foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

تجلّيات الذات والعالم في صور ابن هرمة  الشعريّة

0

تجلّيات الذات والعالم في صور ابن هرمة  الشعريّة

بين التقليد والحداثة

د. عزيز الأشقر*

 

تُعدّ الصّورة الشعريّة مجالًا واسعًا للدراسة والتناول النقديّ، بوصفها أداة الشاعر التي تحكم شخصيّته الفنّيّة في الأداء التعبيريّ من جهة، وباعتبارها مقياسًا فنيًّا وشخصيًّا للمبدع الذي أنتجها. لذلك، فقد حظيت بالاهتمام والتحليل، بحيث إنّها دُرِست منذ القِدَم، إذ «هي ليست شيئًا جديدًا، ذلك أنّ الشّعر قائم على الصّور منذ أن وُجد إلى اليوم([1])»، لكنّ استخدامها يختلف من شاعر إلى آخر، ذلك أنها ترتبط بالخيال الذي ترسم له البيئة المحيطة به إطاره العام، فسعى كلّ شاعر إلى إظهار مهاراته الشّعريّة وقدرته على توليد معانٍ جديدة من خلال ابتكار صور شعريّة، قد ينطلق بعضها من المعاني القديمة الموروثة كما قد يضيف عليها طابعًا جديدًا مستوحى من البيئات الجديدة المستكشَفة. وقد حدّد قدامة بن جعفر الصّورة الشعرية على أنها صناعة أو حرفة، «فالمعاني للشعر بمنزلة المادة الموضوعة والشعر فيها كالصورة([2])»، في حين أنّ ابن رشيق يبيّن أنّ الشعر يرتبط بالتخييل من خلال تأثيره في النفس الإنسانيّة «وإنّما الشعر ما أطرب وهزّ النفوس وحرّك الطباع([3])».

أمّا موضوع هذه الدراسة فيتمحور حول إبراهيم بن هرمة، وهو شاعر عبّاسي مخضرم امتاز شعره بالجزالة والقوّة لإتقانه اللّغة العربيّة إتقانًا تامًّا، فلم يخالط شعره الأعجمي الدخيل.

وعلى الرغم من أنّ معظم أعمال ابن هرمة قد ضاعت، إلّا أنّ العديد من قصائده قد وُجِدت مبعثرة في الكتب الأدبيّة والمختارات([4]) وبعضها قصائد مشتّتة غير كاملة، الأمر الذي حتّم وجود العديد من الصعوبات عند دراسة صوره الشعريّة، نظرًا إلى غياب التأريخ وجهل السياق الذي جاءت فيه، ذلك أنّ معظم شعره قد وردنا متقطّعًا، فأضحى من الصعوبة بمكان تقييم شخصيّة ابن هرمة وصوره بشكل عام، إذ إنه «لا يمكن تقييم التجربة الشّعريّة ووظيفتها بمعزل عن سياقها([5])». ومن هنا فإنّ الإشكاليّة التي تثور تتعلّق بتمثّلات صورة الذات والآخر وكلّ ما يرتبط بعلاقة تفاعليّة مع الشاعر، وانعكاساتها في صوره الشعريّة، ومن ثمّ أيعدُّ ابن هرمة مقلِّدًا في صوره الشّعريّة التي عكست رؤيته الداخليّة والخارجيّة للعالم الذي يحيط به أم محدثًا مجدِّدًا؟ واستطرادًا، هل إنّ دراسة ما وصلنا من أشعاره من شأنه أن ينصفه في تصنيفه بين أقرانه من الشّعراء؟

انطلاقًا من هذه الإشكاليّات فقد قُسم البحث إلى قسمين، يتناول الأول صورة الذات عند ابن هرمة والعالم المحيط به، والثاني يتناول بنية الصورة الشعريّة في قصائده وأنواع الصور التي ولّدها.

أمّا المنهج الذي اعتمدناه في هذه الدراسة فهو المنهج التكاملي، الذي يقوم على الأخذ بمناهج أخرى، لا سيّما بالمنهج الفنّي الذي يقوم في الحقيقة على مناهج ثلاثة هي التأثيري والتقريري والذوقي-الجمالي، وكذلك سيستعين بالمنهج النفسي لتحليل الأبعاد النفسيّة التي يولّدها الشاعر بالإضافة إلى المنهج التاريخي الذي يرتبط بتحديد السياق المكاني-الزماني الذي أثّر في خيال الشّاعر([6]).

 

أولًا: صورة الذات والعالم في شعر ابن هرمة

إنّ الصورة الشعريّة تتأثّر بشكل عام بعاطفة الشاعر وتفاعله مع بيئته الحيّة والجامدة وكذلك الأحداث التي تحيط به. وعليه، سوف نسعى في هذا القسم إلى تصنيف صور ابن هرمة وتحليل أبعادها بدءًا من صورة الذات في شعره، فصورة الآخر، وصولًا إلى صورتَي الحيوان والطبيعة.

1- صورة الذات

غالبًا ما تُعرَّف صورة الشخص الذاتيّة على أنها الصورة الذهنيّة التي يشكّلها المرء حول نفسه، كما أنها تكوّن الصورة الأولى التي تتَحدّث عن الذات وتصوّرها، غير أنّ هذه الصورة لا تستند إلى تقييم المرء نفسه انطلاقًا من رؤيته الشخصيّة لذاته، إنما هي مزيج من عدّة عوامل قد تقوم على نظرة الآخرين إليه، أو الكيفيّة التي يرغب هذا الأخير أن يراه الآخرون فيها، وبذلك يمكن القول «إنّ الصورة الذاتيّة التي ينتجها الفرد قد تكون دقيقة ومطابقة لواقعه وحقيقته كما قد تكون غير واقعيّة([7])».

أمّا في الشعر العربي التقليدي، فقد استخدم الشعراء الصّور الذاتيّة للتأكيد على الصفات العربيّة الأصليّة التي يتحلّون بها كالكرم والشجاعة والصّبر على الملمّات، وتحمّل صروف الدهر ونوائبه، كذلك عكست الصور الذاتيّة مشاعر الحبّ وتجاربه، أو الشيب والهرم وانقضاء الشباب أو وصفت الخمر ومجالسه والعبث واللهو والمجون…، كما قد يتباهى الشّاعر من خلالها بإخلاصه وولائه للناس أو لأهل الحكم والسياسة، ويفاخر بحلمه وتسامحه حتّى تجاه أعدائه وخصومه. وكذلك فقد يعمد الشّاعر إلى التبجّح بمهاراته الشعريّة وقدراته الفنيّة الفريدة، التي يبدو من خلالها ساعيًا إلى تعريف نفسه وتحديد هويّته وإظهار القيم المتعلّقة بالذات أو الأنا من خلال قصائده ، بحيث «تكون القصيدة هي مرحلة أساسيّة في عملية تعريف الذات، وهي تأطير وإدراك لصورة الذات وصورة العالم، فشكل القصيدة يعبّر عن ماهيّة الشّاعر وطبيعته([8])».

وبالعودة  إلى الصور التي بناها ابن هرمة معبِّرًا فيها عن مواقفه الأخلاقيّة، فإنّها تبدو للوهلة الأولى فخرًا نموذجيًّا شائعًا في الشعر العربي في مختلف العصور، إلّا أنّ إمعان النظر في شعره يكشف عن انزياح في أبعاد صوره يعطيها طابعًا خاصًّا، إذ إنه من الملاحَظ أنّ شاعرنا يتباهى بخصائص ذات قيمة عالية في المفهوم الاجتماعي العربي ألا وهي ضبط النفس والحلم بالإضافة إلى القناعة والاكتفاء، وصون الكرامة والتعالي عن الصغائر([9]):

إذا أنتَ لمْ تَأخُذْ مِنَ اليأسِ عِصْمةً تُشَدُّ بها فــــــــي راحتَيْكَ الأَصابـــــعُ
شَربْتَ بِطَرْقِ المــــــاءِ حيثُ وجدتَهُ على كدرٍ واستعبدتْكَ المـــــطامِــــــعُ
وإنّــــي لـــــــمَّا ألبسُ الثـــّوبَ ضــــيِّفًا وأتركُ لبسَ الثّوبِ والثّوبُ واســــــعُ
وأَصرِفُ عنْ بعضِ المياهِ مطيَّتي إذا أعجَبَتْ بعضَ الرِّجالِ المشارعُ

 

يظهر من خلال هذه الأبيات التمسّك بضبط النفس والشّعور بالاستقلاليّة، وهما الشرطان الأساسيّان للتمتّع بالقوة الداخليّة، فنراه يأبى شرب الماء العكر إكرامًا لنفسه، كما يثني حصانه عن ريّ عطشه، مصوِّرًا الاحترام الذاتي الذي يتمتّع به من خلال تفضيله الفقر على الثروة من غير حقّ. وبذلك فإنّ الشّاعر يقدّم في البيتَيْن الأوّلَيْن صورة عن مُثله وقيمه التي تبلور «أناه» التي تعكس تكوينه المعرفي والقيمي والشعوري، كما أنه يقدّم نصيحة لمن يسمعه كي يسير على خُطاه ويتماهى به، مُظهرًا بذلك تقديرًا عاليًا لهويته الذاتية، أمّا البيتان الأخيران فيهدفان إلى التأكيد على صورته نموذجًا للتعالي عن الصغائر واستعداده للتغلّب على التغيّرات الدنيويّة الطارئة، معزِّزًا بذلك صورته الذاتيّة في نظر الآخرين.

ونلحظ في موضع آخر من شعره عرضًا مماثلًا لصور تقدير الذات، بحيث يستخدم الماء مجدّدًا لنقل صورة ذاتيّة إيجابيّة، يقول([10]):

إِذا مُطمِعٌ يومًا غَزاني غَزَوْتُهُ كتائِـــــــبَ ناسٍ كَرَّهـــــــــا واطّرادَهَــــــــا
أَمُصِرٌّ ثِمادي والمـــــياهُ كثيرةٌ أعالَجُ منــــــــها حفرَهـــــا واكتدادَهــــــا
وأَرضى بِها مِنْ بحرِ آخَرَ إنَّهُ هوَ الرأيُ أَنْ تَرْضَى النُّفوسُ ثِمادَها

 

إنّ الشّاعر في هذه الأبيات يعزّز صورة «الأنا» التي تعكس رجلًا شريفًا قنوعًا يكتفي بموارده الخاصّة، لا يحسد الآخرين أو يشتهي ما يملكون، متَّبِعًا طريق الحكمة الحقيقيّة الذي يؤدّي إلى الاكتفاء الذاتي والاستقلاليّة المطلقة، حتّى وإنْ أودى به ذلك إلى حياة الفقر والنضال والعذاب.

وعلى الرغم من أنّ قصائد ابن هرمة ليست مصنّفة وفق تسلسل زمنيّ معيّن في ديوانه، كما أنها غير مؤرَّخة، إلّا أنه يمكن الاستنتاج من خلال كثافة الصور في المثال الثاني الذي أوردناه أنه قد نُظِم في تاريخ لاحق للأوّل، بعدما اكتملت تجربة الشاعر الشعريّة ونضجت آفاقه المعرفيّة وقدراته الإبداعيّة، وبالتالي اكتملت عمليّة بناء الذّات ونضجت هويّته الذاتيّة.

وكذلك نرى، إلى جانب الحلم وضبط النفس، صفة أخرى يتباهى بها شاعرنا ويصّورها على أنها جزء من شخصيّته، تتمثّل بقدرته على تحمّل الصعاب واحتمال المصائب، يقول([11]):

عَفَا رسمُ القريةِ فالكثيبُ إِلى ملْحَاءَ لَيْسَ بِها عَريبُ
تأبَّدَ رسمُها وجــــــرى علَيْها سَفيُّ الرِّيحِ والتّرْبُ الغَريب
فإنّكَ واطِّراحَكَ وَصْلَ سُعدى لأُخرى في مودَّتِها نُكُـــــوبُ
كثاقبةٍ لِحلْـــــــيٍ مُسْتعـــــــــارٍ لِأذْنَيْها فشأنَهُما الثُّقـــــــوبُ
فردَّتْ حَلْيَ جارتِها إليهـــــا وَقدْ بَقِيَتْ بأذنَيْهــــــا نُدُوبُ

إذا كان ابن هرمة يشير صراحة في المثال أعلاه إلى شخص آخر مستخدِمًا ضمائر المخاطبة، فإنّ المقصود في الواقع هو الشاعر نفسه الذي يبدو متحمِّلًا عاقبة هجره حبيبته الأولى «سعدى» التي كان حبّها صادقًا وثابتًا، في حين أنّ مشاعره تجاه حبيبته الأخرى لا ترتقي إلى مشاعره تجاه الأولى. وبذلك، فَقَدَ الشاعر حبّ الاثنتين، الأولى طواعية والثانية قسرًا، فنرى نقد الذات والندم جليَّيْن في البيتَيْن الأخيرَيْن، قد حلّا مكان الفخر الذي يُعدّ من أبرز مكوّنات صورة الذات.

ومن الفضائل التي يتحلّى بها شاعرنا، والتي يسعى من خلالها إلى تشكيل «الأنا» الخاصّة به، فضيلة الشّجاعة التي يتغنّى بها، مفاخِرًا بفروسيّته، بحيث يَحمل جواده على الخطر الشّديد، يقول([12]):

إِنّي لَمَيْمونٌ جِوارًا وإِنَّني إِذا زجَرَ الطَّيـــرَ العِدا لَمـــــــشُومُ
إِنّي لَملآنُ العِنَانِ مُناقِلٌ إِذا ما وَنَى يومًا أَلفُّ سَـــــــؤُومُ
فَودَّ رجالٌ أنَّ أمّي تفنّعتْ بِشَيْبٍ يُغشِّي الرَّأسَ وَهْيَ عَقيمُ

وكذلك نراه يفاخر بكرمه الذي ورثه عن أبيه، ويشهد الجار والفقير والضيف على حسن ضيافته([13]):

واسألِ الجارَ والمُعَصَّبَ والأَضـ ـيافَ وَهْنًا إذا تَحَبُّوا لـــديَّا
كيفَ يَلْقونَني إِذا نبحَ الكلبُ وراءَ الكُسورِ نبــــحًا خَفِيَّا
لـــَمْ تَكُنْ خارجيّةً مِـــــــنْ تُراثٍ حَادثٍ بَلْ وَرثْتُ ذاكَ عليًّا

ومن جانب آخر، فقد سعى الشّاعر إلى إظهار رفعة شرفه وكرامته وربطهما بالخُلق والسّلوك القويم، لا بالمال والغنى، إذ إنّ المرء قد يكون فقيرًا رثّ الثياب، بيد أنه يبقى شريفًا قادرًا على نيل حاجته التي يسمو إليها من خلال خُلقه الطيب وحسن سيرته([14]):

قَدْ يُدرِكُ الشَّرفَ الفتى ورداؤُهُ خَلَقٌ وَجَيْبُ قَميصهِ مَرْقُوعُ
وَينالُ حاجَتَهُ التي يَسْمو لها ويُطَلُّ وِتْرُ المرءِ وهو وَضيعُ
إِمَّـــــا تَرَيْنـــــــي شاحِبًا مُتَبَذِّلًا كالسَّيفِ يُخْلِقُ غِمْدُهُ فَيضيعُ 

 

وكذلك يبدو الشّاعر ساعيًّا إلى إظهار صورة تعكس وفاءه ومراعاته الحقوق والحرمات، يقول([15]):

إِنّي امرؤٌ مَن رعى عَيْني رَعَيْتُ لَهُ مِنِّي الذِّمامُ ومَنْ أنْكَرْتُ أَنْكَرَني

وبذلك نرى الشاعر يتمسّك بالصفات العربيّة التقليديّة التي من شأنها أن تسمو به وتدلّ على رفعة شأنه، مفاخرًا بالقيم المحمودة التي تغنيه عن المال والثروات.

2- صورة الآخر

إنّ الآخر في شعر ابن هرمة يتمثّل بأولئك الذين تربطه بهم علاقات معيّنة، سواء أكانوا ولاة وحكّامًا وأولياء نعمة، أو كنّ حبيبات، لا سيّما أنه من اللافت أنّ الشّاعر قد سطّر في ثنايا قصائده العديد من الصور عن الحبيبات مستخدِمًا أسماء عديدَة مختلفة مثل سعدى وسلمى وعليّة وأسماء وهند… إنّ اختلاف الأسماء وتعدّدها لا يعني بالضرورة تعدّد الحبيبات، إذ قد تكون جميعها أسماء مختلفة لامرأة واحدة، كما وقد ترمز إلى «سيّدة الحكمة»، التي كان شعراء ما قبل الإسلام «يميلون إلى استدعائها في الأمور المهمّة التي تحتاج إلى الحذر والصبر([16])»، وكذلك قد يكون تعدّد الأسماء يهدف إلى الوفاء بمتطلّبات مطلع القصيدة التقليديّة، أي النسيب، الذي يشكّل الجزء الأول من بنية القصيدة.

 

أ- صورة الحبيبة

إنّ صورة الحبيبة في شعر ابن هرمة تتميّز بتنوّعها، فالشّاعر لا يشير إلى أجزاء جسدها وتفاصيله فحسب، ولا يقف عند وصف شعرها وعينَيْها، إنما يعمد كذلك إلى وصف رائحتها وتصوير حضورها، ومميّزات سلوكها كمزاحها وانعزالها، ناهيك عن تصوير جوانب مختلفة من علاقتها به.

ومن اللافت أنّ معظم صور الحبيبة في شعر ابن هرمة تنتشر في القصيدة في سياق النسيب، باستثناء قلّة منها تظهر في مواضع متفرّقة أخرى من قصائده بحيث لا يمكن تحديد سياقاتها أو أهميّتها بالنسبة إلى القصيدة ككلّ.

لقد عمد الشاعر في قصائده إلى تصوير الأثر الذي تتركه زيارة الحبيبة في نفسه، فكيف إذا كانت هذه الزيارة ليلًا في المنام، يقول([17]):

طَرقَتْ عُلَيَّةُ صُحبتي وَرِكَابــي أَهلًا بِطَيْـــــــــفِ عُلَيَّةَ الـــــمُنتابِ
طَرقَتْ وَقدْ خَفَقَ العُتومُ رِحالَنَا بِتَنُوفَةٍ يَهْمــــــاءَ ذاتِ خَـــــــــــرابِ
فَكأنَّمــــــــا طَـــــرقَتْ بِرَيَّا رَوْضةٍ مِنْ روضِ عَوْهَقَ طَلّةٍ مِعْشابِ

 

يصوّر الشّاعر في هذه الأبيات ما يتخيّله حين تطوف ذكرى حبيبته «عليّة» في باله، إذ يكون جالسًا في الصحراء الجافّة القاسية مع أصدقائه، بين النياق والجمال، فيحوّل طيف حبيبته الصحراء الجرداء إلى مرج أخضر نديّ. إنّ هذا التحوّل في صورة الصحراء الذي أنتجته مخيّلته، يجعله يرحّب بطيفها الزائر، ويفرح بقدومه، ومن ثمّ نراه يوظّف عناصر الصحراء، عناصرها الحيّة والجامدة إذ يلفّها ظلام الليل المدلهمّ، ليصوّر عظيم الأثر الذي تركه ظهور الحبيبة في نفسه، والأمان النفسي والروحي الذي يبثّه طيفها وبذلك نرى أنّ الشاعر يستخدم في وصفه عناصر يمكن إدراكها بواسطة الحواسّ، على غرار اللّيل والصحراء والأصدقاء والنياق، كما يُدخل في هذا المشهد الوصفي الحسّي صورة نفسيّة تتمثّل بظهور الحبيبة في الحلم.

وفي مشهد خياليّ آخر، نراه يسعد بطيف الحبيبة الذي يزوره في الحلم، غير أنّ تصويره يرتكز هنا على حاسّة الشمّ([18]):

أُحِبُّ اللَّيلَ إنَّ خَيالَ سَلْمى إِذا نِمْنـــــا أَلمَّ بِنــــــا فَزَارا
كأنَّ الرَّكبَ إذْ طرقَتْكَ باتوا بِمَنْدَلِ أو بِقارِعَتْي قِمَارا

إنّ «مندل» و«قمار» هما موضعان في الهند يُعتقد أنهما مصدر أفضل العود([19])، أي البخور الهندي الناعم الذكيّ الرائحة، وبذلك نرى الشّاعر يقارن أثر ظهور حبيبته في منامه بأجود أنواع العطور التي تنقله وصحبه إلى بلاد الهند حيث يقضون ليلتهم.

وعلى الرغم من تغزّل ابن هرمة بأكثر من امرأة، وورود ذكر العديد من أسماء النساء في أشعاره إلّا أنّ اسم «سلمى» تردّد كثيرًا، ويبدو أنّها كانت حقيقة واقعة في حياة الشّاعر، ذلك أنّ غزله بها من النوع العفيف الصادق الإحساس، وربّما أحبّها حبًّا طاهرًا فجاء غزله عفيفًا، يقول([20]):

تذكّرْتُ سَلمى والنَّوى تَسْتبيعها وَسَلْمى المُنى لو أنَّنا نَسْتطيعُها
فكيفَ إِذا حلَّتْ بأكنافِ مُفْــحَلٍ وَحـــــلَّ بِوَعْسَاءِ الحُليْفِ تَبيعُهــــا

 

وكذلك نراه في موضع آخر يشدّد على عفاف المحبوبة، مؤكِّدًا أنه لم يحدث بينهما ما يشين، وأنّها من عائلة كريمة النّسب([21]):

وَتزدهيني مـــــنْ غَيرِ فاحِشةٍ أَشياءُ عَنْها بالغيبِ أُنْبَؤُها
لو تُهنِئ العَاشِقينَ مَا وَعَدتْ لَكانَ خيــــــرَ العُداةِ أَهْنَؤها
شبَّتْ وشبَّ العَفافُ يتبَعُهــــا فَلمْ يُعَبْ خِدنُها وَمَنْشَؤُها
وَبُوِّئت في صَميمِ مَعْشرِهـــــا فَتَمَّ فــــــي قومِها مُبَوَّءُها

 

غير أنّ ابن هرمة لا يقف عند حدّ التعفّف، إذ يطالعنا في بعض أشعاره وصف حسيّ ماديّ تقليديّ، يصف فيه ملامح المحبوبة، فهي أسيلة الخدَّين، نقيّة اللون، مكحّلة الأماقي، هضيمة الكشح([22]):

إلى الجَمَّاءِ مِنّ خَدٍّ أَسيلٍ نَقيِّ اللَّونِ ليسَ بِذي كُلومِ
وَمِنْ عَيْنٍ مُكَحَّلةِ الأَماقي بِلا كُحْلٍ وَمِنْ كَشْحٍ هَضيمِ

وتراه طورًا آخر يشبّه المحبوبة بالظّباء والبقر، فهي واسعة العينَيْن، يخالطهما البياض والسّواد الشديدان كعيْنَيْ المها([23]):

وَخُرَّدٍ كَالمُها حُورٍ مدامِعُها كَأنَّها بينَ كثبانِ النَّقَا البَقَرُ

وبذلك نراه يسلك مسلك الجاهليّين في صوره سائرًا على نهج امرئ القيس الذي حسبه البعض أشعر الشعراء لأنه «أوّل مَنْ استوقف على الطلول ووصف النساء بالظباء والمها والبيض([24])». ومن ثمّ يمكن القول إنّ شاعرنا قد أبدى تأثرًّا واضحًا بالصور الشعريّة الجاهليّة برغم أنها كانت تعكس ماديّة العصر آنذاك ولا تتطابق مع رفاهية العصر العباسي الذي عاش فيه.

ب- صورة أولياء الفضل واليُسر

يتمثّل أولياء النعمة واليسر الذين يمتدحهم الشّاعر، بالخلفاء وأهل السياسة والحكّام الذين يمتازون بالغنى والثروات، بحيث غالبًا ما يشير إلى ثرواتهم ويمتدح كرمهم ونبلهم مصوِّرًا، كما جرت عادة الشعراء، صفات بارزة يتحلّون بها كالشجاعة والكرم والنبل، والتي من شأنها أن تحرّك مشاعر الممدوح فيفيض بكرمه على الشّاعر المدّاح الذي يصبو إلى المكافأة قبل كلّ شيء.

من المُلاحَظ أنّ شاعرنا يعتمد أساليب مختلفة وفق الظروف والمعطيات للاستحصال على المكافأة الماليّة، فنراه يتبنّى طرقًا مباشرة، قوامها تمجيد سخاء الحاكم الممدوح الذي قد يستجيب، فيهبه ما يبتغيه، ومن ثمّ، عند فشل الأسلوب المباشر، نراه ينتفض على ممدوحه فيعمد إلى إهانة الحاكم أو الوالي أو ذي اليسر الذي لم يتأثّر بمدحه ولم يجزِله في العطاء، أو إلى تصوير خيبته ومرارته على غرار ما حصل مع حفيد شقيق الإمام علي بن أبي طالب، معاوية بن عبدالله بن جعفر([25]):

فإنِّي ومدحَكَ غيرُ المُصيـِ بِ كالكلبِ ينبحُ ضَوْءَ القَمَرِ
مَدَحتُكَ أَرْجو منكَ الثَّوابَ فكنتُ كَعَاصِرِ جَنْـــــبِ الحَجَرِ

إنّ صورة ولي النعمة، المشبَّه بالقمر اللامبالي في البيت الأول، وبالحجر في البيت الثاني تعكس مرارة الخيبة التي تعتصر الشّاعر، بحيث نفترض أنه قد قام بمحاولات عديدة لنيل عطايا الممدوح، دونما نجاح، وبالتالي فقد عمد إلى تشبيه نفسه بالكلب السّاعي أن يلاحظ القمر وجوده، كما إلى تشبيه الممدوح بالحجر الذي يستحيل خروج الماء منه.

وتبدو فرادة الصّورة الشعريّة جليّة هنا، إذ إنه غالبًا ما تكون صورة القمر إيجابيّة، رومنسيّة، غير أنه في هذه الحالة يضع شاعرنا القمر على مسافة بعيدة جدًّا، لا تُطال، فهو بارد غير مبال، يَسخر جماله من جهود الكلب.

وكذلك نراه في قصيدة أخرى يشبّه الممدوح البخيل الذي يتجاهل سائله، بناظم الخرز الذي ينهمك في عمله ولا يدري مَن حوله([26]):

نَكَّسَ لمَّا أتيتُ سائِلَهُ واعْتَلَّ تَنْكيسَ نَاظِمِ الخَرَزِ

 

يتبيّن ممّا تقدّم، أنّ هجاء ابن هرمة مرتبط بالعطاء، إذ قد يجرّه بخل ممدوحيه إلى هجائهم، ولكنّه حين يهجو لا يكون مقذعًا لاذعًا بقدر ما تكون صورة هجائه ساخرة ومؤلمة، كهجائه رجلًا من قريش مدحه غير أنه لم يجزه عطاءً، فدعاه إلى عدم ادّعاء الشرف والرفعة، يقول([27]):

فَهلَّا إِذا عَجَزْتَ عَنِ المَعالِي وَعَمَّا يفعلُ الرَّجلُ القَريعُ
أَخذْتَ برأيِ عمرو حينَ ذَكَّى وَشَبَّ لنارِهِ الشَّرفُ الرَّفيعُ
إِذا لـــــــمْ تستطعْ شيئًا فَدعْهُ وجاوزْهُ إِلــــى ما تستطيعُ

إنّ الروايات والأخبار حول ابن هرمة وشعره، تُظهر بشكل جليّ أنّ الأخير كان مدركًا الصّور التي يرغب أولياء الفضل والنعمة أن يسمعوها، والتي من شأنها أن تلبّي متطلّباتهم وغرورهم. ويبدو ذلك جليًّا من حكاية أوردها ابن عبد ربّه جاء فيها على لسان الربيع حاجب المنصور*:«قلت يومًا للمنصور: إنّ الشّعراء ببابك وهم كثيرون، طالت أيّامهم ونفدت نفقاتهم. فقال: اخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام، وقل لهم مَن مدحني منكم فلا يصفني بالأسد، فإنما هو كلب من الكلاب، ولا بالحيّة فإنما هي دُويبة فُتنة تأكل التراب، ولا بالجبل فإنّما هو حجر أصمّ، ولا بالبحر فإنّما هو غُمطاط لجب (عظيم الأمواج)، ومَن ليس في شعره هذا فليدخل، ومن كان في شعره فلينصرف. فانصرفوا كلّهم إلّا إبراهيم بن هرمة، فإنه قال: أنا له يا ربيع، فأدخلني. فأدخله، فلمّا مثل بين يديه قال المنصور: يا ربيع قد علمتُ أنه لا يجيبك أحد غيره([28])». وممّا جاء في قصيدة ابن هرمة في مدح المنصور([29]):

سَرى ثَوبَه عَنْكَ الصِّبـــا المتخـــايِلُ وآذَنَ بالبَيْــــنِ الخَليطُ المُزايـــــلُ
كريمٌ له وجهانِ وَجهٌ لـــــدى الرِّضَا أسيلٌ ووجهٌ في الكريهةِ بَاسلُ
وليسَ بِمُعطي العفوِ منْ غيرِ قُدرةٍ ويعْفُو إذا مـــــا أمكنَتْهُ المَقَاتلُ
أتيناكَ نزجي حاجةً ووسيلةً إليكَ قدْ تَحْظى لديكَ الوسائلُ
ولا لام فِيكَ الباذلُ الوجْهَ نفسَهُ ولا احتكمَتْ في الجودِ منْكَ المباخِلُ
لَهُ طينةٌ بيضاءُ مِنْ آلِ هاشم إِذا اسوَدَّ مِنْ لُؤْمِ التُّرابِ القَبائلُ
رأيتُكَ لمْ تَعدِلْ عَنِ الحقِّ مَعْدِلًا سِواهُ ولمْ تَشْغلْكَ عنهُ الشَّواغِلُ

إنّ ثنايا هذه الأبيات تكشف عن معانٍ غير جديدة، كما يبدو جليًّا أنّ زخارف الثناء التي أوردها الشّاعر ليست مبتكرة، إلّا أنّها تمتاز بطابعه الخاص وأسلوبه الشّعري، بحيث أنّ البيت الأول لا يشير إلى الخليفة، إنّما إلى الشّاعر نفسه، الذي يغادره الشباب وترحل معه الحبيبة.

إنّ القصيدة هذه تمتثل كليًّا لرغبة الخليفة، بحيث تهدف أبياتها إلى إرضائه من غير العودة إلى تشابيه أو استعارات ترتبط بالحيوان، فكان ثناء لعدل الخليفة وحكمته وشجاعته بأسلوب بسيط نسبيًّا، وكذلك نلحظ في البيت ما قبل الأخير، استعارة بارزة تسوّغ شرعيّة الحكم العباسي وأحقيّته بالخلافة بالرجوع إلى «الطينة البيضاء» التي تشير إلى صلته بالنبيّ (صلعم) ونقاء الصلات العائليّة مع أهل البيت، فالطين يشير إلى الجنس البشري، وهي فكرة قد وردت في التوراة([30]) وفي الإنجيل المقدّس([31]) وكذلك في القرآن الكريم([32]) وتشير إلى بداية الوجود البشري.

كما شدّد ابن هرمة على ذكر دلالات الكرم، فأشار إليه في غير موضع من قصيدته، وهو بذلك يدعو الخليفة إلى الدفع بسخاء مقابل مديح الشّاعر، وتظهر من خلال هذه الصور نيّة الشّاعر إرضاء الخليفة ليسبغ عليه عطاياه، وبذلك ينكشف تصميمه على تفادي غضب الخليفة الذي قام بتحذيره لتجنّب بعض الصور.

 

وكذلك نرى شاعرنا في قصيدة أخرى يعمد إلى وصف ممدوحه بالجمال، بحيث تغنّى بحسنه ونعته بطليق الوجه، سميح المحيّا([33]):

يَجدونَ وجهَكَ بابنِ فرعَيْ مالكٍ سَهلًا إِذا غلَظَ الوجوهِ طَليقا

هذا بالإضافة إلى استخدامه بعض المعاني الإسلاميّة التي سادت في ذاك العصر، ذلك أنّ الشّعراء ظلّوا يمتدحون التديّن والعمل على رفعة شأن الدين وإعلاء كلمته، يقول:

وكانتْ أمورُ النّاسِ منبتَةَ القوى فَشَدَّ الوليدُ حيـــــــنَ قــــامَ نظامَها
خليفةُ حــــقٍّ لا خليفــــةُ بَاطــــــلٍ رَمى عنْ قناةِ الدّينِ حتى أقامَهَا([34])

خلاصة القول إنّ ابن هرمة قد استطاع في مدحه أن يتخلّص من الصور الجاهليّة التي تشبّه الممدوح بالبحر والجبل أو الأسد وسِوى ذلك من صور حسيّة، مستوحيًا صورًا جديدة تثير حماسة الممدوح فتشعل فيه الرغبة في تقديم العطايا، إلّا أنّ شاعرنا قد حافظ على جزالة الألفاظ وقوتها، متجنّبًا الدخيل من الألفاظ فكان في ذلك جامعًا ما بين حداثة عصره وفصاحة الأقدمين.

 

ج- صورة الحيوان

لقد اتّصل الشعراء العرب ببيئتهم وعناصرها اتّصالًا وثيقًا، وتفاعلوا معها بكلّ ظواهرها ومظاهرها، وأقاموا علاقات وجدانيّة مع حيوانها. ولم يشذّ ابن هرمة عن هؤلاء الشعراء فأورد في سياقات مختلفة من شعره العديد من صور الحيوان، بعضها يقوم على تقليد صور السّلف، والبعض الآخر يحمل في ثناياه تجديدًا من وحي الشّاعر وعصره. وإذا كان قد درج الشّعراء القدماء على استخدام صورة الإبل في القصائد التقليديّة باعتبارها زخرفًا فنيًّا لا بدّ منه، فإنّ ابن هرمة أدخل نفحة شعريّة جديدة على هذه الصورة، بحيث شكّلت تصويرًا لعلاقة الشّاعر بأولياء الفضل واليسر، يقول([35]):

وَإنَّكِ إِذا أَطعمتِني مِنْكِ بالرِّضَا وَأيْأَسْتِني مِنْ بَعْدِ ذلكَ بالغَضَبْ
كَمُمْكنةٍ مِنْ ضرْعِها كفَّ حَالِبٍ وَدافقةٍ مِـــــنْ بعدِ ذلكَ مَا حَلَبْ

وإذا أمعنّا النظر في شعر ابن هرمة عمومًا، لوجدنا أنه يستخدم الناقة للإشارة إلى جوانب إيجابيّة في شخص الممدوح، بيد أنّ صورة النّاقة في المثال أعلاه، قد جاءت في القسم الأخير من إحدى قصائده التقليديّة، وفي غير سياقها المدحيّ التقليديّ، بغرض الحطّ من قدر ولي النعمة الذي بخل على شاعرنا بالعطايا والهبات.

لكن سرعان ما يعود شاعرنا إلى الصّورة التقليديّة للنّاقة، فيصفها بالسّرعة والنشاط حين يتعب سواها من الإبل، مشبِّهًا اضطراب ظلّها عند جريها بالرأل (فرخ النعام)([36]):

تَرى ظِلَّها عندَ الرَّواحِ كأنَّهُ إلى دَفِّها رَأْلٌ يَخُبُّ جَنيْبُ

ومن جانب آخر تقتضي الإشارة إلى أنّ استخدام صور بعض الحيوانات في القصيدة العربيّة التقليديّة والتشبيه بها، على غرار الكلب أو الحمار من شأنه أن يُعتبر إهانة في المفهوم الثقافي العربي، وما زال حتّى يومنا هذا. ومع ذلك، فقد نقع على بعض الاستخدامات الإيجابيّة لصور الحيوان في القصائد الجاهليّة، على غرار ما ذهب إليه النابغة الذبياني في وصفه صورة الكلب إبّان مشهد صيد([37]). وكذلك فعل شاعرنا في سياق فخره بذاته وامتداحه كرمه، فشبّه نفسه بالكلب([38]):

وَمُسْتَنْبِحٍ([39]) نَبَّهْتُ كلبـــــــي لِصوتِهِ وقلتُ لـــــهُ قُمْ باليَفَاعِ فجَـــــاوبِ
فَجاءَ خَفِيَّ الصَّوتِ قد مسَّهُ الضَّوى بِضرْبَةِ مَسْنُونِ الغرارينَ قاضِبِ
فرحَّبْــــــــتُ واستبْشَرْتُ حـــــــتّى رأيتُهُ وَتلكَ التــــــي ألقى بِها كُلَّ آَئبٍ

يصوّر الشّاعر في هذه الأبيات، كرمه الذي يعلو فوق كلّ كرم، وذلك من خلال نقل مشهد تفاعليّ وكلبه، بأسلوب هزلي، ممّا يعطي حركة وحيويّة للمشهد، ويحفّز خيال القارئ. وكذلك الأمر في قصيدة أخرى، نرى الكلب يتصدّر الدور الأساس في القصيدة، بالرغم من عدم وضوح المشهد الوصفي كليًّا كون القصيدة غير كاملة، فنحار ما إذا كان الممدوح هو الشّاعر نفسه أم أحد الميسورين([40]):

وَمُسْتَنْبِحٍ تَسْتَكْشِطُ الرّيحُ ثوبَهُ لِيسقطَ عنْهُ وهو بالثَّوبِ مُعْصِمُ
عَوَى في سِوادِ اللّيلِ بَعْدَ اعتِسَافِهِ لينبحَ كلــــــبٌ أوْ ليفزَعَ نَوَّمُ
فَجاوبَهُ مُسْتَسْمِعُ الصَّوتِ للقَرَى لَهُ مَعَ إِتيانِ المُهِبِّينَ مَطعَمُ
يكادُ إذا ما أَبصرَ الضَّيفَ مُقبِلًا يُكلِّمُهُ مِنْ حبِّهِ وهو أعْجَمُ

يصف الشّاعر في هذه الأبيات سخاءه وكرمه، مرتكِزًا على الكلب الذي يشكّل العنصر الأساس في هذا المشهد، والذي يعكس تصويرًا أكثر تقدّمًا عن صورة الكلب التي وردت في المثال الأسبق، حيث ينبّه فيها الكلب الشاعر ليستفيق من نومه ويلبّي حاجة المسافر الجائع. أمّا في المثال الأخير فيبدو الكلب يقظًا يتلهّف لصوت المسافر الجائع، في حين أنّ سيّده، الشّاعر، يرحّب بالضيف ويكرمه بالطعام والشراب.

إنّ هذه الصورة تعكس نفسيّة الشّاعر الباحث عن إثبات ذاته وإظهار قيمه وأخلاقه من خلال التركيز على إحدى أهمّ القِيَم العربيّة التي سادت قبل الإسلام بشكل خاص، ألا وهي إغاثة الملهوف وإقراء الضيف وإكرامه، هادفًا بذلك إلى إظهار جوده وكرمه بشكل خاص وصفاته الحميدة عمومًا، على غرار الجاهليّين الذين كان من عاداتهم أن تُنْحر إبلهم إكرامًا للضيف([41]):

كَمْ ناقةٍ قدْ وَجَأْتُ مَنْحَرَها إِلّا دِرَاكَ القِرَى ولا إِبلي
لا غَنَمي في الحياةِ مُدَّ لها بِمُسْتَهلِّ الشُّؤْبُوبِ أو جَمَلِ

أمّا الكلب فلا تكتمل فرحته إلّا حين يرمي الزائر له قطعًا من الطعام بعد أن يكون شاعرنا قد ذبح ناقته إكرامًا لضيفه وترحيبًا به([42]):

وفرحةٌ مِنْ كلابِ الحَيِّ يتْبَعُها شَحْمٌ يَزِفُّ بهِ الدَّاعي وَتَرْعيبُ

يتبيّن من كلّ ما تقدّم، أنّ الشّاعر يستخدم صورة الكلب في سبيل بناء صورة ذاتيّة قوامها الكرم والسخاء، وهما من القِيَم الراسخة في الثقافة العربيّة، ومن ثمّ يبدو جليًّا استغلال صورة الحيوان بهدف ترسيخ صورته الذاتيّة والإعلاء من شأنها، وتوجيهها بما يتلاءم ورغبة الشّاعر.

 

د- صورة الطبيعة وعناصرها

غالبًا ما تطالعنا صور ترتبط بعناصر الطبيعة في أشعار ابن هرمة، بعضها بعيد من المألوف المكرّر في الشّعر العربي، بحيث ينحو الشاعر إلى الابتكار والتجديد، ومنها ما هو تقليدي مكرّر يرتبط بالصحراء التي كانت تمثّل موطن الحبيبة، وهو الموضوع المحوري في النسيب في القصيدة التقليديّة.

وإذا كان ابن هرمة قد اتّبع عمومًا بنية القصيدة التقليديّة، إلّا أنه قد حاد في بعض قصائده عن المطلع التقليدي، وهو ما يعكس رغبته في أن يكون مجدِّدًا، بحيث برز إسهامه في التجديد من خلال رؤية جديدة للنّسيب، تصّور الصّحراء مكانًا ينمو فيه النخيل ويتساقط المطر، فأمست هذه الصّحراء تشعّ حياة، مخالفًا بذلك رؤية الشّعراء الجاهليّين الذين لم يروا سوى خشونة الصّحراء وكثبانها ورمالها وصعوبة التنقّل فيها([43]):

أَأَلْحَمامةُ فِي نَخْلِ ابنِ هَدَّاجِ هاجَتْ صبابَةَ عاني القَلْبِ مُهتَاجِ
أَمِ المُخبِّر أنَّ الغَيْثَ قَدْ وَضَعَتْ منْهُ العِشَارُ تمامًا غيرَ إِخداجِ
شَقَّتْ سوائِفُها بالفَرْشِ منْ مللٍ إلى الأَعارِفِ منْ حَزْنٍ وأَوْلاجِ
حتَّى كأنَّ وُجوهَ الأرضِ مُلْبَسَةٌ طَرائِفًا مِنْ سَدَى عَصْبٍ ودِيباجِ

لقد شكّلت صورة الصّحراء في أخيلة الشّعراء جميعًا تلك البيئة الجافّة حيث الفراق القسري عن المحبوب، فكانت دافعًا إلى الشّوق والحزن والأسى، إلّا أنّ شوق ابن هرمة يتأتّى من صورة أشجار النخيل ومشهديّة الصّحراء بعد تشبّعها مطرًا لتبدو واحةً خصبة تنبض بالحياة، ولا توحي بالغربة والموت.

إنّ هذه الصّورة التي جاء بها ابن هرمة، تعكس رغبته في خلق صورة بديلة مختلفة عن الصّورة التقليديّة، وبالمحصّلة إظهار مقدرته الشعريّة بين أقرانه، وإثبات ذاته شاعرًا مولِّدًا بين شعراء عصره، غير أنّ فرضيّة التجديد في هذه الصّورة قابلة للنقد والردّ، ذلك أنّ الشّاعر عمد إلى الاستعاضة عن صور من القصيدة التقليديّة بأخرى «حديثة»، مجدِّدة غير مألوفة، الأمر الذي لا يشكّل ابتكارًا فعليًّا، ولا يُعدّ تجديدًا حقيقيًّا، إذ إنّه ينطلق في صورته من الموروث الشعريّ القديم مضفيًا عليها من تأثيرات عصره وألوان صوره.

وكذلك نلحظ أن ابن هرمة قد اهتمّ بوصف البادية في عصر ازدهرت فيه الحياة الاجتماعيّة، وأصبح وصف المدن والبساتين والقصور شائعًا، وبات كلّ ما يتعلّق بالصّحراء بعيدًا من تلك الحياة، وفي ذلك يقول ابن رشيق «وليس بالمحدث من الحاجة إلى أوصاف الإبل ونعومتها والقفار ومياهها… لرغبة الناس في هذا الوقت عن تلك الصفات([44])»، وبذلك يمكن القول إنّ الشّاعر كان مقلّدًا في تناول صورة الإبل والأطلال، وسار بها على نهج الجاهليّين، متأثِّرًا بحياة البداوة التي عاشها في ديار تميم، ولو أنّه حاول أن يقارب الصحراء بأسلوب تصويري جديد ومختلف. لذلك، لم يكن غريبًا أن نراه في موضع آخر يسير على خطى الشعراء الجاهليين، فيصف الدمن والأثافي التي جار عليها الزمن، مظهرًا جزعه لما حدث لهذه الديار([45]):

لَعِبَ الزَّمانُ بِها فغيَّرَ رَسْمَها وَخَرِيقُهُ يَغْتَالُ مِنْ قِبَلِ الصَّبا
فكأنَّها بَلِيَتْ وُجوهُ عِراضِها فَبَكَيْتُ منْ جَزَعٍ لمَّا كشفْتُ البِلَى

 

وبعيدًا من الموضوعات الشعرية الجاهليّة التقليديّة، فقد تناول بعض شعراء العصر العباسي الموضوعات الفلكيّة، وهي ما تطرّق إليه ابن هرمة في إحدى قصائده التي وصلتنا، مستخدِمًا التشبيه لوصف دقائق هذه النجوم وتفاصيلها، فكان في كلّ بيت من قصيدته المؤلّفة من اثني عشر بيتًا وصف لنجم من النجوم([46]):

وَبَنَاتِ نَعْشٍ يبْتَدِرْنَ كَأنَّها بَقَراتُ رَمْلٍ خَلْفَهُّنَّ جَآذِرُ
والفرقَدانِ كَصَاحبَيْنِ تَعَاقدا تاللهِ تبرحُ أوْ تَزُولُ عتائِرُ
والجديُ كالرّجلِ الذي ما إنْ لهُ عَضُذٌ وليسَ لهُ حَليفٌ ناصِرُ

إنّ هذه الأبيات تعكس التقدّم العلمي الذي عرفه العصر العباسي، والتجديدات في الموضوعات الشعريّة غير أنّنا لا نستطيع تحديد سبب اختيار ابن هرمة موضوع قصيدته ومصدر صوره، كوننا نعجز عن تحديد السياق الذي جاءت فيه القصيدة لضياع معظم أشعاره، كما لا نستطيع جزم ما إذا كانت هذه القصيدة تشكّل مخطّطًا توضيحيًّا لحركة النجوم.

لا شكّ أنّ العرب عرفوا علم الفلك والتنجيم منذ الجاهليّة، وتطوّر هذا العلم في العصر العباسيّ، ومن ثمّ أصبح الشّعراء يشيرون إليه في قصائدهم([47])، غير أنّ ما هو جديد وغير مألوف هو أنّ ابن هرمة قد بنى قصيدة متكاملة، ذات وحدة عضويّة، تدور حول النجوم وتعدّدها وتصفها، في وقت لم يكن قد شاع هذا الموضوع في الشّعر العباسي، وإنما بقي شذرات متناثرة في سياق قصائدهم.

ونشير في هذا السياق إلى أنّ اعتقاد ابن هرمة بالأبراج والتنجيم وتأثيرها في النّاس والطبيعة ليس واضحًا في شعره، فالمثال التالي يشير إلى أنّ خلفيّة الشّاعر الدينيّة والثقافيّة قد أثّرت في بعض الأحيان على صوره الشعريّة، بحيث يبدو جليًّا تأثره بتعاليم القرآن الكريم وتحديدًا في الآية التالية: ]يا أيها الذين آمنوا، اجتنبوا كثيرًا من الظنّ، إنّ بعض الظنّ إثم، ولا تجسّسوا ولا يغيب بعضكم بعضَا، أيحبّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا[ (سورة الهجرات: آية 12) ومن ثمّ، فقد أورد مضمون الآية الكريمة في إحدى قصائده، وممّا جاء فيها([48]):

قُلْ للذي ظلَّ ذا لونَيْن يَأكُلُني لقَدْ خَلَوْتَ بِلَحْمٍ عَارِمِ البَشَمِ
إِنّي إذا مَا امرؤٌ خَفَّتْ نعامتُهُ إِليَّ واستَحْصَدَتْ مِنْهُ قُوىَ الوَذَمِ
عَقَدْتُ في مُلتقى أَوْداج لَبَّتِهِ طَوْقَ الحمامةِ لا يَبْلَى عَلى القِدَمِ
إنَّ الأديمَ الذي أمسَيْتَ تَعْرُكُهُ جَهْلًا لَذُو نَغَلٍ بادٍ وَذو حَلَمِ
وَلا يُئِطُّ بأَيدي الخالقينَ ولا أَيدي الخوالِقِ إلّا جِيْدُ الأَدَمِ

إنّ الصّورة المركزيّة لهذه القصيدة غاية في القوة والتعبير، فإذا كان أهل النميمة يحافظون على صحّتهم من خلال تناولهم اللّحوم، غير أنهم في الواقع يمضغون الجلد القاسي الذي سيضرّ بفكّهم ويتركهم مخضّبين في دمائهم. ومن ثمّ فإنّ قوة هذه الصّورة لا تستند إلى الصّورة القرآنيّة التي تصوّر آكل لحوم الأحياء فحسب، إنما كذلك من خلال الاستمرار في رسم تبعات هذا الفعل في الأبيات التالية التي تصوّر المرض والنزيف. ويبدو جليًّا التحوّل في البيتَيْن الثاني والثالث اللذين يقيمان مقارنة غير اعتياديّة بين طائرَيْن: النعامة الغبيّة العدوانيّة والحمامة المسالمة الودودة، فيذهب الشّاعر إلى التأكيد على أنه سيجعل النعامة غير ضارّة على غرار الحمامة.

ومن ثمّ، فإنّ عناصر البيئة المحيطة بالشّاعر، بالإضافة إلى مصادر المعرفة المتاحة له، قد أسهمت في خلق سياقه الخاص وبناء فضائه الخيالي الذاتي لتوليد الصور الشعريّة بأسلوب خاصّ به أدّى إلى إظهار مهاراته الشّعريّة ومقدراته اللّغويّة، فهو لا يوظّف العناصر المختلفة للصورة بغية إبراز غرض واحد، إنما يخلق تفاعلًا إيجابيًّا متناغمًا بين هذه الصّور، عامدًا في الوقت نفسه إلى تجنّب المتعارضات السلبيّة بين مكوّنات هذه الصّورة.

 

 

ثانيًا: بنية الصّورة في شعر ابن هرمة بين التقليد والحداثة

إنّ السّعي إلى تتبّع صور ابن هرمة الشّعريّة يحول دونه عقبات عديدة تعود إلى فقدان ديوانه الأصلي كما ذكرنا سابقًا، ما قد يؤدّي إلى سوء فهم أبعاد صوره وسياقها، ذلك أنّ شعره المتبقّي مشتّت ومجزّأ، غير واضح السياق، كما أنّ قصائده غير مؤرّخة ما يضفي صعوبة في تخمين سياقاتها، ما خلا بعض الاستثناءات القليلة الواضحة المناسبة والمقصد، كقصائد مدح المنصور التي جئنا على ذكرها في موضع سابق. غير أنّ ذلك لا يعني استحالة تحليل هذه الصّورة الشّعريّة ودراسة بنيتها، إذ يمكن التعمّق في بعض الصّور الجزئيّة المنعزلة المتوافرة في مقاطع أو أجزاء من قصائده من جهة، كما يمكن تحليل سلسلة متتالية من الصّور في مقاطع شعريّة كاملة من جهة أخرى. لذلك، سوف نعمد إلى تقسيم الصّور في شعر ابن هرمة إلى صورة مفردة وأخرى مركّبة، وذلك بغية تتبّع تكوين الصّورة الشّعريّة ودراسة بنيتها.

 

1-بنية الصّور المفردة

تُحدَّد الصورة المفردة على أنها الصّورة التي يمكن أن تستقلّ استقلالًا ذاتيًّا بكيانها، وتنفرد عن غيرها من الصّور التي في سياقها. وهذا لا يعني أنها لا تكون جزءًا من صورة أعمّ وأوسع، أو من صورة تكوّنها عدّة صور، إنّما يعني «أنّ هذه الصّورة لها من القوة في التصوير ما يجعل تأثيرها في النّفس بيِّنًا، بحيث تلحّ على الخيال في استحضارها دفعة واحدة من غير زيادة أو نقصان([49])»، في حين أنّ آخرين رأوا فيها تعريفًا أكثر بساطة بحيث «تعتمد الصّورة المفردة على التصوير الحسّي الموجود بين المتشابهَيْن في الظاهر من دون النفاذ إلى المعاني النفسيّة([50])».

لقد اعتمد ابن هرمة في صوره الشّعريّة على الصّور والتعابير المجازيّة مثل التشبيه والاستعارة، بحيث تمكّن الشّاعر من إظهار العلاقة التشابهيّة بين تجاربه الخاصّة من جهة وعناصر الطبيعة وأشيائها من جهة أخرى، وبالتالي تحويل التشابهات إلى صور شعريّة، ذلك أنه «كان ذا قدرة فائقة في التصوير وإدراك العلائق بين الصّور المتشابهة والمتجاورة([51])». وتبدو جليّة قدرة ابن هرمة على بناء الصّورة المفردة من خلال اعتماده الأدوات المجازيّة المستخدمة عادة في الصّور الشّعريّة التقليديّة، يقول([52]):

وَإِذا هَرَقْتَ بكلِّ دارٍ عَبْرَةً نُزِفَ الشُّؤونُ ودمعُكَ اليَنْبُوعُ

إنّ الصّورة في هذا البيت مجازيّة، ذلك أنّ البكاء المفرط ينتج عنه تصلّب العواطف ما سيؤدّي حتمًا إلى التوقّف عن ذرف الدموع. والجدير بالذكر أنّ هذه الصّورة قديمة ومستهلكة في الشّعر العربيّ التقليديّ، كما أنها تجافي مفهوم الصّورة الذي قدّم له الجرجاني، الذي يشير إلى أنّ أفضل الصّور وأجملها يأتي من مقارنة الأشياء البعيدة التي لا يربطها جامع مشترك واضح: «إنّ الصّور تتولّد من عمليّة التشابه… وهي غير مقدَّرة ما لم يكن التشابه قائمًا بين شيئَيْن ينتميان إلى جنسَيْن مختلفَيْن…فكلّما ازدادت المسافة (الفرق) بين الجسمَيْن، كلّما كانت أكثر متعة للروح (النفس))[53](».

وفي مثال آخر يستخدم شاعرنا صورة مفردة للتعبير عن مشاعره إبّان حداده على وفاة إبراهيم الإمام، شقيق الخليفة العباسي السفّاح([54]):

أتاني وَأَهْلي باللِّوى فوقَ مثعرٍ وقدْ زجرَ اللّيلُ النّجومَ فوَلَّتْ

تبيّن الاستعارة في البيت أعلاه الليل الذي يرمز إلى الظلام والكآبة والموت يطرد النجوم من السّماء فازداد الليل وحشة وظلامًا، كحال الشاعر المتألّم الذي تلفّه السوداويّة ويتملّك لواعجه الظلام، وبالتالي فإنّ هذه الصّورة الخياليّة المبتكَرة توحي إلينا بتأثّر الشّاعر العميق، وتفاعله مع الأنباء المؤلمة التي أفاده بها الرسول، فتجلّى خيال الشّاعر الإبداعي من خلال انفعاله الواضح الذي جاء مزيجًا من الحزن والغضب واليأس. ونرى هذا المستوى من الخيال يمتدّ إلى جميع أجزاء هذه القصيدة التي انتقل فيها من رثاء إبراهيم الإمام إلى مدح شقيقه، الخليفة السفّاح، الذي قضى على حركة التمرّد التي كانت قائمة آنذاك([55]):

فشمَّرَ عبدُ اللّهِ لمَّا تجرَّدَتْ لواقِحُ مِنْ حربٍ زحولٍ تَجلَّتْ
فقادَ إليْها الحالبينَ فأَنْهلوا ظماءً إذا صارَتْ إِلى الريّ علَّتْ
خَلايَا تخَلَّتْها الحروبُ ولمْ يَكنْ خَلايَا لَقاحٍ خلِّيَتْ فَتَخلَّتْ

ويستكمل ابن هرمة مدح عبد اللّه السّفاح في القصيدة نفسها، مستخدِمًا الصّور المجازيّة اللامعة التي تعكس سعة خياله([56]):

وكمْ مِنْ كَسيرِ السَّاقِ لاءمَ ساقَهُ بمعروفِهِ حتَّى استَوَتْ واستمرَّتْ

إنّ السّاق المكسورة المشار إليها في البيت أعلاه ترمز إلى الفقر الذي يُضعف أولئك المحرومين في المجتمع ويوهنهم، الذين بمعروف «السّفاح» وعنايته سيأتيهم الرخاء والازدهار.

والجدير بالذكر أنّ صور ابن هرمة في هذا السياق لا تختلف كثيرًا عن الصّور التقليديّة المألوفة عند العرب، شأنها شأن قصيدة أخرى يمتدح فيها «السّفاح»  بأصالة نسبه ونبله([57]):

أنتَ ابنُ مسْلنطِحُ البَطْحاءِ منبتُكُمْ بطحاءُ مكَّةَ لا رُوسُ القَراديدِ

إنّ هذه الصّورة مكرّرة، لا تخرج عن المألوف في الشّعر التقليدي، وبالمِثْل فإنّ الوقوف عند الهبات والهدايا التي تمثّل صورة الممدوح الميسور الذي يوزّع المكافآت ويسبغ النِّعم، هي صورة واسعة الانتشار في الشّعر العربي القديم([58]):

إِنَّ أياديكَ عِنْدي غَيْرُ واحدةٍ جَلَّتْ عنِ الوَصْفِ والإحصاءِ والعَدَدِ
وَلَيْسَ مِنْها يدٌ إليَّ وأنتَ بِها مُسْتوجِبُ الشُّكرِ منِّي آخِرَ الأَبدِ

ينسحب الأمر نفسه إلى صورة السهم الذي يصيب هدفه، وهي ترمز إلى الشّاعر المتألّم الذي لا يشعر بالأمان ويلفّه القلق بعد أن بلغ سنّ الخمسين، وتخلّت عنه النساء، ولم يعد قادرًا على جذب مَن يرغب([59]):

إنَّ الغَواني قدْ أَعرضْنَ مَقْلِيَةً لمَّا رَمى هَدَفَ الخمسينَ مِيلادي

إنّ صورة الشّاعر-الحبيب الذي هرم، فتلاشى شكله وفَقد مقوّمات الشباب ليست بجديدة أو مبتكَرة لوصفها بالجِدّة والفرادة، وبالتالي لا تترك تأثيرًا فعليًّا بالسامع.

ولا بدّ عند دراسة الصور المفردة في شعر ابن هرمة من الوقوف عند قصيدته الموجّهة إلى عبد الواحد بن سليمان، ابن الخليفة عبد الملك، التي أنشد فيها اثنَيْ عشر بيتًا يصف فيها مشاعره ويقدّم اعتذاره عن امتداح سواه، مقابل سبعة أبيات منها فحسب أثنى فيها الشاعر على ممدوحه. وإذ يُلاحظ أنّ جميع أبيات هذه القصيدة تتمتَّع بجودة في النّظم والصياغة، إلّا أنّها تختلف أسلوبًا عن قصيدة مدح المنصور، ذات الجودة التركيبيّة العالية والصّور المبدعة المقرونة بالعاطفة الصادقة.

وعلى الرغم من كون جزء كبير من هذه القصيدة قد فُقِد، إلّا أنّ جزءها المتبقّي يبدو مقطوعة كاملة مترابطة الأجزاء والمعاني، يعكس التفاعل العلائقي والعاطفي القائم بين الشّاعر والممدوح، يقول([60]):

صَرَمْتَ حبائلًا منْ حبِّ سَلمى لِهندٍ ما عَمَدْتَ لمُسترَاحِ
فإنَّكَ إنْ تُقِم لا تَلقَ هِندًا وإنْ تَرحَلْ فَقلبُكَ غيرُ صاحي
يَظلُّ نهارَهُ يهذي بِهندٍ وَيأَرقُ ليلَهُ حتًّى الصَّباحِ
أَعبْدَ الواحدِ المحمودِ إِنّي أَغَصُّ حذارِ سُخطِكَ بالقَراحِ
فَشُلَّتْ راحتَايَ وجالَ مُهري فَألقاني بِمُشْتَجرِ الرَّماحِ
كأَنَّ قصائِدي لكَ فاصْطَنْعني كَرائمُ قدْ عُضِلْنَ عَنِ النَّكاحِ

يستهلّ الشّاعر قصيدته بالنّسيب، وهو المطلع التقليدي في القصيدة العربيّة القديمة، بحيث يشير إلى حبيبته (سلمى) ذاكرًا حبيبةً أخرى قد هجرته (هند)، وهذا المطلع يرمز في أبعاده إلى العلاقة الوطيدة التي تجمعه بعبد الواحد (سلمى)، وإلى الممدوح السابق الذي هجره أي المنصور (هند). ومن ثمّ، يتحوّل الشّاعر إلى تصوير خوفه من غضب عبد الواحد ليعلن بعدها إخلاصه الكليّ له وولاءه المطلق، معترفًا بخطئه بامتداح سواه واستحقاقه العقاب على فعله.

إنّ الصّور المفردة في هذه القصيدة تفرض ذاتها: «يهذي»، «أغصّ»، «مشتجر الرماح»… فيبدو الشّاعر ساعيًا إلى اكتساب ودّ ممدوحه، طالبًا المغفرة لخيانته، فامتداحه الآخرين كان عرضيًّا، والممدوح-الحبيب (عبد الواحد) له منزلة في قلبه لا يقربها سواه.

غير أنّ ما يُلحظ في صور ابن هرمة عمومًا أنها قد جاءت تقليديّة، تحاكي صور الأقدمين، وتخلو من التجديد الذي كان السّمة الأبرز للعصر العبّاسي عمومًا.

 

 

 

 2- بنية الصّورة المركّبة

إن الصّورة المركّبة هي الصّورة المؤلّفة من توالي عدّة صور في هيئة متناسقة تكوّن كلًّا غير منفصل، بحيث لو أُسقطت بعض هذه الصّور لا يكتمل بناء الصّورة العامة فنيًّا ودلاليًّا، وبالتالي «لا يلزم من ذلك أن تكون الصّورة ناقصة أو مشوّهة، إنما يلزم منه ألّا تؤدّي الغرض الذي رُسمت من أجله كاملًا([61])». وتكتمل الصّورة المركّبة من خلال تصوير يجمع بين ما هو حسيّ وما هو نفسيّ عاطفيّ. ومن ثمّ، فإنّ الصّورة المركّبة هي صورة متخيّلة، قد تكون ثابتة أو متحرّكة، وهي عبارة عن تصوّر يحدّد الشكل النهائي للصّورة بأكملها. بمعنى آخر، إذا كانت الصّورة المفردة تصوّر مشهدًا ما بطريقة مجازيّة من خلال التشّبيه أو الاستعارة، فإنّ الصّورة المركّبة تعتمد على صورة واحدة تحمل أبعادًا مختلفة، وتحتمل عدّة تأويلات، ذلك أنها تقوم على عرض العديد من العناصر التي يتمّ تنظيمها وبناؤها بغرض تحديد الشّكل النهائي للصورة الكليّة، الأمر الذي يختلف عن مفهوم الصّورة المفردة التي تعتمد عادةً على صورة مجازيّة واحدة كالتشبيه أو الاستعارة، في حين أنّ الصّورة المركّبة تعتمد على عدد من الصّور الفرديّة وعناصر أخرى بما فيها اللّغة الحرفيّة المباشرة غير الرمزيّة. ومن جهة أخرى، فإنّ الصّورة المفردة تصوّر فكرة واحدة محدّدة، أمّا الصّور المركّبة فتصوّر مشهدًا كاملًا أو مجموعة متسلسلة من الأفكار، وبالتالي فإنّ تكوينها يتطلّب عدّة أبيات في حين أنّ بيتًا شعريًّا واحدًا أو اثنين يكفيان لتكوين الصّورة المفردة.

لقد خالط شعر ابن هرمة بعض الصّور المركّبة، لا سيّما في إطار مدحه المنصور، وكذلك في مشهد وصف الكلب، ومشهد وصف الضّيف والمضيف الذي أتينا على ذكره في موضع سابق. ومن أبرز القصائد التي حفلت بالصور المركبّة، نشير إلى قصيدة الضبّ والضفدع([62])، التي ترتكز على أسطورة بحسب الجاحظ، وقد جاء فيها: «خاصم الضبّ الضفدع في الظمأ أيّهما أصبر، وكان للضفدع ذَنَب وكان الضبّ ممسوحًا، فلمّا غلبها الضبّ أخذ ذنبَها، فخرجا في الكلأ، فصبرت الضفدع يومًا ويومًا، فنادت: يا ضبّ، وردًا وردًا…فلمّا لم يجبها بادرت إلى الماء، وأتبعها الضبّ فأخذ ذنبها، فقال في تصداق ذلك ابن هرمة([63])»:

أَلَمْ تأْرَق لضوءِ البرْ قِ في أَسْحَمَ لَمَّاحِ
كأَعنَاقِ نِسَاءِ الهنْ دِ قَدْ شَيبَتْ بأوْضَاحِ
كأنَّ العَازفَ الجنـيَّ يَ أَو أصواتَ أنواحِ
فقالَ الضبُّ للضفـْدَ عِ في بِيداءَ قِرواحِ
تأمَّلْ كيفَ تَنْجو اليَـْو مَ مِنْ كَرْبٍ وتَطْواحِ
فإنِّي سَابحٌ ناجٍ وما أنتَ بِسبَّاحِ

إنّ تراكم الصّور في المثال أعلاه يقوم بوظيفة واضحة في بناء جوٍّ غريب يسيطر على المشهد العام في القصيدة. وعلى سبيل المثال، تشبيه الصّورة المزعجة لومض البرق الذي يضيء ظلام الليل برقبة النساء الهنديّات اللواتي يعانين من آثار الوضح (أي البرص) بحيث نرى في هذه الصورة تشبيهًا تمثيليًّا يعقد فيه الشاعر صلة بين المعقول والمحسوس، «وتلك قدرة فنيّة في التصوير، وإنْ كان قد جفاها الذوق الحضاري، وغلب عليها طابع البداوة([64])». وكذلك الأمر فإنّ الصّور الشّعريّة في أبيات هذه القصيدة توحي بأنها قصّة أكثر من كونها حكاية (fable) تدور حول التنافس بين الحيوانات.

إنّ إعداد المشهد العام في القصيدة يمنح اللقاء بين الضبّ والضفدع جوًّا من الأهميّة قد يكون غائبًا في سرد ثابت، كما يبدو أنه يتناقض مع الطبيعة الكوميديّة للقصّة بشكلها الأصلي، ذلك أنّ ابن هرمة يستخدم المثل الخرافي كنقطة انطلاق لخلق جوّ درامي كئيب، يخرج فيه عن الإطار العام المرسوم في النص الأصلي، فيبدو كأنّه يكتب لنفسه، ويرسم دائرته الخاصة، مستعرضًا قدراته على ابتكار الصّور الشّعريّة التي تتعارض والصّورة الأصليّة للقصّة، بحيث تعمل كلّ صورة في القصيدة على خلق التأثير الكلّي في مشهديّة الحكاية.

إنّ حكاية الضبّ والضفدع، تعكس جانبًا من نفسيّة الشّاعر، بحيث نلحظ في بعض صوره المركّبة فيضًا من المشاعر، وكذلك الحال في قصيدة مدح المنصور التي وقفنا عندها سابقًا، بحيث يصوِّر الشاعر علاقته بالممدوح، فيشعر القارئ بأنّ قصيدته رسالة شخصيّة بين صديقَيْن مغتربَيْن، بعيدًا من الصّور الشّعريّة التقليديّة القائمة على المعاني المستهلكة والصّور المكرّرة.

 

ومن ثمّ فإنّ عمليّة بناء الصّور الشّعريّة معقّدة، إذ يلتقط الشّاعر مجموعة من الصّور الموروثة لتندمج مع الصّور التي يولّدها الشّاعر نفسه، فتعكس خيال الشّاعر الخاص الذي قد يختلف ما بين شاعر وآخر، وما بين صورة موروثة من بيئة أو أخرى، وهذه الصّورة المولَّدة سيف ذو حدَّين، فقد يجتذب الشّاعر المتلقّين ويفتنهم بصوره المحدَثة، كما قد يؤدّي بالمقابل إلى نفورهم ورفضهم صوره. وبالتالي يمكن القول إنّ الحركة الإبداعيّة ترتبط بخيال الشّاعر وقدرته على توليد الصّور الشّعريّة اللامعة التي من شأنها أن تلقى استحسانًا بين النقّاد وتعلي من شأنه بين أقرانه، على مثال الصور المحدثة التي ولّدها ابن هرمة والمرتبطة بإظهاره شدّة مشاعره تجاه الممدوح والانصهار الكلِّي به، الأمر الذي لم يكن معهودًا في الشّعر العربي قبله، ومن ثمّ فقد استغرق ما يزيد على قرن ونصف قرن من الزمن لنرى صورًا مشابهة جمعت ما بين المتنبّي وسيف الدولة.

 

وتجدر الإشارة إلى قصيدة لابن هرمة، أظهر فيها قدراته الإبداعيّة الخلّاقة، كما أثبت قدرته على الابتكار وخلق صور شعريّة جديدة مستوحاة من صميم واقعه، ارتكز فيها على الاستعارات والتشابيه لتسليط الضوء على أقرانه من الشّعراء الذين كانوا يسرقون صوره ويستعيرون معانيه، مشبِّهًا إيّاهم بلصوص النّوق والجمال الذين يسرقونها ليزيدوا من ثرواتهم، دونما الاعتراف له بأيّ فضل([65]):

أَحذو قصائدَ للرّاوينَ باقيةً كأنَّها بينهُم موشِيَةُ الحُلَلِ
حتَّى إِذا امتلأَتْ أسماعُهُمْ عجَبًا واستوقفَتْ في قلوبِ القومِ كالعسَلِ
أهوَوا إِليها لغَوصٍ في مَسارِحِها لمْ يقرَعوا أمَّهاتِ الشَّولِ للحَبَلِ
فاسْتَطلَعُوا عُقُلًا لا يعقِلونَ بها وأَوضَعوا قَعدَ المجموعِ في الهَمَلِ
ما إنْ أزالُ أرى وَسْمي فأعرفُهُ في ذودِ آخرَ موسومًا على قُبُلِ
وما وَسَمْتُ قِلاصًا وهيَ راتِعَةٌ حتَّى أَتَتْ رَغْمَ الأَقيادِ والعُقُلِ

يبدأ الشّاعر قصيدته بإعلان تفوّق قصائده على قصائد سواه من الشّعراء، ممّا يجعلهم يشعرون بالغيرة ويعمدون إلى سرقتها أو نحلها. ومن ثمّ، في سلسلة من التشبيهات يشبّه نفسه برجل حكيم، قصائده عالقة في الأذهان، لا تُنسى، فهو يأمل أن يُذكر إلى الأبد لقدراته الشّعريّة المتميّزة وصوره المزخرفة والمطرّزة والحلوة كالعسل.

وبذلك لا يبدو شاعرنا محافظًا تقليديًّا، إنّما صاحب رؤية شعريّة تسعى إلى الابتكار ضمن القيود الاجتماعيّة، ساعيًا إلى الحفاظ على القديم وتحسين ما هو جيّد أصلًا، بعيدًا من البحث عن تحقيق تغيير جذري في الصّور السائدة.

إنّ كلّ بيت من أبيات هذه القصيدة يسهم في خلق صور شعريّة مركّبة، فالشّعراء الذين يسرقون شعره كما يُسرق الإبل (البيت الثالث)، إنما يسرقونها لتلقيح إبلهم، لأنّ جمل الشّاعر من سلالة أصيلة النّسب، مع الإشارة إلى أنّ جمل الشّاعر هو الذّكر الذي يملك القدرة على تخصيب المخزون الشعري الفقير لمقلّديه في الشّعر، فالفرق بين الشّاعر والمنتحلين شاسع، ذلك أنهم يفتقدون مهارة بناء صور مركّبة تقارع صوره.

ويكثر في هذه القصيدة التشبيه المبتكر بين النياق (الشّاعر) واللّصوص (منتحلي شعره)، العاجزين عن سلب قطيع الشّاعر (صوره الشّعريّة). وبذلك نلحظ بنية الصّورة الشّعريّة عند ابن هرمة التي تقوم على الاستناد إلى القديم الموروث من صوره، كصور الإبل واللصوص، والعمل على تطوير هذه الصّور وتجديدها من خلال مقاربتها بطريقة تجديديّة، تحمل في أبعادها صورًا جديدة لم تُطرَح في الشّعر سابقًا. وبذلك يمكن القول إنّ ابن هرمة كان من أوّل الناس «إقدامًا في طلب الصورة مع تجوّز التزام الواقع ومقارنة المعقول، على الرغم من أنه عُرِف عنه الكدّ في صلب الصورة الجديدة([66])»، وكذلك البحث عنها في واقع الحياة، ومن أجل ذلك «يُعدّ من أوائل أصحاب البديع، وأوّل مَنْ فتق البديع، والمقصود بالبديع إنما هي العناصر الجماليّة في الفنّ الأدبي التي ازدان بها كلام الفحول الجاهليّين والإسلاميّين([67])»، وإنْ كان من المُلاحظ أنّ الصور المفردة كانت أكثر انتشارًا في شعره من تلك المركّبة، نظرًا إلى بساطتها وسهولتها، ذلك أنّ الصورة المفردة تقوم على تشبيه مفرد بمفرد، مقارنة بالصور المركّبة التي تتطلّب مجموعة من الصور المؤتلفة لخلق المعاني المركّبة.

 

صفوة القول إنّ شاعرنا المخضرم، الأموي الذي أدرك العصر العباسي، كان موضع تقدير لاستخدامه اللّغة العربيّة «الخالصة»، في عصر تخالطت فيه اللّغات واللّهجات، فكان يُحسب له بين الشّعراء التقليديّين. ومن خلال دراستنا المرتكزة على شعره النّاجي، وقفنا على كيفيّة استخدام الشّاعر صوره الشّعريّة وذلك من زاويتَيْن، الأولى تتعلّق بموضوع الصّورة وتحليلاتها، والأخرى تقوم على تحليل بناء الصّور الشّعريّة في قصائده. وإذا كان فقدان ديوان الشّاعر الكامل يجعل من الصّعب دراسة صوره نظرًا إلى صعوبة تحديد سياقها وزمنها، إلّا أنه من خلال شظاياه الشّعريّة القليلة أمكن الاستدلال على قدرة ابن هرمة على خلق التشبيهات الفريدة، وتحقيق أوجه التشابه حتّى بين الأشياء المتباينة.

وانطلاقًا ممّا تقدّم، يمكن الاستنتاج أنّ شاعرنا كان يمتهن الشعر، يتقن فنّ المديح مقابل إسباغ النعم عليه. وكذلك، فقد كان يدرك إطار البيئة التنافسيّة بين الشّعراء، والتي كان جزءًا منها، كما كان يدرك متطلّبات الممدوحين ويفقه حاجاتهم. وبالتالي فقد كان تقليديًّا لجهة استخدامه موضوعات مستمدَّة من الموروث الثقافي العربي أمّا من حيث الشكل فقد ظهر التقليد من خلال اتّباعه بنية القصيدة التقليديّة وأسلوبها، وفي ذلك قيل فيه «إن شعره جزل الألفاظ متين السبك قديم المعاني مرّةً، ومحدث مرّةً، وفي شعره شيء من الصناعة([68])».

وعلى الرغم من أنّ صوره المفردة لم تواكب المستوى التجديدي الذي عرفه العصر، إلّا أنّ المقطوعات الشّعريّة الطويلة نسبيًّا المتبقيّة من شعره، هي على درجة من الجودة في التجديد والابتكار، اللذين يشكّلان العنصرَيْن المركزيَّيْن للشّعراء المحدَثين، ناهيك عن قدرته في صوغ الغريب من الشعر، لا سيّما قصيدة له خلت من الحروف المعجمة([69]) ومنها([70]):

دَعَا الحمامُ حمامًا سَدَّ مَسْمَعَهُ لمّا دعاهُ آهُ طامِحَ الأمَلِ
طُموحُ سارِحَةٍ حَوْمِ مُلَمَّعَةٍ وَمُمْرِعُ السرِّ سَهْلُ مَأْكدُ السَّهَلِ
سَهْلٌ موارِدُهُ سَمْحٌ مواعِدُهُ مُسُوَّدٌ لِكرامٍ سَادةٍ حُمُلِ

 

وإذا كان ابن هرمة يُعدّ أحد رموز الشعر واللّغة والنحو والغريب، ويُعتبر فصيحًا مجوّدًا في الصنعة والبديع، إلّا أنه عاش عصره العبّاسي بتناقضاته ومجونه وتمدينه، فبدا مفكّك الشخصيّة جرّاء ما عاناه من ضياع وتمزّق وغربة روح، الأمر الذي ظهر جليًّا في شعره بحيث نراه تارّة جديًّا رصينًا فكان آخر مَنْ يُحتجّ بشعره، وطورًا عابثًا ماجنًا مولعًا بالشراب. وبذلك يتبدّى أنّ أسلوب الشّاعر وجزالة ألفاظه وقوّة لغته، جعلته شاعرًا متميّزًا مبدعًا خلّاقًا مستقلًّا، قادرًا على الابتكار، إنّما ضمن الإطار التقليدي الذي حافظ عليه، وبالتالي يمكن القول إنّ شاعرنا قد حاول خلق صور شعريّة جديدة في الإطار العام التقليدي، ومن ثمّ يمكن اعتباره خاتمة الشّعراء القدماء وبداية المحدَثين، إذ مثّل شعره حلقة وصل بين التيّار التقليدي الأصيل ومذاهب التجديد في عصره، فكان علامةً فارقة بين شعراء مطلع العصر العبّاسي الذي كان بوّابة التجديد أو «الحداثة» التي عرفها الأدب عمومًا والشعر خصوصًا.

 

 

لائحة المصادر والمراجع

 

1- إبن رشيق القيرواني: العمدة، في محاسن الشعر، تحقيق محمّد عبد الحميد، دار الجيل، ط5، 1981.

2- إبن عبد ربّه: العقد الفريد، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلميّة، ط1، 1983.

3- إبن هرمة القرشي:

–  ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، مكتبة الأندلس، بغداد، 1969.

– ديوانه، تحقيق محمّد نفّاع وحسين عطوان، مطبوعات مجمع اللّغة العربيّة، دمشق، لاط، لات.

4- أبو عثمان عمرو بن بحر، الجاحظ: الحيوان، مطبعة مصطفى البابي، ط2.

5- البهبيتي، نجيب: تاريخ الشعر العربي حتى أواخر القرن الهجري الثالث، دار المعارف، القاهرة، 1965.

6- الخطيب التبريزي: شرح ديوان أبو تمّام، تحقيق راجي الأسمر، ج1.

7-  الدردير، عبد النعم أحمد: دراسات معاصرة في علم النفس المعرفي، عالم الكتب، مصر، 2004.

8- دهمان، أحمد علي: إبراهيم بن هرمة، خاتمة الشّعراء القدامى وبداية المحدثين، مجلّة التراث العربي، عدد 93، 2004.

9- الرافعي، مصطفى صادق: تاريخ آداب العرب، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط5، 1971.

10- الصغير، محمّد حسين: الصّورة الفنية في المثل القرآني، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1992.

11- عبّاس، إحسان: فنّ الشعر، دار الثقافة والنشر والتوزيع، ط2،1993.

12- عبد الرّحمن، نصرت: الصّورة الفنيّة في الشّعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، مكتبة الأقصى، عمان، 1976.

13- فروخ، عمر: تاريخ الأدب العربي، دار الملايين، ط4، 1981.

14- فضل، صلاح: مناهج النقد المعاصر، أفريقيا للشرق والمغرب، ط1، 2002.

15- فيّاض، حسن حميد: الصورة المفردة والمركّبة في سورة الواضعة، مجلّة مركز دراسات الكوفة، العدد السادس، 2007.

16- قاسم، عدنان حسين: التصوير الشعري، رؤية لبلاغتنا العربيّة، الدار العربيّة للنشر والتوزيع، مصر، 2000.

17- النابغة الذبياني: ديوانه، المركز الثقافي اللبناني، بيروت، ط1،لا ت.

18- هدّارة، محمّد مصطفى: اتّجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1998.

19- Annas, Pamela: A poetry of survival, Unnaming and renaming in the poetry of Audre Lorde, Pat parker,in: Colby Library Quarterly, 1982.

20- Abou Deeb, Kamal, Ac-jurajunis theory of poetic imagery, Aris and philips,1979.

 

 

 

* دكتوراه دولة في اللّغة العربيّة وآدابها، مدير ثانويّة الزلقا الرّسميّة.

(1) إحسان عبّاس: فنّ الشعر، دار الثقافة والنشر والتوزيع، ط2،1993، ص230.

(2) إبن رشيق القيرواني: العمدة، في محاسن الشعر، تحقيق محمّد عبد الحميد، دار الجيل، ط5، 1981، ج2، ص107.

(3) عدنان حسين قاسم: التصوير الشعري، رؤية لبلاغتنا العربيّة، الدار العربيّة للنشر والتوزيع، مصر، 2000، ص122.

([4]) أبو فرج الأصفهاني: الأغاني، تحقيق سمير جابر، دار الفكر، بيروت، ج4، ص256-257. إبن قتيبة: الشّعر والشّعراء، ج2، ص753-754. الجاحظ: الحيوان، ج6، ص126.

 ([5]) عدنان حسين قاسم: التصوير الشعري، رؤية لبلاغتنا العربية، ص 144.

 ([6]) صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر، أفريقيا للشرق والمغرب، ط1، 2002، ص9.

([7]) عبد النعم أحمد الدردير: دراسات معاصرة في علم النفس المعرفي، عالم الكتب، مصر، 2004، ج1، ص152.

)[8] (Pamela Annas: A poetry of survival, Unnaming and renaming in the poetry of Audre Lorde, Pat parker,in: Colby Library Quarterly, 1982, p9-25.

 ([9]) إبراهيم بن هرمة القرشي:  ديوانه، تحقيق محمّد نفّاع وحسين عطوان، مطبوعات مجمع اللّغة العربيّة، دمشق، لاط، لات، ص140.

 ([10]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص113-114. الثماد: الماء القليل.

 ([11]) المصدر نفسه، ص68-69. ملحاء: وادٍ من أعظم أودية اليمامة. تأبّد رسمها: خلا من أهله وأصبح مرتعًا للوحوش. الاطّراح: الإهمال.

 ([12]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص196. المناقل: السريع نقل القوائم. ونى: أبطأ. الألفّ: الثقيل البطيء.

 ([13]) المصدر نفسه، ص246.

 ([14])إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص143.

([15])إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص229.

([16]) نصرت عبد الرّحمن: الصّورة الفنيّة في الشّعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث، مكتبة الأقصى، عمان، 1976،     ص146.

([17]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص72-73. المنتاب: الذي يزور مرّة بعد مرّة. التنوفة: القفر. اليهماء: المفازة لا ماء فيها ولا صوت. ريّا روضة: رائحة البستان. عوهق: اسم روضة.

([18]) المصدر نفسه، ص 117-118.

([19]) المصدر نفسه، ص 118.

([20]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان ، ص145. الأكناف: النواحي. مفحل: من نواحي المدينة. الوعاء: الأرض الليّنة. الحُليف: موضع بنجد. التبيع: الصديق.

([21]) المصدر نفسه، ص56.

([22]) المصدر نفسه، ص201-202. الجمّاء: جُبيل قرب المدينة. الكشح الهضيم: الخصر الرقيق.

([23]) المصدر نفسه، ص126. الخرّد: الفتاة البكر.

([24]) مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط5، 1971، ج3، ص152.

([25]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص 129.

([26]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص134.

([27]) المصدر نفسه، ص139.

* المنصور هو أبو جعفر عبدالله بن محمّد العبّاسي ثاني حكّام بني العبّاس، وكان يبغض ابن هرمة بغضًا شديدًا لحبّه الطالبيّين وانقطاعه إليهم.

([28]) إبن عبد ربّه: العقد الفريد، تحقيق مفيد قميحة، دار الكتب العلميّة، ط1، 1983، ج1، ص271.

([29]) المصدر نفسه، ص166-170.

([30]) التوراة، سفر التكوين 3\19.

([31]) إنجيل متّى6/16-21.

([32]) القرآن الكريم، سورة الأنعام: آية 2، سورة الأعراف: آية 12، سورة المؤمنون: آية12.

([33]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص155.

([34]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان ، ص215.

([35]) المصدر نفسه، ص64. دافقة: مبدِّدة.

([36]) المصدر نفسه، ص67. الدفّ: الجنب. الرأل: ولد النعامة. الخبّ: ضربٌ من السّير.الجنيب: النشيط.

([37]) أنظر ديوان النابغة الذبياني: المركز الثقافي اللبناني، بيروت، ط1،لا ت ، ص17-20.

([38]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص 76-77. اليفاع: المكان المشرف. الضوى: النحول. الغراران: شفرتا السّيف. الآئب: الطارق، الضّيف.

([39]) نلحظ كثرة ورود «الأشعار المستنبِحات» عند ابن هرمة، وهو نوع من القصائد الفخريّة الجاهليّة التي أُطلق عليها مصطلح (المُستنبحة)، بحيث كانت تتجلّى صورة المستنبِح في صورة رجل ينبح لتجيبه الكلاب ليهتدي بعد ذلك إلى مكان القوم بعد أن ضلّ طريقه. فكان إكرام المستنبح الذي يحدث في إطار مكاني وزماني لا يوجب ولا يلزم يعكس كرم الشاعر-المنقذ الراغب في تكريس هذه القيمة ومنحها القدسيّة السرمديّة: (أنظر: توفيق إبراهيم صالح: المستنبحات في الشعر الجاهلي، مجلة كركوك، عدد2، 2008، ص33).

([40]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، مكتبة الأندلس، بغداد، 1969، ص197-198. تستكشط: تطير. اعتسف الليل: سار فيه.

([41])إبن هرمة: ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، ص184-185. وجأ: ضرب بالسكين. الشؤبوب: حدّ كلّ شيء.

([42]) المصدر نفسه، ص67. يزفّ به: يسرع. الترعيب: السّنام المقطّع شطائب مستطيلة.

([43]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص80-81. ابن هدّاج: هو ربيعة بن صَيْدَح. العاني: الأسير. العشار: الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر. السوائف: أرض بين الرمل والجلد. الأعارف: جبال في اليمامة. أولاج: موضع في نواحي الشام. السدى: الخيوط المنسوجة. العصب والديباج: نوعان من أجود الثياب.

([44]) إبن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، ج2، ص227.

 

(1) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص61. الخريق: الريح الشديدة.

(2) المصدر نفسه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، ص119-120. بنات نعش: ثلاثة كواكب. يبتدرن: يسرعن.الجآذر: ولد البقرة.

(3) على سبيل المثال نشير إلى مطلع قصيدة أبي تمّام:

السّيفُ أصدقُ إنباءً منَ الكتبِ في حدِّهِ الحدُّ بينَ الجِدِّ واللعبِ

(أنظر: الخطيب التبريزي: شرح ديوان أبو تمّام، تحقيق راجي الأسمر، ج1، ص32).

([48]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق نفّاع وعطوان، ص207-211.

(1) محمّد حسين الصغير: الصّورة الفنية في المثل القرآني، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1992، ص35-36.

([50] ) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

([51]) أحمد علي دهمان: إبراهيم بن هرمة، خاتمة الشّعراء القدامى وبداية المحدثين، مجلّة التراث العربي، عدد 93، 2004 ، ص82.

([52] ) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق المعيبد، ص 143.

([53] ) Kamal Abou Deeb, Ac-jurajunis theory of poetic imagery, Aris and philips,1979,p68.

 ([54]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق المعيبد، ص69.

 ([55]) المصدر نفسه، ص71.

(1) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق محمّد جبّار المعيبد، ص73.

(1) المصدر نفسه، ص102. اسلنطح الوادي: اتّسع. روس: جمع رأس. القراديد: ما ارتفع عن الأرض.                                          

([58]) المصدر نفسه، ص106.

([59]) المصدر نفسه، ص103.

([60]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، ص84-87. وصلنا من هذه القصيدة تسعة عشر بيتًا، نستعرض بعضًا منها. المستراح: الاطمئنان. القراح: الماء الصافي البارد. جال: اضطرب. مشتجر الرماح: ساحة المعركة حيث الرماح المتشابكة. عُضِلْنَ: مُنعن. اصطنعه: قَرّبه وأكرمه.

([61]) حسن حميد فيّاض: الصورة المفردة والمركّبة في سورة الواضعة، مجلّة مركز دراسات الكوفة، العدد السادس، 2007، ص335.

([62]) هي قصيدة وصلنا منها ثلاثة عشر بيتًا، قد أوردنا جزءًا منها. أنظر ابن هرمة: ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، ص89-90. والضبّ هو حيوان من جنس الزواحف من رتبة العظاء. أسحم: السحاب الكثيف. لمّاح: متوهّج. غزيف الجنّ: جرس أصواتها. القرواح: الفضاء من الأرض. التطواح: الهلاك.

([63]) الجاحظ: الحيوان، مطبعة مصطفى البابي، ط2، ج6، ص126-127.

([64]) محمّد مصطفى هدّارة: اتّجاهات الشعر العربي في القرن الثاني الهجري، دار المعارف، القاهرة، ط1، 1998،  ص578.

 ([65]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، ص184-185.

 ([66]) نجيب البهبيتي: تاريخ الشعر العربي حتى أواخر القرن الهجري الثالث، دار المعارف، القاهرة، 1965، ص367.

([67]) إبن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر، ج1، ص262.

([68]) عمر فروخ: تاريخ الأدب العربي، دار الملايين، ط4، 1981، ج2، ص97.

([69]) الحروف المعجمة هي الحروف الخالية من التنقيط، مع الاشارة إلى أنّ التاء المربوطة لا تُعدّ من الحروف المعجمة لأنها تلفظ هاءً عند الوقف عليها.

 ([70]) إبن هرمة: ديوانه، تحقيق محمد جبّار المعيبد، ص177. السارحة: الإبل في المرعى. الحوم: القطيع الضخم. الملمّع: الذي في لونه نقاط تخالف سائر لونه. الممرّع: المخضّب. السرّ: بطن الوادي. المأكد: الدائم الذي لا ينقطع. حُمُل: كثير الاحتمال لحلمه وكرمه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website