foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

جبّور الدويهي في “شريد المنازل”(*): أزْمَةُ تشتُّتِ الهُويّة

0

جبّور الدويهي في “شريد المنازل(*): أزْمَةُ تشتُّتِ الهُويّة

Jabbour Ad-Dwayhy in “My empty homes”: Scattered identity crisis.

                                                                           

Dr. Gloria Khater      د ـ غلوريا خاطر([1])

الملخّص

   رواية ” شريد المنازل ” للكاتب اللبناني جبّور الدويهي تحكي سيرة طفلٍ مسلمٍ يُدعى نظام العلمي تُرِكَ اضطراريًّا للعيش في كنفِ رجل وامرأةٍ مسيحيَّيْنِ ليس لهما أولاد ويعيشان في قريةٍ “حورا” الواقعة في أعالي شماليِّ لبنان . هناك في تلك البيئة الجديدة تأقلمَ إلى حدٍّ بعيد، غير أنّه لم ينسلخْ عن جذوره الإسلاميّة التي نشأ عليها فظلَّ متأرجحًا بين فضاءَين وثقافتين ولا يرسو على بَرٍّ ثابت. وحين نزلَ إلى بيروت ورجعَ إلى البيئة التي جاءَ منها لم يستطعْ كذلك أن يندمجَ في أجوائها بكلّيّته وبقيَ متأرجحًا بين هوًى تطبَّع به وهوًى وُلِدَ معه.

حاولَ الهروب من الشعور بتشتُّت الهُويّة إلى انتماءٍ سياسيّ يكون بديلًا من ضياع الهُويّة الدّينيّة فما أفلحَ في تسكين معاناته. المرأة، هي أيضًا لم ينجحْ في اتّخاذها منزلًا يحطُّ فيه رحاله طلبًا للأمان والاستقرار النفسيّ، وظلَّ يتقلّب من منزلٍ إلى منزلٍ حتّى لقيَ مصرعه على يدِ من شاركَ في الحرب إلى جانبه، ولم تشفع به تجربته العسكريّة في تجنيبه سوء المصير. وتنتهي الرواية بدفنه في حورا المسيحيّة في قبرٍ ليس يعلوه صليب. عاش حياته مشرَّدًا لا انتماءَ واضحًا له، ومات كذلك مشرَّدًا .

الكلمات المفاتيح: أزمة/أزمات – تشتّت الهُويّة – الإنتماء – متأرجحًا بين بيئتين/ ثقافتين – غريبًا – مفاعيل التشرّد – هويّة ملتبسة.

Abstract

The novel “My Empty Homes” by the Lebanese author Jabboor Ad-Dwayhy narrates the life story of a Muslim child named “Nizam Al Elmy”. In fact, the latter  was involuntarily abandoned and left to survive under the care of a Christian couple, a wife and a husband who never had any children. The couple was then living in Hora; a small village nestling high up in the mountains of North Lebanon. Up there, in his totally new environment, the boy managed to adapt as far as he could, but nevertheless, he was not able to break off his Islamic roots, neither quit the traditions he was raised by. So, he was left hanging, between two large spaces, two huge but different cultures, without ever finding a solid ground to rest his heart and spirit in. Furthermore, when he went down to Beirut, thus returning to his familiar circle, he could not fit in. So, he was left swinging between a fantasy which he grew to long for and the fancy he was born to keep.  He tried to escape that hazy feeling of shattered identity, towards a political belonging, or some political identity, that could finally replace the lost religious identification. No use. Nothing could calm the anguish within. Women … none of them succeeded in being a home for him, a home where he could surely anchor his troubled being, where he could finally feel safe and secure. On the contrary, he went from one home to another one, and so on, until… he was shot dead, by his own comrade-in-arms! Even his grand expertise in military training failed him.

The novel finishes with the ceremonial burial in the village of Hora, where the deceased lies in a grave not topped by a cross. He has lived homeless. No identity. No belonging. He dies homeless. No identity. No belonging.

Keywords: Crisis/crises – scattered identity – belonging – between two cultures/two environments – stranger – displacement effects – confused identity –

المقدّمة

    لبنان الكبير، هذا الوطن التعدُّديُّ الذي تتمدَّدُ تعدُّديتُه المطّاطةُ لتحتضِنَ في مفهومِها منتهى الغنى الإنسانيّ وما يستبطنُه من ثقافةٍ ومسالمة وانفتاح ورُقيٍّ ومنتهى التخلُّفِ وما يستتبعُه من جهلٍ وتوحُّشٍ وانغلاقٍ وتزمُّت، كان منذُ تأسيسه عرْضةً للتجاذبات والهزّات والصّراعات والنّزاعات من كلِّ لون. وقد سارت في خطٍّ تصاعُديٍّ لا يخفى على أحد، ثمَّ انفجرت في الرّبع الأخير من القرن الماضي حرْبًا شعواءَ لم تُبْقِ ولم تَذَرْ، وما يزالُ اللبنانيّون إلى يومِنا يحصدون نتائجها ويرزحون تحتَ مفاعيلها من غير أفق يبشِّرُ بالخير.

  هذه هي، بكلمةٍ، صورةُ الفضاء الروائيّ التي أبدعَ جبّور الدويهي (1949-2021) لا في نقلِها إلى القارئ في رواياته – وكتابة التاريخ أوْلى من الأدب في هذا المجال- وإنّما في تجسيد حركة الحياة في حقبات معيّنة، وما رافقها من آمالٍ وخيباتٍ وتجاربَ هي أقربُ إلى المَخاض وآلامِ الولادات العسيرة… على أملِ أن يبصِرَ المولودُ الجديد النور، ويأتيَ على قَدْرِ الحلم فلا تصحُّ في التّجربة اللبنانيّة مقولةُ “تَمخَّضَ الجبلُ فولدَ فأرًا”. غير أنَّ في لبنان أحلامًا – إذا أحسنّا النيّة –  وكلُّ مكوِّنٍ في هذا البلد يسعى (للأسف) لأنْ يأتيَ الوطنُ المأمولُ شبيهًا به وحده.

   جبّور الدويهي في روايةِ “شريد المنازل”(2010)، وهي موضوعُ بحثنا من دون سواها  من أعماله، لم يكتفِ بأنْ عكسَ ما في الحياة اللبنانيّة، قبل الحرب (1975م) وما بعدها وفي أثنائها، من تركيبة سوسيولوجيّة تتقارب عناصرُها وتتباعدُ على إيقاعٍ طائفيٍّ متوارَث، ومن إنتاجِ ثقافة تابعة لها، تغذّيها نوازعُ زمنيّة ودينيّة وعقديّة محليّة ووافدة … بل إنّه توغَّلَ في دراسة انعكاسات هذه الأحوال وتأثيراتها في المجتمع والوطن،شارحًا ميكانيزمات العنف والتعصّب والإلغاء”([1]). الأحوالُ العامّةُ في نفسِها ليست مهمّة إلا بمقدار ما تساهم، على المستوى الفردي والجَماعيّ بخاصّةٍ،  في صناعة وعْيٍ ما أو ثقافة ما أو ردِّ فعلٍ معيّنٍ  يتركُ بصمتَه على مرحلةٍ أبعدَ من حاضرها . الأحداث التاريخيّة على العموم لا تكون أكثرَ من أفعال تراكميّة إذا أُخِذتْ بمعزلٍ عن مؤثّراتها وعن كيفيّة تفاعل النّاس معها. من هذه الزّاوية نرى أهميّة “شريد المنازل” حيث يقعُ القارىءُ على الحدَثِ مجبولًا بالشّخصيّةِ ومتماهيًا به وليس مترافِقًا معه. النّاس هنا لا يَشهدون على الأحداثِ ولا يسجِّلون الوقائعَ، وإنّما يعيشونها في أبسطِ تفاصيلِها كما في أعمق أعماقِها. لكلٍّ معاناتُه، لكنّها في مجملها جزءٌ من معاناة وطن يبحث عن هويّةٍ صريحة لا لُبس فيها، فلا يلقى سوى تشتُّتِ في الرؤى وتبعثرٍ في النوازعِ والميول وضبابيّةٍ تجنحُ إلى السوداويّة.

  ولعلَّ بطل الرواية “نظام محمود ياسر العلمي” خيرُ من يجسِّدُ لا أزمةَ نظام سياسيّ وحسبُ في لبنان، وإنّما مجموع الأزمات التي لم ينجُ منها نظامٌ اجتماعيٌّ وثقافيّ واقتصاديّ وخُلقيٌّ في هذا الكيان المَدْعوّ وطنًا … حتّى باتت هويّة “نظام” هذا بما اعتورَها من تعدّديّة العناصر غيرِ المتآلفة صورةً مصغّرة عن وطنٍ بلا انتماءٍ جذورُه رخْوةٌ وهو كالريشة في مهبّ الريح. شخصيّة “نظام” هذا أنتجتْها  ظروفٌ وأحوالٌ هي في صُلْب تكوين البلد وثقافتِه السائدة، إضافةً إلى أحوالٍ تخصُّ أسرته في البداية.

  وهنا لا بدّ لنا من التنويه بعمق تجربة جبّور الدويهي وشموليّتها، فالرجلُ عاش أزماتِ لبنانَ المتفاقمةَ، وتوغّلَ في فهم عناصرها وتعقيداتها ومتابعةِ تطوّراتها واستشرافِ ذيولها ونتائجها. رواية “شريد المنازل” الصادرة عن “دار النهار”العام 2010 جاءت تعبّرُ عن معاناةٍ بوجوهٍ متعدّدةٍ امتدّت زهاءَ قرْنٍ من الزمن. وقد تكون مزاولةُ التعليم في الجامعة اللبنانيّة من أبرزِ روافدِ الوعي الوطنيّ لدى جبّور الدّويهي، لأنَّ الجامعة اللبنانيّة في تلك الحقبةِ كانت مَرْصدًا لا للأحوال السياسيّة في البلاد وحسبُ، وإنّما لمُجملِ المتغيّراتِ البنيويّة الاجتماعيّة والاقتصاديّة  والقِيَميّة التي تعصفُ بلبنانَ والتي تنذرُ بأخذِه إلى مواقعَ جديدةٍ مجهولةٍ. جبّور الدويهي بهذا المعنى، أحسن ربط الأدب بالحياة وجعلَ الرواية العربيّة أكثر من كلمات ناطقة . جعلها أختًا للحياة. ولربّما هذا ما دعا الكاتب والباحث عقل العويط إلى تسميته “روائيّ الحياة اللبنانيّة”([2]).

  “نظام العلمي” يُعاني أزماتٍ متتاليةً تُختصَرُ جميعُها بأزمة تشتّت الهُويّة، وعنوانُ الرواية “شريد المنازل” خيرُ دليلٍ على لااستقراره، فهو شريدٌ ليس له أرضٌ ثابتة صلبة يقفُ عليها ولا سقفٌ واحدٌ يَحمي به رأسه ويوفِّرُ له الشعورَ بالأمان.

أمّا الأسباب الكامنةُ وراء شعوره بالتشرُد وضياع الهُويّة فقد أبرزها جبّور الدّويهي من خلال:

1.    إلحاق نظام الطفل المسلم ابن محمود العلمي وصباح بنت تاجر أغنام من حمص ببيت مسيحي يعيشُ فيه توما ورخيمة بلا أولاد، في بلدة حورا الجبليّة المسيحيّة في شماليّ لبنان. وإذا كان إيداعُ هذا الطفلِ الأشقرِ كنفَ عائلةٍ مسيحيّة ممكِنًا ومبرَّرًا بجملة أسباب أبرزُها “تخبّطُ والدِه في مشكلاتٍ ماديّةٍ وقانونيّة”([3]) جعلته فارًّا من وجه العدالة ألجأته مع أسرته إلى حمص طلبًا للأمان، ناهيك عن شغف توما ورخيمة بنظام واستماتتِهما للاحتفاظ به لحاجتهما إلى الأبوّة والأمومة وضمانًا لإرث لا يذهبُ هباءً، وعن ولعِ الطفل ابن المينا في طرابلس بِحَوْرا المَصيف الجبليّ السّاحر بطبيعة أرضه وناسه، فإنَّ ما يدعو إلى ترصُّده بحذر ودقّة بالغَيْن هو ردود أفعالِ هذا الصبيّ على المُغرِيات التي تشدّه من جِهَةٍ إلى توما ورخيمة بعاطفتهما الاستثنائيّة وتديُّنهما وحياتهما الريفيّة الهانئة. بتعبيرٍ آخرَ، ثمّة تحوُّلاتٌ طرأتْ على حياة الصبيّ لا بدَّ لها أن تستتبعَ تحوّلاتٍ في شخصيّته على المستويات كافّةً.

  فإلى أيِّ مدىً نجح في الانصهار بالبيئة المسيحيّة الجديدة؟ بالمقابل، إلى أيِّ مدىً نجحَ ارتباطُه بجذوره الإسلاميّة في سلخه عن مؤثّرات المسيحيّة التي رافقت طفولتَه ومراهقته، وظلّـت معه حتّى موتِه ودفنِه؟ والسؤالُ الأكثر أهمُّية والأبرز والذي تدورُ عليه الرواية هو: هل رسا نظام بعد تجربته الحياتيّة على انتماءٍ دينيٍّ وثقافيّ وسياسيٍّ ما؟ هل انحازَ إلى واحدٍ من الانتماءَيْن اللذين قام على تقاربِهما لبنانُ وانهارَ على تباعُدِهما بل تناحُرِهما؟ هل استطاع المؤالفةَ والتوفيقَ بين الانتماءَين وعيشَ ما سُمِّيَ تعايشًا أو عيشًا مشتركًا؟ هل تمكّنَ من تجاوز الانتماء الديني إلى الانتماء الوطنيّ وتقديمه عليه؟ هل الانصهارُ الوطنيّ في لبنانَ حقيقةٌ أم وَهْم؟

  الحقيقة أنّ كلَّ تساؤلٍ من هذه يصلحُ أن يكون بمفرده موضوع دراسة نظرًا لما في الرّواية من معطيات غنيّة بالدّلالات، ومن تفاصيلَ تشكِّلُ مجتمعةً الجوابَ الذي لم يصرِّح به جبّور الدّويهي بلسانٍ مباشِرٍ عن تشتّت هويّة “نظام” على كلّ صعيد. وفي إثبات هذه الحقيقة نورد بعض الإحالات المعبِّرة. فنظام الطفل الذي حفظ جزءًا من القرآن وعلّقت له عمّتُه نجيبة آية الكرسي في عنقه وحذّرته “نحن مسلمون يا عمّتي، لا تنسَ يا نظام”([4]) و”خُتِنَ شأنَ كلِّ الصبيان المسلمين”([5])، تراه “يلهو بشخوص مغارة الميلاد في بيت توما أبو شاهين ويُخبّىءُ شخص الطفل يسوع تحت مخدّته ببراءة الأطفال”([6]). وفي مدرسة حورا “يقول إنّه مسلم ولا يريد حضور التعليم الدّينيّ”([7]). رفاقه في المدرسة يسمّونه نظام أبو شاهين، “وأمام أمّه يكتب اسمه نظام العلمي”([8])، لكنّ رخيمة انفعلت كثيرًا حين رأت أنّه كتب اسمه على دفتر الحساب “نظام توما أبو شاهين”([9])، وحين عادَ ذاتَ مرّةٍ لزيارةِ المينا في أوّل يوم من شهر الصيام اكتشفت عمّتُه أنّه نسيَ موعدَ الصوم”بسبب عشرته الجديدة”([10])، وعندما سألته عمّتُه عمّا إذا كانوا عَمَّدوه فوقُ في القرية، أخبرها أنّه اخترعَ للكاهن خطايا “والكاهن لا يعرفُ أنّه مسلم”([11]). و”في أثناء تدرُّب الشباب على القتال كي لا يأخذ الفلسطينيّون بلدتهم أشارَ أحدُ الصبية إلى نظام قائلًا للمدرِّب ومن حوله هذا مسلم!”([12]) “ولم يشعر نظام بالارتباك بل كان منشغلًا بما خاطه المتدرّبون من صُلبان على أذرعة ستراتهم إضافة إلى العلم اللبنانيّ ….”([13])

  هذه عيّنةٌ قليلةٌ من الشواهد التي يُستدَلُّ منها على أنّ “نظام” كان في طفولته مسلمًا ومسيحيًّا في آن شكلًا، ولم يكنْ على الإسلام ولا على المسيحيّة فعلًا. عاشَ في منزلين ومنطقتين وثقافتين وعائلتين وفي فضاءَين من الطقوس والعادات، وكان في كلٍّ من المنزلين عناصرُ جاذبة وعناصرُ منفِّرة. والحقُّ يقال إنَّ بقاء “نظام” متأرجحًا بين عالمَيْن لا تعود أسبابُه إلى شخصِه وحده بل إلى تركيبة مجتمعيّةٍ حافلة بعوامل التآلف والتقارب من جهة وعناصِر الاختلاف والتباعد من جهة ثانية.  ثمَّ جاءَت مرحلة الشّباب والمراهقة لتفتحَ أمامه، إثرَ هبوطه إلى بيروتَ أبوابًا جديدة ومنازلَ جديدة.

2- انضمام “نظام” إلى جماعاتٍ يساريّة وانخراطُه في العمل المسلَّح إلى جانب الفلسطينيّين لم يوفّر له الاستقرار في “المنزل السياسيّ”. فإذا كانت هويّته الدّينيّة عابرةً ولم يكن له فيها خيارٌ حاسم وإنّما جاءَها من باب الانفعال الطفوليّ وليس من باب العقل ولا الإيمان “لا يعرف تمامًا ما إذا كان مؤمنًا بالله”([14]) فإنَّ التحاقَه بالمقاتلين اليساريّين لم يكن هو أيضًا في أساسه، وليدَ تفكُّرٍ عميقٍ والتزامٍ إيديولوجيٍّ. فهؤلاء هم الذين وفدوا تباعًا إلى شقّة رأس بيروت فتحوّلت “إلى مقرّ رسميّ لخليّة فرج الله الحلو التّابعة لمنظّمة العمل الشّيوعيّ”([15]) ورفاق النّضال كانوا من مختلف المناطق والطبقات الاجتماعيّة والانتماءات الدّينيّة، بل كانوا “ملحدين” وبهذا الخليط، كان نظام “فخورًا كيف أنّ سبعة عشر شخصًا على الأقلّ باتوا يملكون نسخة عن شقّة أولغا فيليبوفنا”([16]) وكان نظام أوّل الأمر، في أثناء نقاشاتهم ذات الموضوعات واللغة الشّيوعيّة “متل الأطرش بالزفّة”([17]) ، ولم يكن له اسمٌ حركيّ، لكنّهم وثقوا به بعدما عرفوا حكاية انتمائه المزدوج إلى الإسلام والمسيحيّة، فصار “نانو” (اسمه الحرِكيّ)([18]) وراحَ يشاركُهم اجتماعاتِهم وتظاهراتِهم ومعاركَهم “وصار يسير في الطليعة “([19]). وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ نانو كان الاسم الذي أُطلِق عليه صغيرًا في حورا والذي اتخذه لنفسِه حين قضى التحاقُه بالمجموعة اليساريّة أن يتسمّى باسم حرَكيّ. وهذا إن دلَّ على شيء فهو أنّ نظام ليس له من رابطٍ ثابتٍ جامعٍ يصل بين ضفّتَيْ حياته سوى الاسم، وهو رابطٌ هشٌّ غير أنّه إراديٌّ وغير موروثٍ أو مفروضٍ عليه.

الفضاءُ الدّينيّ والخُلقيُّ الذي تتحرّك فيه الجماعة غريبٌ عمّا يعهده المسلمون والمسيحيّون. فَتُوما ينفِقُ المال على نظام، وهذا الأخير ينفق على رفاق الخليّة وهؤلاء كانوا دائمًا مفلسين، “يسخرون من الفتيات العذارى ويسرقون بعض الكماليّات التي لا تلبّي حاجة فعليّة وبعض الكتب”([20])… هؤلاء في معظمهم كانوا مثله مشرَّدين ومن مختلف المذاهب الدّينيّة، ومناطق مختلفة من لبنان ومن خارج لبنان. يجمع في ما بينهم ولاءٌ للشيوعيّة “يقدّسون لينين”([21]) ويعيشون على مبادىء لا تنسجمُ مع السّائد من عقليّة أهل البلد وعاداتهم. “نظام” الغريب، ينضمُّ إلى مجموعة ناقمةٍ تشعرُ بالغربة علّها تعوِّضُ مجتمعةً نقصًا في هويّته وتوكيدًا لوجوده، إذ لا بدَّ للإنسان في نهاية المطاف من انتماءٍ يتيحُ له الشعورَ بالاستقرار نقيضِ التشرُّد.

  لأجل هذه الاعتبارات وسواها لم يكن “نظام” في عداد أهله المسلمين واحدًا منهم، فعند موت أبيه لم يرَ اسمه في ورقة النعْيِ، وهو الابن البكر، ولم يستطع التعرُّف إلى أخويه بلال وخالد. أمّا ردّة فِعله فينقلها جبّور الدويهي بالآتي “لا مكان له بينهم. شعَرَ بغُصّةٍ لكنّه رفع كتفيه، لا يعترفون به، لا يريدونه، سينصرف”([22]).

  على الضفّة الأخرى المسيحيّة، ظلَّ نظام غريبًا أيضًا . فحين وصلت صوره إلى حورا مقاتلًا في تلّ الزعتر علّقَ مشاهدوها “فرْخ الدّيب لا يُجَوّي”([23]) بمعنى أنّ الطبْع يغلب التطبُّع وخلافُ ذلك عبثٌ. وحين نزل توما ورخيمة إلى المنارة لتفقّد نظام والاطمئنان إليه “ضاعا هناك بين البنايات وهما يسألان عن نظام أبي شاهين أو عن نظام العلمي ولا يجدانه، فعادا خائبيْنِ”([24]).

  انخراطه في العمل المسلّح إلى جانب الفلسطينيّين هو أيضًا لم يجلب له خيمة الأمان والاستقرار ولم يُغْنِه عن الشّعور بالتّشرُّد. لقد كان انحيازه السياسيّ التحاقًا بمنزلٍ ثالثٍ بعد إخفاقه في الشعور بالانتماء إلى المنزل الأُسْريّ والمنزل الدينيّ.

3- إخفاقه في توفير الاستقرار في “منزل المرأة”

  المرأة في “شريد المنازل” هي أيضًا لم تنجحْ في جعل نظام يركن إلى الاستقرار. هي المنزل الرابع الذي لم يجد فيه نظام الاستقرار وإنّما على العكس لقي فيه مغامرات عارضةً ليس فيها للاستقرار محلٌّ. “فأولغا فيليبوفنا” الروسيّة الأصل، المتحرّرة الناقمة على تروتسكي، أجّرتْه شقّتها في حيّ المنارة وأوصتْه بأن لا ينزعَ أيقونة القديس جرجس عن الجدار، وحذّرته من “أنهم سيحرقون بيروت قريبًا”([25]) من دون أن تفصح عن هويّات هؤلاء، ثمّ سافرت. هذه المرأة التي تكبر نظام بما يزيد عن عشر سنوات والتي لم ينس طعم قبلتها في أوّل لقاء بها، لم تستطع أن توفّر له عند عودتها إلى لبنان، للاطمئنان إلى والدتها المريضة في جونيه، سوى لذّة جنسيّة عابرة ولم تكن علاقته بها أكثرَ من نزوة عارضة. هي إذًا لم تكن له بديلاً من تشرُدٍ وضياع، ولا حضنًا دافئًا يُنسيه واقع التمزُّق الدينيّ في هويّة مفترَضةٍ لا لُبْسَ فيها. على العكس هو لم يستطع أن يدافع عنها حين اغتصبها أحد مسلّحي التنظيم الشعبيّ؛ هي أيضًا كانت شريدةً بحاجة لمن يحميها .

في تلك الشقّة عينها تعرّف نظام إلى “يُسرى مكتبي” التي شاركت في السّطو على البنك البريطاني في عمليّة قامت بها منظمة الاشتراكيّين العرب. أحبّته وأرادت امتلاكه ولم تقوَ على كبت أنانيّتها فأطلقت عليه الرصاص حين علمت أنّ في حياته امرأة ثانية هي “جنان سالم” ولم يُصبْ لحسن حظّه، ثمّ هاجرت مع أهلها عند خروجها من السجن.

  “جنان سالم” كانت فتاة مسيحيّة ورسّامة رقيقة المشاعر تعيش في شارع لبنان شرقيّ العاصمة أحبّت “نظام” حبًّا عميقًا واستحصل له أبوها على بطاقة من الجبهة اللبنانيّة باسم “جوزف صافي” تعينه على التنقّل على الحواجز المسيحيّة… وعندما تضاعفت أحزان وحدتها وضاع أملها بنظام التائه ما بين منزل المنارة ومنزل شارع لبنان شقّت معصمها الأيمن بشفرة.

  وأكثرُ ما يسلّط الضوءَ على وحشيّة الشّعور بالتّشرّد التي توازي وحشيّة الأفعال المرتكبة بحقّه هو ما لقيه من جزع ورعب عند توقيفه لتصفيته في يوم السبت الأسود . يومها أنقذته أيقونة الحبل بلا دنس التي أعطته إيّاها “رخيمة” والصّلوات الدينيّة التي حفظها في طفولته بحورا.

  أمّا حين اتُّهِمَ بالتّجسُّس بعدما عُثرَ معه على بطاقةِ انتسابٍ إلى الجبهة اللبنانيّة  واقتيد إلى “أبو جعفر” محقّق الأفواج الوطنيّة، فقد اعتصمَ بالصمْتِ ورفضَ الإفصاح عن هويّته، وعُذِّب تعذيبًا شديدًا قبل أن يقضى عليه بضربةٍ على الرأس بعقبِ مسدَّس. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ “نظام” لم ينبرِ للدفاع عن نفسه في أثناءِ “محاكمته” ولم يُذكّرْ مَن يستجوبُه بنضالاتِه العسكريّةِ أو بتاريخِه الحربيِّ  كأنّما استسلم في نهاية رحلتِه لمفاعيل التشرُّد العبثيّة. كأنّه شعرَ بأنّه محكومٌ عليه بالموت الحتميّ ما دامت أوراقه كلُّها خاسرة، وكأنَّ التشرُّد والموتَ وجهان لعملة واحدة.

  هذا الرجل الذي قضى ضحيّة هويّته الملتبسة رافقه التشرُّد إلى منزله الأخير: إلى القبر. فبعدما صُلِّيَ عليه في أحد جوامع طرابلس حملت أخته “ميسلون” جثّته في سيّارة صديقه “كاسترو” إلى حورا ليُدفَن فيها، لكنّها اشترطت على توما ورخيمة “أن يدفناه عندهما، لكنْ على الطريقة الإسلاميّة الصحيحة، أي من دونِ أيِّ شاهدٍ على قبره وصليبٍ أو أيِّ إشارة أخرى، وأن يعرفا وحْدَهما أيْن هو، ولا يُريدان لغيرِهما أن يعرفا”([26]).

  “نظام العلمي” في “شريد المنازل” صورة مصغّرةٌ لمجتمع لم يبلغُ بعدُ مرحلة النضج والاستقرار والثبات على قناعات واحدةٍ صلبة، ولهذا ليس في الرواية أثرٌ للأمان والشعور بالسعادةِ، اللّهم إلّا ما وردَ في بدايتها من وصف لهناء العيش في حورا، لكنّ هذا المناخ القرويّ الرومنسيّ سرعان ما تبدّد لتحلّ محلّه المنازعاتُ على أنواعِها والصراعات.

ويحضرني عند الحديث عن المنازل قولُ أبي تمّام:

” كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى        وحنينه دائمًا لأوَّلِ منزلِ”

“نظام العلمي” أَلِفَ أكثرَ من منزل، غير أنَّ الأُلفةَ وحدَها لا تحقّقُ الشّعور بالانتماء والانتساب، أو هي في أحسنِ الأحوالِ تولِّدُ حالةً من الطمأنينة المرحليّة والموقّتة. ولأنّها قاصرة، فإنّها بقيتْ عاجزةً عن شحذ الحنين في أعماقه إلى أيِّ منزلٍ يرى فيه كمال وجوده. ظلَّ شريدًا هائمًا على وجهه تتنازعه ميولٌ متباينة إلى منازلَ متباينة.

  تلك هي نظرة جبّور الدويهي – “كاتب الحياة اليوميّة”([27]) – إلى مجتمعنا اللبنانيّ الذي يقبلُ الآخَر المختلفَ في أحسن الأحوال، لكنّه لم يَرْقَ بعدُ إلى مستوى التخلّي عن الخصوصيّات الفئويّة لمصلحة خصوصيّةٍ وطنيّةٍ واحدة وهويّةٍ واحدةٍ ومنزلٍ واحد. وها هو وطننا حتّى هذه اللحظة يحاولُ رأبَ الصدوع التي تباعدُ بين مكوّناته، ويَرْتقُ ما تمزّقَ من وشائجَ بين أبنائه بخيوطٍ واهية. فهل تُرانا ذاهبين إلى مُلاقاة مصير نظام العلمي الذي أيقنَ في نهاية المطاف أنه محظورٌ على أيٍّ كان في هذا البلد التحديقُ في الشمس؟

 

الهوامش

*جبور الدويهي، شريد المنازل، دار النهار 2010.

1-  محمد ناصر الدين، الرواية اللبنانيّة يلفّها الحداد، جريدة الأخبار، السبت 24 تمّوز 2021 .

2- عقل العويط، جبّور الدويهي أحقًّا موته بين الأهل نعاس؟ جريدة النهار، 24 /7/ 2021.

Akl.awit@annahar.com.lb    

3- شريد المنازل، ص34.

4-  م.ن. ص35.

5-  م.ن. ص 29.

6-  م.ن. ص 36.

7- م.ن. ص 43.

8- م.ن. ص 45.

9- م.ن. ص 47.

10- م.ن. ص 47.

[1]1- م.ن. ص 48.

12- م.ن. ص 53.

13- م.ن. ص 53.

14-  م.ن. ص 103.

15- م.ن. ص 94.

16- م.ن. ص 94 – 95.

17- م.ن. ص 96.

18- م.ن. ص 109.

19- م.ن. ص 105.

20- م.ن. ص 106.

21- م.ن. ص 164.

22- م.ن. ص 108.

23- م.ن. ص 106.

24- م.ن. ص 110.

25- م.ن. ص 82.

26- م.ن. ص 257.

27- “جبور كان بالفعل كاتب الحياة اليوميّة اللبنانيّة، لأنّ أدبه مطعّم بشعبيّة المجتمع … وعلى دراية بالتاريخ” بحسب الدكتور فوزي يمّين؛ راجع سوسن الأبطح في جريدة” الشرق الأوسط”، كواليس الحياة اليوميّة للروائي الراحل جبّور الدويهي، الثلاثاء 10 آب 2021 العدد 15596.

المصادر

1.الدويهي جبّور، شريد المنازل، دار النهار – بيروت، الطبعة الأولى 2010.

المراجع

2. الأبطح سوسن، كواليس الحياة اليوميّة للروائي الراحل جبّور الدويهي، جريدة الشرق الأوسط، الثلاثاء 10 آب 2021 العدد 15596.

3. الجامعة الأنطونيّة، في إطار سلسلة “إسم علم”، جبّور الدويهي روائي الحياة اللبنانيّة، تحيّة مصوّرة عُرِضت في 24 أيّار 2021 الساعة السابعة مساءً.

4. العويط عقل، جبّور الدويهي أحقًّا موته بين الأهل نعاس؟ جريدة النهار،      24 /7/ 2021.

Akl.awit@annahar.com.lb

5.  ناصر الدين محمّد، جبور الدويهي – الرواية اللبنانيّة يلفّها الحداد، جريدة الأخبار، السبت 24 تمّوز 2021، العدد 4396، السنة الخامسة عشرة.

 

 



[1] -أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة (العمادة)، وكليّة الإعلام – الفرع الثاني.

                    أستاذة محاضرة في جامعة سيّدة اللويزة NDU))– زوق مصبح.

 

Assistant Professor at the Lebanese University, the Faculty of Letters and Human Sciences (Deanship), and the Faculty of Information – Branch II.

Lecturer at Notre Dame University (NDU) – Zouk Mosbeh.                                       

gkhater@ndu.edu.lb                gloria.khatter@ul.edu.lb

 



 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website