: المسرح “لا يحتاج أكثر من المتعة جوازًا للمرور ولكن لا بدّ أن يكون لديه هذا الجواز. ولن نعطيه أبدًا مكانة أسمى إذا ما حوّلناه إلى متعهِّد لتوريد الأخلاق، بل على العكس يُعرِّضه ذلك إلى الانحطاط، ويحدث ذلك فور فشله في جعل الدّرس الأخلاقيّ ممتعًا – ممتعًا للحواس أيضًا – وهو مبدأ لا يمكن معه للأخلاق إلاّ أنّ تُكتسَب (…) ولا نتطلّب منه درسًا أكثر نفعيّة من كيفيّة التّحرّك بمتعة سواء أكان ذلك في مجال الجسديّ أو الرّوحانيّ” (بريخت، صفحة 180). وإن كان بريخت ينتقد جعل الأخلاق هدفاً للمسرح – كما جعلها أرسطو، فهو لا يُعارض التّعليم والدّرس الأخلاقيّ بالمُطلَق. فبالنسبة إلى بريخت، إن أردت أن تعلِّم بواسطة المسرح، عليك أوّلًا أن تفكِّر بمتعة الحواس (وهذه لا يتكلّم عنها أرسطو مباشرة، لمحاولته تجنّب الكلام على العرض، إنّما يفضل وجود الموسيقى مثلًا وهذه متعة للحواس) أثناء البناء المسرحيّ، ثمّ تفكّر بالدّرس. ولعلّ في ذلك تشابه بين أرسطو وبريخت أكثر ممّا هو تباعد، فالأوّل يريد له أن يكتسب الأخلاق بالمحاكاة والتطهر، في ما يريد الثّاني له أن يكتسب التفكير النقدي والمعرفة العلميّة ولا ينفي اكتساب الأخلاق أيضًا عبر المتعة على ألا يتحول هدف المسرح إلى “توريد الأخلاق”.
تجب الإشارة إلى أن بريخت يلتقي مع أرسطو في عدّة نقاط (وذلك عائد جزئيًّا إلى وحدة الموضوع الذي يبحثان فيه). من تلك النّقاط ألمهمّة القصّة أو الحبكة، فأرسطو يربط التّراجيديا بالقصّة، ويضع الشّروط للحبكة الكاملة، ويجعلها أساسًا لأنّ التّراجيديا تحاكي الفعل، والفعل يتكوّن بطريقة الحبكة. ويعطي بريخت بدوره مكانة أساسيّة للقصّة في المسرح، وفي العرض بشكل خاص (مع بريخت لا فصل بين الكتابة المسرحيّة والعرض المسرحي، فالارتباط بينهما عضوي)، وهو يعِدُّ أنّ “كلّ شيء يتوقّف على القصّة، فهي قلب العرض المسرحي (…) هي أهمّ ما في العمليّة المسرحيّة، بل أنّها العمليّة المسرحيّة نفسها” (بريخت، صفحة 66). كما يتشارك بريخت مع أرسطو إعطاء أهميّة للترابط الدّاخلي، على الرّغم من أنّ هذه المساحة هي عند أرسطو أكبر وأهمّ ممّا هي عند بريخت([17]).
ويلتقي بريخت مع أرسطو أيضًا في ربط المسرح بالحياة فيعدُّ أنّ “المسرح يجب أن يتحول إلى واقع لكي يكون في وضع يسمح بإخراج تمثيلات فعّالة للواقع” (Brecht، 1964، صفحة 186). فإنّ كان أرسطو يفضّل المُرجَّح المُقنِع وإن كان غير ممكن: “بشكل عام، غير الممكن يجب أن يُبرَّر بأسباب فنية، أو لأنّه أفضل، أو لأنّه الرأي الذي تم تلقيه. ففيما خصّ متطلبات الشّعر، ـيُفضَّل غير الممكن المُقنِع على الممكن غير المُقنِع.” (Aristotle، 1920، صفحة 91)، فإنّ بريخت يسعى إلى الحفاظ على الواقعية. فهو حتى في حال التّغريب يشترط الواقعيّة فـــ”الفنّ لا يتحوّل الى اللاواقعيّة حين يغادر الأبعاد والنّسب، إنّما فقط حين يحوّلها بطريقة لو حاول معها الجمهور أخذ تمثيلاتها كدليل عملي لرؤاه ودوافعه سيشرد في الحياة الواقعية” (Brecht، 1964، صفحة 204). بعبارة أُخرى هو يحاول إيضاح أنّ وسائله التغريبية لا تجعل من العرض المسرحي “غير واقعيّ” لأنّ تمثيلات الواقع التي تعرض أمام المُشاهِد تسمح له أن يراها ويأخذها كدليل في الحياة الواقعية. فإنّ بريخت لا يقبل بـ”غير الممكن” الذي يقبل به أرسطو. وذلك غالبًا ما قد يكون بسبب اختلاف المضامين التي أراد الرجلان معالجتها في المسرح، فأرسطو يريد للشّاعر أن يستقي من مضامين يوجَد فيها عناصر غير واقعيّة الأساس وفيها عناصر غير الممكن، وأما بريخت فيريد أن يستقي من “التاريخ” المعاصر للمشاهِدين أيّ من واقعهم لتغريبه.
فيما يعدُّ أرسطو أنّ ما يجب أن يتبنّاه المُشاهِد على أنّه الحقيقة هو واحد وثابت. يرى بريخت أنّ الحقيقة مرحلة مُرتبطة بالعِلم من ناحية، وبالواقع المعيش للـ”حياة الاجتماعيّة البشريّة” من ناحية أُخرى([18])، ويلي هذه المرحلة التّغيير المَطلوب من الجمهور. هذا التّغيير الذي يتوخّاه بريخت يختلف عن التّغيير الذي يدعو إليه أرسطو عبر تطهّر من شعورين مُحدَّدين في اتجاه مُعيّن مُختارٍ سلفًا، ولا يترك حريّة الاختيار للمُشاهِد؛ في حين أنّ بريخت، الذي كان قد ارتأى للتغيير هدفًا مُعينًا، يريد أن يترك القرار الأخير في يد المُشاهِد عبر استخدامه للتّغريب: “إنّ عرض القصّة وتوصيلها بوسائل التّغريب المناسبة هي في نظري (والكلام لبريخت) مَهَمَّة المسرح الأساسيّة” (بريخت، صفحة 70)، وبريخت يريد ضمنًا من المُشاهِد أن يغيّر الواقع الاجتماعيّ فيستحوذ مثلًا على سلطة العِلم من يد البورجوازيّة. فـ”إذا أردنا للمسرح أن يكون له تمثيلات فعّالة للحقيقة، وبأن يجد ذلك متيسّرًا، علينا أن نرسي دعائمه في الواقع” (بريخت، صفحة 36). إذًا، كلاهما يرسي المسرح في الواقع ويربطه بالحقيقة على الرّغم من اختلاف هذه الحقيقة، التي تكون مُختارَة، مُحدَّدة وإلزاميّة عند أرسطو، فيما هي متغيّرة في اتجاه يبدو غير مَعروف للوهلة الأولى لدى بريخت، إنما يرتبط بالفعل بأهدافه والتزاماته السياسيّة. وإنّ المحاكاة القائمة عبر المسرح تبقى محاكاة لواقع ما على الرّغم من اختلاف المنظور إلى هذا الواقع بين الطرحين.
لكنّ المفارقة الكبرى بين الطرحين تتركّز في الخلفيّة الدّافعة إلى تبنّيهما. يحدّد أرسطو صورة مُعيَّنة ثابتة للإنسان الخيِّر والتي يجب الدّفع به نحوها (لولا ذلك لما كان تكلّم على الأفضل والصحيح من ناحية، ولما كان أراد من الشّاعر أن يرسم الإنسان أفضل ممّا هو دون أن يحدّد تفاصيل هذا الأفضل كأنّما هو أمر معروف، ثابت ومسلَّم به). أمّا بريخت فيستقي ويستوحي من العلوم المعاصرة له، ومن تطوّر العلوم السّريع وجهل الأغلبيّة لها، ومن الطريقة العلميّة التي باتت تأخذ مكانتها وأهميّتها أكثر فأكثر في مجتمعه، وهو إن طالب بما طالب به، فلأنّه رأى أنّ الغالبيّة من النّاس قد حُرِمَت من حقّ التّعلّم والاكتشاف والتّطور العلميّ والمعرفي بشكل خاص، وحُصرِت الفائدة المتحصلة من تطور العلوم بالبورجوازية، وهو إنّ أثار طرحه الثوري، وإنّ بنى وقدّم نظريّته كما جاءت، فلأنّه يريد أن يُخرِج النّاس من جهلهم لتعود لهم حرّيتهم([19])، وليملكوا بأنفسهم زمام أمورهم، ويطوّروا بذلك مجتمعهم: “الطّبقة البورجوازيّة، التي تدين للعلم، بتقدّم استطاعت، بعدما ضَمنت أنّها وحدها ستجني ثماره، أن تحوّله إلى سيطرة [على المجتمع]، وتعرف هذه الطّبقة جيّدًا أنّ حكمها زائل لا محالة لو تحوّلت عن العلم إلى أعمالها” (بريخت، صفحة 33)، فإنّ وهب العِلم للناس (أو الدّعوة إلى ذلك) يساهم في إعطائهم السّلطة على أنفسهم وفي تمكينهم من الإفادة من الخيرات النّاتجة عنها. وفي فكر بريخت يرتبط الفن والمسرح بالعلم ارتباطاً وثيقاً، فيتعدّى كونه الدّافع ليصبح بشكل ما الطّريقة المُتّبعة، وهو يقول: “يلتقى العلم والفنّ في هذه النّقطة، أنّ كليهما قد وُجِد لتوفير الراحة في حياة الإنسان، فأحدهما يهدف إلى استمرارنا في الحياة بينما يهدف الآخر إلى التّرفيه عنّا. أمّا في العصر القادم فإنّ الفنّ سوف يخلق التّرفيه من تلك الإنتاجيّة الجديدة التي يمكن أن تحسّن استمرارنا في الحياة التي يمكن أن تُصبِح، إذا تُركَت لها الحرّيّة، أعظم المُتَع لنا جميعًا” (بريخت، صفحة 33). محاولة بريخت هذه في تمتين الرابط ما بين العلم والمسرح تأتي بشكل خاص من مفهوم التّغريب لإعادة التّقييم والبناء. وهذا المفهوم يُقارب الوصف الذي قال به بياجه (Piaget) كشرط للتعلّم، فعندما نطرح أمام المُتعلِّم (يُقابله المُشاهِد عند بريخت) أمرًا لا يتوافق مع الشّيم (schèmes) المَبنيّة في ذهنه، فإنّه يعيد النّظر بها، فإمّا يعود ليقبل بها أو يرفضها ليبني شيمًا جديدة فيحدث التعلُّم، وهذا تحديدًا ما كان يسعى إليه بريخت. فهو يتكلم مرارًا على تطوير “موقف نقدي” لدى المُشاهِد عبر التغريب، ويربطه بتمكين المُشاهِد من رؤية التاريخ الذي في طور الكتابة في زمنه الحاضر كما لو كان تاريخًا غابرًا ليتمكن من وضعه تحت عدسة النقد (Brecht، 1964، صفحة 190)، وهي المرحلة المُمهِّدة لإعادة تقييم الشّيم بحسب بياجيه. وبالتالي فإنّ بريخت يريد لطريقته أن تقترن بالموقف النقدي الذي هو من سمات المقاربة العلميّة، كونه يبغي دفع النّاس باتجاه اكتساب سلطة العِلم، لتمكينهم من حصد فوائده فلا تقتصر فقط على البورجوازية. إذًا، إنّ بريخت يلحظ حيّزًا ما من المُحاكاة لواقع ما – ولكنْ – وعلى خلاف أرسطو، على أن تأتي في قالب يسمح بتغريب مَعيش النّاس الذين يتوجّه إليهم، فيتعاملون بالعقل مع الواقع وليس بالعاطفة: يجب أن يبدو المألوف والعاديّ غريبًا ليمنع التماهي وليُرى من منظور جديد فيصبح موضوع اختيار لدى المُتفرِّج ليعود فيتبنّى أم يرفض فيغيّر ويختار بذلك مصيره بيده. وفي هذه الحال يجوز التعمّق في مسألة التطهّر الذي أراده أرسطو والتغريب البريختي.
في حال سلّمنا جدلًا بفاعليّة كلّ من الطريقتين الأرسطويّة والبريختيّة في تحقيق أهدافها، لقلنا إنّ استحالة التماهي مع الشخصيات التي يرمي إليها بريخت ستمنع حُكمًا التطهر الأرسطويّ وفق الارتباط الذي جعله أرسطو بين المحاكاة والتّطهر. إنما لو عدنا إلى ما طرحناه حول صعوبة تحقيق التطهُّر من خلال السُّبل التي رغب بها أرسطو، وسلمنا جدلًا بفاعليّة تقنيات برخيت في تحقيق التّغريب (وهذا ليس موضوع بحثنا ههنا)، لجاز الاعتبار أنّ التغريب يقدّم فرصة أفضل للتطهُّر من المحاكاة الأرسطويّة لأنّه يخلق الفرصة للمُشاهِد لزيادة وعيه حول المسألة التي يريد التطهّر منها.
نشير أيضًا على مستوى الطّريقة المطروحة، إنّ بريخت، وعلى الرّغم من وضعه لنصائح وأمثلة عن كيفيّة تحقيق التّغريب (أي للطريقة التي يطرح)، لا يحدّد قواعد مُلزِمَة كتلك التي يضعها أرسطو.
كما أنّنا نشهد مفارقة بين بريخت وأرسطو في ما يختصّ بالشّخصيّة. فالتحوّل الذي نشهد مثلًا في شخصيّة “غالي غاي” (بريخت) هو بحسب مقاييس أرسطو خاطئ لأنّه لا يُحافظ على تماسك الشّخصيّة التي “يجب أن تبقى كما هي خلال العمل كلّه” (Aristotle، 1920، صفحة 55). وذاك أحد الأدلة على غياب مفهوم الصحيح والخاطئ في العمل المسرحي عند بريخت. ويذهب بريخت في نقده لأرسطو (ولشكسبير أيضاً في هذه النّقطة) إلى اعتبار أنّ في المصير المُختار للبطل الذي “يمهّد بنفسه لسقطته الأخيرة، حتى تُصبِح الحياة نفسها، لا الموت، كريهة قبيحة حين تسقط هذه الشّخصيّات، ولا يستطيع أحد أن ينقض الكارثة؛ تضحيات إنسانيّة طوال الوقت، متع بربريّة متوحِّشة” (بريخت، صفحة 42). ما يطرح نقدًا شرسًا من قبله حول التّماهي معها وحول المحاكاة، وما يدعم الحجج التي قدمناها سابقًا حول صعوبة التّطهر عبر التماهي مع هذه الشّخصيات. أمّا في مسألة الممثل، فترى أن أرسطو يذكره عرضًا. وينتقد في الأداء “المبالغة في الفعل”، وينقل تشبيه ممثل أقدم لممثل أحدث بين معاصريه بـ”القرد” في حال المبالغة؛ ويبني على هذا التشبيه ليعتدَّ أنّه قد يسمح بوضع التراجيديا في موضع أقل شأنًا من الملحمة تحديدًا لأنّ جمهورها أقلّ رقيًّا من جمهور الملحمة “المثقف” والذي “لا يحتاج إلى الحركة” بعكس جمهور التراجيديا (Aristotle، 1920) (لكنّه يعود فيبني على أمثلة ليوضح أنّ هكذا نوع من الأداء جائز في التراجيديا كما في إلقاء الملحمة وليعدُّ أن الأداء ليس جزءًا أساسيًّا من تكوين التراجيديا فيتمكن من برهنة حفظها لمكانتها كأرقى الفنون إذ لا تنتقص الحركة الفائضة، أو الحركة بالمطلق من قيمتها([20])). وقد أثبت المسرح المعاصر خطأ هذه المقارنة التفاضليّة على أكثر من مستوى فوجود الحركة لا يتنقص من دراميّة الفعل ولا ينتقص من المسرح. وهذه المفاضلة لا ترتبط بالممثل نفسه إلا من حيث دلالتها على وجود حركة على المسرح بمقابل الـلاحركة في الملحمة، وربما في كونها تؤسس أيضًا لرفض الثّرثرة في الأداء الحركيّ للممثل. يتكلم أرسطو أيضًا على زيادة عدد الممثلين إلى ثلاث والانتقال من “الإلقاء المبالغ به للدساتير الأوائل إلى الإلقاء المُفخّم الخاص بالتراجيديا” (Aristotle، 1920، الصفحات 31-32)، وعن جهل مصدر هذا النّوع من التّغييرات بالنسبة إلى الكوميديا. ويؤكد على أنّ قوة التراجيديا يجب أن تبقى بصرف النّظر عن العرض والممثلين؛ ويشير إلى مشاركة الممثلين بالغناء وإلى “ضرورة اعتبار الكورس من الممثلين” (Aristotle، 1920، صفحة 66). ونرى أنّ أرسطو وإن لم يتجاهل الممثل، فهو قاربه من إطار عدم إغفال أمر مرتبط بالمسرح الذي حاول أن يحيط بجوانبه كافة أكثر من مقاربته للممثل بذاته كما هو الحال في نظريات الأداء المعاصرة أو في مدارس إعداد الممثل. الأمر الذي يختلف تمام الاختلاف مع بريخت الذي تكلّم بإسهاب عن الممثل وأدائه منطلقًا من قناعة جوهريّة: “ليتمكن الممثل من نتائج مميزة، عليه أن يتجاهل الوسائل كافّة التي تحث المشاهد ليتماهى مع الشّخصية التي يلعبها؛ وكي لا يدخل جمهوره في غشية، يجب ألا يدخل في غشية بنفسه” (Brecht، 1964، صفحة 193). فنرى في طرح بريخت هذا رفضًا مُطلقًا للتماهي ونشير إلى هذا الرفض على مستويين: الأول: هو رفض لتماهي الجمهور مع الشّخصيّة؛ والثاني: رفض لتماهي الممثل مع الشخصية. ولعلّ هذه سمة أساسية في اعتبار بريخت لنفسه بانيًّا مقاربته على الـ”لا أرسطويّ”([21]). بأيّ حال تجدر الإشارة إلى أن المسرح الملحميّ كما طرحه بريخت أتى معترضًا للنزعة الستانسلافسكيّة والنّهج الطبيعيّ والعاطفة المتزايدة والتّلاعب بمشاعر المشاهد، ناهيك عن ابتعاده من السورياليّة نفسها وعن مسرح القسوة. لقد أراد عبر المسرح التعاطيّ مع عقل المشاهد، ولعله اختار لهذا السبب تعبير المسرح الديالكتيكي. من أساسيات موقف بريخت من التّطهر مسألة المشاهِد، ففي حين أنّ أرسطو يرغب بأن يتماهى المتلقي مع الشّخصيّات ويذوب بها، يرغب له بريخت بموقف نقدي، فلا يكون واحدًا من أولئك الذين “ينظرون إلى خشبة المسرح كما لو كانوا في غيبوبة” (بريخت، صفحة 38)، بل يدعو إلى خلق ظروف اجتماعيّة “تختلف باختلاف العصور” ليكون “من الصّعب على المتفرِّج التوحّد معها” (بريخت، صفحة 44). يشير أرسطو، في جزء من طرحه، وعبر مثل أعطاه يربط فشل إحدى التّراجيديّات على الخشبة بالجمهور لأنّ العمل لم يكن مُقنعًا بالنّسبة إليه (ما يعطيه مكانة تقيميّة للعمل)، يذهب بريخت إلى مناقضة هذا الموقف بوصف أنّ “الشّخصيّة، بل وكلّ شيء، لا يجب أن يستحوذ على إعجاب الجمهور، بقدر أن يدهشه” (بريخت، صفحة 59). بالطبّع إن أرسطو (وكما قد أشرت) يحبّذ إدخال عنصر المُذهل ولكن ليس ليخلق غربة مع المضمون المُقدَّم، إنّما كجزء من “الإضافات التي نحبّ أن نضيفها أثناء إخبارنا لقصّة ما” (Aristotle، 1920، صفحة 72)، وتلك دهشة أخرى تختلف عن الدّهشة التي يرغب بريخت بها. ويُحْيي بريخت الفرادة وقيمة الإنسان الفرد أكثر من أرسطو، فهو ينظر إلى الفرادة وإلى اختلاف الأفعال وردود الأفعال بين النّاس بحسب اختلاف معايير عديدة منها اختلاف الطبقة الاجتماعيّة والعصر والظروف الحياتيّة (وذلك بالنّسبة إلى الشّخصيّات وبالنّسبة إلى الجمهور) ليكون “ذلك الإنسان الحيّ نفسه، الإنسان الذي لا يمكن أن نخلط بينه وبين أي إنسان آخر” (بريخت، صفحة 46)، فيما أرسطو – أقلّه على صعيد الشّخصيّات المسرحيّة – يقسم النّاس إلى مجموعات فيكون هناك “الشّخص العادي”، و الشّخص “الأسوأ من العادة” (و”الأسوأ منه”) والشّخص “الأفضل من الإنسان العادي” (Aristotle، 1920، الصفحات 51-52). فيما يتعلّق بالجمهور أيضًا، فإنّ افتراض أرسطو حدوث ردّ الفعل نفسه – إن من ناحية الشّعور بالخوف والشّفقة، وإن من ناحية حدوث التّطهّر كنتيجة حتميّة للفعل التّراجيديّ، وإن من حيث شعور المُشاهِد بالمتعة التراجيديّة – لدى جميع أفراد الجمهور كما لو كانوا شخصًا واحدًا، مما يلغي فرادة كلّ منهم (على الرّغم من الاحتمال في أنه حين يتوجّه إليهم فهو يتوجه إلى لاوعي جمعي معيَّن). أمّا في ما يتعلّق بالمتعة المتولّدة من الفعل المسرحي، فأرسطو يعدُّ أنّها “متعة الشفقة والخوف” “المتعة الخاصة بالتراجيديا” (وهاتان المسألتان ليستا مصدر متعة برأيي، فمَن يستمتع بخوفه – عبر تماهيه مع الشّخصيّة – أو بخوف الآخرين يكون في وضع غير سليم؛ أمّا مَن يستمتع بالشّفقة على الغير يكون صاحب كبرياء مريض، ومَن يستمتع في أن يُشفق عليه – أيضاً عبر تماهيه مع الشّخصيّة – يكون صاحب عقد نقص). في حين أن بريخت يعدُّ أنّ متعة المسرح هي متعة التّغيير (التغيير الاجتماعيّ الممكن): “كلّ هذه الأعمال تعطينا إحساسًا بالثّقة والنّصر، وتؤدّي بنا أن نشعر بالمتعة حين نفكّر في إمكانيّة التّغيير الكامنة في الأشياء” (Brecht، 1964، صفحة 202). إنْ أردنا أن نُعدُّ أنّ في التطهّر (إن حدث) تغيير، عندها تقترب المقاربتان بعض الشّيء. ويتطرّق بريخت لتسيس الفنّ، فيعدُّ “الفنّ، إذا كان “غير سياسيّ” يعني أنّه لا بدّ مُتحالف مع الطّبقة الحاكمة” (Brecht، 1964، صفحة 196)، وفي ذلك موقف من أرسطو (يتشاركه بريخت مع أوغستو بوال). كما يشير بريخت إلى ملاحظة حول تعاقب الأفعال، متأتيّة كنتيجة ضمنيّة طبيعيّة لمجمل طرحه: “يجب ألا تتعاقب المواقف من دون تمييز، بل يجب أن تترك لنا الفرص للإدلاء بأحكامنا” (Brecht، 1964، صفحة 201)، وهذه فسحة غريبة عن طرح أرسطو (ولكانت لا منطقيّة إن دخلت اليه)، فعند أرسطو لا موقف نقدي للمشاهِد. بل تعاقب الأفعال لديه مرتبط بمعايير أُخرى كحفظ الوحدة، وحدة الفعل، والشّخصيّة والحبكة، وضرورة انبثاق الواحد من الآخر.
خاتمة
تمرّد المسرح، بشكل خاص في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، على نظرية أرسطو لجهة المحاكاة والتطهر. ونشأت نظريات جديدة تأخذ المسرح نحو التّغريب، والتّسييس، والصّوفيّة الفنيّة، والمفاهيم ما بعد الحداثيّة، والمسرح ما بعد الدّراميّ… كما بُنيت نظريات تتجاهل كليًا المحاكاة والتّطهر في مقاربتهما للمسرح، وأُخرى تتكلم على الصفاء وليس على التطهر… وهنا يفتح بحثي على مسارات جديدة: ما الفرق بين التّطهر والصفاء، وانعكاسهما في الممارسة المسرحيّة؟ كيف تتغير مقاربة الكتابة المسرحية والإخراج المسرحي ّفي زمن ما بعد المحاكاة؟ كيف تظهر آثار المفاهيم ما بعد الحداثيّة في المسرح ما بعد الدراميّ؟ ما لا شكّ فيه، أنّ للفنّ قدرة على التأثير في النفس البشرية. ويتنوّع هذا الأثر بتنوع الأشكال الفنية، وتنوع المقاربات الجماليّة وتنوع الوسائط، وتنوع الغايات من الفن، وتنوع السبل والطرائق التي تربط تلك الغايات بمتحققاتها… وعلى الرّغم من كون أرسطو طرح التّطهر منتهى وغاية على حدّ اعتبار بافيس (Pavis)، ووسيلة لتحقيق المتعة على حد اعتبار بريخت، وسواء أكانت الطّرائق التي طرحها أرسطو ناجعة في تحقيق ذلك أم لا، فما لا شكّ فيه أنّ للفنّ قدرة علاجيّة بدأت البشريّة بحصد ثمارها منذ أواسط القرن العشرين، قرابة الزّمن نفسه الذي قال فيه بريخت بـالــ”لا أرسطويّة”. بالطبع حينها كان يُقصَد بالفن الرّسم أكثر من سواه، إنّما اليوم هناك مقاربات علاجيّة متعددة تعتمد على الفنون المختلفة، وهناك أيضًا مقاربة شموليّة للفنون وللإنسان نشأت في لبنان. والأكيد في كلّ ذلك أنّ أيًّا من تلك المقاربات التي “تطهِّر” الإنسان من آلامه ومشكلاته – إن شئنا استخدام التّعبير الأرسطويّ – لا تعتمد وسائل أرسطو إليه، إنما لكل منها مسارها وطريقها.
كذلك، إنّ القواعد التي وضعها أرسطو لم تعُد اليوم مسارًا ملزمًا للمسرح كما كانت مثلًا في زمن القواعد الذهبية للنيوكلاسيكيّة الفرنسيّة. لكن، في المسارح التي لم تذهب إلى النقض الكلي لهذه القواعد كما نقضها مسرح العبث والمسرح ما بعد الدّراميّ، فإنّ لهذه القواعد تأثيرات تقلّ أو تشتدّ وضوحًا في تمظهراتها في الأعمال المسرحيّة. لذلك، فإنّ دراستي هذه لطرح أرسطو تمهّد الطريق أمام إيضاحات مفيدة في مقاربة الأنواع المسرحيّة التي تأثّرت بها منذ ذلك الزّمن وحتى يومنا هذا. والثابت أنّ المسرح معين يتسع والإحاطة به وحصره في مسار التّطهر أو التّغريب أو الصفاء أو التعليم لن يكون ممكنًا.
المصادر والمراجع
APA. (2013). Violence in the media: Psychologist’s study potential harmful effects. Retrieved from American Psychological Association: https://www.apa.org/topics/video-games/violence-harmful-effects
Aristote. (1965). De l’âme, liv.III, chap.9. In Morale et politique (F. Khodoss, &,. C. Khodoss, Trans.). Paris: Presse universitaire de France.
Aristotle. (1920). On the Art of Poetry. (I. Bywater, Trans.) Oxford: Oxford University press.
Aristotle. (n.d.). Politics. (B. Jowett, Trans.) Retrieved from http://classics.mit.edu/Aristotle/politics.mb.txt
Brecht, B. (1964). A Short Organum of Theater. In J. Willett (Ed.), Brecht on Theater. The development of an aesthetic (J. Willett, Trans., pp. 179-205). New York: Farrar, Straus and Giroux.
Burns, E. (1990). Character, Acting and Being on the Pre-modern Stage. London: Palgrave Macmillan.
Osnes, B. (2001). Acting. An International Encyclopedia. Santa Barbara, California: ABC-CLIO.
Platon. (n.d.). La République.
Romanska, M. (2016). The Routledge Companion to Dramaturgy. New York, USA: Routledge.
معاجم
Merriam Webster. (2021, Feb 22). Imitation. Retrieved from Merriam Webster: https://www.merriam-webster.com/dictionary/imitate
Pavis, P. (2002). Dictionnaire du théâtre. Paris: Armand Colin.
مجمع اللغة العربية. (2004). معجم الوسيط (4 ed.). القاهرة: مكتبة الشروق الدولية.
[1]– أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية- كليّة الفنون الجميلة. Christelle.nassar@ul.edu.lb
[2]– أجاد متى بن يونس اللغة السريانية، والعربية، واليونانية. تُوفِّيَ في العام 939م.
[3] – بالشعر يشمل أرسطو التراجيديا والكوميديا على حدّ سواء كما يشمل الأنواع الأُخرى التي عدّدها في الفصل الأوّل من الكتاب، أي “الملحمة، الديثيرامبيّات، وغالبية ما يؤلَّف للصَّفر في الناي، واللعب على القيثارة” (Aristotle، 1920، صفحة 23) – ولكنّ تلك الأنواع ليست موضوع هذا البحث.
[5] – كما يقول فرديناند دو سوسير، اللغويّ الشّهير.
[6] – magnitude.
[7] – راجع المقدّمة.
[8] – كما يشير أرسطو إليها في بداية الفصل الرّابع: “المُحاكاة من طبيعة الإنسان” (Aristotle، 1920).
[9] – ملاحظة: كون أرسطو تلميذ أفلاطون، وكون أفلاطون يتكلّم في هذا الموضوع في الجمهوريّة، إذ يُحدّد ما يجب أن يُقَصّ على الأطفال بهدف تربيتهم لأنّهم يتعلّمون من القصّة، يجعل من وجود تماهٍ مع أبطال قصّة ما ليس بغريب على أرسطو، والأرجح أنّه لن يمرّ من دون انتباه منه له.
[10] – ملاحظة: بما أن أرسطو لَم يكتب نصوصًا شعريّة (مسرحيّة)، فيصحّ الافتراض بأنّ ضمير الجمع للمتكلِّم في “يشبهنا” يعني الجمهور وليس الكاتب والممثّلين.
[11] – هنا لا مجال لمناقشة أرسطو في “إيمانه” ومُعتَقَده.
[12] – Effet de troupeau.
[13] – نستعير المفردة من المنهج الكلّيّ في إعداد الممثل.
[14] – يشترِط أرسطو الإقناع في الفعل الدّراميّ.
[15] – مع المفارقة المهمّة، في هذه النّقطة، إلى أنّه عكس أرسطو، لم يدعو إلى إبراز صورة أفضل من الإنسان العاديّ، بل أراد أن تأتي مشابهة له، مع قبول الخصوصيّة للشّخصيّات.
[16] – تعرِّف الجمعية الأميركية لعلم النفس التعاطف على أنّه “شعور قوي بالتماهي مع مشاعر الأسى والحزن لدى شخص آخر، ينضوي غالباً على رغبة في مساهدة أو تخفيف آلام هذا الشخص” (https://dictionary.apa.org/compassion). وتؤكد مجلة “الخير الأعظم” التابع لجامعة بيركلي أنّ “التعاطف يعني حرفيًّا “أن نتألّم معًا”؛ فيعرف الباحثون في المشاعر التعاطف على أنّه الشعور الذي يظهر عندما تُواجَه بآلام الآخرين وتشعر بالدافع لتخفيف معاناتهم” (https://greatergood.berkeley.edu/topic/compassion/definition).
[17] – “يجب أن تترابط المواقف الفرديّة بحيث تظلّ العقد واضحة ملحوظة” (Brecht، 1964، صفحة 201)
[18] – “سيكون ممكنًا فقط أن تغرِّب فردًا ما عن كونه “هذا الفرد بالذات” و”هذا الفرد بالذات في هذه اللحظة بالذات” إن ألغيت كل إيهام بأن الممثل هو نفسه الشخصية وأنّ العرض هو الحدث الفعلي”. (Brecht، 1964، صفحة 195)
[19] – لعلّ أرسطو لَم يسأل عن الحريّة في طرحه، لأنّ مفهوم الحرّية آنذاك كان مُرتبطًا بالصّورة المباشرة للاستعباد، فمَن لَم يكن عبدًا، هو حرّ حُكمًا؛ ولم تكن اشكالية الاستعباد بالقمع والتّجهيل والقيادة الدّيكتاتورية، والاختيار عن الآخرين… موضوعًا مطروحًا.
[20] – راجع ما ناقشناه في موقف أرسطو من العرض المسرحيّ.
[21] «non aristotélicienne» («nicht-aristotelische Dramatik»).