هجرة الأدمغة اللبنانية وأثرها على التنمية الاقتصاديّة
Lebanon’s brain drains and its impact on economic development
Dr Therese Hayek دة. تريز الحايك ([1] )
تاريخ الإرسال: 12-2-2024 تاريخ القبول:26-2-2024
الملخص
يهدف البحث الى تسليط الضوء على ظاهرة هجرة الأدمغة والتي تُعدُّ من المشكلات التنموية المهمّة التي تواجه البلدان النّامية بشكل عام ولبنان بشكل خاص، لاسيما بعدما تفاقمت هذه الظاهرة في لبنان واستفحلت بشكلٍ غير مسبوق نتيجة الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعية والأمنية والسياسية والأكاديمية التي شهدها لبنان مؤخرًا، ومقاربة الموضوع من النواحي الإيجابيّة والسّلبيّة، وأثره على واقع التنمية الاقتصاديّة في لبنان.
ويوضح البحث العوامل التي أدّت الى تفاقم هذه الظاهرة، والتي ترجع الى الأزمات المتفاقمة المالية والاقتصاديّة، جائحة كوفيد وإنفجار مرفأ بيروت، والى عدم قدرة السلطة السياسية القيام بالإصلاحات اللازمة للنهوض بالاقتصاد اللبناني وتعافيه على المدى المنظور، وانسداد أفق الحل السياسي،… في المقابل تتزايد الاستراتيجيات التي تتبعها الدول المتقدمة لاستقطاب الأدمغة والكفاءات اللازمة لنمو اقتصادها وتطوره.
وأظهر البحث أنّ الأثر الإيجابي لظاهرة هجرة الكفاءات اللبنانية لا يوازي الأثر السلبي، فعلى الرّغم من الوتيرة التصاعدية للتدفقات المالية للمهاجرين، فهي لا تعوض خسارة لبنان لطاقاته الشّبابيّة، فهجرة الأدمغة تؤدي الى فقدان رأس المال البشري، والى فقدان العائدات الاستثمارية التي تكبدها الاقتصاد على تكوين رأس المال البشري، والى فقدان لبنان لبنيته الديموغرافية الشّابة، ما قد ينعكس سلبًا على المدى الطويل على خطط التنمية وعلى النمو الاقتصادي للبنان.
الكلمات المفتاحية: هجرة الأدمغة، الرأسمال البشري، الكفاءات اللبنانيّة، التنمية الاقتصاديّة.
Abstract
The research aims to highlight the phenomenon of brain drain, which is considered to be one of the most important developmental problems facing developing countries in general and Lebanon in particular, especially after this phenomenon was exacerbated in Lebanon and escalated in an unprecedented manner as a result of Lebanon’s recent economic, social, security, political and academic crises.
The research shows the factors that exacerbated this phenomenon, due to the worsening financial and economic crises, the COVID pandemic and the explosion of the port of Beirut, and the inability of the political authority to undertake the necessary reforms to improve the Lebanese economy and its recovery in the foreseeable term, and to bridge the horizon of the political solution, … In contrast, developed countries’ strategies are increasing to attract the brains and competencies needed for the growth and development of their economies.
Research has shown that the positive impact of Lebanon’s brain drain does not correspond to the negative impact in spite of the upward pace of financial flows to migrants, it does not compensate for Lebanon’s loss of youth potential. brain drain leads to loss of human capital and loss of the economy’s investment returns on human capital formation and Lebanon’s loss of its young demographic structure, which could have a long-term negative impact on development plans and on Lebanon’s economic growth.
Keywords: brain drain, human capital, Lebanese competencies, economic development.
1-المقدمة
تُعدُّ هجرة الأدمغة من التحديات االتنموية المهمّة التي تواجهها البلدان النامية بشكل عام ولبنان بشكل خاص، وذلك نتيجة عدم قدرة الدول على توفير الظروف الملائمة التي تستثمر هذه الكفاءات وتوفر لها متطلبات التقدم ما يخدم أهداف التنمية الاقتصاديّة، في المقابل تتزايد الإغراءات أو الاستراتيجيات التي تقدمها دول الاغتراب الى أصحاب الكفاءات العلمية العالية لاجتذابها، لأنّها تُشكل إحدى عوامل التقدم التكنولوجي والتطور.
إنّ هيمنة اقتصاد العولمة، وتطور مجالات العلوم والتقدم التكنولوجي غير المسبوق، وثورة المعلومات والاتصالات، وقوة حركة الرّساميل العابرة للقوميات، أدّت الى الاهتمام برأس المال البشري، إذ يُعد من المجالات المهمّة التي تتيح إنتاج ميزة تنافسيّة لاقتصاد المجتمع شرط توفر ظروف اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة، ولقد أكدت أدبيات التنمية الاقتصاديّة أهمية الرأس المال البشري ذي القدرات، والمهارات العلمية العالية في تحقيق النمو الاقتصادي الطويل الأجل.
تكمن خطورة هجرة الكفاءات الى الخارج في التأثير على واقع التنمية الاقتصاديّة في البلدان المصدّرة لهذه العقول وضياع الجهود والطاقات الإنتاجية، وتبديد الرأس المال البشري الذي أُنفِق عليه في التعليم وتدهور الإنتاج العلمي.
2- موضوع البحث
في خضم الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة والأمنيّة التي يتخبط بها لبنان، يشهد لبنان ظاهرة هجرة كفاءاته الى الخارج، وهذه الظاهرة تتنامى مهددة بإفراغ لبنان من شبابه وطاقاته، فالأدمغة اللبنانية تشكل رافعة للاقتصاد اللبناني، وهي قادرة على إحداث تغيير نوعي مؤثر على خطط التنمية الاقتصاديّة، ومواكبة التطور والتقدم في ظل التحديات الإقليميّة والدّوليّة المعولمة.
3- أهمية البحث
إنّ ظاهرة هجرة الأدمغة ليست بظاهرة حديثة على المجتمع اللبناني، إلّا أنّ أرقام المهاجرين يعكس ما هو أخطر بكثير من الاستنزاف التقليدي، وتؤشر الى فقدان لبنان لنخبته والى تهديد يكاد يُفرغ لبنان من طاقاته وكفاءاته على المدى الطويل، ومن مظاهر الخلل فيها أنّها تُشكل عائقًا أمام التنمية، خصوصًا وأنّ الأدمغة اللبنانيّة تُشكل رافعة مهمة لنمو الاقتصاد اللبناني.
حذر البنك الدولي في تقرير صدر العام 2020 – بعنوان الكساد المتعمد- من أن لبنان يواجه استنزافًا خطيرًا في الموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، وقد تزايدت هجرة الكفاءات كخيار يائس من الوضع الاقتصادي.
على الرّغم من الآثار الإيجابيّة المترتبة على هذه الظاهرة كزيادة التحويلات المالية وتخفيض حدة البطالة،… ولكن في المقابل لها انعاكاسات خطيرة على التّركيب الهيكلي للسكان، فالنّظريات التنموية تؤكد أهمية رأس المال البشري على النّمو الطويل الأجل، فاستنزافها يؤدي الى تدمير جزئي للثروة البشرية، ويعيق مسيرة النمو والتقدم.
4- مشكلة البحث
يهدف البحث الى تسليط الضوء على ظاهرة هجرة الأدمغة والتي تُعدُّ من المشكلات التنموية المهمّة التي تواجه البلدان النامية بشكل عام ولبنان بشكل خاص، لاسيما بعدما تفاقمت هذه الظاهرة في لبنان واستفحلت بشكلٍ غير مسبوق نتيجة الأزمات الاقتصاديّة، والاجتماعيّة والأمنيّة والسياسيّة والأكاديميّة التي شهدها لبنان مؤخرًا، ومقاربة الموضوع من النّواحي الإيجابيّة والسّلبيّة، وأثره على واقع التنمية الاقتصاديّة في لبنان.
5- أسئلة البحث
- ما هي عوامل الطرد والجذب للأدمغة؟
- هل الأثر الإيجابي لظاهرة هجرة الأدمغة يوازي الأثر السلبي؟
- كيف يمكن أن تؤدي ظاهرة هجرة الأدمغة سلبًا على التنمية الاقتصاديّة؟
يقسم البحث الى ثلاثة أجزاء: الجزء الأول: يتناول مصطلحات هجرة الأدمغة، وتيارات هجرة الكفاءات، الجزء الثاني: يتناول عوامل الجذب والطّرد لهجرة الأدمغة، الجزء الثالث: يتناول الأثر الإيجابي أو السّلبي لهجرة الأدمغة، بعدها الخاتمة والاقتراحات.
الجزء الأول
- هجرة الأدمغة أو رأس المال البشري
يُطلق مصطلح هجرة الأدمغة ب( Brain Drain) على انتقال العلماء والكفاءات والمتخصصين، وأصحاب المهارات من البلدان ذات الأحوال الاقتصاديّة والمعيشيّة المحدودة الى البلدان المتقدمة سعيًّا عن ظروف معيشية أفضل، وبيئة سياسية واجتماعيّة أكثر استقرارًا، والوصول الى الأنظمة التكنولوجيّة، من أجل تحصيل فرص عمل أفضل برواتب أعلى والحصول على نوعية حياة أفضل، كذلك، “حُددت هجرة الأدمغة على أنّها تحويل عالمي للموارد وبشكل رأس مال بشري، وتطال إجمالًا هجرة ذوي الكفاءات العالية والمتعلمين من الدّول النّاميّة الى الدول الكتقدمة ويشمل هؤلاء إجمالًا، وليس حصرًا المهندسين والأطباء والعلماء وغيرهم من الكفاءات العاليّة والشّهادات الجامعيّة”c (Docquier, 2006)
يُشير مصطلح هجرة الأدمغة بشكل عام الى الهجرة الخارجيّة، أو طويلة الأمد للأفراد ذوي المهارة العالية الذين قاموا بمستويات مرتفعة في الاستثمار في أوطانهم الأصليّة، إذ “تُمثل هجرة الأدمغة نقلًا للتكنولوجيا من الدّول ذات المستوى الأدنى للتكنولوجيا الى الدّول ذات المستوى الأعلى للتكنولوجيا، فهي تُعدُّ في الواقع نقلًا عكسيًّا للتكنولوجيا، Reverse Transfer of Technology، وهو ما يُطلق عليه بالفعل”. (Mathew, 2010)
مُصطلح استنزاف العقول وإن كان يُعبّر على انتقال رأس المال البشري على المستوى الدّولي، وينطبق بشكل أساسي على هجرة الأدمغة من الدّول النّاميّة الى الدّول المتقدمة فقط، بل قد يحدث بين الدول المتقدمة أيضًا، فهناك “أدبيات تتحدث عن هجرة أدمغة من كندا وكذلك من أوروبا وبخاصة المملكة المتحدة، وقد استمرت لحقب طويلة إذ تفقد الكثير من المهارات العالية لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية” (Docquier، 2006).
و”تُعد هجرة الأدمغة أو كما يُطلق عليها ب”هجرة رأس المال البشري (Human Capital Flight) شأنًا مقلقًا على النّطاق الدّولي، وذلك لتأثيرها سلبًا على البلدان التي تعرضت لهجرة رأس مالها البشري الى الخارج” (Dodani, 2005)
بحسب تعريف منظمة التّعاون والتنمية البشريّة (OECD) لرأس المال البشري، “أنّه يغطي جميع المعارف والخصائص الفردية التي تستهدف خلق الرفاهيّة الشّخصيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، فهو يُشكل سلعة غير ملموسة يُمكن أن تتقدم أو تدعم الإنتاجيّة والابتكار وقابلية التوظيف” (Economique), 2001)
أمّا عالم الاقتصاد الأميركي غاري بيكر “Gary Becker” فيُعرف رأس المال البشري بمجموعة القدرات الإنتاجيّة التي يكتسبها الفرد من خلال تراكم المعرفة العامة أو الخاصة”، ووفقًا لبيكر فرأس المال البشري هو شكل من أشكال رأس المال الكلي، إنّه مخزون المعرفة والخبرة المتراكمة.
لقد حظي رأس المال البشري باهتمام كبير من العديد من الاقتصاديين من خلال محاولتهم لدراسة تأثيره على النّمو الاقتصادي على المدى الطويل، وقد أدرك الاقتصاديون منذ مدّة طويلة أنّ العنصر البشري يمثل مكونًا لثروة الأمم، وفي هذا الإطار أكدت النّظريات الحديثة للنمو الاقتصادي New Theories Growth بشكل أساسي على رأس المال البشري في تفسيرها للنمو الاقتصادي، ونتيجة لذلك تحول تركيزهم من رأس المال المادي والذي لم يعد كافيًّا لشرح النّمو الاقتصادي الى رأس المال البشري، نظرًا لدوره المحوري في الحدّ من عدم تكافؤ الفرص وتحقيقه لمنافع عديدة للمجمتع.
هدفت دراسة أخرى أعدها Bentour Mostafa إلى تقدير أثر رأس المال البشري على الناتج المحلي الإجمالي للدّول العربية، بالمقارنة مع مجموعتين من الدول الآسيوية ودول منظمة التّعاون الاقتصادي والتنمية (D.C.E.O ،( وقد “أشارت نتائج الدّراسة إلى المساهمة الإيجابيّة لرأس المال البشري على النمو الاقتصادي والتي لا تختلف كثيرًا مقارنة بالدول الآسيويّة، إذ أوضحت الدّراسة أنّ زيادة رأس المال البشري ب 1 %ينتج عنه زيادة في النّمو الاقتصادي بمقدار 5.0 ،%مقارنة بحوالى 6.0 %في الدول الآسيوية وبنحو 9.0 %في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية”. (Bentour, 2020)
لقد أظهرت الدّراسات التّطبيقيّة المرتبطة بنماذج النمو الاقتصادي أوائل السّتينيات من القرن الماضي، طبيعة العلاقة بين تنمية الموارد البشرية والنّمو الاقتصادي في اقتصاديات المتقدمة لدول العالم، وتبيّن أنّ نحو 90% من النمو في الدّول الصناعيّة كان سببه تحسين قدرات الإنسان ومهاراته والمعرفة، ويعدُّ مفهوم شولتر في رأس المال البشري إسهامًا كبيرًا في النّظرية الاقتصاديّة، فمن وجهة نظره أن هذا النوع من الاستثمار حقق معدلات أسرع للنمو في الاقتصاديات المتقدمة مقارنة برأس المال المادي.
وتشير نظريات النّمو الاقتصادي إلى أنّ التقدم التقني يزيد من معدل النمو الاقتصادي طويل الأجل، ويزداد التقدم التقني سرعة عندما تكون قوة العمل أفضل تعليمًا، من هنا فإنّ تراكم رأس المال البشري يساعد في التّقدم التقني ويُعد مصدرًا من مصادر النّمو المستدام، وهذا ما برهنته العديد من تجارب الدّول النّامية التي انتقلت الى مصاف الدول الصناعيّة المتقدمة من خلال تنمية رأسمالها البشري، “كنموذج كوريا الجنوبية، هذا الحراك في مسار التقدم، إنما تمثل في زيادة الانفاق على التعليم والصحة، ويتماشى هذا الاتجاه الى بناء اقتصاد معرفي متقدم، الأمر ذاته ينطبق على دول جنوب شرق آسيا (النمور الأسيوية) والتي استطاعت دفع عملية التنمية، من خلال رأس مالها البشري والذي انعكس إيجابًا على تسارع معدلات النمو والتقدم.
1 – 2 -تيارات الهجرة
لقد عرف العالم هجرة أدمغة متعددة من أوروبا الغربية، والشّرقية ومن شرق آسيا والهند والعالم العربي وإفريقيا باتجاه الولايات المتحدة وكندا، حتى بعض الأرقام صادمة، فوفق بعض الأبحاث أنّ 75 بالمئة من الكفاءات العلمية في العالم العربي تذهب للتخصص في الخارج لا تعود نهائيًّا الى وطنها الأم.
إنّ المشكلة الحقيقية في هذه الظاهرة ليس في ترك هذه الخبرات، والكفاءات مواقعهم الطبيعية في الوطن، ولكنها تكمن في عدم رغبتهم على ترك مواطنهم الجديدة ورجوعهم الى أوطانهم بعد حصولهم على المهارات العلميّة، وهذا ما أكدّته الأبحاث التي قامت بها جامعة الدول العربية، ومنظمة العمل العربية وبعض المنظمات الدّوليّة الإقليميّة “إلى مساهمة الدّول العربيّة في ثلث هجرة الكفاءات من البلدان النّامية، وأنّ 50% من الأطباء و23% من المهندسين و15% من العلماء والكفاءات العربيّة المتخرجة يهاجرون متوجهين الى أوروبا والولايات المتحدة وكندا وأنّ 54% من الطلاب لا يريدون العودة الى أوطانهم”. (آسيا(الإسكوا)، 2010)
ويُعدُّ لبنان بلد هجرة بإمتياز، فإنّ حجمًا هائلًا من مهاجريه هم من أصحاب الكفاءات العالية، ما يؤثر في البلد اجتماعيًّا وديموغرافيًّا واقتصاديًّا، واللافت في الموضوع أنّ القانون اللبناني لا يُقيد هجرة الكفاءات، ولكنه يسعى الى تأطير عملية الهجرة وتشجيعها على العودة، وذلك من خلال برنامج تعاون مع الاتحاد الأوروبي ووكالات الأمم المتحدة.
1-3- موجات هجرة الكفاءات من لبنان
يُعدُّ لبنان من أكثر دول الشرق الأوسط تأثيرًا بموجات الهجرة المختلفة نتيجة لعدة عوامل اجتماعيّة، واقتصاديّة وسياسية على المستوى الوطني والإقليمي، وكلّها تتحد لتشكل عوامل الدّفع والجذب التي تؤثر بشكل مباشر على نسبة الهجرة.
شهد لبنان موجات هجرة كبيرة امتدت من أواخر القرن التاسع عشر حتى مدّة الحرب الكونيّة (1865-1916) إذ يُقدّر “أنّ 330 ألف شخصًا هاجروا من جبل لبنان آنذاك، والموجة الكبيرة الثانية أثناء الحرب اللبنانية (1975-1990) إذ يُقدر الباحث بول طير أعداد المهاجرين في تلك الحقبة بحوالى 990 ألف مهاجر” (Tabar, 2010). وأنّ 47% من المهاجرين يمكن تصنيفهم على أنّهم ينتمون الى القوى العاملة المهنية الماهرة، ويُشكّل الشباب اللبناني (الفئة العمرية 20-29) الأغلبية للذين هاجروا.
حتى بعد الحرب في التسعينيات ارتفعت وتيرة هجرة الكفاءات وبلغت حوالى 18.2% تسبب هذا في هجرة حادة للأدمغة، إذغادر الشباب للبحث عن ظروف معيشيّة أفضل في الخارج، (Foundation, 2022) حفّزها الإنهيار الاقتصادي والسياسي الحاد، والفساد المستشري والمتجذر والصراع الطائفي المتكرر، وتقييد الوصول الى الخدمات الأساسية، والمحسوبية التي منعت الأفراد من ذوي المهارات العالية وغير المنتمين الى أي إنتماء سياسي من العثور على فرص عمل.
أمّا بحلول العام 2019 بدأت موجة كبيرة من المهاجرين تفوق الأعداد التقليدية في الظهور وسط إنفجار الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة المتافقمة، وقد خلقت الموجة الموجة الثالثة بيئة مؤاتية للغاية لتحفيز ذروة جديدة لهجرة الأدمغة والتي بدأت مؤشراتها بالظهور وهي “الهجرة الجماعية” (Exodus)، وقد تؤسس الى عواقب طويلة الأمد وذلك نتيجة الأزمات المشتعلة في لبنان وتداعياتها اليومية وفقًا لمرصد الأزمة في الجامعة الأميركية.
يُقال إن هذه الموجة الثالثة المستمرة من الهجرة الجماعيّة هي الأكثر حدة ومن المتوقع أن تخلق عبئًا مستمرًا على الاقتصاد اللبناني وتعطل نموه، وقد هاجر أكثر من 79134 لبنانيًا في العام 2021.
هذه الموجات ليست منفصلة عن بعضها البعض على الرغم من تقلّب شدّتها، بل تُحدَّد من خلال عوامل دفع سياسيّة واجتماعيّة مماثلة تعمل معًا كأساس لاتجاه هجرة الأدمغة، وسط إنفجار الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة المتفاقمة من بينها استقالة الحكومة، وجائحة كوفيد 19، وإنهيار العملة الوطنية وارتفاع معدل التّضخم والذي بلغ 144.12% نهاية العام 2021، إضافة الى ذلك أدّى إنفجار بيروت في 4 آب 2020 الى تفاقم الكوارث.
ويبيّن الجدول الآتي وتيرة الهجرة من لبنان في آواخر السنوات الخمس المنصرمة وفقًا لبيانات الأمم المتحدة:
Lebanon – Historical Net Migration Rate Data (1)
2023 | 2022 | 2021 | 2020 | 2019 | Year |
-24.568/1000 | -20.553/1000 | -16.538/1000 | -12.523/1000 | -8.508/1000 | Migrant Population |
19.530% | 24.280% | 32.060% | 47.190% | 89.360% | Growth Rate |
Data Source: United Nations – World Population Prospects
يوضح الجدول رقم (1)، أنّ معدل الهجرة الصافي الحالي للبنان يشهد ارتفاعا ملحوظًا إذ ارتفع عدد المهاجرين الصافي من -8.508 لكل 1000 نسمة العام 2019 الى -12.523 لكل 1000 نسمة بزيادة وقدرها 47.190% عن العام 2018، كذلك ارتفع عدد المهاجرين من -16.538 لكل1000نسمة العام 2021 الى -20.553 أي بزيادة بلغت 24.280 %، وارتفع عدد المهاجرين الصافي لعام 2023 الى-24.568- أي بزيادة قدرها 19.530 % عن العام 2022
هذه الأرقام شهدت ارتفاعا بسبب الأزمات المستفحلة التي أصابت لبنان، كما أدّى إنعدام الأمن وعدم الاستقرار في البلدان المجاورة والى تفاقم مشكلة النزوح، إذ تبنّى لبنان سياسة “الحدود المفنوحة”، بالإضافة الى تحمّل عبء اللاجئين المرتفعة.
أما البلدان المضيفة الرئيسة للمهاجرين اللبنانيين فهي المملكة العربية السعودية، والولايات المتحدة وأستراليا وكندا، على التوالي، تليها ألمانيا، التي لديها أكبر عدد من المهاجرين اللبنانيين مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى. (Foundation, 2022)
وفي تقييم صدر العام 2020، حذّر البنك الدولي من أنّ الهجرة أصبحت خيارًا يائسًا على نحو متزايد في لبنان، فتًصنّف الأزمة الاقتصاديّة ضمن أكبر أزمات حادّة في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وأضاف إنّ التدهور في الخدمات الأساسية سيكون له آثار طويلة المدى بما في ذلك الهجرة الجماعية، وسيكون من الصعب للغاية التعافي من الأضرار الدائمة التي لحقت برأس المال البشري، ولعل هذا البعد من الأزمة اللبنانية يجعل حلقة لبنان فريدة من نوعها مقارنة بالأزمات العالمية الأخرى” (Bank, 2021)
يضيف الخبراء إنّ الطفرة الحالية في هجرة الأدمغة سيكون لها تأثير دائم على بلد يتصارع مع أزمات لا تًعد ولا تًحصى، وسيؤدي هروب رأس المال البشري الى تفاقم انهيار الاقتصاد المتدهور بالفعل وإعاقة تعافيه على المدى المنظور.
ويشير الاقتصاديون إنه على الرّغم من قلّة البيانات فإنّ اتجاهات هجرة الكقاءات مثيرة للقلق، فوفقًا لأحد استطلاعات الرأي في العالم العربي، “أنّ 77% من الشّباب اللبناني يتصدرون قائمة الدول الذين يرغبون في مغادرة بلدانهم. (Vohra, 2021)
وبحسب بعض التقديرات فقد غادر 20 % من الأطباء أو يخططون للمغادرة منذ أن عصفت الأزمة الاقتصادية في لبنان العام 2019، ولا تزال الهجرة الجماعيّة المستمرة للعاملين في مجال الرعاية الصحية مثل الممرضات، وقد انسحب أكثر من 1500 من أعضاء هيئة التدريس في الجامعة الأميركية.
أفادت مصادر دبلوماسية في بعثتين أوروبيتين في لبنان لمجلة فورين بوليسي foreign policy إنها شهدت زيادة في عدد طلبات التأشيرة من اللبنانيين الذين يسعون لإعادة التوطين في بلدانهم. “تتواصل الطبقات الوسطى معنا بأعداد كبيرة لمعرفة كيفية الحصول على عمل وتأشيرة عمل وكيفية التحرك بشكل قانوني بشكل عام. وقال مصدر دبلوماسي ألماني «مهندسون بشكل أساسي». (Vohra, 2021)
ثانيًّا: عوامل الطرد والجذب للأدمغة
- عوامل الطرد
تُعدُّ هجرة رأس المال البشري ظاهرة عالمية، وهي تخضع بشكل عام لعوامل الطرد والجذب شأن أي ظاهرة أخرى، خاصةً عندما تتنامى هذه الظاهرة مسببةً نقصًا في الكفاءات المتميزة التي يُعول عليها أي مجتمع لإحداث النّهوض والتّغيير لتحقيق التنمية، وإخفاقًا لأيّ سياسة تنموية لأي مجتمع.
تتسم هجرة رأس المال البشري باتجاهها النمطي من البلدان النامية الى البلدان المتقدمة، ومن البلدان الأقل تقدمًا في منظومة الدّول المتقدمة الى الدول الأكثر تقدمًا والتي باتت تتنافس في ما بينها لجذب هذه الكفاءات، لذا يسعى نظام العولمة لتفعيل آليات سوق العمل العالمي، وتنشيطه وهو الذي تخصص في اقتناص الأدمغة من البلدان النامية لصالح الدول المتقدمة.
إنّ قوى دفع الأدمغة الى خارج أوطانها تنشط في عدّة مسارات، وتتنامى بفعل عوامل وأسباب مختلفة أهمها: عدم وجود فرص شاغرة للذين يتخرجون سنويًّا، ندرة وجود مراكز أبحاث علمية، عدم وجود اهتمام لافت من حكوماتهم، على الرّغم من الدولة قد أنفقت الكثير من أجل تكوين هذه الكفاءات، والرابح في هذه العملية الدول المتقدمة التي اسقطبت هذه الكفاءات واستثمرتها في مجالها المعرفي.
وفقًا لنتائج بحث أجرته الجامعة الأميركيّة اللبنانية جول هجرة الأدمغة أنّ الأسباب التي تدفع الشباب اللبناني الى الهجرة بحثًا عن عمل، أولًا: الفساد المستشري في الطبقة السياسية إذ يحتل لبنان المرتبة 154 من بين 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد لعام 2021 الذي أبلغت عنه منظمة الشّفافيّة الدّوليّة برصيد 24 نقطة من أصل 100 على مدى السنوات الأخيرة، انخفضت درجة لبنان من 30 في العام 2012 إلى 24 في العام 2021. (University, 2022)
ثانيًّا: تراجع النمو الاقتصادي مع تفاقم الأزمة الاقتصاديّة والمالية التي بدأت في العام 2019 بسبب التأثير الاقتصادي المزدوج لوباء COVID-19 والانفجار الهائل لميناء بيروت في أغسطس 2020. بناءً على بيانات البنك الدولي، “انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 36.5٪ بين عامي 2019 و 2021، وأعاد البنك الدولي تصنيف لبنان كدولة ذات دخل متوسط منخفض، بانخفاض عن وضع الدّخل المتوسط الأعلى (Bank، 2021).
ثالثًا: ارتفاع نسبة بطالة الشباب، وقد أفاد مسح إدارة الإحصاء المركزي في لبنان، ومنظمة العمل الدّوليّة عن القوى العاملة الذي أجري في يناير 2022، ف”إن ما يقارب من ثلث القوى العاملة في لبنان عاطلة عن العمل، بينما بلغ معدل البطالة بين الشباب (15-24 عامًا) 47.8٪. يكشف الاستطلاع أن معدل البطالة ارتفع إلى 29.6 %في العام 2022، بينما بلغ معدل المشاركة في القوى العاملة 43.4%”. (الدولية، 2022)
إنّ ارتفاع نسبة البطالة يرجع ذلك الى أسباب عدّة منها: عدم وجود فرص كافية لاستيعاب الكفاءات اللبنانية في سوق العمل، قلّة الاعتماد على الكفاءة في التوظيف، غياب فرص المنافسة المتكافئة والمحسوبية التي منعت الأفراد من ذوي المهارات العالية وغير المنتمين الى أي إنتماء سياسي من العثور على فرص عمل، بالإضافة الى الهوة بين السياسات التعليميّة وحاجات السوق المحلي، ما أدّى الى تفاقم ظاهرة البطالة والتي شهدت ارتفاعًا وفقًا لموقع Macrotrends على الرغم من ارتفاع معدلات هجرة الكفاءات جدول رقم (1)، وهذا ما يوضحه الجدول الآتي:
جدول رقم (2) نسبة معدلات البطالة في لبنان لسنوات الخمس المنصرمة (2018-2022).
2022 | 2021 | 2020 | 2019 | 2018 | Year |
12.64% | 12.50% | 12.97% | 11.30% | 10.73% | Unemployment Rate (%) |
0.14 | -0.47 | 1.67 | 0.57 | 0.52 | Annual Change |
a href=’https://www.macrotrends.net/countries/LBN/lebanon/unemployment-rate’>Lebanon Unemployment Rate 1991-2023</a>. www.macrotrends.net. Retrieved 2023-10-14
يوضح الجدول رقم (2) ارتفاع معدل البطالة 12.64 % لعام 2022 بزيادة قدرها 0.14% عن العام 2021، كما بلغ معدل البطالة 12.97 % بزيادة وقدرها 1.67 % عن العام 2019، كما بلغ معدل البطالة 11.30% % لعام 2019 بزيادة وقدرها 0.57% عن العام 2018.
2-2-عوامل الجذب
شهد العالم منذ القرن الماضي وفي ظل هيمنة اقتصاد العولمة، عمليات نهب منظمة وممنهجة لثروات وقدرات البلدان النامية الفكرية، وتفريغها من رصيدها المعرفي والعلمي، فتنامت قدرة الدول المتقدمة نحو استقطاب الكفاءات المتميّزة أو الأدمغة، واستطاعت أن توظفها بما يخدم مصالحها الحاليّة والمستقبليّة، ما رتّب على البلدان النامية مخاطر جمّة وسلبيات عدّة في خطط التنمية لهذه البلدان المصدرة لهذه الأدمغة.
من العوامل الجاذبة للكفاءات العلميّة، التقدم الاقتصادي والمستوى المعيشي المرتفع في الدول المضيفة، توفر الوسائل اللازمة للبحث العلمي، توفر الاستقرار السياسي والأمني، بالإضافة الى بيئة حاضنة لهذه الكفاءات العلميّة والتي توفر لهم الظروف التي تساعدهم على العمل وتوفير المكانة الاجتماعيّة والاقتصاديّة، بالإضافة الى اعتماد الدول المتقدمة سياسات واستراتيجيات مختلفة بهدف استقطاب الأدمغة من البلدان النامية، ومن أهمها:
- برامج الهجرة الماهرة المحددة والمصممة لجذب أصحاب الكفاءات العلميّة مثل برنامج تأشيرة H-1B في الولايات المتحدة الأميركية (1) أو نظام الدخول السريع الى كندا، و”القوانين والتّشريعات التي سنتّها فرنسا، وقد ضمنت الإقامة لأصحاب الكفاءات لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وإعفاء بريطانيا المهاجرين من ذوي المهارات العلميّة من رسوم الدخول وذلك بهدف استقطابهم، إذ توّفر هذه البرامج مسارات مبسطة للعيش والعمل معًا قي هذه البلدان”.. (عمار، 2020)
- فرص العمل والرواتب التنافسيّة في القطاعات ذات الطلب المرتفع، مثل الرعاية الصحيّة وتكنولوجيا المعلوماتية والهندسة، .. ووفقًا للمنافسة المتكافئة وليس تبعًا للمحسوبيّة والاستلزام السياسي، ووجود الرّيادة العلميّة، والحرية الفكريّة، وحماية الحقوق في الاختراع والنشر وما شابه.
- مراكز البحث والابتكار والتي تُشكل عامل جذب لأصحاب الكفاءات العلمية القادمة من الدول النامية، وذلك يرجع الى عدم قدرتها على تشغيل طاقاتها الإبداعيّة في موطنها، ففي مقارنة بين الدّول المتقدمة والنّامية “سجل الإنفاق على مراكز البحث العلمي في الولايات المتحدة نسبة 4 % من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2020، ونسبة 2.3% لفرنسا، نسبة 1.5لإيطاليا، نسبة 3.1% قي اليابان، مقابل نسبة % 1 لمصر ، نسبة 0.82% للسعودية، نسبة 0.6% لتونس”() (Bank t. w., 2020)….
ومن العوامل المحفزة أيضًا لهجرة الأدمغة، توفّر المؤسسات المانحة التي تدعم الطلاب الى متابعة تحصيلهم العلمي في الخارج، إن كان على المستوى الوطني أو الإقليمي أو العالمي: كالجامعة اللبنانية، ومؤسسة الحريري، الجمعيّة الإسلاميّة للتخصص والتّوجيه العلمي،… وعلى المستوى الإقليمي، الجزائر، مصر، تونس، المغرب، … على مستوى العالمي: دول أوروبا الشّرقية، روسيا، هنغاريا، دول أوروبا الغربية فرنسا، إلمانيا، إسبانيا، إيطاليا،… (علي بزي، عدنان الامين، ملحم شاوول، 2009)
- من أجل تقديم خدمات في وظيفة مهنية مرتبة مسبقًا، وللتأهل لهذه التأشيرة، يجب أن بحمل درجة البكالوريوس أو درجة أعلى منها (أو درجة تعادلها) في التّخصص المحدد الذي بسعى للعمل فيه ،
- هجرة الكفاءت وتأثيرها الإيجابي والسلبي
تُشكل ظاهرة هجرة الكفاءات بشكل عام سلاحًا ذو حدين، فعلى الرّغم من الآثار الإيجابيّة التي تعكسه هذه الظاهرة للبلدان المصدرة، إلا أنّها تُعدُّ أبرز معوقات التنمية والتّقدم العلمي والتقني، فهي ترتد سلبًا على واقع التنمية للبلدان المهاجر منها، وإمكانات توظيف مخرجاته في مجالات التنمية الاجتماعيّة الاقتصاديّة.
فعلى الرغم من وضوح الآثار الإيجابيّة لهجرة الكفاءات في سوق العمل اللبناني والتي تتجسد في العلاقة الطردية ما بين إجمالي أعداد المهاجرين وحجم التحويلات المالية المتلقاة، وتخفيض حدّة البطالة وتحفيز الاستثمار في التعليم، إلّا أنّ التكلفة التي تكبدّها الاقتصاد اللبناني في تكوين رأس المال البشري، المتمثل في العمالة المهاجرة لا تساوي قيمة الكفاءات المهاجرة، ويتمثل الأثر السّلبي من تحقيق نقلة نوعيّة سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، فهذه التّحويلات اقتصرت على تحسين مستوى معيشة أسر العاملين وليس على الاقتصاد ككل.
- الآثار الإيجابيّة لهجرة الأدمغة
تُمثّل التحويلات المالية من المغتربين مصدرًا حيويًّا للاقتصاد اللبناني، فوفقًا لتقرير الأمم المتحدة الإنمائي UNDP لعام 2023، “إنّ التحويلات النقدية الى لبنان بلغت نحو 37.8٪ من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2022، وهي تُعد النسبة الأعلى المسجلة في بلدان منطقة الشّرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحيث يحتل لبنان المرتبة الثالثة في القيمة المطلقة للتحويلات في قائمة البلدان المتلقيّة للتحويلات النقدية، بعد المغرب ومصر” (UNDP, 2023)
وذكر التقرير “أنّ التحويلات تتدفق من جميع أنحاء العالم ولكن بمعدلات متفاوتة، تُعدُّ دول التعاون الخليجي المصدر الرئيس لهذه التحويلات وقد بلغت 48%، تأتي أمريكا في المرتبة الثانية (16٪)، تليها أوروبا الغربية (14٪)، أفريقيا (14٪)، أستراليا (3٪)، أميركا اللاتينيّة (3٪)، وأخيرًا أوروبا الشّرقية (2٪)” وفقًا للبيانات الرّسمية بناءً على تقديرات BDL” (UNDP, 2023)
على الرغم من القفزة الكبيرة مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، فإنّ التّحويلات الماليّة اللبنانية تتدفق – بالقيمة الاسمية المطلقة -كانت مستقرة نسبيًّا على مدى العقد الماضي، وتراوحت بين 6 و 7 بلايين دولار سنويًّا بين عامي 2011 و 2021، بمتوسط يناهز 6.5 بليون دولار في السنة” (UNDP, 2023)
ففي المدّة التي سبقت الأزمة الماليّة، كانت التحويلات النقدية تُستخدم في الاستثمار في بناء رأس المال البشري، كالصّحة والتّعليم،… وكانت تُصب في القطاع المصرفي كودائع نظرًا للفائدة المرتفعة التي كانت تُقدّمها المصارف، ويستفيد منها الاقتصاد عبر الاستثمار، ومنح القروض المصرفيّة، ولكن مع تراجع الثقة بالقطاع المصرفي وتوالي الأزمات الاقتصاديّة، تغيّر دور هذه التحويلات وباتت تُستخدم كأداة لتمويل الاحتياجات الأساسية كالغذاء والإيجار وفواتير الكهرباء، أي شبكة أمان اجتماعية للأسر اللبنانية، خصوصًا في ظل غياب نظام حماية اجتماعيّة متطور وشامل، وباتت تُستخدم للتعويض- وإن بشكل جزئي- عن الخسائر في القيمة الحقيقيّة للدخل والناتجة عن تدني قيمة العملة وارتفاع معدلات التضخم.
وعدّ الباحث الاقتصادي والمالي إيلي يشوعي أنّ هذه التحويلات، لم تعد تُشكل عاملًا إيجابيًا يسهم في النّهوض الاقتصادي كونها لم تعد تدخل ضمن النّظام المصرفي” (بولس، 2023)
فشلت التحويلات في احتواء الأزمات المتعددة في البلاد، وهي تؤدي الآن وظيفة اجتماعيّة بحتة من خلال تسهيل الوصول إلى السلع الأساسيّة المستوردة لشريحة صغيرة من السكان. وهذا يدل على أن التّحويلات لا توجه لحفز الاستثمار، أو تعزيز رأس المال البشري، أو خلق فرص العمل، وتحقيق نمو اقتصادي على الصعيد الوطني.
ويؤكد الدكتور قرم “على أنّ هذه الظاهرة تدل على مسيرة تنمويّة مشوهة،لأنّها لا تستثمر القدرات البشرية المتوافرة محليًّا، وتخلق اتكالًا على ما يحوله المغتربون الى ذويهم في الوطن، ما يؤدي الى الاتكال على مصدر ريعي، ولا يُشجع على إعادة النّظر في بنية الاقتصاد المحلي التي تصبح مقيدة، فيتركز النشاط الاقتصادي في بعض القطاعات المحدودة كالقطاع التّجاري والمالي والعقارات”. (القرم، 2013).
ومن بعض الآثار الإيجابيّة غير المباشرة للهجرة، تحفيز الطلاب الى زيادة تحصيلهم التعليمي والى اكتساب المهارات من أجل زيادة فرصهم في وظائف في الخارج، وارتفاع العوائد المتوقع تحقيقها في حال الهجرة.
- الآثار السّلبيّة لهجرة الكفاءات
تتنوع الآثار السّلبيّة التي تتركها هجرة الكفاءات في شتى المجالات ومن أهمها: توسع الفجوة بين الدّول المتقدمة الجاذبة والدّول الطاردة، تبعيّة الأدمغة والكفاءات ثقافيًّا واقتصاديًّا وتكنولوجيًّا للدول المستقطبة.
فوفق تقرير UNCTAD، “إنّ هجرة الكفاءات العلميّة هي نقل الموارد الإنتاجيّة من الدّول النّامية الى الدول المتقدمة، وهذه الموارد الإنتاجيّة تتمثّل بالأفراد الذين حصلوا على المعرفة من خلال الاستثمار في التعليم، ففقدان هذه الكفاءات قد بؤدي الى فقدان القدرات الفنية على الابتكار وعلى توسيع نطاق المعرفة التكنولوجيا، الأمر الذي ينطوي على آثار اقتصاديّة سياسيّة اجتماعيّة خطيرة على هذه الدّول، كما تُشكل هجرة الأيدي العاملة خسارة للدّول المصدرة وكسب للدّول المستقبلة” (Mathew M. , 2010)
وقال ساروج كومار جها، المدير الإقليمي للمشرق بالبنك الدولي: يواجه لبنان نضوبًا خطيرًا للموارد، بما في ذلك رأس المال البشري، ومن المرجح بشكل متزايد أن تستغل العمالة ذات المهارات العالية الفرص المحتملة في الخارج، ما يشكل خسارة اجتماعيّة واقتصاديّة دائمة للبلاد».. «فقط حكومة ذات عقلية إصلاحية، تشرع في طريق موثوق به نحو الانتعاش الاقتصادي والمالي، بينما تعمل عن كثب مع جميع أصحاب المصلحة، يمكنها عكس اتجاه المزيد من الغرق في لبنان ومنع المزيد من التجزئة الوطنية». (Mondiale, 2021)
ومن أكثر الآثار السّلبيّة لهجرة الكفاءات اللبنانيّة أهمّيّة:
- فقدان رأس المال البشري وهذا ما أشار اليه البنك الدولي في تقريره، إذ سجّل لبنان حوالى 113 من أصل 144 دولة في هجرة العمال ذوي المهارات العالية، منهم 53٪ من الأطباء والمهندسين والعمال ذوي المهارات العالية، و 44٪ يمثلون طلاب الجامعات” ما أدّى إلى استنفاد القوة العاملة المحليّة للأفراد المتعلمين، والمدربين تعليمًا عاليًا وإلى نقص المهارات في القطاعات الرئيسة، كالرّعاية الصحيّة والعلوم والتكنولوجيا، …وفي أغلب الأحيان تُستَرد اليد العاملة الأجنبية لتحلّ محل هذه الكفاءات المهاجرة، والتي تحول الجزء الأكبر من رواتبها الى ذويها، وخروج السّيولة النقديّة من لبنان، ما يزيد من سمات الاقتصاد الريعي والى تراجع قدراته التنافسية على المستوى المحلي والإقليمي.
- فقدان لينان عائداته الاستثمارية التي تكبدها على تكوين رأس المال البشري، مع تنامي هجرة الأدمغة في لبنان، فوفقًا لتقرير مركز الدراسات اللبنانية لعام 2023، بعنوان ” كلفة التعليم في لبنان، إنفاق الخزينة وإنفاق المجتمع” بلغ مجمـوع الإنفـاق التراكمـي الحكومـي والمجتمعـي والمنـح والقـروض والهبـات العينيـة علـى التعليـم خـال السـنوات 2011-2022 نحـو 43 مليـار دولار، لنحــو مليــون ومايــة ألــف تلميــذ/ة فــي الخــاص والرســمي وقبــل وبعــد الظهــر. وهذا الإنفاق يشمل فقط الطلاب ما دون التعليم الجامعي (اللبنانية، ،”كلفة التعليم في لبنان، إنفاق الخزينة وإنفاق المجتمع، 2023)
وفي بحث أجرته الجامعة اليسوعية حول أعداد الجامعيين المهاجرين هو 273694 مهاجرًا، وقد خلصت بعض الدراسات بتقدير التكلفة لإعداد كفاءة علميّة لإنهاء المرحلة الجامعية لشخص واحد بنحو 100000دولار أميركي بالأسعار الجارية، وبالمحصلة تصبح كلفة المهاجرين 27 مليار دولار أميركي” وهذه الأرقام تفوق بأضعاف ما يرسله المهاجرين الى لبنان، (فرح، 1995). إذ تتراوح بين 6 الى 7 مليار دولار أميركي سنويًا (UNDP، 2023)
- فقدان لبنان لبنيته الديموغرافية الشّابة والتي هي إحدى الانعكاسات السّلبيّة لهجرة الأدمغة التّغيير في الهيكليّة العمرية للسكان، فتتراجع نسبة الفئات الشّابة لصالح فئة الكبار في السن، ما قد يؤدي الى خلل في البنية السكانيّة، وقد ينعكس لاحقًا على إنتاج الفئة الماديّة والمعنويّة والدّيموغرافيّة من المواطنين، أي المواليد خارج لبنان، وهذا ما سيشهده لبنان، فوفق تقرير البارومتر العربي، أنّ 49 بالمئة من الرجال و46 بالمائة من النّساء يرغبون في مغادرة بلادهم لكن الثلثين تقريبًا (63 في المائة) من الشّباب بين 18 و 29 عامًا يرغبون في الهجرة، والأرجح أنّ السبب هو انعدام الأمل في مستقبلهم داخل لبنان، إذ إنّ 61 بالمئة ممن لديهم شهادات جامعية يرغبون في الهجرة، مقارنة بـ 37 في المائة ممن حصلوا فقط على تعليم ثانوي أو أقل. (العربي، 2022).
- الخاتمة
أظهر البحث أنّ الأثر الإيجابي لظاهرة هجرة الكفاءات اللبنانيّة لا يوازي الأثر السلبي، فعلى الرّغم من الوتيرة التّصاعديّة للتّدفقات المالية للمهاجرين، فهي لا تعوض خسارة لبنان لطاقاته الشّبابيّة، فهجرة الأدمغة، تؤدي الى فقدان رأس المال البشري، والى فقدان العائدات الاستثماريّة التي تكبدّها الاقتصاد على تكوينه والى فقدان لبنان لبنيته الديموغرافيّة الشّابة، ما قد ينعكس سلبًا على المدى الطويل على خطط التنمية وعلى النمو الاقتصادي للبنان، فالرأسمال البشري يُعدُّ عاملًا حاسمًا في دفع عجلة التنمية الاقتصاديّة، فحرمان لبنان من هذه الكفاءات العلمية قد ينعكس سلبًا على نمو اقتصاده وتطوره، وزيادة تبعيّته التكنولوجيّة والعلميّة والمعرفيّة والاقتصاديّة.Top of Form
سياسات السلطة السياسية تجاه هجرة الكفاءات اللبنانيّة
إنّ لبنان لم يتأهب بشكل كافٍ لمواجهة هجرة الكفاءات اللبنانيّة، ما يشير الى ضرورة معالجة الأسباب التي أدّت الى استنزاف هذه الأدمغة الى الخارج، واتخاذ إجراءات عاجلة للحفاظ على هذه الكفاءات وجذبها للعمل والبقاء في لبنان، ما يتطلب وضع استراتيجيات فعّالة للحد من هذه الظاهرة وتفاقمها على المدى الطويل، وهناك عدّة خيارات مفتوحة لمواجهتها، من بينها:
- زيادة الشّفافيّة والحكم الرشيد ومكافحة الفساد، والقيام بإصلاحات مالية ونقدية وإعادة هيكلة الديون وتبني سياسات اقتصادية تسعى الى تحفيز النمو الاقتصادي، وتعزيز القطاعات الإنتاجيّة وتحسين بيئة الأعمال وتشجيع الاستثمار من خلال تقديم الدّعم للشركات الناشئة.
- تحفيز الكفاءات اللبنانيّة من خلال تقديم فرص عمل جذابة، ومكافآت لتشجيعهم على البقاء والعمل في لبنان، واعتماد فرص المنافسة المتكافئة في التوظيف، وردم الهوة بين السياست التّعليميّة وسوق العمل من خلال تعزيز التعليم والتدريب لتوفير المهارات والكفاءات اللازمة وتخفيف حدة البطالة وتقليل الحاجة الى الهجرة سعيًا وراء فرص عمل غير متوفرة في وطنه.
- تنظيم هجرة الكفاءات من خلال تطوير سياسات الهجرة أكثر فعالية لضبط وتنظيم الهجرة، ما يتيح بتوجيه هذه الكفاءات والموارد بطريقة تعود بالفائدة على التنمية الاقتصاديّة والاجتماعية في لبنان، يمكن أن تشمل هذه السياسات مراحل الإقامة المؤقتة أو الدائمة، والعمل على جذب هذه الكفاءات اللازمة لتطوير القدرات الاقتصاديّة للبنان.
- التركيز على الابتكار وريادة الأعمال من خلال دعم بيئة ريادية محفزة، تشجع على إنشاء الشركات، ما يؤدي الى خلق فرص عمل جديدة ويحفز النمو الاقتصادي، ويسهم في إبطاء معدلات الهجرة والاستفادة من الشراكات الدّوليّة من خلال التعاون مع المنظمات الدّوليّة، والشركاء الإقليميين لتبادل الخبرات والموارد وتنفيذ برامج لتعزيز التنمية الاقتصاديّة والاجتماعية في لبنان..
Top of Form
إذا نُفِّذت هذه الخطوات بشكل فعّال، فقد تساهم في خلق بيئة ملائمة لاستمرارية الكفاءات اللبنانية وتطور ها، والحفاظ عليها كعامل أساسي للتنمية الاقتصاديّة في لبنان.
References
-1Bank, t. w. (2020). World Development Indicators. World Bank.
-2Bank, W. (2021). Lebanon Sinking into One of the Most Severe Global Crises Episodes, amidst Deliberate Inaction. The World Bank.
-3Bentour, E. M. (2020). The effects of human capital on economie growth in the Arab country compared to some Asian and OECD country,. Arab Monetery Fund.
-4Docquier. (2006). The brain drain. Docquier and H. Rapoport, “The Brain Drain”, Institut de Recherches Économiques et Sociales, Département des Sciences Économiques, Université Catholique de Louvain.
-5Dodani, S. (2005). Brain Drain from deeloping country.
Economique), O. d. (2001). L’investissement dans le capital humain. OECE.
-6Foundation, E. T. (2022). Skill and migration country Fihe Lebanon. ETF.
-7Mathew. (2010, 9). Reverse Transfert of Yehnology: a perspective. Retrieved from <http://shodhganga.inflibnet.ac.in/bitstream/10603/212/9/09.
-8Mathew, M. (2010). “Reverse Transfer of Technology: A Perspective,» Shodh Ganga (2010), . Shodh Ganga.
-9Mondiale, L. B. (2021). Le Liban s’enfonce dans l’une des crises mondiales les plus graves, sur fond d’inaction délibérée. La Banque Mondiale.
-10Tabar, P. (2010). Lebanon A Country of Emigration and immigration. Lebanese Americain University.
-11UNDP. (2023). “The Increasing Role and Importance of Remittances in Lebanon”. UNDP.
-12University, A. L. (2022). Yara Haddad, Diana Matar, Nouha Abardazzou, Malek Ben Abdallah, Bashir Choucair. Beirut: Americain Lebanese University.
-13Vohra, A. (2021). Lebanon Is in Terminal Brain Drain. foreign policy.
-14Yara Haddad, Diana Matar, Nouha Abardazzou, Malek Ben Abdallah, Bashir Choucair. (2022). Wave after wave: the Lebanese Brain Drain. Beirut: AUB.
15-آسيا(الإسكوا), ا. ا. (2010). ورشة عمل حول الهدرة الدّوليّة والتنمية في منطة الإسكوا. بيروت: الإسكوا.
الدّوليّة, م. ا. (2022). لبنان ومنظمة العمل الدّوليّة يصدران بيانات محدثة حول سوق العمل الوطني. 16-منظمة العمل الدّوليّة.
17- العربي, ا. (2022). نصف لبنان يريد الهجرة. البارومتر العربي.
18-القرم, ج. (2013). نظرة بديلة الى مشكلات لبنان السياسية والاقتصاديّة. بيروت: دار الفارابي.
اللبنانية, م. ا. (2023). كلفة التعليم في لبنان، إنفاق الخزينة وإنفاق المجتمع” . بيروت: ،” 19- مركز الدراسات اللبنانية .
اللبنانية, م. ا. (2023). ،”كلفة التعليم في لبنان، إنفاق الخزينة وإنفاق المجتمع. بيروت: ،” 20-مركز الدراسات اللبنانية .
21- بولس, ط. (2023). الاقتصاد اللبناني يتنفس من رئة الاغتراب أكثر من أي وقت مضى. Independent عربية .
22- حمدان, ك. (2000). عودة الكفاءات المهاجرة . بيروت: الجامعة الأميركية.
23- علي بزي، عدنان الامين، ملحم شاوول. (2009). إشكالية الدولة والمواطنة والتنمية في لبنان. بيروت: دار الفارابي.
24- عمار, د. (2020). هجرة الأدمعة العربية الأسباب والحلول. دراسات وأبحاث المجلة العربية للأبحاث والدراسات في العلوم الاجتماعية، مجلد 12 عدد 4، .
25- فرح, أ. أ. (1995). المهاجرون اللبنانيون، إستنزاف قاتل للأدمغة والسواعد. جريدة انهار.
-باحثة في الشأن الاقتصادي والاجتماعي [1]
Researcher in economic and social affairs. Email: theresehayek9@gmail.com