“الكيد العظيم” في الآية الثامنة والعشرين لسورة يوسف المباركة
على أساس آراء مفسري القرآن الكريم
دراسة تداوليّة
The “great trick” (al-keyd al-Azeem)in the verse (28) of the blessed Surat Yusuf ,On the basis of the opinions of the interpreters of the Holy Quran
)A Pragmatic study(
د. علي بنائیان أصفهاني([1])Dr. Ali Banaeian Esfahani
د. داود إسماعيلي([2])Dr. Davoud Esmaely
الملخص
يبدو للمتمعن في الأمر أن معرفة الخصائص البشرية المختلفة على أساس النصوص الدّينيّة السماويّة بشكل عام، والآيات القرآنية على وجه التحديد، كانت ولا تزال تأخذ حيزًا واسعًا من اهتمامات الباحثين في مجال الدراسات القرآنيّة.
في هذه الأثناء، فإن معالجة بعض الخصائص التي تتميز بها النساء، قد أدت إلى إيجاد وجهة نظر خاصة بالنسبة إليهن من جهة، ومن جهة أخرى تتنافى مع الكمالات النسانيّة الكامنة فيهن.
مهما يكن من شيء، فمن جملة الآيات المهمة التي تسهم إسهامًا بارزًا في معرفة النساء، هي الآية الثامنة والعشرون لسورة يوسف المباركة، والتي يلجأ إليها بعض المفسرين، ويدَّعون أن النساء هنَّ ذوات الكيد العظيم وصاحبات المكر الكثير. تأسيسًا على هذا، تسعى هذه الدراسة أن تلقي الضوء على سياق الآية وأجزائها الداخلية وأن تتعرض لآراء المفسرين بالنقد والتحليل، حتى تتمكن من إعادة إيضاحها.
ومما توصلت إليه هذه الدراسة أنّ دراسة وفهم كلمات نحو: “الكيد”، و”المكر” و”العظيم” وإمعان النظر في الضمائر الواردة في الآيات المرتبطة بالآية المرادة، وخاصة القسم الأخير لها، أي “إنَّ كَيْدَهُمْ عَظيمٌ”، والتمعن والإبحار في سياق الآيات السابقة واللاحقة لها، ما يدل كل دلالة على أن لفظة “الكيد” تحمل شحنًا دلاليًّا إيجابيًّا، فتعني “تدبير الأمور والعثور على حيلة مناسبة في المواقف الحرجة”. وتبين أيضًا أن الضمائر المستخدمة في هذه الآية، تعود إلى زليخا نفسها فقط، إلّا أنها جاءت جمعًا ولا مفردة وعُمِم الحكم، للحدّ من فضيحة امرأة عزيز المصر، وكذلك أخذ العبرة منها من نظائرها في كل زمان ومكان واجتنابهنَّ عن التّجارب المشابهة.
الكلمات المفتاحية: الآية الثامنة والعشرون لسورة يوسف المباركة، زليخا، الكيد العظيم، المكر،النبي يوسف (ع).
Abstract
Knowing the characteristics of human personality based on the Qur’an is one of the duties of the Qur’an scholars, but for a long time, explaining some characteristics of women by citing the Qur’an has created special attitudes towards them that are incompatible with their human perfection and character. Among these documents is the twenty-eighth verse of Surah Yusuf, which some commentators of the Qur’an, referring to it, have considered the type of women as the initiators and owners of tricks in terms of personality. This research has re-explained this attitude by looking at the context and internal components of this verse and examining the interpretation opinions of commentators. The semantics of the words “Kayd”, “Makar” and “Azeem” and the precision in the pronouns used in the arrangement of the verses related to the verse, especially the final part of it “Inna Kaydakunna Azeem” as well as the precision in the context of the verses before and after, indicate that the word “Kayd” means “finding a solution” and has a positive meaning, and the address of the pronouns is only directed at Egyptian Aziz’s wife, which is used in plural form in order to prevent her scandal and also with the aim of teaching other women like her at all times.
Key words: Kayd Azim, Makar, verse 28 of Surah Yusuf, Zuleikha, Yusuf (pbuh).
- 1. المقدمة
يبدو للمـتأمل في الأمر أن المنظّرين الذين يمتلكون نظرة سلبيّة إلى المرأة، مازالوا يسعون أن يرسموا صورة مشوهة له، فنراهم يستندون إلى الآية الشريفة: ﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ (يوسف 12: 28)، فيدَّعون أنها قد اختارت طريق الشيطان، فإنّها مجبولة على الكيد والمكر والخداع، إلا أنّهم لم يكتفوا به، بل تعدوا إلى أن كيد النّساء أعظم من كيد الشيطان. ولكن حين نمعن النظر في الأمر بدقة، نلاحظ أن هذه النظرة السلبية إلى المرأة تتعارض مع كلام الأئمة المعصومين حول خلقتها، وشعورها بالكمال والمثاليّة وحقوقها البشريّة من جهة، ومن جهة أخرى تتنافى مع الدّور البارز للنساء في تقديم وتنمية الأسرة وتعليم الأولاد وتربيتهم.
زد على ذلك، أنّه من الواضح أن اكتساب الفضائل والخصال الحميدة والقيم المتعالية لا تتبع الجنسانية، كما أن القرآن الكريم يرى أن القيم واللاقيم ليست تابعة للجنسانية على الإطلاق. مضافًا إلى ذلك، أن التّعابير القرآنية الشريفة حول المرأة تنمُّ عن المكانة العالية التي تتمتع بها النساء (النساء 4: 19)؛ بذلك لا يمكن أن نشوّه صورة المرأة ونقدم نظرة دونية لها، وفقًا للانطباعات الخاطئة يحملها البعض.
من هذا المنطلق، تسعى هذه الورقة البحثية أن تميط اللثام عن مفاهيم كلمات رئيسة، نحو: الكيد، والمكر، والعظيم، وأن تقدم دراسة سياقيّة ودلاليّة للآية الثّامنة والعشرين لسورة يوسف المباركة وسائر الآيات المرتبطة بها، وأن تعالج وجهات نظر المفسرين والعلماء، وأن تتعرض لآرائهم التفسيريّة بالنقد والتّحليل. مهما يكن من أمر، فلقد أظهرت النتائج أن توظيف ضمائر الجمع المؤنث في كلام عزيز المصر، يعد وصفًا جيدًا وممدوحًا لزليخا ونظائرها من النّساء، كما يدلُّ على مقدرات فريدة، تمتلكها النّساء في تدبير الأمور والتفكير في عواقبها والخروج من المواقف المستعصية.
لا يفوتنا أنّه أُنجزت دراسات عديدة حول السّمات والخصائص الشّخصية للمرأة في القرآن الكريم، منها ما يلي:
مقالة “زن در قصه قرآن” (= المرأة في قصة القرآن)، لحسينعلي جعفري، (مجلة “ادبيات داستانى”، 1376 للهجرة الشمسية، العدد 44)؛ وكذلك مقالة “زن در نگاه قرآن و در فرهنگ زمان نزول” (= المرأة من منظور القرآن الكريم وفي ثقافة زمن النزول)، لمحمد هادي معرفة وحسن حكيم باشي (پژوهشهای قرآنی، 1386 للهجرة الشمسيّة، العدد 25 و26)؛ وكذلك مقالة “خرافه باورى پیرامون زن” (= المعتقدات الخرافيّة حول المرأة) لفتحية فتحي زاده (مجلة بانوان شيعه، الخریف والشتاء، 1386 للهجرة الشمسيّة، العدد 13)؛ ومقالة “زن، فریبگری چیرهدست یا پردهنشینی اخلاقی؟” (المرأة خدّاعة ماهرة أو مخدّرة أخلاقية؟)، لمهدي رجائي (فصلنامه اخلاق، الربيع، 1394 للهجرة الشمسية، العدد 17)، إلا أنّ هذه الدراسات تناولت قضية “الكيد العظيم” في شكل إشارات عابرة من دون تحليل أو تفصيل خاص بالموضوع.
- دراسة دلالية للفظة “الكيد”
إن لفظة “الكيد” لغة، تعني تدبير الأمور والتفكير فيها لإنجاز عمل بهدف الإضرار بمصالح الآخرين؛ بذلك تتمحور هذه اللفظة حول محور معالجة الأمور والعثور على طريق للتعامل مع المواقف الحرجة والتّخلص منها من أجل الحصول على الفرج والتيسير بعد الضيق والشدة؛ بذلك نلاحظ أنه يقال: «كل شيء تعالجه، فأنت تكيده» (ابن فارس، 1404، 5: 149). لا يفوتنا أن بعض اللغويين يرون أن المعنى الأصلي للكيد هو “المشقة”، قائلين إنّ “فلان يكيد بنفسه” أي يقاسي المشقّة (العسكري، 1400: 254)؛ بذلك ففي هذه اللفظة قيود ثلاثة: التدبير، والعمل ، وكونه في مورد الإضرار؛ وأمّا المشقّة، والمعالجة، والشدّة، والإرادة، والجهد، وإيقاع المكروه فمن آثار الأصل ولوازمها (مصطفوى، 1430، 10: 160).
وجدير بالذكر أن الكيد قد يكون مذمومًا وممدوحًا، وإن كان يستعمل في المذموم أكثر (الراغب الأصفهاني، 1412: 728؛ الأزهري، 1421، 10: 179)؛ فعلى سبيل المثال، إنّ الكيد في الآية القرآنيّة: ﴿كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ﴾ (يوسف 12: 28)، قد جاء في معناه الممدوح؛ ومرجع ذلك أن الآية تشير إلى السقاية الثمينة التي وضعها النبي يوسف في وعاء أخيه، فكان هذا كيد علّمه الله يوسف على إخوته (الزبيدي، 1414، 5: 232). بعبارة أخرى، ففي هذه الآية المباركة، لقد نسب الكيد إلى الله سبحانه وتعالى، ما يعني أن الكيد بمعنى الإرادة، وَقَوله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك كدنا ليوسف﴾ أَي أردنَا وَدلّ على ذَلِك بقوله: ﴿إِلَّا أَن يَشَاء الله﴾ وَإِن شَاءَ الله بِمَعْنى الْمَشِيئَة (العسكري، 1400: 253).
وأما الكيد فورد بمعناه السلبي والمذموم في الآية المباركة: ﴿أَنَّ اللَّهَ لايَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ﴾ (يوسف 12: 52). فإذا دققنا النظر فيها، نرى أن الله تعالى يحذر أن كيد الخائنين لا عاقبة لها، إذ لا يهديهم سبيلًا؛ ولكن كيد الشخص الذي لا يقصد الخيانة، يخضع لهداية الله عز وجل، وينتهي بالخير والفرج؛ بذلك لا يتبين الشحن الدّلالي الإيجابي والسّلبي للفظة الكيد في القرآن الكريم، إلا بالرّجوع إلى نسیج الآیات وسیاقها وعبر الاستعانة ببعض الإرهاصات والشواهد بداخل الآية وخارجها. لا يفوتنا أنّ الكيد قد اقترن بصفة “المتين” في بعض الآيات (الأعراف 7: 183)، ما يعني الإملاء والإمهال المؤدي إلى العقاب (الراغب الأصفهاني، 1412: 728)؛ بذلك تكون صفة الكيد لله تعالى ممدوحًا.
3ـ الفرق بين لفظتي “الكيد” و”المكر” في القرآن الكريم
يرى بعض اللغويين أن الكيد والمكر مترادفتان (الحميري، 1420: 5941؛ الزبيدي، 1414، 5: 231؛ مصطفوي، 1430، 10: 159)، وفي الوقت نفسه، فرّق البعض منهم بينهما، قائلين إن الكيد بمعنى التدبير بباطل أو حق (الأزهري، 1421، 10: 179)، وأيضًا قائلين إن الكيد أقوى وأشد من المكر؛ والشاهد أنه يتعدى بنفسه، والمكر يتعدى بحرف فيقال” كاده يكيده ومكر به ولا يقال: مكره (العسكري، 1400: 254؛ مصطفوي، 1430، 10: 160)؛ في حين أن البعض يرون أن الكيد يتعدى باللام (الطباطبائي، 1417، 11: 78). بعبارة أخرى، أن الكيد قد يستعمل من دون ذكر المفعول، فيكون النظر الى مطلق عنوان الكيد المنتسب إلى الفاعل، وتختلف خصوصيّاته باختلاف خصوصيّات الفاعل، نحو: ﴿كَيْدَ الْخائِنِينَ﴾ (يوسف 12: 52)، وقد يستعمل متعلّقًا بالمفعول ومتعدّيًا بلا واسطة حرف، فيدلّ على شدّة وقوّة في تحقّق الكيد، نحو: ﴿َأَكِيدَنَ أَصْنامَكُمْ﴾ (الأنبياء 21: 57)، وقد يستعمل متعدّيًا بحرف اللام، فيدلّ على وقوع الفعل في رابطة ذلك المفعول وفي ما يتعلّق به، كما في: ﴿لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ (يوسف 12: 5)، وفي هذا التعبير إشارة الى أنّ إخوته لا يرضون بإضراره وكيده بنفسه، بل بما يتعلّق به من عنوان ومال ومقام وشخصيّة وغيرها، ففي الآية: ﴿ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ …. كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ (يوسف 12: 76)، أي كدنا بإلقاء هذا التدبير مرتبطًا ومتعلّقًا بيوسف، ويراد الكيد المتعلّق المرتبط بإخوته؛ ويمكن أن نقول إنّ اللام للاختصاص، والمعنى أنّ هذا الكيد المتعلّق بالإخوة في المقام مخصوص بيوسف ولنفعه (مصطفوي، 1430، 10: 163). ومن اللافت أن الكيد في الحرب حلال؛ ولكن المكر في كل حال حرام (ابن منظور، 1414، 5: 183؛ الأزهري، 1421، 10: 135؛ الزبيدي، 1414، 5: 231؛ الفراهيدي، 1409، 5: 370).
زد على ذلك، أن “الكيد الأَخْذُ على خَفَاءٍ ولا يُعْتَبر فيه إِظهارُ خِلاَفِ ما أَبْطَنَه ويُعْتَبر ذلك في المَكْرِ” (الزبيدي، 1414، 5: 231)؛ فعلى سبيل المثال، أن الآية المباركة: ﴿ فَأَرادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ (الصافات 37: 98)، تشير إلى أن المشركين أرادوا أن يكيدوا بإبراهيم؛ ولكن خاب سعيهم ولم يحصل لهم مرادهم، فأبطل الله مكرهم وجعل النار له بردًا وسلامًا؛ بذلك يكون المكر أقوى من الكيد؛ لأنّ الماكر يشبه منافقًا يدّعي في الظاهر أن تصرفاته تكون بصالح الطرف المقابل إلّا أنّ نيته بخلاف ما يفعل ويقول (طيب، 1378، 7: 182)، إلا أن هذه الثنائية لا توجد في النية الباطنة والعمل الظاهر للشخص الكائد؛ فعلى سبيل المثال، سمي قول المنافسات المصريات لزليخا، مكرًا؛ لأنّه صدر منهن حسدًا وبغيًا بغية نشرت فضيحتها بين الناس (الطباطبائي، 1417، 11: 148)، إلا أنهن كُنَّ يبدين حسن النية في الظاهر، كما أن عبارة “فلما سمعت” تحكي عن سوء مقالهن ووقوف زليخا عليه. وأما حول كيد إخوة يوسف، فبعد الإشارة إلى كلام النبي يعقوب حول حسدهم وحنقهم وبغضهم، يقول الله تعالى: ﴿فَيَكيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ (يوسف 12: 5)؛ وبما أن قلوبهم كان مليئة بالحنق والعداوة ضد يوسف، فلم يقل النبي يعقوب: إني أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم، بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم وأكد تحقق الكيد منهم بالمصدر ـ المفعول المطلق ـ إذ قال: ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً﴾ (الطباطبائي، 1417، 11: 78 ـ 79). فلمّا اطّلع إخوته علی رؤیاه، أظهروا حسدهم باللسان فقالوا: ﴿ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخوهُ أَحَبُّ إِلی أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفي ضَلَالٍ مُبينٍ﴾ (يوسف 12: 8)، فألقوه في غيابة الجبّ (يوسف 12: 10)؛ بذلك تمكنوا من تحقيق كيدهم؛ ثم ذبحوا أحد الخراف ولطخوا به قميص يوسف حتى يصدق يعقوب أن الذئب قد أكله (يوسف 12: 13). فعبارة: ﴿وَجَاءُوا عَلىَ قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ تدل كلّ دلالة على شدة حسدهم وعدواتهم وحنقهم على أخيهم يوسف. ولكن حين نعود إلى قصة زليخا ويوسف، نلاحظ أن زليخا بعد أن واجهت عزيز مصر، ألصقت به تهمة المراودة لها عن نفسها. وفي نهاية المطاف، اعترفت بذنبها، كما يقول الله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ﴾ (يوسف 12: 52). قصارى القول، إنّه لقد عُبِّر عن التدبير العملي لزليخا ونظائرها بالكيد (يوسف 12: 33 ـ 34 ـ 50)، كما نرى مثله في السور القرآنية الأخرى، نحو: ﴿أنَّ كَيْدي متين﴾ (الأعراف 7: 183)، و ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ (الأنبياء 21: 57)، و﴿ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ﴾ (الأنبياء 21: 70)، ﴿فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ﴾ (الصافات 37: 98)، و﴿ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ﴾ (الفيل 105: 2)، و﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ (غافر 40: 25)، و﴿ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ﴾ (غافر 40: 37)، و﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء 4: 76)، و﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى﴾ (طه 20: 69)، و﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ (آل عمران 3: 120)، ما يدلُّ على أن الكيد في هذه الآيات كلها يفيد الحيلة والتدبير العلني، كما نرى مثله عند جماعتين متخاصمتين متقاتلتين لا تتخليان عن الكيد والمكر والخداع في تعامل بعضهما مع البعض: ﴿إِنهَّمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا﴾ (الطارق 86: 15 ـ 16). وبما أن الكيد من اللَّه تعالى هو تدبير على وفق تقديره التامّ الثابت الّذى يكون في قبال كيدهم وبعده، فنرى ذكر الكيد منهم أوّلا وفي المرتبة الأولى، ثم يذكر الكيد من اللَّه تعالى؛ فكيد اللَّه تعالى هو المتمّم للنظام الأصلح للعالم، والمانع عن حدوث الاختلال، والدّافع المبطل مكائد الخائنين (مصطفوي، 1430، 10: 161)، فبما أن مَكَائدهُمْ على خلاف النظام الإلهىّ، وعلى خلاف الإرادة القاهرة الربّانيّة، فلا يفلحون، ولا يغنى عنهم كيدهم ولا ينصرون، ولا يكون كيدهم إلّا في خسار وضلال (المصدر نفسه). ومن اللافت ذكره هنا، أنه جاءت هذه الآية في شأن كيد إخوة يوسف: ﴿ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (يوسف 12: 5)، ما ينمُّ عن أنَّ لكيد إخوته لم يكن سبب داخلي فحسب، وإنما كان يحمل سببا خارجيا، وهو إغواء الشّيطان العدو الأول للإنسان. فمن القواسم المشتركة بين كيد زليخا وكيد إخوة يوسف هو أن النبي يعقوب وزليخا كليهما كانا يحبان يوسف حبًّا جمًّا، كما يقول سبحانه وتعالى: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلىَ أَبِينَا مِنَّا وَنَحنُ عُصْبَة﴾ (يوسف 12: 30)، و﴿ وَقَالَ نِسْوَةٌ فىِ الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَئهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ (يوسف 12: 30)؛ بذلك يمكن أن نقول إن كيدهما ممدوح وأن طلب الخير هو غايته المنشودة؛ ومرجع ذلك أن كيد إخوة يوسف كان بغية لفت انتباه أبيهم، وأن كيد زليخا كان من أجل شفغها الشديد بيوسف، من ثم نرى أنها لم تعين الجزاء والعقاب، بل رددت يوسف بين السجن والعذاب الأليم؛ لأن قلبها الواله إليه المليء بحبه ما كان يساعدها على التعيين، فإن في الإبهام نوعا من الفرج (الطباطبائي، 1417، 11: 141).
- دراسة مدلول لفظة “العظيم” في القرآن الكريم
كما نعلم أن “العظيم” صفة مشبهة تعني القوة. فسمي “العظيم” بهذه التسمية بسبب قوته (العسكري، 1400: 170). وكان أصل العظم في الأشياء المحسوسة ثم استعمل في الأمور المعنوية (المصطفوي، 1430، 2: 119؛ العسكري، 1400، 177). لقد أضاف إليه بعض اللغويين معنى التعجب الذي يراد منه المدح أو الذم، نحو: “عَظُمَ البَطْنُ بَطْنُك” و”عَظْمَ البَطْنُ بَطْنُك” ما يستعمل لأداء معنى الذم (الجوهري، 1376، 5: 1988؛ ابن منظور، 1414، 12: 411؛ الزبيدي، 1414، 17: 489؛ المصطفوي، 1430: 8: 212)؛ بذلك استعمال لفظة “العظيم” في الأمور الملكوتيّة والمعنويّة نحو: العرش العظيم، والعلم العظيم، والخلق العظيم و….
يختلف عن استعمالها في الأمور المادية. وأمّا في القرآن الكريم، فلقد استُخدِم صفة “العظيم” للأوصاف الدنيئة والرذيلة في بعض الأحيان، وأريد التعجب في كلها سواء أكانت مادية أم معنوية، نحو: الآية ﴿وَلَها عَرْشٌ عَظيمٌ﴾ (النمل 27: 23)، والتي تشير إلى سرير بلقيس؛ أو الآية ﴿وَجاؤُا بِسِحْرٍ عَظيمٍ﴾ (الأعراف 7: 116)، والتي تشير إلى سحرة فرعون؛ أو الآية ﴿إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظيمٌ﴾ (الحج 22: 1)، والتي تشير إلى القيامة؛ والآية ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيم﴾(النبأ 78: 1 ـ 2)، والتي تشير إلى خبر مهم سيأتي في المستقبل.
5ـ دراسة تحليلية للآية الثامنة والعشرين لسورة يوسف المباركة
5ـ1 السوء والفحشاء
يؤخذ من ظاهر سياق الآيات أن المراد بالسوء والفحشاء في الآية هو الزنا وقصد اقترافه (الطباطبائي، 1417، 11: 128). فالمراد بالكيد في الآية المباركة: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم﴾، هو مكر النساء وخداعهن على يوسف بغية طمأنة عزیز مصر حتی یثق بهنَّ ؛ ذلك لأن الآيات التي تحكي قصة المراودة، عَطف بينها بحرف الواو الذي يفيد الترتيب مع التعقيب: ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتي هُوَ فىِ بَيْتِهَا عَن نَّفْسِه … وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بهِا … وَاسْتَبَقَا الْبَاب… وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا الْبَاب … ﴾(يوسف 12: 23 ـ 25).
5ـ2 مرجع الضمير في “رأى” و”قال إنه”
يعتقد ثلة كبيرة من المفسرين أن الفاعل في العبارتين “رأى” و”قال إنه” هو عزيز مصر ولا غير (الطباطبائي، 1417، 11: 143؛ الطبرسي، 1372، 5: 347)؛ في حين أن البعض منهم يرى أن الضمير يعود إلى شاهد شهد ما جرى بين زليخا ويوسف (الطوسي، د.ت، 6: 127؛ القرطبي، 1364، 6: 127؛ الثعالبي، 1418، 3: 321؛ ابن عاشور، د.ت، 12: 52)؛ هذا بينما أن البعض الآخر يرى أن الضمير يعود إلى رجل كانت معه (السبزواري النجفي، 1419: 243)؛ وأمّا الزمخشري يسلك طريقًا مخالفًا للمفسرين الآخرين، يقول: إن المراد به حكيم كان يرجع إليه الملك ويستشيره، كما يجوز أن يكون بعض أهلها كان في الدار فبصر بها من حيث لا تشعر (الزمخشري، 1407، 2: 459).
5ـ3ـ مرجع الضمير في “إنّه”
يعتقد بعض المفسرين أن الضمير في “إنه” يرجع إلى “السوء” أو “إرادة السوء” (الطوسي، د.ت، 6: 127؛ الآلوسي، 1415، 6: 414؛ ابن عطية الأندلسي، 1422، 3: 236؛ مغنيه، 1424، 4: 305؛ ابن الجوزي، 1422، 2: 433). هذا من جهة، ومن جهة أخرى، أنّ البعض من المفسرين يرون أن الكيد يفيد لجوء زليخا إلى الإغواء والدلال الأنوثي، حتى تدعو يوسف إلى اقتراف الذنب (ميبدي، 1371، 5: 53)؛ ولكن بما أن الكيد يفيد إخفاء الأمور بقصد الإضرار بالآخرين، وأن زليخا في الوهلة الأولى ما أرادت إلحاق الضرر بحبيبها، بل أجبرت على إلصاق التهم بيوسف للنأي بنفسها عن الفضيحة وتبرئة ساحتها من الذنب، فليس الكيد بمعنى الإغواء، بل المراد به هو الخطة الآنية والسريعة التي وضعتها زليخا ليوسف صدفة، فقالت: ﴿قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَليمٌ﴾ (يوسف 12: 25).
6ـ مرجع الضمير في “كنّ” في عبارة “كيدكنّ عظيم”
لقد اختلف المفسرون في تحديد مرجع الضمير في كلام عزيز مصر: ﴿ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾، فمنهم من قال: “ونسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء، وكيدهن معهود معروف” (الطباطبائي، 1417، 11: 143)، بذلك يرى بعض المفسرين استنادا إلى هذه الآية المباركة، أن النساء مصدر السوء والفحشاء وأنهن فتنة للرجال (الطوسي، د.ت، 6: 127)؛ في حين أن البعض يعتقدون أن المراد بـ”كنّ” هو زليخا ونظائرها اللواتي كن يتصفن بالكيد والخداع (الآلوسي، 1415، 6: 415؛ ابن عاشور، د.ت، 12: 52؛ القمي المشهدي، 1368، 6: 300؛ الفيض الكاشاني، 1415، 3: 15)؛ هذا بينما أن البعض منهم يرون أن الضمير يعود إلى زليخا وخادمتها، التي ساعدتها على إغواء يوسف على الخيانة (الزمخشري، 1407، 2: 461؛ النسفي، 1416، 2: 313).
دعما للرأي الأخير، يمكن أن نقول إن يوسف استفاد من ضمير “كنّ”، عندما قصده رسول العزيز، فلم يصرح باسم زليخا لإثبات براءته فقط، بل أشار إلى نسوة قطعن أيديهن بالسكاكين أيضًا: ﴿ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَهِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ (يوسف 12: 50)، حتى يقضي العزيز بينه وبين زوجته بحقّ. ولكن من الواضح أن إلقاء يوسف في غياهب السجن بأمر زليخا لم يكن إلا بسبب تأديبه الصارم لعدم امتثاله لطلبها؛ إلا أن يوسف ما أشار إلا إلى قصة نسوة قطعن أيديهن بالسكاكين، فلم يذكر زليخا والنسوة اللواتي راودنه بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته ولا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة وفحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيماً (الطباطبائي، 1417، 11: 195). يستفاد من السياق أن زليخا ألبست الحقيقة على العزيز وأرابته في براءة يوسف بعد أن زج به في السجن حتى اعتقد خلاف ما دلت عليه الآيات (الطباطبائي، 1417، 11: 170)؛ ولكن لا يبعد عن الاحتمال أن العزيز ويوسف قاما باستخدام ضمير “كنّ” تعمدًا حفاظًا على عرضها والنأي بها عن الفضيحة.
جدير بالذكر أن جماعة كثيرة من المفسرين يعتقدون أن ضمير “هنّ” في كلام يوسف (يوسف 12: 33 و55)، وقول الله تعالى (يوسف 12: 34)، يشير إلى أن النسوة دعونه وراودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها وراودته عن نفسه (الطوسي، د.ت، 6: 135؛ الطبرسي، 1372، 5: 373؛ الطباطبائي، 1417، 11: 153؛ مکارم شیرازي، 1374، 9: 398)؛ غير أنه لا ندري بالضبط هل كانت دعوة النسوة له إلى إجابة طلبهن أو إلى قبول طلب زليخا أو كليهما؟ مع الأسف، ما أشار القرآن إليه بشكل واضح، إلا أن بعض المفسرين يستندون إلى عبارة “أصْبُ إليهنّ” في الآية: ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنىّ كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيهْنَّ﴾ (يوسف 12: 33)، فيختارون القول الأول، قائلين إن كل واحدة منهن دعته إلى مثل ما دعت إليه امرأة العزيز وإلا كانت رغبته فيهن بعيدة عن الذهن (الطوسي، د.ت، 5: 135). في هذه الأثناء، يقول البعض الآخر من المفسرين بالقول الأول، مستدلين بأنه يستفاد من عبارة “مما يَدْعونني إليه”، في كلام يوسف: ﴿رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، أن النسوة الأخریات أيضًا دعونه إلى مثل ما دعت إليه زليخا واندفعن بمراودة يوسف عن نفسه (الطبرسي، 1372، 12: 210؛ الرازي، 1420، 18: 451)؛ بذلك يمكن أن نقول إن “النِّسْوَةَ اجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَتْ تُرَغِّبُهُ وَتُخَوِّفُهُ بِطَرِيقٍ آخَرَ، وَمَكْرُ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ شَدِيدٌ” (الرازي، 1420، 18: 451). لكن ما يسترعي الانتباه أن ضمائر الجمع المؤنث في هذه الآيات تعود إلى مراودة زليخا ولا غير؛ ذلك لأنّه من جهة، يجوز في اللغة العربية استخدام صيغة الجمع بدلًا من المفرد، ولكن لا يجوز عكسه؛ وما يؤيد قولنا، تواجد الأمثلة القرآنية الكثيرة التي استُخدِم صيغة الجمع فيها بدلًا من المفرد، نحو: (آل عمران 3: 181؛ التوبة 9: 61؛ النساء 4: 10؛ الممتحنة 60: 8؛ المائدة 5: 41)؛ من جهة أخرى، أن استعمال صيغة الجمع بدلًا من المفرد يعد من محسنات الكلام؛ لأنه لو استُخدِم صيغة المفرد لزليخا، لاقتصر أخذ العبرة وتحذير الآيات في زليخا وليس في نظائرها من النسوة؛ بذلك أن الآيات المرتبطة بالمراودة عبر استخدام ضمائر الجمع المؤنث والإشارة إلى زليخا، توصل معنى دقيقًا من “الكيد العظيم” إلى الذهن؛ لأن الله تعالى قد استطاع من خلال الإتيان بضمائر الجمع المؤنث في هذه الآيات المدروسة، أن يخاطب زليخا ونظائرها من النسوة بشكل مباشر من دون قيود زمكانيّة. على كل حال، يمكن أن نستنتج أن الضمائر جاءت جمعًا دلالة على مساعدة النسوة لزليخا على ترغيب يوسف وترهيبه لإجابة طلبها. مهما يكن من أمر، فإنّ إثبات صحة هذه النظرية، فتعود ضمائر الجمع إلى زليخا ومحاولتها لمراودة يوسف عنه؛ بذلك نرى أن يوسف ما أشار إلى الطلب غير المشروع للنسوة خلال زيارته مع رسول العزيز، بل اكتفى بالحديث عن نسوة قطعن أيديهن بالسكاكين، كما أنه لو طلبت النسوة مراودة يوسف عن نفسه، فلجأن إلى الاعتذار والاعتراف بالذّنب والتقصير.
إضافة إلى ما ذكر أعلاه، أنّه جاء في رواية عن علي بن الحسين زين العابدين “أن النسوة لما خرجن من عندها أرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرًا من صاحبته تسأله الزيارة وقيل إنهن قلن له أطع مولاتك واقض حاجتها فإنها المظلومة وأنت ظالم” (الطبرسي، 1372، 5: 353). فهذه الرواية تدل على تعاون النسوة مع زليخا لإجابة طلبها من قبل يوسف.
من القرائن الأخرى التي تدل على أن ضميرتي “كن” و”هن” تعودان إلى زليخا فقط، هو أن العزيز في بدء الكلام، يشير إلى كيد زليخا بصيغة الجمع، إلا أنه في استمرار كلامه، يوجه الكلام إلى زليخا، يأمرها بالاستغفار عن ذنبها، يقول: ﴿واسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخْاطِئينَ﴾ (يوسف 12: 29)؛ في حين أنه لو عاد ضمير “كنّ” إلى زليخا وخادمتها أو النسوة المصريات، لكان من الواجب أن يأتي الضمير جمعًا ولا مفردًا في تتمة كلامه؛ لأنهن كلهن یستحققن الملامة. زد على ذلك، أن قول العزيز: ﴿إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ﴾ نِسْبَةٌ لَهَا إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْخَطَأِ فِي مَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا أَحَدُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ عَرَفَ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ أَنَّ الذَّنْبَ لِلْمَرْأَةِ لَا لِيُوسُفَ، لِأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ عَنْهَا إِقْدَامَهَا عَلَى مَا لَا يَنْبَغِي» (الرازي، 1420، 18: 447). زد على ذلك، أن توجد قرينة أخرى تدعم صحة دعوانا، وهي أنّ السجن كان أحب إلى يوسف ما كان تدعو إليه زليخا؛ لأنّ يوسف اختار بين المراودة والسجن، الثاني؛ بذلك يمكن أن نستنتج أن ضمير “هن” في كلام يوسف (يوسف 12: 33)، وقول الله تعالى (يوسف 12: 3چ4)، يعود إلى زليخا ولا إلی النسوة المصريات أو عمومهن في كل زمان أو مكان.
على أساس ذلك، أن لفظة “الكيد” في قول يوسف: ﴿إِنَّ رَبىّ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ (يوسف 12: 50)، تشير ضمنيًّا إلى الكيد العظيم لدى زليخا؛ لأن الله تعالى حين يتحدث عن سماع امرأة العزيز بغيبة النسوة، يعبر عنها بالمكر: ﴿فَلَمَّا سمَعَتْ بِمَكْرِهِن﴾ (يوسف 12: 31). ففي هذه الآية، لو كان مراد يوسف خداع النسوة ومكرهن وقطعهن الأيدي بالسكين، لحلت لفظة “الكيد” محل “المكر”: ﴿إِنَّ رَبىّ بِمَكْرِهِن عَلِيمٌ﴾. مضافًا إلى ذلك، أن عبارة: ﴿إِنَّ رَبىّ بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ تشير إلى طلب يوسف من الله تعالى أن يصرف عنه كيد زليخا في الآيات السابقة: ﴿ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾(يوسف 12: 34).
يرى بعض المفسرين أن كيد النساء يكون عظيمًا، لأن زليخا حين تفاجأت بلقاء زوجها عند الباب، قالت بكل هدوء: ﴿ما جَزاءُ مَنْ أرادَ بأهلِكَ السّوء﴾، من دون أن تظهر عليها آثار المفاجأة والدهشة والحيرة، فبادرت إلى أن ترمي يوسف بالفعل القبيح بسرعة فائقة، فألقت الذنب على عاتقه، وبرّأت ساحتها من الذنب والسوء (الطبرسي، 1372، 5: 347؛ مغنيه، 1424، 4: 305؛ شبر، 1407، 3: 272). هذا من جهة ومن جهة أخرى، أن طريقة زليخا في إلصاق التهم والادعاءات الباطلة بيوسف، تسهم في التعبير عن المعنى الدقيق الذي تحمله عبارة “الكيد العظيم”؛ لأنّه أولًا: تقدمت زليخا وقالت لزوجها: ﴿ ما جَزاءُ مَنْ أرادَ بأهلِكَ السّوء إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ﴾ (يوسف 12: 25)، إلا أنّه أخفت الحقيقة عنه، ولم تصرح بها إطلاقًا، بل أشارت فقط إلى حكم عام وعقلي حول جزاء وعقاب شخص يريد بمرأة متزوجة السوء، فقالت لزوجه: ” كل من أراد بأهلك سوءًا فحقه أن يسجن أو يعذب” (الزمخشري، 1407، 2: 459؛ الطباطبائي، 1417، 11: 141)، إلا أن يوسف لم ينبس ببنت شفة في حضرة العزيز لمراعاة الأدب، ولكن حين ألصقت زليخا التهم به، وخاف على النفس وعلى العرض، اضطر إلى كشف الستار عن الحقيقة لإزالة التهم عن نفسه. زد على ذلك، أن يوسف لم يعمد إلى استخدام القسم، ما يدل كل دلالة على أنه كان واثقًا كل ثقة ببراءة ساحته من كل سوء وفحشاء؛ ثانيًا: أن زليخا قامت بالتعبير عن كلامها بشكل مجمل ومبهم، مما كان ينم عن كونها خائنة وخائفة بشدة؛ إلا أن يوسف تكلم عن القضية بشكل تفصيلي فقال: ﴿قَالَ هِي رَاوَدَتْني عَن نَفْسي﴾ (الرازي، 1420، 18: 445). على أساس ذلك، لقد قال المفسرون: وفقا لهذه الآية، يمكن أن نفهم أن زوجة العزيز قصدت العموم، حتى تقول لزوجته: من أراد بأهلك سوءًا فحقه أن يسجن أو يعذب، لأنّ ذلك أبلغ فيما قصدته من تخويف يوسف (الزمخشري، 1407، 2: 459)، ما يدل على اغتنامها الفرصة؛ ثالثًا: أن قيام زليخا بتوجيه الشكوى إلى العزيز، يحمل ملامح وسمات مهمة، وهي: أنها لم تصرح باسم يوسف وهو المريد، ولا باسم نفسها وهي الأهل، ولا باسم السوء وهو الزنا بذات البعل، كل ذلك تأدبًا في حضرة العزيز وتقديسًا لساحته (الطباطبائي، 1417، 11: 141)، وأن أيضًا حبها الشديد ليوسف حملها على أن تبدأ بذكر السّجن، وتؤخّر ذكر العذاب، لأن المحب لا يسعى في إيلام المحبوب، وأيضًا أنها لم تذكر أن يوسف يجب أن يعامل بأحد هذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكرًا كليًّا صونًا للمحبوب عن الذكر بالسوء والألم: ﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ (يوسف 12: 30) (الرازي، 1420، 18: 445)؛ رابعًا: أن زليخا عمدت إلى استخدام عبارة “بأهلك”، ما كان يحمل نوعًا من تهييج العزيز وتحريضه على المؤاخذة، وإثارة غيرته، وتظاهرها بالحزن والألم الشديد على ما جرى بينها و بين يوسف؛ في حين أنها كانت تظن خطأ أن يوسف لا يستعصي عليها ولا يخالف حكمها فيخضع لأمرها ويلبي دعوتها المشؤومة؛ لأنّها كانت سيدتها. زد على ذلك، أن كل شيء كان متوفرًا لزليخا في قصر عزيز المصر؛ بذلك كانت تثق بقدرتها على تحقيق حلمها؛ من ثم حين تتوجه إلى الأبواب وتغلقها، تقول وهي تخاطب يوسف: “هيت لك”، حتى تحتفظ بعظمتها وفخامتها وتجبره على تلبية أمرها المشؤوم؛ ولكن بعد أن تفاجئ بزوجه عند الباب، تلجأ إلى استخدام عبارة “بأهلك” خوفًا من فضيحتها وتخلصًا من ورطة كانت قد وقعت فيها، “لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف عليهالسلام لم يكن صعبًا عليها تلك الصعوبة” (الطباطبائي، 1417، 11: 141)؛ من ثم يستفاد من سياق الآيات التي تحكي عن قصة إلقاء يوسف في السجن واعتراف زليخا وسائر النسوة ببراءة ساحته (يوسف 12: 50 ـ 51)، أن زليخا نجحت في أن تجعل العزيز يتنازل عن معاقبتها ويترفع عن مؤاخذة يوسف؛ لأنّها ألبست الحقيقة على العزيز بعد أن زج بيوسف في السجن حتى اعتقد خلاف ما دلت عليه الآيات؛ خامسًا: أن استخدام لفظة “السوء” في كلامها المجمل، ينبئ عن غاية مكرها وكيدها؛ في حين أن الله تعالى في بداية قصة المراودة، كان قد عبر عنها بالسوء والفحشاء، يقول: ﴿كَذَالِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾ (يوسف 12: 24). ولا يفوتنا أن سببه يعود إلى شدة حيائها وخفرها وحشمتها في حضرة العزيز؛ وهذا مثل ما نرى لدى ابنة النبي شعيب حين قالت لأبيها: ﴿يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ﴾ فلم تقل: إنّه قوى أمين، حياء من التعيين وحشمة وخفراً؛ ولكن هذه إنما بعثها على هذا الأدب شيمة الحياء، وامرأة العزيز إنما بعثها عليه التكلف والاستعمال لذلك الغرض الفاسد من المكر (الزمخشري، 1407، 2: 459). مضافًا إلى ذلك، أن النّسوة المصريات وخاصة زليخا حين قمن بالشهادة على براءة ساحة يوسف ونزاهة عرضه، لجأن إلى استخدام لفظة “السوء”: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوء﴾ (يوسف 12: 51). من جهة أخرى، لم تقف زليخا عند استخدام لفظة “السوء” فحسب، بل تعدته إلى توظيف الاسم الموصول “من” بدلًا من التصريح باسم يوسف، في حضرة العزيز حياء وحشمة؛ في هذه الأثناء، يرى بعض المفسرين أن لجوء زليخا إلى التعريض وترك التصريح كان سببه “أنها لما شاهدت من يوسف عليه السلام أنه استعصم منها أنه كان في عنفوان العمر وكمال القوة ونهاية الشهوة، عظم اعتقادها في طهارته ونزاهته فاستحيت أن تقول إن يوسف عليه السلام قصدني بالسوء” (الرازي، 1420، 18: 445).
توجد أيضًا قرينة أخرى في إثبات المعنى الصحيح للكيد، وهي كلام العزيز بعد أن اطلع على كيد زوجته ومكرها: ﴿اسْتَغْفِرِى لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخْاطِئينَ﴾ (يوسف 12: 29)، فهو بعد أن أثبت ذنبها، أمرها بأن تستغفر لها من ربّها الغفور، لأنها من جماعة الخاطئين والمذنبين.
هناك أيضًا مثال آخر يدل على مكر زليخا وكيدها وفطنتها، وهو أنه حين شاع خبر يوسف وامرأة العزيز في المدينة واطلعت رقيباتها على خيانتها لزوجها وشغفها الشديد بعبدها، اعترتهن الدّهشة والاستغراب، متسائلات: كيف تحبّ امرأة العزيز عبدها وتراوده عن نفسه وهي سيّدة البلاد، فبدأن في لومها بشدة، فلما سمعت زليخا ذلك، احتالت بحيلة حتى يكففن عن لومها ويعذرنها في حبه؛ فهي وإن نالت منالها، إلا أنها اعترفت بالمراودة وذكرت لهن أنها راودته عن نفسه، لكنه أخذ بالعفة وطلب العصمة: ﴿ وَ لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ (يوسف 12: 32). ما يسترعي الانتباه هنا، أنه يمكن أن نقول إن اتصاف الكيد بالعظمة يفيد إظهار تعجب العزيز واستغرابه من مكر زليخا، وكيدها ثم صرف التّعجب والدّهشة إلى المخاطب؛ بذلك تكون لفظة “العظيم” ـ وفقًا لسياق الآية المباركة ـ بمعنى العجيب وغير المألوف (الطبرسي، 1372، 5: 347؛ مغنيه، 1424، 4: 305؛ شبر، 1407، 3، 272؛ بروجردي، 1366، 3: 348).
7ـ دراسة آراء بعض مفسري القرآن الكريم حول عبارة “الكيد العظيم”
لقد أغفل بعض المفسرين المعنى الممدوح للكيد، فعدُّوا النساء هن ذوات الكيد والمكر وصاحبات الظاهر الضعيف والباطن الخبيث، حيث عدّوهن من أنصار الشيطان وأتباعه (المظهري، 1412، 5: 157)؛ في حين ـ كما ذكره ـ أن لفظة “الكيد” ـ وفقا لسياق الآيات القرآنية ـ تحمل شحنًا دلاليًّا إيجابيًّا وتشير إلى الميزة الفريدة التي تتمتع بها النساء في تدبير الأمور والاحتيال للتخلص من المواقف الحرجة وغير المتوقعة.
وأما بالنسبة إلى الآية الشريفة: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيم﴾، فيرى جماعة كثيرة من المفسرين أن ضمير “الهاء” في “إنه”، يعود إلى دلال النساء، يعتقدون أن الله قد وضع الرّغبة في الرجال بالنسبة إلى النساء؛ في حين أنه تعالى ترك فيهن أشياء تجذب، مثل المغناطيس، الرجال إليهن وتلفت نظرهم وتجبرهم على تحقيق أمنياتهن ورغباتهن؛ فهذا هو ما يطلق عليه كيد النساء وإرادتهن السوء. هنا نتفطن أن كون الكيد عظيمًا يعني أن كيد النساء يؤثر تأثيرًا سريعًا في قلوب الرجال ويكتسي طابعًا مستمرًا شيئًا فشيئًا وخاصة عندما يأتي مع محبتهم ورأفتهم؛ في حين أن وسوسة الشيطان تمتاز بأنها عابرة وغير دائمة وذات تأثير بسيط (کاشاني، 1336، 5: 34؛ الطباطبائي، 1417، 11: 209؛ الآلوسي، 1415، 6: 415؛ فیض الکاشاني، 1415، 3: 15؛ مغنیه، 1424، 4: 305؛ البیضاوي، 1418، 3: 161؛ القمي المشهدي، 1368، 6: 300؛ السبزواري النجفي، 1419، 244؛ السمرقندي، د.ت، 2: 189؛ کاشاني، 1336، 5: 34). لا يفوتنا أن الله حين ترك أشياء في النساء لجذب الرجال إليهن، فهي تعد من النعم الإلهية التي تحمل آثارًا إيجابية، فلا يمكن أن نعدها نوعًا من الكيد والسوء. زد على ذلك، لو كانت هذه السمات والملامح الكامنة في النساء نوعًا من الكيد والسوء، لكان من الواجب أن يستعمل ضمير “هنّ” بدلًا من ضمير “كنّ”، ولم یکن من الجائز استعمال صفة “العظيم” للكيد؛ لأنّه – كما مرّ ذكره – تحمل لفظة “الكيد” معنى إخفاء الأمور بقصد الإضرار بالآخرين؛ في حين أن زليخا ما كانت تسعی في إيلام المحبوب وإلحاق الضرر به، بل أجبرت على أن ترمي يوسف بالتهم القبيحة لتبرئ ساحتها من السوء في حضرة العزيز؛ بذلك يمكن أن نقول إن المراد بالكيد هنا هو الخطة الآنية والسريعة، التي وضعتها زليخا ليوسف للتخلص من موقف صعب كانت قد وقعت فيه فجأة.
زد على ذلك، أن بعض المفسرين يرون أن عبارة “الكيد العظيم” تفيد الكيد الشامل، يعتقدون أن كيد النساء تشمل كل شخص سواء أكان صالحا أم طالحا، بریئًا أم غير بري (میبدی، 1371، 5: 53؛ ابن الجوزي، 1422، 2: 433؛ السمرقندي، د.ت، 2: 189)، إذ يبدو أن كيد النساء أوسع وأكثر تأثيرًا من كيد الشيطان؛ بذلك نراهم يبالغون في مدى كيد النساء، استنادًا إلى الآية التي تعد كيد الشيطان ضعيفًا: ﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعيفا﴾ (النساء 4: 76)، ويهملون المعنى اللغوي للفظتي “الكيد” و”العظيم” وكذلك سياق الآية ونسيجها الموضوعي، فيقدمون تحليلًا خاطئًا للنساء؛ لأنّه إن فرضنا أن كيد النساء يحمل معنى مذمومًا فقط، فلا يؤثر كيدهن في الطرف المقابل ولا يشمل كل الأشخاص سواء أكان صالحًا أم طالحًا.
في هذه الأثناء، قام بعض المفسرين بالمقارنة بين كيد النساء وكيد الرجال، واستنتجوا أن شدة كيدهن وتغلبه على كيد الرجال ما يدل على شدة ذكاوتهن. فهم يعتقدون أن الرجال لا يتمكنون من الحصول على كيد النساء، بل يتمكنون فقط من دفعه من أنفسهم، ثم يستندون – لدعم دعواهم – إلى حديث مروي عن الرسول (ص)، يقول: “ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء” (الآلوسي، 1415، 6: 415؛ میبدی،1371، 5: 53؛ ابن الجوزي، 1422، 2: 433؛ النسفي، 1416، 2: 313)؛ بذلك تكون النساء ألطف كيداً وأنفذ حيلة، فيغلبن الرجال، كما يقول الله تعالى: ﴿ وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ (الفلق 113: 4) (الزمخشري، 1407، 2: 461). وفي المقابل، يقوم فخر الدين الرازي أيضًا بالمقارنة بين كيد النساء وكيد الرجال، يقول: “النِّسَاءُ لَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ مِنَ الْمَكْرِ وَالْحِيَلِ مَا لَا يَكُونُ لِلرِّجَالِ وَلِأَنَّ كَيْدَهُنَّ فِي هَذَا الْبَابِ يُورِثُ مِنَ الْعَارِ مَا لَا يُورِثُهُ كَيْدُ الرِّجَالِ” (الرازي، 1420، 18: 447).
من اللافت أن بعض المفسرين يرون أن لفظة “الكيد” في الآية المقصودة، تفيد الكذب والخبث ومحاولة زليخا لتبرئة ساحتها من سوء قامت بممارسته وإلصاق التهم بيوسف (ابن كثير، 1419، 4: 329؛ المراغي، د.ت، 12: 135). في حين أن هذه اللفظة لا تعني الكذب والخبث إطلاقًا، كما ما أشار هؤلاء المفسرون إلى كون الكيد عظيمًا أبدًا.
جدير بالذكر، أن بعض المفسرين قد قدموا آراء ووجهات نظر مختلفة حول صفتي “العظيم” و”الضعيف”؛ فالبعض منهم قد جعلوا كيد الشيطان ضعيفًا قياسًا بمکر الله المتين، كما جعلوا كيد الرجال في مقابل كيد النساء العظيم (الآلوسي، 1415، 6: 615)، وبعضهم قد أكدوا على أن كيد النساء ضرب من كيد الشيطان الرجيم؛ بذلك يكون كيد الشيطان أصل وكيد النساء فرعه، كما قالوا إن المراد بكون كيد الشيطان ضعيفًا هو أن الشيطان ليس له سلطان على عباد الله المخلصين إلا على الضالين الذين يتبعون خطواته، كما قالوا إن المقصود بكون كيد النساء عظيمًا هو أنهن من أقوى أتباع الشيطان ومناصريه، فهؤلاء المفسرون قد استندوا ـ لدعم دعواهم ـ إلى قول الشيطان: “إذا اجتمعت عليّ لعنات الصالحين ذهبت الى النساء فطابت نفسي بهن” (مغنیه، 1424، 4: 305). في هذه الأثناء، يعتقد بعض المفسرين أن كيد النساء أعظم من كيد الشيطان؛ لأن الشيطان یستعین النساء في المواقع الطارئة (النخجواني، 1999، 1: 373)، كما يأخذ الشيطان منهن وسائل لإغواء من صعب عليه إغواؤه: “مایئس الشيطان من أحد إلا أتاه من جهه النساء” (الآلوسي، 1415، 6: 414).
لقد قال بعض المفسرين متسائلين: “إنه تعالى لما خلق الإنسان ضعيفا، فكيف وصف كيد المرأة بالعظم، وأيضا فكيد الرجال قد يزيد على كيد النساء؟ والجواب عن الأول : أن خلقة الإنسان بالنسبة إلى خلقة الملائكة والسموات والكواكب خلقة ضعيفة وكيد النسوات بالنسبة إلى كيد البشر عظيم ولا منافاة بين القولين وأيضا فالنساء لهن في هذا الباب من المكر والحيل ما لا يكون للرجال ولأن كيدهن في هذا الباب يورث من العار ما لا يورثه كيد الرجال” (الرازي، 1420، 18: 446).
علاوة على ذلك، أن بعض المفسرين يعتقدون أن الكيد العظيم للنساء وكيد الرجال كليهما ضعيف بالنسبة إلى كيد الشيطان؛ بذلك أن شيئًا يستعظمه الناس، يكون أضعف شيء ممكن من منظور الله تعالى، وأنَّ کون کید النساء عظیمًا قول جری علی لسان العزیز، وأن القرآن الكريم ما أورد هذه الصفة قياسا بكيد الرجال (صادقي تهراني، 1365، 15: 71)؛ بذلك نلاحظ أن الله تعالى في الآيات القرآنيّة يستضعف كيد الشيطان، كما يعتبر كيد النساء من منظور العزيز عظيما.
لقد أورد ميبدي وجوها في تبيين استضعاف كيد الشيطان واستعظام كيد النساء: أ ـ يكون كيد النساء عظيما، لأنه يؤثر في الإنسان تلقائيًّا دون إرادة، حتى لكأنّه لا يتمتع بالإرادة والاختيار أمامه؛ ولكن كيد الشيطان لا يؤثر إلا بعد أن يريد الإنسان نفسه، وإلا لا تؤثر وسوسته فيه إطلاقًا؛ ب ـ يكون كيد الشيطان ضعيفا؛ لأنه يقابل رحمة الله وعصمته، في حين أن كيد النساء عظيمًا، لأنّه يواجه شهوة الرجال ورغبتهم في المرافقة مع النساء؛ ج ـ يلوذ الشيطان بالفرار، حين يلجأ العبد إلى معبوده، وذلك خلاف النساء؛ د ـ لا يكون الشيطان إلا خيالا ووسوسة، حيث لا يرى بالبصر؛ بذلك يكون كيده ضعيفا، إلا أنّ كيد النساء عظيم، لأنه يتمتع خلاف كيد الشيطان، بالرؤية والخيال معًا (ميبدي، 1371، 2: 584).
حين نقوم بالمقارنة بين الكيد العظيم للنساء والكيد الضعيف للشيطان، نتفطن أن الآية الثامنة والعشرين لسورة يوسف المباركة لا تريد المقارنة بين كيدهما إطلاقًا، بل المراد بإيراد صفة “العظيم” هو إظهار الاستغراب والدهشة من قدرة النساء الهائلة في تدبير الأمور في المواقف المستعصية. من جهة أخرى، أن عبارة ﴿إنَّ کَیدَ الشِّیطانِ کانَ ضَعیفًا﴾ جاءت خلال آيات الجهاد: ﴿ أَلَّذِینَ آمَنُواْ یُقَاتِلُونَ فِى سَبِیلِ اللَّهِ وَالَّذِینَ كَفَرُواْ یُقَاتِلُونَ فِى سَبِیلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِیَآءَ الشَّیْطَانِ إِنَّ كَیْدَ الشَّیْطَانِ كَانَ ضَعِیفًا﴾ (النساء 4: 76). فلقد استضعف الله تعالى في هذه الآية، كيد الشيطان؛ لأنه سبيل الطاغوت الذي يقابل سبيل الله، وإن استعظمه الذين يتبعون خطواته ومسالكه (الطباطبائي، 1417، 4: 421؛ النسفي، 1416، 1: 346؛ کاشاني، 1336، 3: 74؛ طیب، 1378، 4: 139). زد على ذلك، أن كيد الشيطان ضعيف في كل مكان وزمان؛ وما يؤيد هذا الدعوى، إيراد لفظة “كان” في هذه الآية الكريمة (الطبرسي، 1372، 2: 118)؛ في حين أن الكيد العظيم يختص بزليخا ورقيباتها، والذي قد قام به في غاية التدبير والتعجب والدهشة.
ولكن يرى بعض المفسرين أن النساء كلهن صاحبات الكيد استنادًا إلى صفة “العظيم” (مدرسي، 1419، 5: 188)؛ كما يرى البعض منهم أن جميع النساء يخضعن لهذا الحكم بسبب عمومية الخطاب وشموليته (أبو السعود، د.ت، 4: 270)؛ في حين أولًا: أن هؤلاء المفسرين قد سلكوا مسلك الذين يعتقدون أن الله تعالى قد جعل هذه الرغبة في كل النساء من بدء الخلقة من دون استثناء؛ بذلك يوجه نقد وحيدًا إلى الجماعتين على حد سواء؛ ثانيًا: يرى هؤلاء المفسرون أن النساء كلهن ذوات الكيد والمكر؛ في حين أن مراد هذه الآية ـ وفقا لسياقها والمعاني التي تختزنها لفظة “الكيد” ـ هو زليخا ورقيباتها فقط، وليس جميع النساء بشكل مطلق. زد على ذلك، أن الآيات القرآنية والروايات الشريفة تشير إلى نساء قدوة طيلة التاريخ، نحو مريم المقدسة، وآسية ونحوهما، واللواتي لا تصدق هذه القضية عليهن إطلاقًا.
الخاتمة
بعد أن ارتأينا في أجزاء الآية الثامنة والعشرين لسورة يوسف المباركة، وخاصة في لفظتي “السوء” و”الفحشاء”، ومرجع الضمير في “رأى” و”قال” و”إنه”، ومصاديق ضميرتي “كنّ” و”هنّ” في سياق آیات المرادة، وكذلك بعد أن قمنا بدراسة تداولية لألفاظ، نحو “الكيد” و”المكر” و”العظيم”، توصلنا إلى أن الخطاب ـ خلاف رأي جماعة من المفسرين والعلماء ـ لا يتوجه إلى جميع النساء، وإنما يتوجه فقط إلى زليخا في الدرجة الأولى، وإلى نظائرها في الدرجة الثانية؛ وتبين أن سبب إيراد الضمير المؤنث جمعًا يكمن في الحد من فضيحة زليخا وإساءة سمعتها؛ بذلك نرى أنه لم يصرح باسمها في كلام الله تعالى ولا في قول العزيز ويوسف إلا بشكل ضمني. زد على ذلك، أن المعنى الأصلي والممدوح الذي وضعت له لفظة “الكيد في اللغة، يدل على أن زليخا تترك الحيرة والوحشة وتتوسل إلى حيلة لتنفيذ خطتها واالتخلص من موقف حرج وغير متوقع كانت قد وقعت فيها صدفة؛ بذلك نلاحظ أنها نقوم بإطلاق التّهم على يوسف لاستعادة ثقة العزيز بنفسها. ما يجدر ذكره، أن طريقة زليخا في إلصاق التهم بيوسف لتبرئة ساحتها من السوء والفحشاء جديرة للتأمل وإمعان النظر: تقدمها على يوسف في إبداء الشكوى إلى العزيز لإثارة غضبه وغيرته، وإيراد كلام مجمل ومبهم في إبداء الشكوى، والتظاهر في حضرة العزيز أن يوسف قد أراد بأهل القصر السوء، واستخدام لفظة “الأهل” لإثارة غيرة العزيز وغضبه؛ فجميع هذه القرائن يمكن أن تسهم في التعبير عن معنى صحيح تحمله عبارة “الكيد العظيم” من دون شك. هذا وقد أغفل بعض المفسرين المعنى الممدوح الذي تدل عليه لفظة “الكيد”، يعدُّون النّساء صاحبات الكيد وذوات الخداع؛ في حين أنَّ لفظة “الكيد” فيها ـ وفقًا لسياق الآيات القرآنية ـ تحمل شحنا دلاليًّا إيجابيًّا وتدل على مقدرة النساء الفريدة في تدبير الأمور بشكل سريع في المواضع الحرجة وغير المتوقعة، وما يدعم هذا الادعاء، مدلول الدهشة والاستغراب الذي يكمن في لفظة “العظيم”.
المصادر والمراجع
- القرآن الکریم.
- الآلوسي، شهاب الدين محمود بن عبد الله. (1415ه). روح المعاني في تفسير القرآن العظيم. تحقيق: علي عبد الباري عطية. بيروت: دار الكتب العلميه.
- أبو السعود، محمد بن محمد. (د.ت). إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- ابن منظور، محمد بن مكرم. (1414ه). لسان العرب. بيروت: دار صادر.
- ابن عاشور، محمد بن طاهر. (د.ت). التحرير والتنوير. بيروت: مؤسسة التاريخ.
- ابن فارس، أبو الحسن أحمد. (1404ه). معجم مقاييس اللغة. تحقيق: عبد السلام محمد هارون. قم: مكتب الإعلام الإسلامي.
- ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي. (1422ه). زاد المسير في علم التفسير. تحقيق: عبد الرزاق المهدي. بيروت: دار الكتاب العربي.
- ابن عطية الأندلسي، عبد الحق بن غالب. (1422ه). المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز. تحقيق: عبد السلام عبد الشافي محمد. بيروت: دار الكتب العلمية.
- ابن كثير، إسماعيل بن عمر. (1419ه). تفسير القرآن العظيم. تحقيق: محمد حسين شمس الدين. بيروت: دار الكتب العلمية.
- الأزهري، محمد بن أحمد. (1421ه). تهذيب اللغة. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- بروجردي، سيد محمد إبراهيم. (1366ش). تفسير جامع. طهران: صدر.
- البيضاوي، عبد الله بن عمر. (1418ه). أنوار التنزيل وأسرار التأويل. تحقيق: محمد عبد الرحمن المرعشلي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد. (1418ه). جواهر الحسان في تفسير القرآن. تحقيق: محمد علي معوض وعادل أحمد عبد الموجود. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- الجوهري، إسماعيل بن حماد. (1376ه). الصحاح. تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار. بيروت: دار العلم للملايين.
- الحميري، نشوان بن سعيد. (1420ه). شمس العلوم. تحقيق: حسين بن عبد الله العمري، ومطهر بن علي الإرياني، ويوسف بن عبد الله. دمشق: دار الفكر.
- الرازي، فخر الدين محمد بن عمر،1420، مفاتيح الغيب، بيروت، دار احياء التراث العربي.
- الراغب الأصفهاني، الحسين بن محمد. (1412ه). مفردات ألفاظ القرآن. بيروت: دار القلم.
- الزبيدى، المرتضى محمد بن محمد. (1414ه). تاج العروس من جواهر القاموس. تحقيق: علی شيري، بيروت: دار الفكر.
- الزمخشري، جار الله محمود بن عمر. (1407ه). الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل. بيروت: دار الكتاب العربي.
- السبزواري النجفي، محمد بن حبيب الله. (1419ه). إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن. بيروت: دار التعارف للمطبوعات.
- السمرقندي، نصر بن محمد. (د.ت). بحر العلوم. تحقيق: أبو سعيد عمر عمروي. بيروت: دار الفكر.
- شبر، السيد عبد الله. (1407ه). الجوهر الثمين في تفسير الكتاب المبين. تحقيق: محمد بحر العلوم.كويت: مكتبة الألفين.
- صادقى طهرانى، محمد. (1365ش.) الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن. قم: مؤسسة الثقافة الإسلامیة.
- الطباطبائي، السيد محمد حسين. (1417ق). الميزان في تفسير القرآن. قم: مکتب جامعة المدرسین بالحوزة العلمیة.
- الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن. (1372ش). مجمع البيان في تفسير القرآن. تحقيق: محمد جواد البلاغي. طهران: ناصر خسرو.
- الطوسي، محمد بن الحسن. (د.ت). التبيان في تفسير القرآن. تحقيق: أحمد قصير العاملي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
- طيب، سيد عبد الحسين. (1378ش). أطيب البيان في تفسير القرآن. طهران: مؤسسة اسلامیة للنشر.
- العسكري، أبو هلال الحسن بن عبد الله. (1400ه). الفروق في اللغة. بيروت: دار الآفاق الجديدة.
- فراهيدى، خليل بن احمد،1409، العين، قم، هجرت.
- الفيض الكاشاني، ملا محسن. (1415ه). تفسير الصافي. تحقيق: حسين اعلمى. طهران: الصدر.
- القرطبي، محمد بن أحمد. (1364ش). الجامع لأحكام القرآن. طهران: ناصر خسرو.
- القمي المشهدي. محمد بن محمد رضا. (1368ش). تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب. تحقيق: حسين درگاهى. طهران: وزارة الدعوة والثقافة الإسلامية.
- كاشاني، ملا فتح الله. (1336ش). تفسير منهج الصادقين في إلزام المخالفين، تحقیق: محمد حسن علمى، طهران: مؤسسة صدر.
- مدرسي، سید محمد تقي. (1419ه). من هدی القرآن. طهران: دار محبي الحسین.
- المراغي، أحمد بن مصطفى. (د.ت). تفسير المراغي. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
المصطفوي، حسن. (1430ه). التحقيق في كلمات القرآن الكريم. بيروت / القاهرة / لندن: دار الكتب العلمية.
- المظهري، محمد ثناء الله. (1412ه). التفسير المظهري. تحقيق: غلام نبى التونسي. الباكستان: مكتبة رشدية.
- مغنيه، محمد جواد. (1424ه). تفسير الكاشف. طهران: دار الكتب الإسلامية.
- مكارم شيرازي، ناصر. (1374ش). تفسير نمونه. طهران: دار الكتب الإسلامية.
- ميبدى، احمد بن محمد. (1371ش). كشف الأسرار و عدة الأبرار. تحقيق: على اصغر حكمت. طهران: امير كبير.
- النخجواني، نعمة الله بن محمود. (1999م). الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية. القاهرة: دار ركابي للنشر.
- النسفي، عبد الله بن أحمد. (1416ه). مدارك التنزيل وحقايق التأويل. بيروت: دار النفائس.
– الأستاذ المساعد بجامعة أصفهان،قسم علوم القرآن والحدیث [1]
Assistant Professor, Department of Quran and Hadith sciences, university of Isfahan, Iran.Email: a.banaeian@theo.ui.ac.ir
[2] – الأستاذ المساعد بجامعة أصفهان،قسم علوم القرآن والحدیثd.esmaely@theo.ui.ac.irEmail:
Assistant Professor, Department of Quran and Hadith sciences, university of Isfahan, Iran.