foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

الذكورة اليوم بين تحول في الدّور وأزمة في المكانة؟

0

الذكورة اليوم بين تحول في الدّور وأزمة في المكانة؟

دانية العريس([1])

ملخص

إثر التحولات الاجتماعيّة التي يشهدها عالمنا المعاصر في معالم الحياة كافة، بدءًا من جوانبها الاقتصاديّة المادية مرورًا بجوانبها الثقافيّة الاجتماعيّة، وانتهاء بجوانبها النّفسيّة. يعاني الرجل المعاصر اليوم مأزقًا متعدد الأوجه، يتجلى باحتلاله موقعًا تتجاذبه قوى متناقضة، الأولى تدفعه باتجاه التّوافق النفس-اجتماعي الذي تحكمه أساسًا رغباته ومكتسباته، وأهمها استواؤه كائنًا صاحب سلطة وقوة وقرار، والثانية تتمثل بدخول المرأة مجاله العام ، وقد أرسى مقامه الخاص لزمن طويل مضى، لتأخذ مكانة الشّريك له في مختلف المواقع والأدوار، وما تطلب ذلك من دعمه لها عبر مشاركته المباشرة لها في المجال الدّاخلي حيث مقامها الخاص. من دون أن نغفل عن ذكر التّحولات التي أصابت سوق العمل، والثقافة الماديّة الاستهلاكيّة المفرطة التي يشهدها عالمنا المعاصر والتي تعطي القيمة الأكبر للمال والمنصب والشّهرة، إضافة إلى التقدّم المذهل للمجتمع المعلوماتي ولتكنولوجيا الاتصال، التي أنتجت تعددًا كبيرًا في الهُويات، كما خلقت تداخلًا في الهويات الأنثوية والذكورية. وهو ما أدى إلى بداية تدهور تدريجي للهيمنة الذّكورية التي تجلى انهيارها بتفكك المؤسسة الأبوية التي تخضع تحت ضغط سياق اجتماعي متغير، وإلى التّوجه نحو مجتمع تُمحا فيه شخصية الأب وإفراغها من وظيفته. ليبرز أمامنا رجل قد أنتج موقعه الاجتماعي والاقتصادي والبيولوجي فرديته، وأنشأت تنشئته الاجتماعيّة سلطة وقوة، وأنتجت هواماته صراعات مكبوتة مع سطوة النّساء الواقعيّة، وهو يعيش اليوم محنة انتمائه للقيم الملحقة ببعدي الذكورة المنمطة، والتطلع نحو حداثة متجددة مربكة في آن واحد. ويعاش هذا الصراع بشكل أزمة وجوديّة يدفع الرجل ثمنها تحولًا في الدور وأزمة في الذكورة.

الكلمات المفاتيح: الذكورة – وظيفة الأب – التّحولات الاجتماعيّة – المنمط الجندريّ.

Abstract

Following the social transformations taking place in our modern world in all of life’s milestones, beginning with its material-economic aspects to its socio-cultural aspects and ending with psychological aspects, today’s modern man suffers from a multifaceted predicament manifested in holding a figure that is attracted by contradictory forces; the first pushing him towards self-social harmony, which is mainly controlled by his desires and gains; the most important of which is his normalcy as the one in power, with strength and decision. The second is the woman’s involvement in his public sphere, where he has long established his own place to take his partner’s status in different sites and roles, and which demands his support through his active participation in the domestic sphere where her own place is.

Adding to this, we could not fail to mention the transformations that have affected the labor market and the over-excessive consumption material culture of our contemporary world, which places the greatest value on money, titles, and fame, as well as the spectacular progress of the information society and communication technology, which has resulted in a proliferation of identities and an interference of female and male identities. This led to the beginning of a gradual deterioration of male domination, whose collapse was manifested by the disintegration of the patriarchal institution, which was under a changing social context pressure, and a tendency towards a society in which the father’s personality is erased and emptied of his duty. until a man appears in front of us, whose social, economic, and biological position has generated his individuality, whose socialization has given rise to power and authority, and whose phantasms have generated repressed conflicts with genuine women’s power. Today, he is going through the anguish of belonging to the values associated with the standardized dimensions of masculinity while also anticipating a revitalized and perplexing modernity. This conflict is lived in the midst of an existential crisis, the cost of which is a shift in role and a crisis in masculinity.

Keywords: Masculinity – Father’s Duty – Social Transformations – Standardized Gender.

مقدمة

يكثر الحديث في أيامنا هذه عن أزمة يعيشها الرجل إثر التحولات الكبيرة، التي يشهدها عالمنا المعاصر في معالم الحياة كافة ، بدءًا من جوانبها الاقتصاديّة الماديّة مرورًا بجوانبها الثقافيّة الاجتماعيّة، وانتهاء بجوانبها النّفسيّة. وقد أفرزت محاولات البحث عن هوية الرجل المعاصر في ميدان علم النّفس الاجتماعي نشر عدد كبير من المواضيع، التي تتناول موضوع الذّكورة والأزمة التي يعيشها الرّجل معها. فبرزت الأزمة في عناوين تطالعنا لدراسات وأبحاث ومقالات مختلفة، بعضهم يتساءل عن مصير الرّجولة المنقرضة، وبعضهم يستنكر حالة الفحولة الملتوية التي يعيشها الرجل، وآخرون يلوحون بإطلاق جرس الإنذار أمام تحرر المرأة في مختلف مجالات الحياة العامة إلى جانب الرجل. وتطرح هذه العناوين بشكل متشابه في جميع البلدان، فهي نفسها في فرنسا وكندا والولايات المتحدة وروسيا وقطر وغيرها. (الجزيرة، 28/3/2019).

إن التغيير الذي تشهده المجتمعات الإنسانية كلها، هو مسألة طبيعيّة وحقيقة بظواهرها ووقائعها جميعها. فلا يمكن للمجتمعات أن تكون ثابتة كليًّا بحكم تفاعل مجموعة من المتغيرات داخل بنياتها الأساسية. يبرز التّغيير في مجتمعنا العربي نتيجة لعوامل اجتماعيّة، ثقافية اقتصاديّة وسياسيّة تتداخل جميعها، في ما بينها وتؤثر بعضها في البعض الآخر. وتبرز ملامح التغيير المهمّة في الأمور الآتية:

  • التغير الحاصل في حجم الأسرة، وعناصرها ووسائل تكوينها وعوامل استقرارها وتفككها.
  • خروج المرأة من دائرة الخاص في المجال المنزلي إلى دائرة العام في مجتمع العمل، والإنتاج وما ينتج عن ذلك في ما يتصل بعلاقتها بأفراد بيتها.
  • التّغيير في التركيب الاجتماعي، والاقتصادي وزيادة تعقد الحياة الاجتماعيّة وزيادة اعتماد الأفراد على بعضهم البعض.
  • نمو المدن سكانيًّا وعمرانيًّا ووظيفيًّا وخدماتيًّا، والنّاجم عن الزيادة الطبيعيّة في سكان المدينة، والهجرة إليها من الرّيف المجاور والمدن الأخرى، وما صاحب ذلك من تغيرات على مختلف الأصعدة.
  • التّطور التكنولوجي الذي أدى إلى تغير كبير في أسلوب الحياة والعمل، والاتصال الثقافي الذي أنتج تبادلًا وتزاوجًا ثقافيًّا بين الجماعات. (رضوان، 2008، ص. 193)

هذه التّغيرات التي تحدث داخل بنيات المجتمع الأساسيّة، أدت إلى حدوث تأثير كبير على اتجاهات ومعايير ومعتقدات وقيم الإنسان المعاصر. فبرزت مجموعة من التناقضات التي تعانيها المجتمعات المعاصرة الناتجة عن التناحر بين أزواج قطبيّة من القيم، كالتناقض بين النّزعة القوميّة وضرورة احترام السّلطة، وبين الانتماء الخالص للعائلة والقيم الأسرية التقليديّة من ناحية، والقيم العقليّة التي تشدد على الانفتاح على المستقبل والحرية الشّخصية وقبول التّعدديّة من ناحية أخرى. كما برز التّعارض بين قيم البقاء المتمثلة في إيثار الأمن عن الحرية وعدم قبول المساواة بين الجنسين والشّعور المنخفض بسعادة الحياة وطيبها، والقيم التي تتشكل عبر قيم حداثيّة عن الحرية والمساواة والمشاركة والإحساس المرتفع بالسّعادة (زايد، 2019).

وعلى الرّغم من أن ظاهرة التناقض الاجتماعي، هي ظاهرة اجتماعيّة عامة تظهر في المجتمعات كلها، التي تعيش مرحلة تغير وتبدل حضاريين، إلا أنّ الإشكاليّة تكمن في أن مجتمعاتنا لا تتغير في جوانبها جميعها مرة واحدة، بل يأتي التّغير متدرجًا في نواح محددة منه، فنراه متقدمًّا في جوانب ومتخلفًّا في جوانب أخرى، وهو ما يؤدي إلى ظهور تناقض، وتضارب في أفكار الناس وتصوراتهم وسلوكهم ومواقفهم، فينعكس ذلك مشاكل اجتماعيّه تؤثر على فئات المجتمع المختلفة، وإن بدرجات متفاوتة (الحيدري، 2003، ص. 327)، وهو ما يبرز بشكل خاص لدى الذّات العربيّة التي تعيش الازدواجيّة في ذاتها، إذ إنّ الانتماء إلى حضارتين في الوقت نفسه، والتّجاذب داخل الأنا، فاقتصاد حديث وآخر تقليدي، وتشكيلات إجتماعيّة وفكرية عصرية، وأخرى تقليديّة متخلفة غير صالحة. فهو تراكم لا انصهار وتعايش ضدين لم يصل بعد إلى درجة الصّراع لخلق التّطور والجديد. فينتج عن ذلك فرد يعيش حيرة واستسلامًا أمام تغيرات سريعة الأثر، وآليات قاسية تتساقط عليه من المجتمعات الغربيّة في الخارج. (زيعور، 1987، ص. 118). فإذا كانت الحداثة قد استحضرت مبادرات الفرد الشّخصيّة واستدعت إبداعه وخلقه، إنما هي أيضًا قد دفعت به إلى الاستلاب والانعزال والتّعاسة. (الأمين، 2012، ص. 105). وفي هذا النّمط من الصّراع بين القديم والجديد ينتج فرد ضعيف لا يجد في ذاته ضمانًا لهُويته، فلقد تشظت هُويته الفردية ليظهر أحد أجزائها “أنا” هشة، متقلّبة خاضعة لكلّ الإعلانات والدّعوات وصور الثّقافة الجماهيريّة، إذ لم يعد هذا الفرد سوى شاشة عرض تعرض عليها رغبات وعوالم خياليّة مفبركة في مصانع الاتصالات الجديدة. وهو منقاد فيها لكلّ ما ينفلت من دائرة وعيه. (تورين،2011، ص. 177)

من هنا يبدأ الحديث عن محنة مربكة، يعيشها الرجل بشكل عام والرجل العربي بشكل خاص. وهي أزمة اصطدامه بواقع حداثة لم يشارك في صنعها أنتجت لديه شعورًا بالتناقض في أفكاره وسلوكه ومواقفه، وجعلته في وضعية تأرجح بين نزوع دائم نحو قديم صلب، ومتجذر يلقي بشبحه الدائم على دوره ومكانته ولا وعيه، ليجعل منه صاحب السّلطة الأولى والمكانة الأعلى في مجتمعه، وبين رغبة الانخراط في مكتسبات الحداثة والعصرنة المتغيرة، التي قد تخفف عنه بعضًا من أحمال السّلطة ومتطلباتها بعد أن شاركته المرأة مجمل أدواره ومهامه في الخارج، وتجعل منه رجلًا عصريًّا مواكبًا لمتغيرات المجتمع وتحولاته.

فهل ما زال الرجل متمسّكًا بالأدوار الذّكوريّة، التي صاغتها له ثقافته الاجتماعيّة، وفق الأدوار الجندريّة التي نشأ عليها في طفولته الأولى، أم أنّه يعاني من وطأتها، ويبحث عن هُوية جديدة تحافظ على مكتسباته القديمة من سلطة، ومكانة، ونفوذ، وتحرره من ثقل أحمالها في الوقت نفسه؟

هذه التّساؤلات هي امتداد تلقائي لتساؤلات نجمت عن دراسة عملت فيها على رصد هُوية المرأة اللبنانيّة الجديدة، التي تتأرجح بين ثقل المنمّط وجاذبيّة الحداثة([2])، من خلال دراسة فئة من النّساء تمثل قطاعات كبيرة من النّساء، في محاولة لرصد ما إذا كان لهذا التأرجح علاقة في وصولها إلى مراكز السلطة، والقرار في ميادين الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. وكحاله مع كل سؤال يُطرح تتوالد التّساؤلات بعضها من بعض، ولا نلبث أن نجد أنفسنا محاطين بإشارات مكتظة في معيشنا اليومي، تعبّر عن حال “الخربطة” التي يعيشها الرجل، خصوصًا بعد جائحة كورونا وما أنتجته من تغييرات على المستوى الخاص والعام، إذ تحوّل المجال الخاص (المنزل) الذي كان حصريًّا مجال أدوار المرأة، ومكانتها إلى مجال خاص/ عام، داخلي/ خارجي تختلط فيه المهام والأدوار. وإذ أصبح الرّجل بإرادة منه أو بغير إرادة ملزمًا بالمشاركة في تفاصيله كافة (تعليم، تنظيف، تدريس، عمل… إلخ). ليجد نفسه تائهًا بين منمّط ذكوريّ موروث أعطاه السلطة والقوة والمكانة، وبين عولمة تطالبه بالتّساوي في الأدوار وفي الحقوق والواجبات مع المرأة، حتى لا يعدّ رجلًا رجعيًّا تقليديًّا. فإذا بالذكورة التي كانت ثابتة وجوهريّة في مجتمعاتنا قد بدأت تتعرّض للتّصدع والاهتزاز. هذه الإشارات المحيطة من حولنا شكلت محاولة مبدئية، لتلمس التبدل الحاصل في هُوية الرجل ومكانته في الصعد المتعدّدة في مجتمعه. وذلك في بحث يرسو على قاعدة نفس- اجتماعيّة مستعينة بالتّحليل النّفسي كمرجعيّة علميّة عبر مقاربة نفس – اجتماعيّة. فالعلوم الإنسانيّة بحاجة إلى التّحليل النّفسيّ، لأنّه يجمع ما بين علم النّفس وعلم الاجتماع. خصوصًا أنّ الإشكاليّة هنا تجمع بين النّفس – اجتماعي والثّقافي. وهو ميدان لا يمكن فصله عن منهج التّحليل النّفسي، الذي يتجه إلى دراسة الآليات المتعمقة لوظيفة الفرد في محاولة لفهم مضمون الحالة النّفسيّة اللاواعية له وديناميّة سلوكه في العالم المحيط به، أيّ فهم البنى والعمليات النّفسيّة الدّاخليّة التي تظهر في الوجود الإنساني ذاته.

الإشكاليّة

يعاني الرجل المعاصر اليوم مأزقًا متعدد الأوجه يتجلى باحتلاله موقعًا تتجاذبه قوى متناقضة، الأولى تدفعه باتجاه التّوافق النفس – اجتماعي الذي تحكمه أساسًا رغباته ومكتسباته، وأكثرها أهمّيّة استواؤه كائنًا صاحب سلطة وقوة وقرار، والثانية تتمثل بدخول المرأة مجاله العام، وقد أرسى مقامه الخاص لزمن طويل مضى لتأخذ مكانة الشّريك له في مختلف المواقع والأدوار، وما تطلب ذلك من دعمه لها عبر مشاركته المباشرة لها في المجال الداخلي حيث مقامها الخاص.  من دون أن نغفل عن ذكر التّحولات التي أصابت سوق العمل، والثّقافة الماديّة الاستهلاكيّة المفرطة التي يشهدها عالمنا المعاصر، والتي تعطي القيمة الأكبر للمال والمنصب والشّهرة، إضافة إلى التقدم المذهل للمجتمع المعلوماتي ولتكنولوجيا الاتصال، التي أنتجت تعددًا كبيرًا في الهويات كما خلقت تداخلًا في الهويات الأنثويّة والذّكوريّة.

إذًا؛ يعيش الرجل وطأتين، وطأة مجتمعه المحكوم بثقافة ذكوريّة، الذي يطلب منه أن يكون دائمًا صاحب الأمر والسلطة والقرار، ووطأة التحولات التي أصابت المجتمع المعاصر، وما استتبعته من تغير في أحوال النّساء اللواتي اكتسبن سمات الرّجل، وبتن يمارسن أدوار السّلطة والقيادة ويطلبن منه الدّعم والمؤازرة في ذلك عبر تغيير نموذجه الذّكوري المطلوب اجتماعيًّا، وتأكيد مناصرته للتوجه الداعم لقضايا المرأة. والرجل إزاء ذلك يعيش أزمة في الهُوية. فهو خائف على مكتسباته التي قدمها له النّظام الجندري القائم، والذي يوفّر له سيادة على الجنس الآخر الذي يقدم له شروط الخضوع والطاعة، ولكنه يرغب أيضًا بالظهور أمام المرأة بصورة الرّجل الجديد الحديث، الذي يدرك أهمية التّبدلات الحضاريّة التي تجري في المجتمعات، والتي تقوم إحدى دعائمها على تمكين المرأة ورفض التّمييز الجندري القائم ضدها. وهي مواقع جديدة تحدو به للتّوافق مع حاجات المرأة ورغباتها بكونه شريكًا حداثويًّا متوافقًا مع متطلبات الحداثة من رفض للتّمييز الجندري، وما يرافقه من تعديل للسّلوك الذّكوري المنمط. ليأخذ الرجل نصيبه من الصراع بين الحداثة، والتقليد الذي عاشت أزمته المرأة أولا بوصفها الحامل الأول للتغيرات الاجتماعيّة والثقافيّة.

هي أزمة يعيشها الرجل بأوجه مختلفة، اقتصاديّة واجتماعيّة ونفسيّة، وهي تصب جميعها في بحثه عن هُوية جديدة لا تشبه الهُوية السابقة التي نشأ عليها، والتي أعطته مطلق مكتسبات السّلطة والقوة، ولا تشبه هويته التي يعيشها اليوم والتي تعرضت للتفتت، والتشظي بسبب ما أحدثته ظروف العولمة من فوضى واختلاط في المفاهيم. فكيف تبرز هذه الأزمة بمنظوريها النّفساني والثقافي- الاجتماعي؟

أولاً- الأزمة من منظور نفسانيّ

  • بذور الأزمة

الذكورة وفق التّحليل النفسي هي انبناء صراعي دفاعي مطبوع بالخبرات الطفوليّة الأولى، ويشترك في اختبارها الرجال جميعهم بفعل تكوين طفولي كوني تشترك فيه المجتمعات الأبوية المعروفة كلها. إذ تكمن بذور الأزمة في اللحظة الحاسمة لتشكل هُوية الذّكر في مرحلة الطفولة الأولى. فمن منظور التّحليل النفسي يبدأ مسار هذا التّشكل عند إدراك الفروق الجسمانيّة بين الجنسين، وتتمظهر هذه الفروق مع سلسلة ردود الفعل النفسية لهذا الادراك. ومن منظور العلاقة بالموضوع Relation objectale يبرز التفرد والتّمايز عن الأم – موضوع التعلق الأولي – والعمليات النّفسيّة المرافقة لهما محورًا رئيسًا في انبناء الذكورة لدى الصبي الصغير. ويبقى مسار تشكلها قيد التحقق في سنوات الرشد. وتخضع التمثلات المحيطة بها لفحص وتجريب على محك الواقع المعيش من أجل استيعابها في البنية المعرفية الأكثر رشدًا من منظور نفساني. (بيضون، 2007، ص. 36-37-39).

تسعى الأشكال والصور المبثوثة في الموروث الثقافي كما تشير بيضون (2007، ص.40) وفق إيستهوب (1992)، الذي استلهم النّظرية الفرويديّة الكلاسيكيّة، وتعديلاتها في المدرسة اللاكانيّة في محاولة لإثبات أن تعريف الذّكورة يتحقّق عبر الطريقة التي يحاول الرجل فيها أن يتعامل مع أنوثته، لأن تثقل كاهل الرجل المعاصر بفكرة وجوب كونه رجلًا على الدّوام، وبكونه مدعوًّا للتعرف بذاته في “أسطورة الذّكورة” المتمثلة في هذه الأشكال وتلك الصور التي تدّعي للذكورة صفات: الطبيعيّة، السواء، الشمول، الثبات، وهو ما يجعل الرّجال مضطرّين لضبط كلّ ما يهدّد هذه الصفات من الداخل، عبر قمع أنوثتهم ورغباتهم المثليّة، ومن الخارج، عبر قمع النّساء ووضع حدود صارمة لتطلعاتهم. كما أشارت بيضون وفقًا لما قدمته شودوروه استنادًا إلى الدراسات الأنتروبولوجيّة والباثولوجيّة، التي تهتم بأنماط التّربية في العديد من الثقافات الاجتماعيّة إلى أنّ الصّبي (الرجل لاحقًا)، يتوصل في محاولته الحثيثة ليحقق تماهيه الذكري لتحديد الذكورة غالبًا بتعابير سلبيّة، فهي “ما ليس أنثويًّا” أو هي “ما ليس له صلة بالنّساء” وهو يفعل ذلك باتّجاهين:

الأول: داخلي يحاول بوساطته أن يرفض واقع اتّكاليته على أمّه وحمايتها له وخوفه منها. كما يحاول أن ينفي مظاهر تماهيه الشّخصيّ العميق مع أمّه، الذي حقّقه في أيّام طفولته الأولى فيحقّق بذلك كبت كلّ ما هو أنثويّ في داخله.

الثاني: خارجي، يخدم تدعيم نوازعه الدّاخليّة، (الاتكاليّة والخوف)، فيقوم بتبخيس كل ما هو أنثوي وتحقيره في ذلك العالم، ويدّعي بذلك لنفسه ملكيّة النّشاطات الاجتماعيّة، والثّقافيّة ويلحق بها القيمة الرّفيعة التي يمنعها عن كلّ ما عداها. (بيضون، 1998، ص.111-112)

خلص فوغل وزملاؤه (Fogel) في كتاب علم نفس الرّجال: منظور تحليل نفسي، من خلال خبراتهم العيادية، وتحليلهم لحالات عيادية محدودة من الرجال، وقد قاموا بالتماس التّحليل النفسي لديهم علاجًا لاضطراباتهم النّفسيّة. فقاموا بفحص هوامات هؤلاء الرجال وواقعهم، ومخاوفهم، وصراعاتهم، ودفاعاتهم الواعية واللاواعية، ما سمح لهم بوصف بعض المَهَمّات النّمائيّة التي يتعيّن على الرجال كلهم تحقيقها والمشاكل التي تعترض تحقيق هذه المَهَمّات. وصولًا إلى تحديد الوسائل التي يعتمدونها، من أجل حماية ذكورتهم، إلى النتيجة الآتية: “إنّ مشكلة الرجال هي النساء”. وذلك لأنّ الذكورة تعرف غالبًا بالعلاقة مع النّساء وبالاختلاف عنهم. كما خلص فوغل وزملاؤه إلى أنّ الذكور في طفولتهم كما في رشدهم يعتمدون على النساء، وهو ما يغذّي إحساسهم بالهشاشة حِيال تهديد واعٍ، أو لاواعٍ، صادر عن هؤلاء. فيتعين على الرجال أن يتصارعوا، لا مع سطوة النّساء الواقعيّة والمشوّهة بالتّخيلات فحسب، إنما أيضًا مع صفات ونزوات تعتمل في دواخلهم. هذه الصفات هي، وفق تصوراتهم، خاصة بالمرأة. فالمرأة، من هذا المنظور، ليست مشكلة بسيطة قائمة بذاتها. هي تتخطى ذلك، بفعل تعيينها من قبل الرجال، ممثلة رمزية لكل ما هو غير مقبول، محتقر، منبوذ ومرفوض في شخصيتهم. (بيضون، 2007، ص. 38)

ذلك أنّ أكثر ما يسمى ذكورة أو أنوثة، إنّما هو مشترك بين النّساء والرجال، لكنه أعطي معنى جنسيًّا لأسباب متعدّدة. فالأنوثة في المجتمعات الغربيّة، خصوصًا، هي كل ما هو اتكالي، لا عقلاني، نزوي وطفلي، بل إنّ الرجل قد أسقط “البدائي” في داخله – الرّغبات والمخاوف البدائيّة، التي تعتمل في داخله على المرأة. فتكثّف عندها كلّ ما يكرهه في نفسه. لذا نجد الرّجال، ومن أجل تثبيت تفوّقهم عليها أي تحقيق رجولتهم يسعون إلى إخضاع المرأة – التّجسيد الحيّ لكل ما يتعين عليهم أن يخضعوه في ذواتهم. (بيضون، 2007، ص. 39)

هو تواطؤ كما أسمته دينرشتاين يمارسه الرجل، والمرأة في إنتاج علاقتهما بشكلها الحاضر، فهيمنة الرجل وخضوع المرأة هما لعبة ضروريّة لاقتصادهما النّفسي، وهو يتجلّى في التّرتيب الحالي بينهما. (بيضون، 1998، 114)

  • تزعزع وظيفة الأب

أظهر التّحليل النفسي منذ فرويد اهتمامًا خاصًا بالأبوة كوظيفة رمزيّة أساسية لتنمية الطفل وبناء هُويته الجنسية. الأب الرمزي، والد عقدة أوديب، وهو الشّخص الذي يدخل الطفل في سجل المعنى واللغة من خلال دمج الرغبة والقانون. ومع ذلك وعلى حتمية التغيرات الاجتماعيّة الكبرى، وتحت تأثير إعادة توزيع أدوار الذكور/ الإناث في مجتمع ما بعد الحداثة، يمكننا أن نرى حتمية التوجه نحو مجتمع تُمحى فيه شخصية الأب وإفراغها من وظيفتها. (Dagher, 2019). والمشكلة الأساسية ليست على مستوى دور الأب الذي هو في طور التّحول في الحداثة التي نعيشها. فالإشكاليّة تنشأ بشكل خاص على مستوى وظيفة الأب. وتبدو الوظيفة الأبويّة أساسيّة للتطور النّفسي للإنسان، ولتسجيله في الترتيب الرمزي ولهيكلة هُويّته وكذلك لمشاعر الأمن والثقة بالنفس والحياة. ((Le Camus,2005

فالأب ليس مجرد شخص ينجب الطفل، بل هو الدال على قانون ضبط الرّغبة وحامل الوظيفة الرّمزيّة، وممثل القواعد والنظام. فالأب بمفهوم علم النّفس له أبعاد تتخطى بكثير الأب “الصورة والدور” لتصل إلى الوظيفة الرمزية، ولن يستطيع رجل واحد أن يملأ هذه الوظيفة الأبويّة مهما كان مثاليًّا. لن يساوي الأب وظيفته مهما حاول، لأن الأب بمفهوم علم النّفس هو القانون الذي يتخطى الأب البيولوجي ليسكن في اللغة وقواعدها. إنّه المبدأ الذي ينظم العلاقات العائليّة والاجتماعيّة وأبّ كل الآباء. (شمعون، 2019). ويتساءل حب الله، إلى أيّ مدى سيتغير مفهوم الأبّ الرّمزي في الألفية الجديدة؟ وهل هناك دلالات تشير إلى تزعزع دوره مقابل دور الأم الذي بدأ بالتّعاظم؟ ويضيف أنّ الملاحظ في التّحليل النّفسي أن الأب هو الأساس، ولكن إلى أيّ مدى سيبقى الأمر كذلك؟ وإلى أيّ مدى سيساهم تغير شخصيّة المرأة في الأسرة، وفي العالم في تغيير فكرة واسم الأب بحدّ بذاته؟ يقول حب الله: إن فرويد هو أول من تحدث عن هزيمة الأب بمعنى أنه أصبح منافسًا، وكان أكثر من تحدث عن عمليّة اعتماد السّلطة المطلقة للأمّ، واعتماد الطفل عليها في حياته منذ لحظة ولادته، أمّا لاكان فجعل مصير الطفل يتوقّف أوّلًا على الوزن الذي تأخذه كلمة الأب في نفس الأم، ولذلك لا يمكن لأحد أن يقول إن الفرويدية أنكرت أيّ دور للأمّ، وإنّها أعطت كل شيء للأب. (صفوان وحب الله، ص.67-68)

كما يقول صفوان: إن التغيرات العلميّة، لم تظهر آثارها بعد على مجتمعاتنا العربيّة كما هو حاصل في الغرب. إنّ دور الأب يضعف في العالم كلّه، وكلما خفت فعالية الدّور كلما ازدادت الحاجة إليها. ففي البعد الخاص مركزه يخف، أمّا في البعد الاجتماعي يزداد الطلب عليه. وفي عالمنا العربي نعيش اليوم في مرحلة يوجه فيها الابن نقده إلى الأب، لأنه لم يقم بما يتوجب عليه. هنا تبرز هزيمة الأب على الصعيدين الرّمزي والواقعي في آن واحد. ونشاهد اليوم جميعنا وسط الأزمة الكبيرة التي يعيشها لبنان اتّهام الأبناء آباءهم أنهم المسؤولون عن الفشل الذي لحق بالوطن، فينقم الأبناء على ما فعله آباءهم بالبلد خلال الثلاثين سنة السابقة التي مرّت، حين أوكلوا حكم البلد إلى قادة غير كفوئين للحكم. فهناك فقدان تامّ للثقة بكل ما هو مشروع أبويّ سواء في السّلطة أم خارجها. نجد في الغرب أن الدولة، هي التي تأخذ الآن دور الأب المثالي والواقعي في الوقت نفسه، بمعنى أنّه إذا أراد شخص ما شيئًا يطالب به الدّولة وليس أباه، وإذا ما صفع أب ولده يحقّ للأخير أن يقدم شكوى ضده! أي إن هناك رقابة ونوعًا من الحقّ المعطى لأبٍ أعلى هو الدولة، لكي يعطي أوامره للأب الواقعي، ويفرض عليه نموذجه في تربية أطفاله. لقد أدّت التّغيرات في المجتمع إلى تغيير صورة الأب ودوره ووظيفته تدريجًا، وقد حدث ذلك التدهور التّدريجي للمؤسّسة الأبويّة تحت ضغط سياق اجتماعيّ متغيّر. إذ يمكننا الاستشهاد مثلًا بتطوّر وضع المرأة التي تحرّرت تدريجًا وأصبح لديها إمكانيّة اتّخاذ خِيارها، عاطفيًّا ومهنيًّا، باستقلال تامّ. علاوة على ذلك تغير شكل الأسرة إلى حدٍّ كبير، وازدادت حالات الطلاق والانفصال بشكل كبير. من ناحية أخرى طُوِّرت وعُزِّزت حقوق الطفل بشكل كبير. وهذا هو السّبب في أنّ الرجل الذي يشغل منصب الزوج أو الأب لا يسيطر على أسرته كما كان يفعل في الماضي. يجب عليه أن يستمع أكثر إلى كلمات الأم والأطفال ويحترمها. هذا المفهوم الجديد للعلاقات داخل الأسرة يشير إلى الانتقال من رؤية هرميّة أساسًا للأسرة إلى رؤية أكثر ديمقراطيّة. إذ إنّ الصّورة التّقليديّة للأب تغدو أقل مرجعيّة. (Fournier S., 2017). ولذلك فإنّنا نواجه بداية انهيار المؤسسة الأبويّة، التي تشكّل النّضالات النّسويّة نقطة الدّعم فيها. نعيد في مجتمعاتنا التّساؤل الذي عبّر عنه لو كاموس (J. Le camus) والذي خلص فيه إلى “نهاية العقيدة الأبويّة”، هذه الخلاصة التي تتحدث عن نقاش مفاده أنّ “جلالته الأب” سيُضحى به اليوم على مذبح الحداثة. (Le Camus,2005)

ثانيًّا- من منظور ثقافيّ – اجتماعيّ

  • الجندر والتنميط في تشكيل الهُوية الذكورية

يدخل الجندر كمفهوم أساسي عند الحديث عن هُوية الرجل. فعلى الرّغم من بروز ظاهرة تجاوز المنمّطات الجندرية لدى الرجل، والمرأة من حيث رفض الاعتقاد الراسخ بكون المرأة ضحيّة النّظام الأبوي المتمتع بأسباب القوة كلها، والنظر إليها بوصفها قادرة على رسم خِياراتها الشّخصية في أمور الحياة المتعدّدة، ومن حيث إعلان الرجل أحقّيّة المرأة في ممارسة أدوارها من دون تمييز، وإجحاف وعن دعمه لها في ذلك، إلا أنّه بقي نموذج الصورة المنمّطة للرجل والمرأة حاضرًا في العديد من مؤسسات التنشئة الاجتماعيّة المتمثّلة بالعائلة والتّعليم والإعلام. ما يعيد تكريس هُوية رجل منمّط حامل لكلّ معاني الذّكورة وأشكالها ولامرأة منمّطة تعيد إنتاج التصوّرات والتمثّلات الأنثويّة التي نشأت عليها. إذ تتشكل الهُوية بفعل التنشئة على الأدوار الجندرية في سنوات الطفولة الأولى، لتصبح ثابتة وجوهرية للهُوية الإنسانية إلا أنّ هذا التشكل يخضع للتعديل، والتغيير من خلال التّفاعلات التي يعيشها الفرد. فالجندر هو ما يصنعه الفرد في سياق التّفاعل العلائقي مع الآخرين، ومع الجنس الآخر بشكل خاصّ. صحيح أنّ الجندر ثقافي – اجتماعي نولد في نظامه السّابق لوجودنا، فنخضع لترتيباته وتراتبيّاته إلّا أن تجسيد وجوده مرهون بالفرد نفسه، الذي يعيد إنتاجه في سلوكه اليوميّ وتفاعلاته مع الآخرين، في اتجاهاته وخِياراته تبعًا للثقافات والأزمنة. وبالتالي فإنّ الفرد يعيد خلق هُويته الجندريّة في سياق التّفاعل مع الآخر، وفي إطار مؤسّسات التنشئة الاجتماعيّة التي يعيش في ظلّها وتحت تأثيرها. (بيضون، 2007، ص. 13). وتعرّف صورة الذات الجندريّة على أنها “صورة ذات” كما يراها في مرآتَيْ الذكورة والأنوثة الاجتماعيّتين. (بيضون، 2007، ص. 99).

         وتضع الثقافة الأسس التي يقوم عليها تقسيم العمل بين الذكور والإناث، وتحدّد حقول القوة ومساحة الحركة في الحياة الاجتماعيّة لكلّ منهما، وبذلك فهي تؤطّر لصيغ جامدة حول الذكورة والأنوثة، تُعلَّم وتنتقل من جيل إلى جيل. هذه الصورة النّمطيّة تفرض على كلٍّ من المرأة والرجل أن يكون مستعدًّا للتوافق مع ما يطلب منه من توقّعات، وأن يلتزم بأداء الأدوار التي أوكلت إليه. فتتأسس هذه التنميطات الجامدة للذكورة، والأنوثة على أساس تعريفات اجتماعيّة، وثقافيّة تدور حول مجموعة من المفاهيم التي تتشكّل بدورها في ثنائيّات: الإيجابيّة في مقابل السّلبية، الشّجاعة في مقابل الخوف والانكسار، داخل المنزل وخارج المنزل، العقل في مقابل العاطفة. (زايد، 2011، ص. 265).

وفق هذه الثّنائيات تتحدد سمات الذّكورة والأنوثة. فالذّكور إيجابيون، شجعان يقومون بالأعمال الصعبة والشّاقة خارج المنزل، يتحلّون بالتفكير العقلانيّ وبالحكمة بينما الإناث يتصفن بالسّلبيّة، والدّونيّة والاتّكاليّة، وأدوارهن الأساسيّة تكمن داخل المنزل، وهن يملن إلى المشاعر الرّقيقة والعاطفة. وهكذا فإنّ الغالبيّة العظمى من الذّكور والإناث يضعون أنفسهم في الموقع الذي يصنّفهم المجتمع فيه، أو الذي يتوقّع منهم المجتمع أن يضعوا أنفسهم فيه. وتبقى هذه التّصورات حول شخصيّة المرأة والرجل أسيرة هذه التنميطات، حتى في وسائط التنشئة الحديثة كالمدارس، والجامعات التي يعزى إليها دور في تأكيد قيام المساواة والشراكة بين المرأة والرجل. (زايد، 2011، ص: 265-266). فينشأ الذكور في ظل نظام يجعلهم يتماهون مع النموذج الافتراضي للذكورة: أن يكونوا أقوياء، توكيديّين، عدوانيّين، وأن يكونوا بدرجة أساسيّة المعيلين الحصريّين لأسرهم، لأنّ تحقيق رجولتهم/ ذكورتهم يعتمد أيضًا وفق هذه التنشئة على قمع مشاعرهم، وإخفاء ضعفهم، وهشاشتهم، واتّكاليتهم. أي نفي كل ما يشير إلى “أنوثتهم”. فتخلق هذه التنشئة الاجتماعيّة لدى الرجل وعيًا زائفًا بوصفه الجنس الأعلى، والأقوى، وعليه فسلطته ماثلة دومًا أمام عينيه وهي لا تتحقّق إلا من خلال دونيّة المرأة وضعفها. ولدى توافقهم مع الجندر في وجودهم الفرديّ فهم يقومون بترسيخ أركان المنظومة الجندرية. (بيضون، 2012، ص. 20) فمصداقيّتهم الإنسانيّة والاجتماعيّة تتحقّق إلى حدّ بعيد عبر توافقهم مع ذلك الانتماء، ذلك أنّ مصداقيّته في المجتمع هي “رهينة” إعادة إنتاج الجندر وصناعته. (بيضون، 2012، ص:27)

هكذا فإنّ الرجال الذين نشأوا في المجتمعات الأبوية على نفي الأنوثة من هُويّاتهم، وعلى تبجيل ذكورتهم، يعيشون مشاعر الاختلاط والحيرة بسبب تراجع حصرية الأسباب التي أدت سابقًا إلى فخر واعتزاز آبائهم: الذكورة في نسختها البطركية/ الأبوية. إذًا؛ فإنّ للثقافي والاجتماعي موقعًا محوريًّا في تكوين الهُويّة الذّكرية، (والأنوثة، طبعًا)، فالهُوية وفق المنظور النّفس – اجتماعي تشكل حصيلة التّفاعلات المتعددة بين الفرد والآخرين بمعنى آخر تمفصل السيكولوجي بالاجتماعي. والشّكل الذي تأخذه هذه الهُويّة، وإعادة إنتاج ذلك الشّكل، تحكمهما طبيعة الصراع المفروض في الوضعيّة الخاصة من أجل البقاء التي يشكل فيها تقسيم العمل بين الداخل والخارج سماتها المَهَمَّة الثّابتة في معظم المجتمعات.

  • ماذا تريد المرأة؟ تلك هي أزمة الرجل الأولى

تطالعنا إشارات الأزمة لدى الرجال في تعبيرات التذمر التي يشكون فيها من عدم القدرة على السّيطرة على حركية المرأة ووضعيتها، وإلى عدم القدرة على إشباع حاجاتها ورغباتها. وهم يشعرون بقلة الحيلة أيضًا لأن المرأة الجديدة لم تعد بحاجة إليهم بعد أن استطاعت تحقيق مكانة مهنيّة واستقلال مادي، وكأنهم يعيدون التّساؤل الذي طرحه فرويد بصيغة متجددة. ماذا تريد منا المرأة ونحن اليوم ندعمها ونشاركها بكل ما تقوم به؟

يرى حب الله (2009، 134)، في الدّراسات النّفس تحليليّة التي عملت على تحليل نفسانيّة المرأة انطلاقًا من فرويد وانتهاء بجاك لاكان أن المرأة تبدو أشبه بالأحجية التي يصعب حلّها. فبالنسبة إلى فرويد هي مستنقع أسود يصعب تحديد غوره، وبالنسبة إلى لاكان فإنّه بعد أن طرح السؤال “ماذا تريد المرأة؟”، فإنه لم يجد جوابًا نهائيًّا سوى قوله الذي يلخص مشكلتها “أطلب منك أن ترفض ما أطلبه منك، لأن ما تعطيني إياه ليس موضوع طلبي”. فهي تفتش عن رجل سيد لكي تسود عليه. وهو ما يبرز دائمًا في تعبيرات الرجل حول صعوبة إرضاء حاجات المرأة ورغباتها.

فبعد أن بدأ يلوح في الأفق خلال حقبتَيْ السبعينيّات والثمانينيّات الوعد بانبعاث رجل جديد، أب جديد، عاشق جديد، وهو الرجل الذي وصفته اليزابيت بادنتر بـ”الرّجل الرخو”، وهو رجل سَمِح، يقبل ممارسة كل أشكال الأعمال المنزلية، يهتم بالأولاد، وغير ذلك من أمور البيت والأسرة، ولكنه قلق غير واثق مما يقوم به. جاءت امرأة التسعينيّات وهي لم تعد تتقبّل هذا الرجل الضعيف، فما تريده هو ذكر آخر يمزج شخصية الذكورة الصلبة، والشّخصية الحساسة المرهفة المتقبّلة لكل الأدوار. تريد رفيقًا ثريًّا، رياضيًّا، قويًّا يعرف أيضًا كيف يضع حفاضات الأطفال، يجيد الطهي، ويعرف تدبير الحاجات المنزليّة. ثم جاء أريك زيمور (zemmour)، في كتابه “الجنس الأول” ليؤكد على وجوب عودة الرجل من تيهه الذكوري والانضواء مجدّدًا نحو أنوثة مستترة لطالما عمل على إنكارها. ليصبح من جديد “ولدًا” طيّعًا لزوجة/ أم تختزل خصال الجمال، والإثارة، والحنان، والطيبة جميعها. (شاوول، 2007، ص.87-90).

تشجب الكاتبة نانسي هوستون بعض المفارقات التي ميّزت هذه الظاهرة تحت ما أسمته “الفحولة الملتوية”؛ فتقول “أعتقد أننا نطلب المستحيل من الرجال في آن واحد، نطلب منهم أن يكونوا أقوياء وضعفاء وقساة ومتفهمين، وجلاّدين وعديمي الرّحمة في عالم العمل، ولطفاء مثل الحملان عندما يكونون بالمنزل”. (الجزيرة، 28/6/2018). فنرى الرجل يتعرّض لضغوط غير سهلة تتمثل بضرورة المشاركة في العمل المنزليّ، والعناية بالأولاد، وكبح العدوانيّة، والعنف، والتعبير عن المشاعر العاطفيّة الدّخيلة. وهو ما يقوض أسس ذكورته التّقليديّة. فهنا زميل في العمل ذو مستوى تعليمي عالٍ يتحدث بمرارة عن كل ما يقوم به من أمور التّنظيف، والترتيب، والاهتمام بالأطفال أثناء غياب زوجته في العمل، ويشكو من عدم قدرته على إرضائها في كلّ ما يقوم به “شو ما عملت ما برضيها، بغدي الولاد، بجلي الجليات وبنشر الغسيلات وما عاجبها، هوي هيك جنس حوا ما بيعجبوا العجب”، وهو يتمنّى لو يستطيع إعادة زوجته إلى مجالها الخاص في المنزل لتكون المسؤولة الحصرية عن أمور البيت والأولاد، إلاّ أنّ الضغوطات المادّيّة تجبره على تقبّل عملها على الرّغم ممّا يحمّله ذلك من مَهَمّات إضافيّة عليه القيام بها في المنزل. “يا ريت فيها ما تشتغل، وتتفرغ للبيت والولاد، كتير أريح وأحسن، بس ما فينا المصروف كبير ولحالي ما بلحق”. وهناك رجل آخر يشكو من كونه يشعر بعدم حاجة زوجته له بعد أن خرجت وعملت، وأنتج موقعها المهنيّ، والاقتصاديّ ما يكفيها ويجعلها مستقلّة عنه تمامًا. “منها بحاجة إلي، قادرة تكفي حالها جوا وبرا وتعمل شو ما بدها. وفوق هيدا مش عاجبها اللي عم أعمله مع إني بساعدها بكل شي”. وآخر لا يمانع في مساعدة زوجته العاملة بمَهَمّات المنزل بكل تقبل ورحابة صدر، ولكنّه حريص على ألا يعلم بذلك أيّ فرد من خارج أفراد عائلته، وكأنّ ذلك يحطّ من مكانته الذّكوريّة ومن رجولته بين أبناء مجتمعه وبيئته. “بساعدها وبعمل كلّ شي بالبيت بس بقلها ما بحب حدا يعرف. هالشي بيني وبينك وبس”.

هذه التّعبيرات جميعها تعيدنا إلى الأزمة التي دعاها لانسكي (Lansky, 2001)، “أزمة في الهُويّة” وتتمثّل في “انهزام الذكور” أمام الإناث، ويلخّص لانسكي أسباب ذلك الانهزام بـ”الطريقة التي قامت بها المكتسبات النسائيّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة بنسف هُويّات الذّكر التّقليديّة وأدواره” بوصف أنّ هذه الهُويّات كانت في توهّم الذّكور، غير قابلة للاضطراب والاهتزاز. ويبرز هذا الوضع مع التحوّلات العميقة التي عرفها الوضع النّسوي خصوصًا بعد أن استفادت المرأة كثيرًا من اقتصاد المعرفة مع ازدياد مستويات التعليم، والعمل المأجور، مع أخذ مسافة إزاء المَهَمّات المنزليّة، وتقليص حجم العائلات خصوصًا مع تأخّر السن حين الزواج والإنجاب، وتقصير الانقطاع عن النشاط المهني حين ولادة الطفل، وأيضًا ارتفاع نسب الطلاق وانخفاض نسب الزواج. (بورديو. 2009، ص. 135-134). ثم إنّ الإعالة وهي الدّور الأكبر للرجل لم تعد دورًا حصريًّا له، كما أنّ الدور الإنجابي بات متاحًا للنساء بفعل تطور وسائل منع الحمل وتقنيات إمكانيّة حصوله من دون الذّكور. كما أنّ القوة البدنيّة التي كانت ميزة الرجال لم تعد ذات فائدة اجتماعية تذكر. كل ذلك يحيلنا إلى إعلان نهاية “الأمير السّاحر” كما تقول Dagnaud (2021) فلقد تغيرت حاجات المرأة، وتبدلت رغباتها، وأصبح بريق حياتها أن تكون خريجة جامعيّة وأن تشكّل زوجًا ثنائي النشاط مع رجل خرّيج مثلها بكل واقعيّة لتربية طفلين إلى ثلاثة، وتنفيذ نظام أبويّ ديناميكيّ مستنير. ولكنه في الوقت نفسه يكون نموذج المحارب الذي يتحمّل المسؤوليّة الماليّة، ولا يسعى إلى إبراز نفسه في الأبوة آخذ في الارتفاع أيضًا. لأنّ المرأة لا تزال تطلب رجلًا يسندها في الأمور المادّيّة. فهي وعلى الرّغم ممّا تحمله في سلوكيّاتها وتعبيراتها من دلالات وإرشادات ترمز إلى القوة والثقة، ما تزال تخفي على الصعيد النّفسي حاجة للارتداد في حركتها نحو أدوار النوع الاجتماعي التقليديّة.

يضاف إلى ذلك، وجود أزمة تواصل بين النساء والرجال ناتجة عن التغييرات البنيوية الأساسية، التي طاولت أدوار النساء في السنوات الماضية ودخولهن بأعداد تكاد أن تصبح مساوية للرجال إلى سوق العمل، وشيوع ظاهرة الدور المزدوج لديهن، بعد أن كانت أدوارهن محصورة في الأدوار الأُسريّة. وقد قامت النساء بإدماج القيم المتعلقة بالحب والأسرة والرعاية، مع قيم جديدة كالاستقلالية ووجوب التمهين، وقد أصبحت الإنجازات المهنية الخارج أسرية جزءًا من تعريفهن لذواتهن. (بيضون، 2007، ص. 32). وقد أدى خروج المرأة إلى العمل إلى تطور شعورها بالقوة، والثقة بالذات وإلى انكفائهما لدى الرجال. فبدا وكأن إقصاء النّساء عن المجالات التي عُدَّت رجاليّة في الأنظمة البطركيّة جاءت شرطًا ضروريًّا لتنامي هُوية الرجال وإعلاء لذكورتهم، فكان اقتحام النّساء لهذه المجالات سببًا لإحداث اضطراب، لا يمكن إغفاله، في هُوياتهم الجندريّة وفي إحساسهم بذكورتهم. (Eakin 2000).

إن الواقع الحالي، ومتطلبات شراكة الرّجل مع النّساء المعاصرات يعرضانه لأشكال من الضغوط لم يتهيأ لها، إذ يتعيّن عليه أن يلتزم بعلاقات ما عاد يشكل مرجعيّتها الحصريّة ولا يملك مفاتيحها. فأزمة الذكورة تتمثّل من هذا المنظور بانهيار بعض من قوائمها المُهِمّة، فمكانة “المعيل الحصري”، مثلًا، لم يقابلها تقدّم فعلي في دور الشريك الأسريّ الذي فرضه تبدل مكانة النساء وأدوارهن. (بيضون، 2007، ص. 31). ذلك أن انعتاق المرأة من حتميّة أدوارها الطبيعيّة إثر التّقدّم العلميّ والتكنولوجيّ الذي أطلق قيمًا تدعو إلى تحرّر الإنسان من كلّ ما يعوّقه عن استخدام قدراته وطاقاته حتى حدودها القصوى. أدى إلى حصول المرأة على خِيارات لم تكن ممكنة سابقًا كخروجها نحو المجال العام الذي كان حكرًا على الرجل ومشاركته لأدوار ومَهَمّات، لم تكن من ضمن نظم حياتها وقيمها. يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا غوشي، الذي خصص ملف العدد 200 من دورية “ديبا” (الحوار) لهذه الظاهرة، “لا يمكن أن نظلّ غير مبالين بالتغيير الأنثروبولوجي الذي يحصل أمام أعيننا: المكان الجديد المخصّص للرجال، في عالم لم يعد يبرز فيه ما يدل على أيّ فصل بين الجنسين”. (الجزيرة، 28/6/2018)

إن التمييز الجنسي ليس هامشي الإدراك، فجذوره تمتد إلى أسس الهُوية الجندرية. من هنا فإن التعرّض لذلك التمييز يطال تجربة الشخص الوجدانية بعمق ما يؤدي إلى اصطدامه بيقينات مترسخة بالعمق، وذلك يتطلب معالجة تشبهها عمقًا. (بيضون، 2012، ص. 42)، وهنا تكمن أزمة الرّجل. فصورته لذاته قد اختلطت عليه، وهي لم تعد متطابقة مع ما تريده منه المرأة، ولكنها أيضًا غير متطابقة مع المثال الذي يحمله عن ذاته. فيعيش مأزمًا نفسيًّا في ما يطول إلى دوره ومكانته، مصدره الشّعور أنّ ثمن إرضائه للمرأة يكون على حسابة خيانة نفسه. فالمرأة هي نقيض الرجل لأنّ الرجل يعرفها على أنّها كذلك، ولأنّ شخصيّته تتشكّل على قاعدة اختلافه عنها. وهي أيضًا شبيهته لذلك فإنّ معالم اختلافه عنها مفصل رئيس في فهم مسار تشكّل هذه الشّخصيّة. فهل نحن أمام تشبه الرّجل بالمنمط الأنثويّ؟ لقد بدأ الرّجل يعي وضعية المرأة الجديدة في المجتمع وهو يشعر بمرارة العجز حين يجبر على أن يكون في وضع اتكالي حين تسلبه التّحولات الاجتماعيّة الجديدة سلطته على امرأته وأطفاله، فتجرده من الشّعور بذكورته المتفوقة فإذا بنا اليوم وكأنّنا أمام رجل مهدور الطاقات، بعيش حالة خصاء. (قرامي، 2007، 112-113).  فباتت مَهَمَّة الرجل الحديث اليوم، وهي مَهَمَّة بالغة الصعوبة تتطلّب منه كيفيّة تحديد شكل أو أشكال ذكورته المتجدّدة (شاوول، 2007، ص. 86-87). وعلى الرّغم مما يشهده الواقع من تبدل في مكانة المرأة الواقعيّة، وما يُعترَف به من تحوّل في بعض المجالات، في التّربوي، والاقتصادي، والإعلامي. إلا أنّنا لا يمكننا أن ننكر أن هذا الاعتراف لا يزال يلقى مقاومة في قلاع النّظام الأبوي الحصينة، في القوانين والأعراف والتّقاليد، وفي الصورة التي لا تزال تسكن أذهان المرأة والرجل معًا عن ماهيّة الذّكورة والأنوثة. وهو ما اختبرته في تعبيرات نساء الدراسة التي قمت بها بمحاولة رصد هُوية المرأة اللبنانية الجديدة، وقد برز لي أنّ المرأة في العديد من مواقعها الاجتماعيّة، والمهنيّة، والاقتصاديّة، والتّعليميّة، لا ترغب برجل ذو مواصفات أنثويّة يهتمّ بالأعمال المنزليّة والأولاد، عكس ما تعلن على لسانها، ولكنّها تريده رجلًا قويًّا سندًا يحتويها، ويهتمّ بها ويدعمها على جميع المستويات المادّيّة، والعاطفيّة، والاجتماعيّة.

ثالثًا- تفكّك الهيمنة الذكوريّة وتطلّع الرجل نحو إنقاذها

إن إعادة النّظر في توزيع الأدوار، ووعي الرجل لهُويته وإرادته بالانضواء تحت لواء الحداثة والمعاصرة، وبحثه عن شخصية متحرّرة من الدّلالات، والنّماذج التقليديّة دفعه إلى التّساؤل حول معاني أدواره الذّكورية. وحول مكانته في العالم الإنساني إلى جانب المرأة في مجال الخارج حيث العمل والمهنة والمال، وفي مجال الداخل في البيت بين عائلته وأولاده. إذ إنّ هذا الرجل الجديد لم يعد الرجل الباحث عن سلطة مطلقة تثبت تفوّقه على الجنس الآخر، ولكنّه لا يجد نفسه مرتاحًا للانصياع المطلق لما تتطلّبه الحداثة. فيجد ذكورته تائهة تبحث عن شاطئ ترسو عليه، وهي في طور تكوين هُوية جديدة تتوافق مع تكون هُوية المرأة الجديدة. إذ يدرك المتفحص في محتوى خطابات الرّجل أن صورته عن نفسه، هي بناء في المتخيل، ويتجلى في الخطاب والصورة التي يحملها كل رجل عن رجولته. فهي ذكورة لا تعكس الواقع المَعيش إنما هي صناعة تستفيد من وسائط الموروث (الأمثال، الأغاني، والأقوال، المأثورة)، ومؤسسات تدعمها، ومفاهيم تثبّت أركانها لدعم البنى الذّكورية القديمة. (قرامي، 124). ويبرز صراع لا واعٍ بين الهُوية للذات والهُوية للآخرين وهو بالنسبة إلى الرجل صراع بين الإرث البيولوجيّ، والثّقافيّ المتمثل بذكورته وبأدواره المنمّطة والرغبة الواعية في التّناغم مع متطلّبات الحداثة والعصرنة. فتبرز ازدواجيّة تتعدّد بدرجاتها بين المعلن والمضمر، بين الصّورة المرغوبة له اجتماعيًّا تحقيقًا لذكورته وتوكيدًا لهُويته الجنسية، وبين تسرب لسمات أنثويّة تفقده مكتسبات دوره الأول. ذلك أنّ السعي الفردي للحصول على اعتراف الآخرين بخصوصيّته وثباته وإيجابيته ليست من دون حدود. فالتّوافق مع توقّعات الآخرين يدخل غالبًا في صراع مع صورة الذّات التي يريد المرء أن يرسلها إلى نفسه. ويمكن أن نفترض أنّه في كلّ الحالات فإنّه في ظل الصراعات بين رغبات الاعتراف الاجتماعيّة المتباينه التي يعيشها الفرد، فإنّ شكل الاعتراف الذي يظهر للفرد بوصفه الأكثر أهمّيّة هو الذي سيوجّه سلوكه. وهذا لا يمنع أنه على الرّغم من كل المجهود المبذول فإن الفرد يمكن ألا ينجح في الحصول على المعرفة الاجتماعيّة، التي يتمناها فيشعر حينها بالإحباط. (Codol,1980 p. 162). فالرجل مضطر إلى مجاهدة ذاته وتحقيق ضبط داخلي، حتى لا تتسرب عناصر من الصفات الأنثويّة كالرّقة واللين فتضعفه، وهو أيضًا لا يقوى على مقاومة إغراء الأنثى فتنهار ذكورته أمام فتنتها. وقليلون هم الرجال الذين يقبلون المنافسة، وتفوّق المرأة عليهم فنراهم يدعمون هيمنة المؤسّسة البطركية، ويسعون إلى الترويج لها، وهم بذلك يمنّون أنفسهم بحيازة السلطة، واسترجاع الصّفات الأساسيّة التي فرّطوا فيها لصالح المرأة. وبناء على ذلك يسعى عدد منهم إلى تجنب وضعيّة الاختبار أمام المرأة، بينما يلجأ آخرون إلى تبنّي سلوك ازدواجي يعبّر عن الخوف من مواجهة الذّات، والعجز عن الإقرار بأنّه ليس من الهين القبول بخروج المرأة عن سلطة الرّجل. وكلّما شعر الرّجل بأنّ تطوّر المرأة يهدّد مكانته في الخارج ازدادت رغبته في عرض قوّته داخل المنزل. ليكون السيّد المسموع الكلمة صاحب السّلطة المطلقة التي لا تناقش، وكلّما حاول نفي أزمته وأنكر معاناته ازداد تشبّثًا بممارسة العنف ضدّ النّساء، وهو سلوك تعويضيّ دفاعيّ يستخدمه لحماية نفسه من الشّعور بالضَعف والانكسار. ثم إنّ الأزمات السياسيّة، الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والثقافيّة لا يمكن أن تحجب عنّا «أزمة الرّجولة» وهشاشة أنماط من الرجولات، التي لم تستطع أن تشكّل هُويّتها الذكوريّة في مُناخ سويّ، وهي أزمة تثبت أنّ العنف ضدّ النساء ليس إلاّ ما نراه في الظاهر، أمّا المسكوت عنه فهو العنف الموجّه للذات والكره الذي يكنّه البعض لذواتهم التي فشلت في أن تكسب الاحترام وتتمتع بالكرامة. (قرامي، 2021). وتبرز ظاهرة اهتمام الرجال المعاصرين بأجسادهم أكثر بكثير مما كانوا قبل، ويتمثّل ذلك الاهتمام بميل قهري لممارسة الرياضة، وتضخيم أجسادهم باللجوء إلى عقارات من البروتين، والستيرويد، والتستوستيرون، وكل ما يجعل ذكورتهم بارزة تعويضًا عن شعورهم بالضَعف، وضآلة الحجم. وهذا من علامات “أزمة الذّكورة” فالميل القهريّ في ذلك تعبير عن ذكورة مهدّدة جعلت من أجسادهم رمزًا يسعون عبره، لاستعراض ذكورتهم. (Eakin,2000). يضاف إلى ذلك ما يقوم به المثليّون جنسيًّا من استعراض إغرائي لأجسادهم الذّكرية في وضعيّة تعزّز من ضياع الذكورة وتيهها. (شاوول، 2007، ص. 87)

لقد كان الذّكور في الماضي يخفون خوفهم من النّساء بتأدية دور الرّجل الخارق، المقتدر، أما الآن فهم يقاومون هذا الخوف بتمثيل دور النّساء. (شاوول، 2007 ص. 90). وبتبني قيم جديدة مأخوذة من عالم النّساء كموضة اللباس، والعمل المنزلي، وصالونات التجميل، والاهتمام بالطبخ، والفنّ، والديكور. وهم على الرّغم من ذلك لا يزالون متمسكين بالتّعريفات القديمة للذكورة. خصوصًا وأن إنسان المجتمعات المعاصرة الذي يتمتع بالمساواة في الحقوق، وبتحسن شروط العيش ينهكه عالم بات لا يعترف بوجوده إلا كمادة، فيعاني من الخور في غياب رؤية تعيد إليه جوهر كِيانه فيذهب نحو الإدمان، والتّدين، والتّنظيم الصحي، وعبادة الجسد المثالي بحثًا عن سعادة مستحيلة (الأمين 2012، ص. 28). ولا يمكن إنكار بروز قلة من الرجال في مجتمعاتنا يعدُّون أنّ النضال المشترك بين الرجال والنساء هو المسار الجديد الذي يجب على الرجل من خلاله أن يعيد تعريف هُويُته الاجتماعيّة وبناءها، إذ تكون هُوية تنظر إلى المرأة كفردٍ متساوٍ معه في الحقوق، بوصف أنّ مصلحة المجتمع الإنساني بمجمله تعتمد على تحقيق المساواة الكاملة كحقّ إنساني قاطع، وليس كامتياز يعطيه الرّجل للمرأة! فيطالب هؤلاء أنفسهم بعمليّة إعادة تعريف هُوية اجتماعيّة تخطو بهم نحو بناء مجتمع عادل. وليتحقّق ذلك فلا بدّ من احترام الرّجال لحقوق النّساء ولدعمهن في مشاركتهم في المواقع والأدوار السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة العديدة، وليس هذا فحسب فلا يجب الاكتفاء بمناصرة حقوق النّساء، بل يجب أن تقرن هذه القناعة بسعي الرجال إلى إعادة بناء سلوكيّاتهم الشخصيّة على هذه الأسّس. يقول باسم شيت في محاولة لقراءة الذكورة وتعريفها: “علينا، كرجال، أن نهذّب أنفسنا، ونشارك في مواجهة الثقافة الذكوريّة المهيمنة، وليس أن نطلب من النّساء الامتثال لسلوكيّاتنا الذّكورية القائمة من أجل أن يحصلن على اعتراف منّا بأنهنّ مناضلات، أو ناشطات. فهذا الدور هنّ اكتسبنه، ولهنّ وحدهنّ الحقّ في تعريف شكل مشاركتهنّ. إنّ كل ما سبق يدعونا إلى القول إنّ عمليّة المساواة بين المرأة والرجل عقليًّا، هي عمليّة مطلوبة ويجب الدّفاع عنها. ولكن كون هذه العلاقة تعاش على أنّها أزمة في الهُويّتين الذكورية والأنثوية، فهذا أمر لا يمكن تجنّبه سواء تساويا أم لا.

الخاتمة

إن التداول في موضوع الرجولة/ الذكورة وما ينطوي عليه من تغيّرات وتحولات، إنما هي الموضوع بحد ذاته، أمر يطرح نفسه عند الحديث عن التبدلات التي تصيب المواقع والأدوار الإنسانيّة في المجتمع. فالحضور الذكوري الطاغي في متخيل وهوام الّنساء والرجال في ثقافتنا الشرقية هو أمر بديهي، والتّساؤل حوله يدعو الكثيرين للإدانة والاستنكار. كيف لا وهو النظام الذي ولدنا في أحضانه وأبصرناه في عيون أمهاتنا وهن يتأملن باعتزاز ذكورة أبنائهن، وهو الحضور الذي ندور في فلكه في مجتمعاتنا. وقد أبصرناه في قامة آبائنا وفي أكتافهم وفي أسمائنا. هو النّسق الرمزي حيث الدال = الفالوس = الرمزي (لاكان). وعندما نقول الدال هو الفالوس وهو هو بعينه الرمزي، فإننا نزيح عن الذكورة كمعطى عضوي ونصير داخل دائرة السّلطة، والهيبة، والمكانة، وكل ما له علاقة بقيم، وصفات وأدوار من الممكن أن تتعدل بفعل حركة التاريخ والناس. (الرجولة والأبوة اليوم، 2007، ص. 7). واليوم أمام التحولّات التي تشهدها مجتمعاتنا نتساءل هل الرجل أمام تحول في الدور أم هو أمام أزمة في الهُوية؟ وهل هو تحوّل في الدور والموقع حيث المسؤولية والقوة والالتزام في المجتمع؟ أم هو تعديل في الهُوية التي ترتبط اجتماعيًّا بمكانة الأب ورمزية حضوره؟

هي خربطة وحالة إحباط نشهد فيها تفككًا للهيمنة الذكورية بَدءًا من النظام الأبويّ ورجاله المتسلّطين، إذ تتعدّد نماذج الرجال من العنيف إلى السّاديّ إلى العُصابيّ مرورًا بالمتصالح مع أنوثته. وعلى الرّغم من ذلك فإنّه من المبكّر في مجتمعاتنا الإعلان عن تراجع وتقهقر الذكورة، فلا تزال هذه المجتمعات تملك الكثير من الثوابت لتمارس سيطرتها أكان من خلال قَبولها بالشكل والمصلحة بمبدأ المساواة وممارستها، أو من خلال الاستمرار بممارسة القهر والاستلاب (شاوول،2007، ص. 88). فلا يزال نموذج الذكورة المهيمنة متربّعًا على عرش المتخيّل العربيّ الجمعيّ يتشبّث به الكثير من الرجال -والنّساء أحيانًا – حتى أولئك الذين يزعمون الانتماء إلى الحداثة والدّفاع عن قضايا المرأة. (قرامي، 2008، ص. 108)

فلا يمكن الرّكون إلى أنّ التّحولات في أدوار الرجل تستتبع بالضرورة تغيّرات تَلقائيّة في التّصورات والاتجاهات المنمّطة لهُويّته. خصوصًا وأن هذه التصوّرات، وتلك الاتجاهات قادرة على التأثير على مكانة الرجل وسلطته في المجتمع. فالرّجل في مجتمعاتنا حتى الآن غير مستعد للتّخلّي عن أدواره التقليديّة التي تجعل منه المهيمن الأقوى، ولكنه يستبعد عدّ هذه الأدوار قدرًا نهائيًّا وخِيارًا محتمًا، وهو يسعى إلى إيجاد صيغة تكامل بين الهُويّتين، ولكن هذه الصيغة تأتي مصحوبة بمآزم منشؤها الحَيرة في التّعامل معها. فهو يتأرجح بين سلطة ذكورية يعيش تحت مكتسباتها، وقد فرضتها ثقافة اجتماعيّة بطركيّة ثقيلة الأثر، وبين حداثة متجددة تربكه، فيعيش أزمة وجود أوقعته في حَيرة واضطراب، فالقديم ثابت والحديث غير متجذّر.

إن ما نحاول قوله هو أن تحولًا ما يطرأ على هويات الرجل بعد أن أصابت العولمة بنيات المجتمع الأساسيّة فتبدلت الأولويات وتحولت، بعد أن أفرز التّقدم المذهل للمجتمع المعلوماتي ولتكنولوجيا الاتصال اختلاطًا في المعايير والمفاهيم والقيم. وهو تحول استتبع التّحول الحاصل في مكانة المرأة، وأدوارها الاجتماعيّة بعد أن تراجع الامتثال الشّديد للمنمطات الجندريّة الأبوية، التي تبرر التّمييز القيمي بين المرأة وبين الرجل وبعد أن خرجت إلى المجال العام وأصبحت شريكة أساسية في صناعته. وهو ما أدى بطريقة غير مباشرة إلى تدهور تدريجي للمؤسسة الأبويّة، التي تخضع تحت ضغط سياق اجتماعي متغير وإلى التوجه نحو مجتمع تمحو فيه شخصيّة الأب وإفراغها من وظيفته. (Dagher, 2019). ليبرز أمامنا رجل قد أنتج موقعه الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والبيولوجيّ فرديّته، وأنشأت تنشئته الاجتماعيّة سلطة وقوة، وأنتجت هواماته صراعات مكبوتة مع سطوة النّساء الواقعيّة، وهو يعيش اليوم محنة انتمائه إلى القيم الملحقة ببعدَيْ الذّكورة المنمّطة، والتطلّع نحو حداثة متجدّدة، ومربكة، ويعاش هذا الصراع بشكل أزمة وجوديّة يدفع ثمنها تحوّلًا في الدور وأزمة في الذكورة. (بيضون، 2012، ص:27). من هنا يعدُّ حجازي (2004، ص.583) أنّ الرّجل اليوم بأمس الحاجة إلى إزاحة الركام عن ذاته الأصيلة والذهاب نحو التّحرّر من المواقع والأدوار ونظم التّوقّعات التي سجنه فيها نظام اعتراف مشروط خاصّ بالذكورة يصعب عليه الخروج منه. هذا التّحرّر سيغيّر بلا شكّ قواعد اللعبة من خلال تغيير دلالة اللاعبين وأدوارهم، وذلك تحقيقًا لبناء نوعيّة حياة أكثر اقتدارًا وامتلاء، وهو ما أصبحت البشريّة بأمسّ الحاجة إليه.

المراجع باللغة العربيّة

  • الأمين، أنيسة. (2011-2012)، تهميش الذات في الخطاب العلمي المعاصر، باحثات الكتاب 15، بيروت، المركز الثقافي العربي.
  • الجزيرة (28/6/2018)، سؤال في الغرب.. أين اختفت الرجولة؟

https://www.aljazeera.net/news/presstour/2018/6/28/

  • الجزيرة (28/3/2019)، هل كل ما تحررت المرأة يطلق الذكور أجراس الخطر؟

https://www.aljazeera.net/news/women/2019/3/28/

  • الحيدري، إبراهيم (2003)، النظام الأبوي وإشكالية الجنس عند العرب، بيروت، دار الساقي.
  • بورديو، بيير (2009)، الهيمنة الذكورية، ترجمة سلمان قعفراني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية.
  • بيضون، عزة شرارة (1998)، صحة النساء النفسية بين أهل العلم وأهل الدين، دراسة ميدانية في بيروت الكبرى، دار الجديد.
  • بيضون، عزة شرارة (2007)، الرجولة وتغير أحوال النساء، بيروت، المركز الثقافي العربي.
  • بيضون، عزة شرارة (2012)، الجندر… ماذا تقولين؟ الشائع والواقع في أحوال النساء، بيروت، دار الساقي.
  • تورين، آلان (2011)، براديغما جديدة لفهم عالم اليوم، جورج سليمان (ترجمة)، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية.
  • حب الله، عدنان (2009-2008)، علاقة النساء بالمال: قراءة نفس – تحليلية، باحثات الكتاب 13، بيروت، المركز الثقافي العربي. (166-134)
  • صفوان، مصطفى وحب الله، عدنان (2008)، إشكاليات المجتمع العربي قراءة من منظور التحليل النفسي، بيروت، المركز الثقافي العربي
  • حجازي، مصطفى (2004-2003)، المرأة والتحرر المشروط، باحثات الكتاب 9، بيروت، تجمع الباحثات اللبنانيات. (575-562)
  • رضوان، شفيق (2008) علم النفس الاجتماعي، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.
  • زايد. أحمد (2011). الأسرة العربيّة في عالم متغيّر. القاهرة: مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة.
  • زايد، أحمد (4 مايو، 2019)، البحث العالمي للقيم يرصد عالمنا المتغير، الأهرام https://gate.ahram.org.eg/daily/NewsQ/707754.aspx
  • زيعور، علي (1987)، التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية والأسطورية، بيروت، دار الطليعة.
  • شاوول، ملحم (2007-2006)، الذكورة: السلطة والنفي النسوي والتيه – مقاربة سوسيولوجية، باحثات الكتاب 12، بيروت، المركز الثقافي العربي.
  • شمعون، صونيا (تموز 2019)، الأبوة الرمزية بين النقص والامتلاك ” الأب: موقع، دور ووظيفة” مجلة العلوم الاجتماعية، الجامعة اللبنانية، عدد خاص. (20-28)
  • قرامي، آمال (2008-2007)، تصدع بنية “الذكورة المهيمنة” ومحاولات إنقاذها، باحثات الكتاب 12، بيروت، المركز الثقافي. (100-125)
  • قرامي، آمال (30-1-2021)، أزمة الرجولة، الحوار المتمدن https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=707456

المراجع باللغة الأجنبية

https://www.scienceshumaines.com/fin-du-dogme-paternel-les-peres-comment-etre-pere-aujourd-hui_fr_4823.html

  • Lansky M., (2001), “Gender, Women and all the Rest”, International Labour Review, (Geneva), 140(1), 85-106.

 

[1] – طالبة في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم علم النفس الاجتماعيّ. daniaalariss@hotmail.com

 

[2] – هي أطروحة دكتوراه يُحضر لها في الجامعة اللبنانيّة تحت عنوان: هُوية المرأة اللبنانيّة ما بين ثقل المنمّط وجاذبيّة الحداثة – معوّقات الوصول إلى مراكز السّلطة والقرار.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website