foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

سرد وجع الذّات النّسويّ في الرّواية العراقيّة المُعاصرة

0

سرد وجع الذّات النّسويّ في الرّواية العراقيّة المُعاصرة

 رواية طشاري لإنعام كجه جي([1]أنموذجًا

وفاء عامر رميض الحمداني([2])

الملخّص

تُضيء الدّراسة على رواية ” طشاري”، التي تروي حكاية طبيبة عراقية مسيحيّة تضطرها ظروف الحرب إلى الهروب من وطنها، طلبًا للجوء في فرنسا، ومنها تسرد الرّوائية قصصًا لنساء أخريات عايشن اللجوء والاغتراب عن الوطن النازف؛ مجسّدة بذلك حكاية امرأة تعيش الفقد وتبحث عن وطن يحتويها، وذلك بأسلوب سردي فنّي مغمّس بالآلام والجراح.

وقد ارتأينا، في بحثنا، الوقوف على الحركة الإبداعيّة للمرأة العراقية، بقلم إنعام كجه جي، الروائيّة المسيحيّة، التي اتخذت من الرواية وسيلة لكشف ما عاناه المسيحيون من واقع مأساوي في العراق، بعد تداعيات الحروب المتتالية على وطنهم، فاضطروا إلى الهروب واللجوء إلى الخارج، ما يكشف قدرة الكاتبة العراقية على التّعبير عن رؤيتها إلى واقعها منظورًا ومرئيًا إليه.

كشفت كجه جي، في سردها، عن انشطار ذات شخصيّاتها النّسوية، وحنينها إلى وطنها المذبوح على وتر الحرب والنيران والسكاكين، بعد أن هُجّرت منه قسرًا، إبّان احتلاله من الجماعات التكفيريّة، ما جسّد قدرة الذّات النّسوية العراقيّة على البوح بما يعتريها من هموم عزّزها الواقع المعيشي ومنغصّاته، في وطنها تارة، وفي مكان الاغتراب تارة أخرى.

من هنا، فلرصد، قضايا المرأة العراقية، من هموم اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة ودينيّة، اتّخذنا من القراءة الوصفيّة التّحليليّة، لرواية ” طشاري” وسيلة للوقوف على أبعادها الفكريّة والرّؤيويّة، لما تحمله من كشف للبنية النّفسيّة للمرأة العراقيّة المُغتربة المنشطرة ذاتها في مكانين، وزمانين معًا.

الكلمات المفتاحية: الذّات، طشاري، الاغتراب، التشظّي النفسي، إنعام كجه جي.

Narrating the feminine self-affliction in the contemporary Iraqi novel

A sample: Tashari’s novel by Inaam Kajaji

Summary

The study sheds light on the novel “Tashari”, which tells the story of an Iraqi Christian doctor who is forced by war conditions to flee her homeland, to seek asylum in France, through it, the novelist tells stories of other women who experienced asylum and alienation from the bleeding homeland; She embodies the story of a woman who lives in loss and is looking for a homeland that accepts her, in an artistic narrative style drenched in pain and wounds.

In our research, we decided to stand on the creative side of women Al-Iraqiya, written by Inam Kajah Ji, the Christian novelist, who used the novel as a means to reveal the tragic reality that Christians suffered it in Iraq, after the repercussions of the successive wars on their homeland, so they were forced to flee and seek refuge abroad, which reveals the ability of the Iraqi writer to express her vision of her reality as a perspective. and visible to him.

In her narration, Kachachi revealed the splitting of her female personalities, and her nostalgia for her slaughtered homeland due to war, fire and knives, after she was forcibly displaced from it, during its occupation by the Takfiri groups, which embodied the ability of the selfthe Iraqi feminist insisted on revealing her concerns that were reinforced by the reality of living and its inconveniences, sometimes in her homeland, and other times in the place of alienation.

Starting from here, in order to monitor the issues of Iraqi women, from social, political, economic and religious concerns, we have taken from the descriptive and analytical reading of “Tashari” novel as a means to find out its intellectual and visionary dimensions, as it reveals the psychological structure of the same divided Iraqi expatriate woman in two places, and both times.

Keywords: Self, Tachari, alienation, psychological fragmentation, Inaam Kajah Ji.

المقدمة

إنعام كجه جي اسم مرموق في عالم الفنّ والتأليف؛ فقد أنتجت فيلمًا وثائقيًا عن نزيهة الدّليمي، وهي أوّل امرأة تتبوأ منصبًا وزاريًا في العالم العربي. كتبت باللغة الفرنسية عن المرأة العراقيّة في زمن الحرب، لها عدّة مؤلفات خياليّة وواقعيّة، ومنها:  لورنا: سنواتها مع جواد سليم ( 1998م)، Paroles  dIrakiennes ، سواقي القلوب( 2005م)، طشاري([3])( 2013م)، المنبوذة ( وقد رشحت للجائزة العالمية للرواية العربية العام 2018م)، الحفيدة الأميريكيّة ( وقد رشحت هذه الرواية لجائزة البوكر العربية)، سارق الأفندر ( 2016م)، النّبيذة ( 2017).

كجه جه، إحدى الرّوائيات اللّواتي عانين من لوعة الاغتراب، وقد جسّدت في أدبها فظاعة الحروب التي نهشت أرضها الحبيبة. اتّخذت من روايتها ” طشاري”، ثورة لغويّة، ووسيلة لكسر التّابوات الحمراء، إذ كتبت بحرية مطلقة، من دون أن تخشى رقيبًا أو شرطي مرور.

وتُعرّف الثّورة في الأدب أنّها ” التّعبير عن الثّورة السّياسية سواء في التمهيد لها وإثارتها، أو في تعزيزها ومتابعة خطوها في تحقيق ما قامت له من أهداف قوميّة واجتماعيّة، وإضاءة طريقها وتعميقها في النفوس”([4]).

تعكس روايتها بنية الاستلاب والاغتراب؛ فشخصيّاتها تعاني الفقد داخل الوطن وخارجه، ورائحة الموت تفوح من صفحات كتابها، حتّى الصّفحة الأخيرة، التي نهتها بقولها: “موت يرقص فوق عشب الحدائق ويمتصّ عسل التّمر.. ترى في النّشرات رعبًا يوميًا صار مُعتادًا، أعطنا دمنا كفاف يومنا. بلد فذّ ضربته لعنة الفرقة فمسخته وحشًا. تصلي له فلا تستجيب السّماء. سماؤنا الطيّبة الحنون التي لن تردّ لها يوما طلبًا. أما يشبعون من الدم؟”([5]).

يغدو الاستلاب وليد ظروف معيشيّة مُعينة، يهتزّ فيها الضمير الإنساني، وتتفكك منظومته الاجتماعيّة والنّفسيّة، ويتعرّض بسبب الظروف القاهرة إلى تشوّهات أخلاقيّة وثقافيّة ومعرفيّة تؤدي إلى هيمنة الاستلاب بوصفه ظاهرة تحكم علاقة الإنسان بوجوده([6]).

الرواية حكاية وطن سرقت الحروب آماله، صار وطن الدّمار والنّزيف بعد الاحتلال الأميركي، وسيطرة الجماعات التّكفيرية عليه، من هنا فقد هيمن عليها شبح الموت؛ ولما كان الإنسان بالموت ” يعاني العزلة المطلقة”([7]) فإنّ الكاتبة جسدته بصور مختلفة، في ظلال الحرب وظلال رائحة الدم والموت… وكجه جي في مضامين كتاباتها قامت بالتعبير عن ” رؤية سياسية للأحداث، ومعالجة وضع المرأة ضمن ( الواقع) السياسي الذي عصف.. بالإنسان العراقي”([8]).

تحكي الكاتبة أوجاع المرأة في العراق، وقد تقمّصت بدورها، وجوه الضحايا من النساء، اللواتي عانين أوجاع الحرب والشتات والغربة والفقدان، ناقلة أوجاع وطنها والحروب التي نحرته في صميم القلب، وهي القائلة: “كل شيء بالجملة. الأحزاب والطوائف والتفخيخات وأفراد حراسة المسؤولين. سرقات بالمليارات لا بالملايين. وحتى الدكتاتور صار دكاترة بالجملة. وهي لا تعرف أيّ ملة تتبع ومن هو دكتاتور طائفتها. من يحميها ومن ينهبها..”([9]).

لذا يمكن القول: إن الرواية رمز للأحلام الموؤودة والمقتولة في مهدها.. اتّخذتها الروائية للتعبير عن رفضها لهذا الواقع الموبوء، “وتتّخذ المرأة من الكتابة وسيلة لحلّ تناقضاتها مع الآخر ومع الواقع”([10]).

تتكشّف في هذه الرواية البنية الرمزية للرواية؛ إذ أعادت .. تشكيلها وتوظيفها وكشف بواعثها، ما أفضى إلى بنية التشظي والاغتراب وانحلال الوجود، في حين كان مُتشاكل الحياة والأمل حاضرًا؛ فإذا كان زمن الوطن سوداويًا يقوم على القتل والإجرام وسفك الدماء، فإن زمنيته محدودة وزائلة، أما زمنيّة الروائية فمُعيّن إليها بعالم الانبعاث والبقاء:“أحلى ما في الحياة أنها لعبة. نعيش ونموت ونفرح ونحزن ونبني ونهدم ونرتاح ونجري ونواصل السير حتى انقطاع النفس([11])، لتُقدّم بذلك مُتشاكل الخلود، والرّسوليّة والنّصر والسّلام مُقابل الحرب والدّمار والهزيمة. وفي ذلك تعبير عن الأمل بالنّجاة والبعث من جديد، إنّه العراق الذي ينهض بعد كل انتكاسة، الوطن العصي على الانكسار، ولا شكّ أنّ  “المكان هو حاضن الوجود الإنساني وشرطه الرّئيس”([12]).

وقوف على العتبة الأولى: رمزيّة العنوان

يُعد العنوان  من أكثر “العناصر المُكوّنة للمؤلَّف الأدبي ومكوّنًا داخليًا أهمّيّة، يُشكّل قيمة دلاليّة لدى الدارس، إذ يمكن عدّه ممثلًا لسلطة النّص وواجهته الإعلاميّة التي تُمارَس على المتلقي.. فضلّا عن كونه وسيلة للكشف عن طبيعية النّص والمساهمة في فكّ غموضه”([13])، ويرى جاك فونتاني أنّ العنوان ” مع علامات أخرى هو من الأقسام النّادرة في النّص التي تظهر على الغلاف وهو نصّ موازٍ له”([14])، في حين  يرى علي جعفر العلاق، أنّ العنوان ” لم يعد مجرّد اسم يدلّ على العمل الأدبي: يحدد هويته ويكرس انتماءه لأدب ما، لقد صار أبعد من ذلك بكثير، أضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد. إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لإبهامه وممرّاته المتشابكة..”([15]). وعلى الرّغم من أنّ العلاقة بين العنوان والمتن وثيقة جدًا، إلّا أن العنوان يأخذ أبعادًا خاصة به من كونه المتفرّد على رأس النص، ولهذا يعتقد الكثير ممن تناول رمزية العنوان أنّه يُمثّل نصًا له استقلاليته الخاصّة، لكن هذه الخصوصية لا تخرجه من دائرة الارتباط بالنص([16])، تاليًا يُمكننا أن نستنتج أن العنوان “يؤلف على مستوى التعبير مقطعًا لغويًّا يعلو النّص، تتحكم به قواعد.. تعمل على بلورة موضوعاته، وتحديد رؤيتها، وترميز دلالاتها في مفردة أو عبارات ذات أجزاء، تتعاقب لأداء وظيفة صياغة العنوان وتشكّله، انطلاقًا من أن ثمة توازيًا شكليًّا ودلاليًّا بين العمل وعنوانه”([17]).

حملت الرواية موضوع الدراسة، عنوان ” طشاري”، وقد سار في المنحى الرمزي، إذ حمل في مضمونه رؤى دفعتنا لكشفها والوقوف على دلالاتها، انطلاقًا من صيغته اللغوية والدّلاليّة والرّمزية.. إذ احتوى قدرًا عاليًّا من التكثيف والإبهام.. من هنا، فيمكن عدّه ” مفتاحًا تأويليًا في التعامل مع النّص في بعديه الدّلالي والرمزي”([18])، ما يسمح لنا باستقرائه لتبيان وظيفته وغاية الكاتب منه.. بوصفه موجهًا قرائيًا([19]).

عنوان الرواية ” طشاري”، وهي لفظة تخصّ اللهجة العراقيّة، وقد جاء بصيغة الجمع، لتُحيل إلى حالة عامة جماعيّة..  و”طشاري”، مستمدة من الفعل ” تطشروا”، وهي بمعنى: تشتتوا وتفرقوا.

يحمل العنوان غموضًا، وهذا ما يدفع القارئ إلى البحث عن وجود هذا العنوان في متن الرواية عله يعثر على المعنى المتخفي، فيحقق العنوان الوظيفة الإغرائيّة، إذ يشعر القارئ ب” الدهشة منذ الإطلالة الأولى على العنوان.. دهشة في محلها من حيث هي ترتكز على أسس متينة وجمالية وإبداعية، ترنو نحو التجديد والابتكار لغة وإيقاعًا وصورة، وحساسية فنية..”([20]).

ولكشف دلالة العنوان، لا بد لنا العودة إلى متن  الرواية. ظهرت لفظة ” طشاري” في الحوار الذي جرى بين الطّبيبة الأم، وابنتها:” – بالعربي الفصيج: تفرّقوا أيدي سبأ.

  • يعني؟
  • تطشّروا مثل طلقة البندقيّة التي تتوزّع في كل الاتجاهات.
  • ماما هل تكتبين أشعارًا عن الأسلحة والرصاص؟
  • إنهم أهلي الذين تفرّقوا في بلاد العالم مثل ” الطّلق” الطّشاري”([21]).

يكشف هذا الحوار بينهما، المعنى الرمزي للعنوان؛ فهو يتربط أشدّ بواقع وطن الكاتبة، التي نسجت علاقة خاصة بين حال المسيحيين المشتّتين بين أنحاء العالم، وطلقات الرّصاص، رمز الحرب.

ما يعني أن العنوان يدور في فلك الغربة والخيال والحرب في الواقع العراقي.. هذا الكشف يحيلنا إلى كلام الروائية نفسه في كتابها، إذ صرّحت بقولها: “عائلات مسيحيّة تعرّضت للتّهجير والتّهديد أو فقدت أفرادها في حوادث تفجير الكنائس.. رجال ينحرون وتبقى صورهم في البراويز..”([22]). يُمثّل “طشاري” عنوانًا فريدًا يؤدّي الوظيفة التّشويقيّة، إذ يدفع المتلقّي إلى طرح تساؤلات كثيرة، وهي في إحالالتها إلى طلقات الرّصاص، ترمز إلى أليم وجعها من تشتّت المسيحيّين العراقيّين بعد أن احتلال الوطن.

فاعليّة المرأة العراقيّة

المرأة في الرّواية، موضوع الدّراسة، ليست دائمًا هي المرأة الأنثى، إنّما تحوّلت إلى رمز ذي دلالات سياسيّة ووطنيّة واجتماعيّة، إنّها ترمز إلى الوطن العراق، كما ترمز إلى العطاء وقوّة الصّمود، لتجسّد بذلك بُعدًا عاطفيًا وإنسانيًا واجتماعيًا.

       تُمثّل “وردية” وهي إحدى شخصيّات الرّواية، أنموذج المرأة الفاعلة. وهي طبيبة عراقية، بدأت تُمارس عملها في مرحلة الخمسينيات من تاريخ العراق، بعد أن درست الطبّ في مدينة بغداد، لتنتقل للعمل في “الدّيوانية”، وتمتهن مهنة هي الوحيدة برأيها، “التي تفرض علينا أن نعطي من ذواتنا للغرباء أكثر مما نمنح فلذات أكبادنا”([23]).

أخلصت ورديّة لمهنتها، وكانت مثالًا في التّعامل الأخلاقي والإنساني؛ قاومت ظروف بيئتها الصّعبة، ونجحت في مقاومة القيود التي تُكبّل عملها.

إنّ الصّورة التي قدمتها الرّوائية، تدفعنا إلى تغيير المفاهيم الخاطئة التي أُشيعت عن المرأة، وموقعها في مرحلة الخمسينات، فالمرأة أدّت دورًا فاعلًا في مجال الخدمات الصّحيّة والتّعليميّة وغيرها، وقد فرضت نفسها بنجاح، ما يشهد للمرأة العراقيّة صمودها ووقوفها إلى جانب شريكها الرّجل في تشييد الوطن وتطويره، وفي ذلك تأكيد على رفض ثقافة التّمييز، التي تحاول أن تُشوّه صورة المرأة، فتحوّلها إلى كائن عاجز عن بلورة ذاتها وخدمة مُجتمعها.

كما يشهد للرّوائية نفسها، سعيها للإضاءة على صورة المرأة الناجحة بخُلقها وعلمها وإنسانيّتها، وهذا يعارض ما تُطُرق إليه في مجال النقد النسوي، الذي يرى أن المرأة تصوغ كتاباتها بصورة مُختلفة عن الرجل، وأنّها تضيء على المرأة – الجسد، في سبيل إنجاح عملها([24])، وهكذا يُمكن القول: “في الحقبة الممتدة بين أواخر ثقافة القرن التاسع عشر، وأوائل ستينات القرن العشري،.. برزت أسماء نسوية رائدة أوجدت ثقافة نسوية مهمّة دعت إلى تعليم المرأة، ورفض واقعها المحروم، والمطالبة بالحريّة، والخروج إلى العمل وتولي الوظائف العامة..”([25]).

واجهت ورديّة، معوّقات جمة، في وطنها، لتتمكّن من تحقيق ذاتها؛ لذا سعت إلى إثبات وجودها بكل عزيمة، متمسّكة بحسّها الإنساني والوطني تجاه معاناة النساء عمومًا، وما يواجهنه؛ وكانت تعمل في ظروف بيئيّة وصحيّة صعبة، لا توائم مهنتها التي تتطلب أقصى درجات النظافة والتّعقيم والأمان الصحي، بسبب ظروف الحرب.

تُصوّر الرّوائية مقرّ عمل الطبيبة في” الديوانية” فتقول: “لم يكن مستشفى بل إسطبل. الردهات مثل سوق شعبي. في كل منها عشرة أسرة يقيم فيها عشرون مريضًا. نصفهم يرقد الأرض. أمّا مجاري المياة فمسدودة تعوم فوقها النفايات.. إن الطفل الذي كان ينزل وسط الميكروبات سيفتح عينيه على الدنيا بين الممرضات المصابات بحروق من الدرجة الثالثة، أو اللواتي تعرضن لكسور مضاعفة، أو من حزت سكين رقابهن غسلا للعار”([26]).

تتكفّل وردية الطبيبة النسائية، توليد النساء ومتابعة ظروفهن الصحيّة وكذلك النفسيّة، بسبب ما يعانينه من ظروف اقتصادية واجتماعية، وقد أحبّت من قصدها جميعهم ، فأحبوها، ولم تكن تفرّق بين أيّ منهم بسبب طائفته أو انتمائه الديني؛ حتى أنهن كن يقدمن إليها الحلوى والهدايا، في عيادتها، تعبيرًا عن محبتهن الشديدة لها، فتتغاضى بدورها عن أخذ أجرة المُعاينة لكرمها.

واجهت ” وردية” عراقيل كثيرة، فهي طبيبة، وطبيعة عملها تفرض عليها ظروفًا خاصّة، ومنها، الخروج إلى المستشفى في أي لحظة تُستدعى فيها، ولو في منتصف الليل، فضلًا عن المبيت خارج البيت.. كان لا بدّ من أن تكون في مقرّ عملها “وحيدة هناك، ومستوحدة، ومهمومة، وسعيدة، ومعتمدة على نفسها، وغريبة، وأليفة ومسؤولة عن أرواح بشر، لكي تكتمل عدة إنسانيتها.. وستواجه مخاطر المهنة وستسهر على نار أو تنام قريرة العين”([27]).

كانت “وردية” أول امرأة تقود سيارة في عائلتها، إذ لم يكن مسموحًا فيه للمرأة بالقيادة، في زمن كانت ” المرأة التي تجلس وراء المقود عجب عجاب”([28])، وهذا بدوره يكشف طبيعة المجتمع الذّكوري، الذي يسمح للرجل بممارسة حياته بشكل طبيعي مُواكبًا عصر التقدم، في حين تُمنع المرأة بمشاطرة الرجل مستجدّات الحياة الجديدة ومتطلباتها، وهذا الأمر يُعد إجحافًا بالمرأة.

تزوجت ودرية من طبيب كان زميلًا لها في المستشفى، وقد أنجبا أطفالًا، إلا أنهم تفرقوا بعد أن كبروا؛ فقد قصد كل منهم وجهة مختلفة في بقاع الأرض.

سافر ابنها برّاق، إلى الخارج للعمل، ابنتها ” ياسمين”، تزوّجت من رجل خليجي، وهي بالكاد تعرفه، هربًا من التهديد الذي تلقّته من الجماعات التكفيرية، أمّا ابنتها ” هندة”، فقد غادرت وطنها مع زوجها بعد وقوع حرب 1991م، ولم يتمكّنا من الحصول على تأشيرة السفر إلى كندا إلا بعد معاناة كبيرة.

عانت ” هندة” التي أخذت قصتها حيزًا كبيرًا من الرواية، الكثير في بلدها الجديد، إذ عملت طبيبة في مكان بعيد من سكنها، إلا أنّها حققت نجاحًا هناك، وقد أحبها الأهل والأصدقاء الذين تعرفت إليهم.

تُمثل ” ياسمين ” أنموذجًا للمرأة العراقية المُضطهدة وما تعرضت إليه من ظروف قاهرة في أثناء الحرب الأخيرة.. فالعديد من النّساء تعرضن للاغتصاب على أيدي الجماعات التكفيرية، التي سلبت براءة النساء تحت وطأة التهديد بالقتل والنحر. لقد خيّرت نفسها بين أمرين، أحدهما أقلّ مرارة من الآخر؛ فارتأت أن تتزوّج من رجل لا تعرفه، خوفًا على نفسها من الاغتصاب؛ فسافرت إلى الخارج تاركة والدة ظلت تبكيها وتتذكّرها كل يوم.

تُمثل ظروف هندة، المعوّقات المحبطة التي نهضت في وجهها، فدفعتها إلى الهروب من الظلم، لذا سعت إلى البحث عن بديل، فكان القرار بالاغتراب. إنّه تعبير عن الاختناق من قرار التّهجير الذي كان باعثا لأدب المهجر النازف شوقًا. تكشف قصتها، بواعث الرواية العراقية في المهجر، التي صارت تئنّ من وطأة السرد والعذاب، مُعبّرة عن الواقع المعيشي السياسي، والذي دفع بأبناء الوطن إلى الهروب بحثًا عن أمان مفقود، فلا يجدونه أينما حلوا؛ وقد تجسّد هذا الشّعور القاسي في ذات الابنة الطبيبة.

أجبرت ظروف الحرب الطبيبة اللامعة “وردية”، على مغادرة وطنها؛ بعد أن تمسّكت به حتى الرّمق الأخير، ولطالما ردّدت ” أموت وأندفن هنا ولا أتهجول([29])، لكن بعد الحرب الثالثة، “ لمّا قامت القيامة واستعرت نار جهنّم ولوّحت الفوضى بيدها فوق الرّؤوس، أدركت.. أخيرًا، وبحكمة امرأة عاشت ثمانين حولًا، أنّ الخراب سيطيل إقامته في تلك الأرض. وبدأ يُراودها هاجس أن تهاجر مع من يهاجرون([30])، وتوجّهت نحو باريس، حيث تسكن ابنة أخيها، بوصفها لاجئة، وكان الحزن يعتصر قلبها، لأنّ أبناءها تشتتوا في بقاع الأرض، وقد عزّ عليها “أن تخرج امرأة مثلها، في الثمانين لكي تصبح لاجئة وحيدة في قارة غريبة، تطلب وثيقة سفر أجنبيّة وتتخلى عن جوازها الأخضر العزيز([31]). إلا أنها وعلى الرّغم من ألمها فقد سُعدت بأن حقّقت حلمها بلقاء قداسة البابا في قصر رئيس الجمهورية ساركوزي، والذي كان من ضمن الحاضرين لاستقبال العراقيين المسيحيين الهاربين من جحيم حرب العراق.

حال وردية مثل حال الكثير من المهجرين من وطنهم؛ من هنا، تحوّل العراق الوطن المجروح مادة الروائيين الحيّة، إذ سلكت قصصهم طريق الالتزام الجاد والواعي بقضايا الأرض والوطن والهوية، والانحياز إلى الشّعب المسحوق والمقهور والمستلَب، والسعي إلى تحقيق الحلم الجماعي بالتلاحم والتنعم بالعدالة والحرية، مستعينين في ذلك برموز جمالية نسجت أوجاع وطنهم… ولا بدّ أن يتحيّز الروائي إلى قضية الإنسان وهمومه وتطلعاته([32])، إذ عليه أن يؤدي دور العطاء المستحدث لخدمة الإنسان الممزّق في عصر بات لا يرحم([33]).

آلم وردية الحال الذي آلت إليه، متأسّفة على  الحروب، التي بدلت أحوال العراقي، إذ جاء على لسانها: “كنا آنذاك مدللين في قنصليات العالم ومطاراته، سياحًا ميسورين من دولة نفطيّة. جوازنا غير منبوذ ولا يثير اليربة، لا نقف على أبواب القنصليات كالأيتام على موائد اللئام”([34]).

تُجسّد الرواية أوجهًا من وجوه الإجحاف بالمرأة، فمهمة الروائي هي إدانة البؤس في العالم، والتقاط المعاناة الخاصة بالشعب ورصد تجاربه وإحباطاته وأفراحه وإنكساراته([35])، ومن الصور التي أضاءت عليها الروائية، هو ما كانت تعانيه المرأة الحامل، إذ يمتنع زوجها عن السماح لها بالولادة القيصرية حتى تصل إلى شفا الموت، كي لا يتكبّد مصاريف إضافيّة، فهم يفضّلون أن تلد زوجاتهم في البيوت على أيدي الجدّات والقابلات، إذ “لا ينقل الرجل زوجته إلى المستشفى إلا إذا تعسر أمرها وفشلت القابلة في إنهاء المهمة.. وقد تعبت الدكتورة وردية من استقبال نساء موشكات على الموت بعد أن نزفن.. أجنة تخرج إلى النّور زرقاء مختنقة تكوي الخيبة قلوبهن”([36]).

هكذا، أسهمت الرواية في بناء سيكولوجيّة الإنسان العراقي من طريق الذّاكرة التي تتجسد شعورًا وفكرًا، و”الذكريات ساكنة، كلما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكيدًا كلما أصبحت أوضح. إن وضع الذاكرة في الزّمن هو فعل كتاب السيرة وهي تتوافق مع نوع من التاريخ الخارجي، لاستعمال خارجي، يريد الكاتب نقله إلى الآخرين”([37]).

أسهم التّغيير السّياسي بعد العام 2003م،  في منح الأدباء حرّية واسعة، مكّنتهم من البوح بما لم يكونوا قادرين على البوح به سابقًا. وغدت الرواية مساحة حرّية للكشف عن حركة المجتمع، وتحوّلاته، وعلاقات أفراده بعضه ببعضه الآخر، فضلًا عن القيم والأعراف والصّراعات التي يحفل بها المجتمع العراقي، ومن المؤكد أن الكتابة تتحول إلى أداة فاعلة في التغيير الاجتماعي بتوكيدها قيم التغيير ورفضها مظاهر التّخلف([38]).

وهكذا، تتحوّل نصوص الرواية إلى عوالم حية تتجاوز الزمان والمكان، وهذا ما يكسبها بُعدًا دلاليًّا، كونها تطلق صرخة قويّة تنطلق بعيدًا علَّها تصل كل مكان مضطهد، وتبقى أصداؤها تتردد عبر الزمان.

 

مُعوّقات المشاركة السياسية للمرأة

تعود بنا الرواية إلى الوراء، فعندما دخلت “وردية” كليّة الطبّ، كان يحتدم داخلها نشاطات سياسية.. وهو ما أسمته ب” الأفعال الخطيرة المحظورة”، إذ كان “الشيوعيون والشيوعيات من زملائها يقودون الاحتجاجات وينظمون الاجتماعات السّرية. وبينهم من فصل من الدّراسة، وهو في السنة الثالثة، بسبب نشاطه السياسي. حرم من أن يصبح طبيبًا وغادر الكليّة. تدفن وردية رأسها في الكتب السميكة.. وتتحاشى السياسة”([39]).

لم يخطر ببالها أن تفكر بأبعد من دراستها، فشقيقها ” سليمان سيقطع عنقها لو سمع أنها ذهبت إلى اجتماع سري أو انتمت إلى حزب محظور.

  • نحن مؤمنون والشّيوعية دين وكفر.
  • زعيمهم مسيحي، يا أخويي، وهم يدافعون عن الوطن.
  • انصرفي إلى دراستك. شوية فوضويين يخربون استقرار البلد بحجة الدّفاع عنه”([40]).

بعد عدة أشهر من الثورة، طُلب من وردية أن تصبح رئيسة لرابطة المرأة العراقيّة في الدّيوانيّة، وقد قدموا لها النّظام الدّاخلي للحزب الشّيوعي. لكنّها اعتذرت متحجّجة بضيق الوقت وانشغالها في عملها… إلّا أّن أكثر ما دفعها للرفض هو الخوف من أخيها الذي قد يضربها ويعنّفها… لكن بعد مدة، طُلب منها أن تتولى رئاسة فرع الدّيوانيّة، فما كان منها إلّا أن وافقت، لا سيما بعد أن زارها المتصرف وقائد الفرقة الأولى…

تقول الرواية: “إنها الطبعة المؤنثة من الصراع الحزبي بين الرجال. وقد أصبحت وردية رئيسة للمنظمة، رغما عنها، ووجدت نفسها تعمل مع نساء محسوبات على التيار القومي… تذهب لتلقي في المناسبات الوطنية خطابات سياسية رنانة يكتبها لها رجال لا تعرفهم”([41]).

يبوء عمل المنظمة بالإخفاق مع التيارات السياسية الأخرى، بعد أن يتفكك التجمع، وقد أراحها أن تتالت الأحزاب، ولم يعد يطلب أحد منها المشاركة في العمل السياسي.. إلى أن جاء الحزب البعثي، الذي لم يسمح لأحد بالمشاركة في العمل السياسي المعارض، وقد عبّرت عن ذلك بقولها: ” كانوا يطاردون حتى صراصير المجاري”([42]).

تكشف الروائية على لسان بطلة روايتها، أنه لم يسمح للمرأة في المشاركة في العمل السياسي، وكان مصير كل من ينتمي إلى حزب “وشايات وسجونا ومنافي وجلودًا تتبدل وموتًا زؤاما وبناء شامخًا تحول إلى خرابة. حتى النفوس صارت خرابة..”([43]).

في ذلك بوح بواقع المرأة في تلك المرحلة بالتحديد، إذ كان صوتها خافتًا، لا يسمح لها بالمشاركة الفاعلة، بسبب الخشية من الوشايات والسجون.. والمفارقة أنّ وردية حتى عندما تبوّأت مركزًا سياسيًا متواضعًا، كانت تُلقي في المناسبات الوطنية خطابات سياسية يكتبها لها رجال لا تعرفهم، وفي ذلك اعتراف بهيمنة السّطوة الذّكورية، ومحاولة لتقليص دور المرأة وحريتها في التعبير عن آرائها بحرية، سياسيًا.

برز التحوّل في الموقف السياسي، بعد قراءتنا لمواقف ” هندة”، ابنة وردية، المهجّرة إلى كندا، لاسيّما عندما هاجم الأميركان العراق، وصاروا يقصفون بلدها؛ وهنا تغير موقفها، وصارت تعبر عن رأيها السياسي بكل جرأة من دون خوف. تمثل هندة، أنموذج المرأة العراقية التي لم تعد تخشى التعبير عن فكرها السياسي، ولا شكّ أنها تأثّرت بالحريّة اللّيبرالية الغربيّة.

تقول الرواية:” دخل عليها الغرباء واحتلوا سهولهم وهضابهم وأبادوا منهم من أبادوا.. وهي التي لم تنتم لحزب وكانت تخاف السياسة خوفها من العقارب، وجدت نفسها تكتب في الرسائل عن الغزو الاستعماري وعن الثّروات المنهوبة وعن الهموم الإنسانيّة التي توحد البشر وعن النزوع الفطري للصداقة والسّلام بين الشعوب”([44]).

تمثل الأم، الجيل السابق: صوت التاريخ المحبط، أمّا هندة فتمثل صوت الجيل الجديد؛ وفي ذلك إقرار أن التغيير صنيع الجيل الصاعد الواعي والرافض لاستمرار الظلم/ صوت الحاضر المنقذ. وفي ذلك مقابلة بين الحاضر المرفوض والغياب المأمول: الخلاص والحرية، و”أغلب الكتّاب يؤمنون بنتاج أدبي تسوده روح جديدة تؤمن بتغيير الأوضاع السّائدة من ظلم وطغيان وقيم بالية وتقاليد قديمة، وأن تسوده الحرية والانفتاح…”([45]).

فقد عانى العراق، ما قبل العام 2003م، ماعاناه من أحداث مأساوية سياسيّة مُتوالية، أبرزها الحرب والاحتلال …، فضلًا عن السّياسات الّداخلية الباطشة والظالمة؛ أسهمت جميعها في دحض حرية الفرد وتهميشه ومنعه من ممارسة حريته في التّعبير السياسيّ، أدّت في نهاية المطاف إلى استفحال القهر والإذلال في بينة المجتمع العراقي؛ لذا، كان من الطبيعي أن تُخلق بيئة ثقافيّة سياسيّة اجتماعيّة موبوءة بالاغتراب والاستلاب، نتيجة حتميّة للسياسة الدكتاتورية القائمة ؛ والاستلاب هو بمعنى الانتزاع أو الإزالة، ويحيل هذا الفعل الحركي المادي إلى الدلالة المعنوية النفسيّة، والانتماء والآخر([46])، كما يدل على أحوال نفسيّة وعقليّة متفاوتة، وقد يعني الشّرود الذّهني أو السرحان بدرجة تبعد الشخص عن الوعي بذاته، كما تعني غياب الوعي([47]). انعكس هذا الأمر على الفكر، الذي ظهر عاجزًا، مُقزّم الحرية، ينحر على أعتاب الخوف والرّعب؛ والأدب يفقد جميع خصائصه ومقوماته إذا فقد الحرية([48]).

أدت الرواية العراقية، بعد العام 2003م، دورًا رياديًّا في الكشف عن الاستلاب والاغتراب بأنماطهما كافّة؛ فقد أضاءت على تاريخ طويل من القهر والعنف والظلم عانى منه المواطن العراقي، ما قبل التّحرير… فالسّلطة السياسية السابقة جعلت الأدب عامة أسيرًا لأيديولوجيّة السلطة الحاكمة التي قيدت الإبداع، وواجهت أصحاب الأقلام الحرة بأساليب قمعيّة.

لقد عمل الروائيون على إخراج المكبوت النّفسي والثقافي والسياسي والاجتماعي من دائرة المسكوت عنه، إلى حيز الأفكار المتصوَّرة في الرواية العراقيّة؛ بعدّها مُدوّنة نقديّة تُقدّم رؤية للعالم وتعيد بناء منظومته، كاشفة عن الظواهر المجتمعيّة المنتشرة في المجتمع العراقي، من طريق رصدها الكثير من الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة القاهرة، لا سيّما بعد الاحتلال البريطاني الأمريكي، ووقوع العراق تحت سيطرة الجماعات التكفيريّة. وفي هذا تقول “هندة”: “إنّه مكاني الذي فيه شيء مني، منا، ومن أصدقائنا الذي صار بعضهم، تحت سطوة الغربة، مثل الأهل ولعشيرة، تجمعنا موائد الكلام… تمسك السياسة بتلابيبنا ونتعلق بأذيالها كما لو أن لحديثها متعة الشعر. كأنها نشيد إنشاد العصر. منتهى بلاغتنا وروح خطابنا. نتبادل ونتشبث بالآراء ونفلسف الأوضاع ونوزع شهادات الوطنية والخيانة ونتفق ثم نختلف ثم نتعب… صار الوطن، لكثرة ما لكناه، علكة ماء ممطوطة، نخجل أن نتفها من أفواهنا”([49]).

وهكذا، شكّل الواقع السّياسي باعثًا للروائيين، ومنهم ” كجه جه” للتعبير عن رؤاهم لواقعهم السياسي الذي اختبروه، لاسيما أنه يحاكي حالتهم النّفسيّة أو الوجدانيّة؛ وتُعدّ صور الاغتراب والقضايا الوطنية من المضامين المهمّة التي تبلورت في أدبهم، وهي حصيلة معاناتهم الخاصة، أي هي وليدة تجربتهم القاسية، ومشاهداتهم الواعية لأحداث مجتمعهم الدّامية.

ومن المعروف أن الأدب ينبثق من معاناة الواقع وفهم الأديب له، والرواية العراقية كانت صلتها بالواقع عميقة([50]).

تكشف قصتا الأم وابنتها، التّحول المرتقب، وهما قناعان ينوبان عن الرّوائيّة نفسها، هما صوت الذات التائقة إلى الحلم الغائب، ورؤيتها الخاصة الباحثة بدأب عن شيء مفقود، وهو محور اهتمام شخصياتها، لذا فإنّ توظيف الروائي، عمومًا، ” الرؤيا في عمله .. يتخذ على الدوام شكل معادل فنيّ للتّعبير عن نزوع الشخصية.. إلى الانعتاق من أسر القهر والمهانة ومن كل ما … يرهق الروح في محاولة لتحقيق الخلاص الإنساني من دون التوسل بالنهايات الجاهزة والحلول السهلة”([51]).

بين وطن الجحيم وأمان اللجوء

تحمل الحرب وزرين: وزر المأساة بضياع الوطن وما تبعه من فقدان للأهل، والأقارب ومن تشرد، ووزر الشعور بالتشاؤم الذي لحق بأبناء الوطن ومن تركه والذي هو بصورة من الصور، نتيجة للوزر الأول؛ واليأس وجه بديل من وجوه التشاؤم والسّوداويّة.

تقيم الراوية مقارنة بين وطنها الهاربة منه، وبلد اللجوء باريس، فتقول: ” لقد بدأت، إذن، حفلة الاستثمار. وكانت كاميرات التلفزيون تصور “الناجين” وهم يضعون أقدامهم على أرض البلد الجديد الذي فتح لهم باب اللجوء الإنساني. والمصور يطوف على الوجوه المتعبة.. لقطة مقربة على صورة المطران القتيل التي جاء اللاجئون بها معهم من هناك. جواز سفرهم الحقيقي إلى فرنسا، الابنة البكر للكنيسة الكاثوليكية. البلد الذي يزأر كالأسد في غابة حقوق الإنسان”([52]).

تظهر، عبثيّة الغربة، ففي تعبير “حفلة الاستثمار”، تلميح بالتلاشي الذي يشعر به الإنسان المقتلع من أرضه، وكأن الآخرين ينظرون إليه نظرة الشفقة والاستحسان. لذا يشعر الإنسان بأحاسيس مفرطة بالدّونية واللامبالاة والقهر والضّعف والقصور عندما تُمس إنسانيته، لاسيّما عندما تتعرض ذاته للاغتراب والاغتصاب والقهر والاعتداء والتّشويه.

لقد هربت من  بلد، تعسرت فيه الأمور” مثل  ولادة مات فيها الجنين في بطن الأم. لم تكن كل الثورات والانقلابات والانتفاضات والحروب التي عاشتها كفيلة لإقناعها بأنه بلد مدسوس بين فكيّ الشيطان. هكذا كان التاريخ وهكذا سيبقى. شوكة عصية على الابتلاع… اشتعلت.. شبت النار في البلد. تكون القيامة قامت والدبابات تحركت.. وبعده ينهمر الرصاص وتتبدل السحنات وترتجل المحاكمات وتنصب المشانق وتصل الدماء إلى الركب..”([53]) .

    يتحوّل وطن الغربة إلى مكان آمن يتيح فيه للفرد أن يُعبّر عن أفكاره بكل حرية، لكن مهما قدّم من مغريات مادية ومعنوية، فإنّه لا يُقدّم الدّفء لقاصديه، بسبب شعورهم بالاغتراب الدّاخلي والنّفسي، إنّه الصّراع الأساسي الذي يرسم بنية الاستلاب الذهنيّة والنفسيّة للشخصيات، وهو ليس صراعًا داخليًّا عابرًا، بقدر ماهو صراع نفسي ينطوي على الشّعور بالموت والانكسار والتشظّي، وعلى الروائي اكتشاف حدة الصراع الاجتماعي ولا معقولية العالم الخارجي وبطش القوى الغامضة التي تُهدّد عالم الإنسان([54]).

الحرب والطّائفيّة

تعد العلاقة بين الحرب والطائفية علاقة جدليّة، فالحروب تُعزّز الطّائفية، والأخيرة تُشعلها. الدين يمثل الركيزة الأساسية للصراعات العنيفة “التي تفضي إلى حرب أهلية شاملة قد يمنع النظام السياسي قيامها عن طريق آليات القهر والإخضاع، إلاَّ أنَّ الاحتلال قد يطلق عقالها ولاسيّما عندما يجري رسم وتنفيذ السياسات العامة للدولة المحتلة، على أساس الاعتبارات الأثنية والطائفية المتحيزة وتلغي الاعتبارات الوطنية”([55]). تُصوّر الرّوائية مشهدًا من المشاهد المألوفة في أثناء الحرب، فتقول: “.. حتّى الشّرطة اختفوا من الشوارع والمفارق ثم عادوا بأزياء أخرى. بعضهم ملثّم وبعضهم مسلّح، بعضهم ملتح، والباقي يبدو وكأنه في ورطة وجودية. المدينة كلها في ورطة وجودية. ولا أحد يعرف لمن يأمن وومّن يخاف. والشوارع مقسّمة حسب الطوائف. لكن سيارة الدكتورة تمرّ والممرّضات لا يتخلّفن عن الذّهاب إلى العيادة”([56]).

      إن الحديث عن المسلحين، والشوارع المقسّمة إلى طوائف، كشف لصفحة سوداء من صفحات تاريخ العراق؛ علاقة تعارضيّة بين منطق الحريّة ومنطق العبوديّة، وهنا مكمن الدلالة الأساس؛ والروائية لا تستعين بالشارع بوصفه مكانًا ضيقًا خانقا بالتحديد، بما يكشفه من صور تشوّه وحدة العراق، إنّما استعملته بعلاقته التّعارضية مع الفضاء الواسع الذي يحيل إلى الوطن ككل، والمكان  ليس فضاءً فارغًا ولكنه مليء بالكائنات وبالأشياء”([57])؛ فالشوراع الضيقة وصور الملثّمين تتجاوز في سلبيتها مشاهد الحرب التي تحفر عميقا خنجرها في الذاكرة الشعبية لتغدو حاملة لكل معاني الاختناق والضيق واليأس، إنه إسقاط للمكان/ الوطن… وقد شكّل هذا الاختناق باعثًا للأدب الروائي الذي يصور الحروب ومجازرها.

يبرز مشهد في الرواية يعكس التحول الطائفي الذي أفرزته الحرب الأخيرة، إذ فُرض على النساء ارتداء الحجاب وإن لم تكن مسلمات. تقول الرواية: رأيت مجموعة نساء بينهن ” … لقد تغيرت أزياء نساء المدينة وصار الحجاب على كل الرؤوس”([58]). والعراق وطن، ركع مجد التاريخ أمام أعتاب حضارته، حمل شعلة النور لكافة الشعوب والحضارات الأخرى؛ بلد كان بؤرة التنوير وشعلة التقدم، يتحول فجأة إلى أرض خراب ومجازر؛ تقول الرواية: “كان اسمها في التاريخ أور الكلدانيين. المدينة المقدسة لنانا آلهة القمر. حاضرة.. على مصبّ الفرات.. موقع أثري يزوره تلاميذ المدارس وطلاب الجامعات والرحالة الأجانب، مدينة جديدة تقوم على عظام السومريين..”([59]).

لم يطلّ الخراب أرض الوطن فحسب؛ بل امتدّ ليشمل خراب النفوس التي أرهقتها قصص الموت والتهجير والانفجارات، من هنا، تشعر الشخصية بالدّونيّة وتطغى على إحساسها الإنساني، بسبب تراكم الشّعور باليأس والبؤس، نتيجة الظروف القاهرة المُستحكمة، “لم تكن تصوّراتها مجرّد شكوك عابرة، بل دخل في رأسها أنّ العراقيين، بكل طوائفهم، ليسوا بشرًا مادام العالم ينبذهم ويشيح بوجهه عن موتهم.

  • نحن شعب لا عازة له، مثل المشيمة التي تُرمى للقطط”([60]).

تغدو حياة العراقيّين شاقّة، إذ تنعدم فيها أقل مُقوّمات الحياة الكريمة هذا من جهة، ومن جهة ثانية إدانة للمجتمع الدّولي وسياساته في التّعامل مع الشّعب العراقي، الذي يدفع ضريبة الدم، وهكذا يغدو مثل “شيمة”، وفي هذا شجب للسياسة الدّوليّة التي تدير ظهرها، وتلتزم الصمت والتغاضي عما يعانيه العراقيّون، بكافة طوائفهم، من قتل وتشريد وذبح.

إنّ تشبيه الشخصية نفسها بالشيمة، إنما نابع من الشعور بتحقير الذات. تكشفه الدوافع النفسية للشخصيّة وتفكيرها ونظرتها إلى واقعها؛ وهذا الشعور ما هو إلا خلاصة لأوضاع اجتماعيّة متدهورة، تكشف عن مستويات من الإحباط بعد أن فقد فيها المرء تآلفه مع الواقع، واقتناعه بعدم جدواه؛ ولعل الإحساس بالغربة هو الظل الذي لا فكاك منه.

عانت الطبيبة المسيحيّة، في وطنها، من معوق الطائفيّة الذي يعشعش في أذهان البعض، فعندما تركت بغداد وانتقلت إلى الديوانية، راودتها هواجس ومنها ألّا تتقبلها البيئة الجديدة، على الرّغم من براعتها في مهنتها، بسبب الفكر الطائفي الذي يحكم العلاقات، ويشكل هاجسًا وهميًّا بين أطياف الشعب الواحد، وفي ذلك نقرأ: “لا يشفع لها أنها طبيبة آتية من العاصمة لكي يثق بها الأهالي. إنّ لكلّ محيط رموزه. لكلّ قفل مفتاحه. ومفتاح نساء المدينة في عبّ العلوية شذرة ( إحدى النساء العلويات، متنفذة ومطاعة، تأخذ احترامها من لقبها الدّيني الذي يشهد أنّها من آل الرّسول)، كان عليها أن تزورها وتحصل على بركتها. وبدونها فلن تأمن لها المريضات. لن تقصدنها لعلاجهن وتوليدهن وهي الغريبة الآتية من بغداد، وفوق هذا ليست من أمة محمد”([61]).

تحمل الطبيبة حبًا كبيرا لأبناء الطوائف الأخرى، وتحترم عقائدهم، وتحمل ثقافية دينيّة عن ما يؤمنون به، وما يقومون به من عادات ترتبط بإيمانهم، وهذا يعود لطول احتكاكها معهم بداعي العمل، وهي مع محبتها للمريضات جميعهن اللواتي كن يقصدنها، إلّا أنّها تفقه وعيهن، وتدرك ثقافة البيئة الاجتماعية التي ترعرن فيها. وهذا يكشف تجذر الفكر الطائفي في الوعي الإنساني، وتحوله إلى وسيلة لفرز الناس، وتصنيفها.

انطلاقا من هاجس الطبيبة، تطرح الروائيّة رؤيتها الواعية والهادفة، لرفض التفكير الطائفي، والنظر إلى غير إنسان بوصفه إنسانا، والحكم عليه بناء على سيرته وتصرفاته، لا على أساس الفرز الطائفي، الذي يزيد الشرح بين أبناء الشعب الواحد.

   منحى آخر… فقد آخر

تحوّلت العلاقة بين المرأة العراقية المهجّرة ووطنها إلى علاقة يُغذيها الشعور باليأس والخيبة، ليغدو السؤال: ما صورة الوطن التي تتراءى إلى كل غريب ومهاجر بعيد من وطنه؟

تقول الرواية: ” أتعامل مع بغداد بالريمونت كونترول وأعتبر نفسي وطنية. القصائد هي سلاحي. ماذا يمكنني أن أفعل أكثر من صفّ المعاني ونوح الحمام على الأطلال؟ حتّى الحنين أتمرّن عليه.. تقطّعت الروابط منذ أن اجتاح الشاشات عراقيون لا يشبهون العراقيين.. قطاعو رؤوس وعملاء.. الأقوى بينهم هو الأكثر حظوى لدى المحتل. طائفيون يسألونك عن مذهبك قبل السّلام”([62]).

تتكسّر صورة الوطن العزيز على أعتاب خائنيه، أولئك الذين يغرزون خنجر عمالتهم، فينحرون الوفاء والإخلاص، ويبثون الأسى في قلوب المبعدين؛ وهكذا يزول دفء اللقاءات بين الأحبة، والاحتكاك المباشر بين الأهل والأبناء، لتحل مكانهما علاقة باردة جافة، تُسيّرها الشاشات الزرقاء…

في كلام الروائية، كشف لواقع سياسي أفرزته الحرب وتبعاتها الإجرامية، إذ يعلو المنابر رجالات مدفوعي الأجور، يؤدون دورهم في زرع التفرقة وتعزيز التقسيم الطائفي، وطالما أن الشعب غير موحد، فكلمته أيضًا غير موحدة، وبغياب الحسّ الجماعي، ينجح ذوو السلطة في الحفاظ على عروشهم، سيرا على مبدأ: فرّق تسد!

يضيق الخناق على صدر اللاجئ المُبعد من وطنه، لعيش عذابًا نفسيًّا، وهنا، يسير الفقد ليتخذ منحى آخر: ” إن بيننا نوعا شديد التعقيد من سوء الفهم. خطفوا الوطن وتركنا نعلق مفاتيح بيوت أهالينا على جدران هجرتنا، نحلم بجسر العودة..”([63])، وهكذا يتبلور الإحساس بخطف الوطن، تماما مثل شعور أمّ سُلب وليدها من بين أحضانها.

يكشف الكلام السّابق، غربة المنافي، بوجعها وقهرها؛ فصباحات العراقي حزينة، وتختلف عن صباحات المواطنين الأصليين، فهو يفتحون أعينهم ويهرعون إلى شاشات التلفزة، للاستماع إلى نشرات الأخبار، يتحوّل الوطن بنظرهم إلى شاشة صغيرة، شاشة تضم أخبار الغائبين، وصور القتلى، وضحايا المجازر؛ ليضيق الوطن حدّ الشعور بالاختناق، وهذا ما عبّرت عنه الروائية بقولها: “بلاد طويلة عريضة بكل حضاراتها الفخمة وحاضرها البائس تتمدد على الشاشات”([64]).

وهنا، يمكن القول: إنّ المكان المعاش هو العراق الذي يعيش القهر في زمن حالك أسود، أمّا المكان المنشود هو العراق الذي ينعم أبناؤه بحياة الرفاهية والجمال والنعيم والأمن والرخاء… ويتعين الآن: بزمن الموت والظلام واغتصاب الوطن والتهجير والبعد، بينما الزمن المنتظر: هو زمن الصباح والحرية، زمن العودة… زمن يتخلص منه المرء من خوف الهجرة والنسيان على أعتاب وطن آخر، وقد عبرت الطبيبة عن هاجسها بقولها: “وحده الخوف لازمني. أنا الحرة وأهلي الرهائن التي تغل يدي. لن نموت من السكر والتدخين بل من داء الحنين، ومن تلك الحياة الافتراضية..”([65]).

” مقبرة الكترونية” جسر العبور إلى الوطن

  تضمّ الرواية، قناعًا حسيّا، يمثّل بؤرة الإبداع الفكري للروائية، التي استطاعت أن تُعبّر عن فكرها وهواجسها بما يمكن أن يمسّ القارئ بأدواته المحبّبة إليه، فكانت فكرة “المقبرة الالكترونية”، هاجس الجيل الجديد، وصديقه الأبديّ!

كانت وردية تحلم بالعودة إلى وطنها، وتخاف أن تموت وتدفن في فرنسا. ويُشكّل مكان الدفن هاجسًا لأي مغترب.. فكل إنسان يحلم أن يحتضنه تراب وطنه، وعندما يغيب احتمال الحصول ولو على قبر صغير، يحضر “المكان البديل” عنه، أي تلك المقبرة الوهمية. تفصح الرواية: “وجدوا في مقبرة العراقيين الالكترونية حلًّا سحرًّيا ولطيفًا لمواجهة الشتات. هؤلاء مثلي، أصغر مني لكنهم يعيشون حسرة طير اليباديد الذي جعل قبور آبائهم وأهاليهم شذر مذر. طلقة طشارية في بلاد الله الواسعة”([66]). جاءت فكرة هذه المقبرة بوصفها مشروع تخرّج لابن أخ الطبيبة، وكان قد شيّدها على شاشته وراح يبني داخلها مقابر افتراضية.. تضم صور الأطفال الذين قضوا بسبب سوء التغذية .. أو بقايا الأسلحة المشعّة.. صور الأمهات اللواتي قضين ” بتفجير انتحاري في حي الدورة، أو في مجرزة الفوجة، أو غرقا تحت جسر الأئمة، أو في كنسية النجاة. تجمع الشاشة النجيع وترتّق الأشلاء. أنقر .. فيطلع الآباء الذين خطفوا ولم يعثر لهم على أثر، أو الذين دفنوا بهويات مجهولة، أو الذين ذبحوا وقطعت رؤوسهم في الفرز الطائفي.. يظهرون ويفرد كل منهم ساعديه ليحتضن زوجته وطفله… لن تكون هذه المقبرة الافتراضية سوى وهم جديد نضيفه لكل تلك المواقع التي يهرع إليها العراقيّون لتشييد بلد على الانترنت”([67]).

صور مأساوية عبّرت بحبكة السّرد، عن الضمير المُخرِّب، وفقدان الإنسانيّة، والقتل الوحشي الذي مارسته الجماعات التكفيرية، ومن يموّلهم، جرائم ارتُكبت على أرصفة الوطن، وأسواقه وأحيائه وشوارعه، حتى غدت مصبوغة بدم الأبرياء بفعل التفجيرات المتنقلة؛ وهكذا غدا الواقع الأليم من الروافد المهمّة التي أمدت الروائية بحكايا الوجع، فعبرت بسردها عن ذاتها الممزقة التي تنزف دمًا على حال الوطن.

وعندما يغيب الحاضر والواقع، يحضر المأمول والتخيل، وعندما يفقد الوطن، يحضر بديله، فكانت المقبرة الالكترونية خير ما عبّرت عنه الروائية عن غربتها وضياعها وهي تنشد الخلاص والاستقرار، ولو بصورة وهمية.

إلا أنّ اليأس لا يعرف طريقه إلى قلوب الأوفياء، إذ رفضت ” وردية” أن تكون جزءًا من هذه المقبرة الإلكترونيّة التي شيدها ابن أخيها، فرجَته أن يلغي مقبرتها من شاشاته الصغيرة، وبعد أن توسّلته بحرقة، حقق رغبتها، ونزل عند طلبها، إذ ما لبثت تكرر أمامه : “أريد إذا متّ، أن أنام في قبر حقيقي”([68])، وهذا اعتراف صريح ومُعلن، بالتمّسك بأرض الوطن، أرض الجذور والأهل والأجداد، وتأكيد على القاء على حلم العودة، مهما طال البعد، واشتد الحنين.

خلاصة

غدت الرواية، وسيلة للبوح بالواقع السّياسي المرير، وتعبير عن الرّغبة بالتّطلع إلى الخلاص من الأزمات التي رافقت الفرد العراقي عمومًا، والمرأة المهجّرة خصوصًا، والتي ما تزال فصول عذاباتها تلقي بثقلها همًا سياسيًا ونفسيًا يصعب نسيانه.

لقد كشفت الرواية عن حكاية” وردية” الطبيبة العراقية، فجسدت بنية الفقد والبحث عن حلم ضائع.. والروائية بدورها، عبّرت – انطلاقا من شخصية وردية، عن ذاتها التائقة إلى الحلم الغائب، وهي رؤيا تلاحق شيئًا ما مفقودًا، وهو محور اهتمام شخصياتها.

وإذا كان حلم الإنسانية يرتكز على ثلاث أثامين، هي: الحرية والأمان والاستقرار، فإنّ ما شغل الشخصيات النّسوية في الرواية البحث الدائم عن السّعادة المفقودة، مجسّدة بذلك بنية الإحباط والعجز.

هكذا لجأت كجه جي إلى ترميز هذه البنية التي شكلت بواعثها حافزًا لديها لتقديم ثيمات إيحائيّة في بحثها عن الأمان السياسي أوّلًا، والحرية ثانيًا بأشكالها كافة، فضلًا عن كشف واقع المرأة وفاعليتها وقدرتها على مواجعة الصعاب وتحقيق أدوار فاعلة لها في المجتمع، وقد أرادت بذلك، بناء صورة فنيّة مُعادلة للواقع النّسوي الذاتي وكاشفة عنه، فهي روائية ناجحة على الصعيد الشخصي، وقد حققت نجاحات وتبوأت مراكز مهمة، ما دفعها لتسطير الرحلة الشّاقة للمرأة، أيّ امرأة، وهي تشق بنفسها طريق الجلجلة..

 

 

المصادر والمراجع

المصدر:

إنعام كجه جي، رواية طشاري، لبنان: دار الجديد، 2013م.

المراجع:

  1. قاسم، سيز، القارئ والنص، العلامة والدلالة، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002م.
  2. باشلار، غاستون، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا: بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط6، ٢٠٠٦م .
  3. بيشوا، كلود، الأدب المقارن، تر: رجاء عبد المنعم جبر، بيروت: مكتبة دار العروبة، 1980م.
  4. ثامر، فاضل، ملتقى القصة الأول، بغداد: دار الشؤون الثقافية، دار الحرية للطباعة، 1979م.
  5. حفناوي بعلي، مسارات النقد ومدارات ما بعد الحداثة، عمان: أمانة عمان الكبرى، 2007م.
  6. خضر، عباس خضر، الواقعية في الأدب، وزارة الثقافة والإرشاد، سلسلة الكتب الحديثة، مكتبة لسان العرب، 1967م.
  7. الخليل، سمير الخليل، علاقات الحضور والغياب، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2008م.
  8. رجب، محمود، الاغتراب سيرة مصطلح، الاستلاب، القاهرة: دار المعارف، 1993م.
  9. رحيم، عبد القادر، علم العنونة دراسة تطبيقيية، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1، 2010م.
  10. شاخت، ريتشارد، الاغتراب، تر: كامل حسن يوسف، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1980م.
  11. شاخت، ريتشارد، القصة القصيرة الاغتراب، تر: كامل يوسف حسين، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، ط1، 1980م.
  12. طالب، عمر محمد، القصة القصيرة الحديثة في العراق، العراق: وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 1979م.
  13. علوش، سعيد، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، بيروت: دار الكتاب اللبناني، ط1، 1985م.
  14. علي، عبد الرضا، عبد الرحمن مجيد الربيعي بين الرواية والقصة القصيرة، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1976م.
  15. قطوس، بسام موسى، سيمياء العنوان، عمان الأردن، وزارة الثقافة، ط1، 2001م.
  16. المحادين، عبد الحميد، جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، ٢٠٠١ م.
  17. هويدي، صالح، بنية الرؤيا ووظيفتها في القصة العراقية القصيرة، العراق: دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، 1993م.
  18. يرديائيف، نيقولاي، العزلة والمجتمع، تر: فؤاد كامل، مراجعة: علي أدهم، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، 1986م.

مجلات ودوريات:

  1. الخطيب، حسام الخطيب، نحو المساواة بين الجنسين في لغة العرب، مجلة ثقافات، كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 9، شتاء 2004م.
  2. شاكر، زينة حمزة، صراع الهوية في الرواية العراقية، رواية الحفيدة الأميريكية لإنعام كجه جه، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد 28، العدد 10، 2020م.
  3. الصكر، حاتم ، الألسنية وتحليل النصوص الأدبية من وحدة الجملة إلى كلية النص، بغداد، مجلة آفاق عربية، العدد3، 1992م.
  4. طنكول، عبد الرحمن، خطاب الكتابة وكتابة الخطاب، فاس، المغرب: مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد9، 1997م.
  5. عباس، عبد الجبار، في النقد القصصي، منشورات وزارة الثقافة، سلسلة الكتب الحديثة (80)، مطبعة دار الساعة، 1975م.
  6. عبد الوهاب، محمود، ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي، سلسلة الموسوعة الصغيرة( 396)، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1995م.
  7. العلاق، علي جعفر، شعرية الرواية، مجلة علامات في النقد، مجلد 6، جزء 23، عام 1997م.
  8. علي، شيماء جبار، تمثيلات العنف وإقصاء الذات الأنثوية في الرواية النسوية العراقية، العراق، مجلة كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلامية، الملجد 3، العدد4، 2019م.
  9. مطلق، رسول، التنوع الأثني في العراق، سوسيولوجيا التعدد في الوحدة، مجلة الآداب، العدد 110، جامعة بغداد، كلية الآداب، 2014م.

رسائل ماجستير:

  1. لطيف، حسنين غازي، الفن القصصي والروائي في أدب موسى كريدي، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، 1990م.

[1]– الروائية العراقية كجه جه، من مواليد بغداد العام 1952م، تلقّت فيها دراسة الصّحافة، وقد عملت بوصفها صحفيّة في غير وسيلة إعلاميّة مطبوعة وإذاعيّة، إلى أن انتقلت إلى فرنسا، لتحصل هناك على الدّكتوراه من جامعة باريس العام 1979م. ما تزال إنعام تعيش في باريس، منذ أربعين عامًا، وتُمارس مهنتها، فهي حاليا مُراسلة لصحيفتين.

[2] – مدرس مساعد-العراق- الأنبار- wafaaamer7070@gmail.com

 

[3]– إنعام كجه جي، طشاري، لبنان: دار الجديد، 2013م.

[4]– عباس خضر، الواقعية في الأدب، وزارة الثقافة والإرشاد، سلسلة الكتب الحديثة، مكتبة لسان العرب، 1967م، ص 24.

[5] – طشاري، 251.

[6] – ريتشارد شاخت، القصة القصيرة الاغتراب، تر: كامل يوسف حسين، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، ط1، 1980م، ص 56 و 57.

[7] – نيقولاي يرديائيف، العزلة والمجتمع، تر: فؤاد كامل، مراجعة: علي أدهم، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط2، 1986م، ص 103.

[8] – زينة حمزة شاكر، صراع الهوية في الرواية العراقية، رواية الحفيدة الأميريكية لإنعام كجه جه، مجلة جامعة بابل للعلوم الإنسانية، المجلد 28، العدد 10، 2020م، ص 1.

[9]– طشاري، ص 250.

[10]–  شيماء جبار علي، تمثيلات العنف وإقصاء الذات الأنثوية في الرواية النسوية العراقية، العراق، مجلة كلية الإمام الكاظم للعلوم الإسلامية، الملجد 3، العدد4، 2019م، ص 133.

[11]– طشاري، ص 246.

[12] – ينظر: عبد الحميد المحادين، جدلية المكان والزمان والإنسان في الرواية الخليجية، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، ٢٠٠١ م، ص ٢٠ .

[13] -سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، بيروت: دار الكتاب اللبناني، ط1، 1985م، ص 155.

[14]  -عبد القادر رحيم، علم العنونة دراسة تطبيقيية، دمشق: دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، ط1، 2010م، ص 41.

[15] -علي جعفر العلاق، شعرية الرواية، مجلة علامات في النقد، مجلد 6، جزء 23، عام 1997م، ص 100 و101.

[16] -حاتم الصكر، الألسنية وتحليل النصوص الأدبية من وحدة الجملة إلى كلية النص، بغداد، مجلة آفاق عربية، العدد3، 1992م، ص 95.

[17]  -محمود عبد الوهاب، ثريا النص، مدخل لدراسة العنوان القصصي، سلسلة الموسوعة الصغيرة( 396)، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 1995م، ص 10.

[18] -عبد الرحمن طنكول، خطاب الكتابة وكتابة الخطاب، فاس، المغرب: مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، العدد9، 1997م، ص 135.

[19]  -سمير الخليل، علاقات الحضور والغياب، بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة، ط1، 2008م، ص 105.

[20] – بسام موسى قطوس، سيمياء العنوان، عمان الأردن، وزارة الثقافة، ط1، 2001م، ص 60.

[21] – طشاري، ص 90.

[22] -مرجع سابق، ص 24 و 25.

[23] -مرجع سابق، ص 55.

[24]– ينظر: حسام الخطيب، نحو المساواة بين الجنسين في لغة العرب، مجلة ثقافات، كلية الآداب، جامعة البحرين، العدد 9، شتاء 2004م، ص  108.. 113.

[25]– حفناوي بعلي، مسارات النقد ومدارات ما بعد الحداثة، عمان: أمانة عمان الكبرى، 2007م، ص 169.

[26]– طشاري، ص 41.

[27]– طشاري، ص 33 و 34.

[28] -مرجع سابق، ص 123.

[29]– طشاري، ص 40.

[30] -مرجع سابق، ص 40.

[31]– مرجع سابق، ص 26.

[32]-عبد الجبار عباس، في النقد القصصي، منشورات وزارة الثقافة، سلسلة الكتب الحديثة (80)، مطبعة دار الساعة، 1975م، ص 290.

[33] -عبد الرضا علي، عبد الرحمن مجيد الربيعي بين الرواية والقصة القصيرة،  بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1976م، ص 19.

[34] -طشاري، ص 67.

[35]-حسنين غازي لطيف، الفن القصصي والروائي في أدب موسى كريدي، رسالة ماجستير، جامعة بغداد، 1990م، ص 24.

[36] -طشاري، ص 74.

[37]– غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ط6،٢٠٠٦م، ص 39.

[38] -فاضل ثامر، ملتقى القصة الأول، بغداد: دار الشؤون الثقافية، دار الحرية للطباعة، 1979م، ص 298.

[39] – طشاري، ص 83.

[40] – طشاري، ص 83.

[41]– مرجع سابق، ص 106.

[42] – مرجع سابق، ص 107.

[43] -مرجع سابق، ص 107.

[44] -طشاري، ص 228.

[45] -كلود بيشوا، الأدب المقارن، تر: رجاء عبد المنعم جبر، بيروت: مكتبة دار العروبة، 1980م، ص 15.

[46] -ريتشارد شاخت، الاغتراب، تر: كامل حسن يوسف، بيروت: المؤسسة العربية للدراسات، 1980م، ص 63،

[47] -محمود رجب، الاغتراب سيرة مصطلح، الاستلاب، القاهرة: دار المعارف، 1993م،  ص 31، 46.

[48]  -عمر محمد طالب، القصة القصيرة الحديثة في العراق، وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، 1979م، ص 271 و 272.

[49] -طشاري، ص 238.

[50]-عبد الجبار عباس، في النقد القصصي، مرجع سابق، ص 7.

[51]-صالح هويدي، بنية الرؤيا ووظيفتها في القصة العراقية القصيرة، العراق: دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، 1993م، ص 26 و 27.

[52]– طشاري، ص 27.

[53] -مرجع سابق، ص 35.

[54] -عمر محمد طالب، القصة القصيرة الحديثة في العراق، مرجع سابق، ص 490. فاضل ثامر، قصص عراقية معاصرة، مرجع سابق،  ص 33.

[55]– رسول مطلق، التنوع الأثني في العراق، سوسيولوجيا التعدد في الوحدة، مجلة الآداب، العدد 110، جامعة بغداد، كلية الآداب، 2014م،  ص 476 و 477.

[56] -طشاري، ص 20.

[57]– ينظر: سيزا قاسم، القارئ والنص، العلامة والدلالة، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2002م، ص 48.

[58] -طشاري، ص 21.

[59]– مرجع سابق، ص 37.

[60] -مرجع سابق، ص 37 و 38.

[61] – طشاري، ص 60.

[62] -طشاري، ص 68.

[63]– مرجع سابق، ص 68.

[64]– طشاري، ص 242.

[65] -مرجع سابق، ص 243.

[66] -طشاري، ص 159.

[67] -طشاري، ص 239 و 240.

[68] – طشاري، ص 244.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website