دور علماء الدّين المسلمين في حركة النّهضة بين القرنين التّاسع عشر والعشرين
(الشّيخ أحمد عباس الأزهري نموذجًا 1853-1927)
ملخص من رسالة أُعِدّت لنيل شهادة الماستر في التاريخ الحديث والمعاصر
Le rôle des érudits religieux musulmans dans le mouvement de
la Renaissance entre le dix-neuvième et le vingtième siècle ( (1853-1927 Cheikh Ahmed Abbas Al-Azhari
Résumé de Mémoire préparé en vue de la maîtrise en histoire Moderne et contemporain
Souraya Ahmed Ismail سوريا أحمد إسماعيل([1])
تاريخ الإرسال:3-5-2024 تاريخ القبول:15-5-2024
ملخص البحث: تعالج هذه الورقة دور علماء الدّين المسلمين في حركة النّهضة بين القرنين التّاسع عشر والعشرين، واعتمدتُ فيها الشّيخ أحمد عباس الأزهري نموذجًا (1853-1927). إذ لم يكن لدى المسلمين السنّة في لبنان عامة وفي بيروت خاصة، حتى نهايات القرن التّاسع عشر، مدرسة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، تضم أساتذة مختصين في حقول محددة وفق برامج معدّة ومقررة. وأمام هذه الحالة بدأت الهمم بتأسيس مدارس إسلاميّة تواكب حاجة العصر، منهم الشّيخ أحمد عباس الذي أنشأ مدرسة تشبع طموحاته العلميّة والمنهجيّة، تلبي حاجة المسلمين وفي الوقت عينه، تواكب التّطور العلمي العصري وتغني عن المدارس الإرساليّة فكانت “الكلية العثمانيّة”. ولم يقتصر دوره على التّعليم بل تعداه إلى تناول شؤون الناس وشجونهم وأحوالهم، فكانت “جريدة الحقيقة” السياسيّة والاجتماعيّة، لتعكس لنا جزءً من مواقف الشّيخ السياسيّة.
الكلمات المفاتيح: لبنان – حركة النّهضة – دور علماء الدّين – الشّيخ أحمد عباس.
Résumé:
Ce document traite du rôle des érudits religieux musulmans dans le mouvement de la Renaissance entre les XIXe et XXe siècles, en se basant sur le modèle de Cheikh Ahmed Abbas Al-Azhar (1853-1927). Avant la fin du XIXe siècle, les musulmans sunnites du Liban, et de Beyrouth en particulier, ne disposaient pas d’écoles au sens moderne du terme, avec des professeurs spécialisés dans des domaines spécifiques selon des programmes établis. Face à cette situation, des écoles islamiques ont été créées pour répondre aux besoins de l’époque, telles que celle fondée par Cheikh Ahmed Abbas, qui satisfaisait à la fois ses aspirations scientifiques et méthodologiques, tout en suivant les progrès scientifiques de l’époque et en remplaçant les écoles missionnaires par la “Faculté ottomane”. Son rôle ne se limitait pas à l’éducation, mais s’étendait également aux affaires et aux préoccupations politiques et sociales, comme en témoigne le journal “Al Haqiqah”.
Mots-clés : Liban – Le mouvement de la Renaissance – Le rôle des savants religieux- Cheikh Ahmad Abbas Azhari.
المقدمة: تميز القرن التّاسع عشر وبداية القرن العشرين، بحركة نهضويّة تعليميّة قادها عدد من روّاد الفكر الدّيني والتّاريخي، من خلال الإسهامات العلميّة والتّعليميّة على أكثر من صعيد، إذ كان رواد النّهضة العربيّة على قناعة راسخة أنّ التّعليم هو المحور الأساسي للرقيّ الاجتماعي، لذا حاولوا نشر المعارف والعلوم الطبيعيّة والتّقنيّة في أوساطهم التي يسودها الجهل والتّعصب. كما كان لزامًا عليهم امتلاك ناصية السّلاح الفكري، بعبارة أخرى تحويل عوام النّاس الأميين إلى جمهور واعٍ، متعلم ومثقف له وحده الحقّ في تقرير مصيره (الحصري، 1949،ص3). انطلاقًا مما تقدم استشعر الغيارى من العلماء والمشايخ المسلمين الحاجة الملحة للخروج من حالة الجهل، والتّخلف التي هم عليها بسبب ضعف المدارس الإسلاميّة أمام المدارس المسيحيّة والأجنبيّة. إذ كانت المعاهد التّعليميّة عند المسلمين، من نوع المدارس الدّينيّة التّقليديّة التي تهدف إلى تعليم مبادئ الدّين والقرآن، وكانت هذه المعاهد تعرف باسم الكُتّاب (الحصري،1949، ص3).
وأمام هذه الحالة بدأت الهمم بتأسيس مدارس إسلامية تواكب حاجة العصر، منهم الشّيخ أحمد عباس الذي أنشأ مدرسة تشبع طموحاته العلميّة والمنهجيّة، تلبي حاجة المسلمين وفي الوقت عينه تواكب التّطور العلمي العصري وتغني عن المدارس الإرساليّة. فكانت “الكليّة العثمانيّة” التي جرت وفق نظام عصري في الإدارة والتّعليم لم يسبقها إليها أيّ من المدارس الإسلامية في حينه، وهي التي انفرد بتدبيرها شخص واحد، حتى زهت في برهة يسيرة وانتشرت شهرتها في الآفاق. كان لهذه الكليّة بصمتها على الصّعيد الوطني، بفضل الأفكار الأزهريّة المتسمة بالتّسامح والإخلاص للوطن والعروبة، إذ احتلّ طلابها في المجتمع مكانة مهمّة سواءً على الصّعيد الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. وقد دفع بعضهم أرواحهم فداءً للوطن على مذبح الحرية نتيجة لمواقفهم العربيّة القوميّة المناهضة لسياسة التّتريك – متأثرين بأفكار شيخهم الأستاذ أحمد عباس الأزهري.
لم تقف همّة الشّيخ أحمد عند دوره التّعليمي، فانخرط في العمل السياسي الوطني مشاركًا في مؤتمر (الأعيان المسلمين)، انطلاقًا من خشيته قيام الدول الاستعمارية باحتلال بلاد الشّام على إثر الهزائم التي لحقت بالسّلطنة العثمانيّة. كما كان له دور بارز في التأسيس لـ “جمعية بيروت الإصلاحيّة”، التي طالبت بإصلاحات سياسيّة وإداريّة في ظل الأوضاع المتردية التي وصل إليها الحكم العثماني في تلك الفترة. إلاّ أنّ الإنجاز الأهم على الصعيد السياسي والإجتماعي، تأسيسه لجريدة “الحقيقة”، متناولة شؤون الأمة وشجونها في ظل الحكم العثماني ومن بعده الانتداب الفرنسي. وجعلت من مطالبهم وحقوقهم أولوياتها كما أراد لها مؤسسها، وكانت في مواقفها لا تجاري حكمًا ولا حاكمًا، الأمر الذي عرّضها للاحتجاب مرات عدة.
النّهضة والإصلاح: شاع استخدام مصطلحات النّهضة والإصلاح والتجديد، للدّلالة والتّعبير على الإسهامات الفكريّة لعلماء، ومثقفين عرب في ظل التّطورات الكبرى التي يشهدها عالم الإنسان لا سيما الغرب الذي نهض علميًّا، وتكشفت نهضته العلميّة عن تداعيات فكرية كبرى كان لها الأثر في صياغة العقل الغربي ومن ثمَّ الترويج لمنظومة من الأفكار وبالأخص على الصعيد الاجتماعي (نعيم،2015،ص15). فالنّهضة الأوروبيّة كانت ثمرة عصر الأنوار الأوروبي، وترجمة لمبادئ الثّورة الفرنسيّة والتقدم التكنولوجي في آن معًا، وانبعاث ثقافي ويقظة لوعي وطني شبيهة بتبلور النزعة الوطنية الإيطاليّة (قصير،2006،ص190).
كان التّعليم قبل عصر التنظيمات تعليمًا دينيًّا حرًّا، يبدأ في المنزل على يد مربّ أو شيخ، أو يلتحق التّلميذ بأحد المساجد، وكانت مادة التّدريس الأساسيّة القرآن وتلاوته، وكثيرًا ما استعملت المساجد كمدارس، ولم تكن الحكومة تنفق على المدرسين أو على أبنية المدارس، بل كانت تدين بوجودها إلى تبرعات المحسنين الذين أنشأوها، وحبسوا عليها الأوقاف الكافية (عوض،1969،ص252). ولم يكن لدى المسلمين في لبنان عامة وفي بيروت خاصة، حتى نهايات القرن التّاسع عشر مدرسة بالمعنى الذي نفهمه اليوم، مدرسة تضم أساتذة مختصين في حقول محددة وفق برامج معدة ومقررة سابقًا. لتشهد في عصر التّنظيمات ولاية سورية تطورًا فكريًا وثقافيًّا سريعَا نسبيًّا، إذ ما قارناه بتطور الثّقافة والتّعليم في العهد العثماني الأول. وقد مهدت الإدارة المصريّة (1831-1840) لهذا التّطور، وذلك بفضل المدارس الابتدائيّة التي أنشأها إبراهيم باشا في سورية وتطبيقه برنامجًا واسعًا للتعليم الابتدائي على نمط النّظام الذي جرى تطبيقه في مصر (عوض،1969،ص252).
ولما ازدهرت المدارس الإرساليّة تنبه المسؤولون في الدولة العثمانيّة إلى أنّ الإرساليات الأجنبيّة، ومعها النصارى المحليون يكادون يستأثرون بمنابع العلم والثقافة الفكرية، ما قد يهدد الناشئة الإسلاميّة ويعزلها عن أجواء الدولة العثمانية، فأوعزت الدّولة إلى ولاتها في سورية للعناية، والاهتمام بأمور التّعليم في المناطق الواقعة تحت إدارتهم حرصًا على إبقاء المسلمين من العرب ضمن الإطار الفكري للدولة العثمانيّة (الولي،1993،ص210). خاصة وأنّ المدارس الأجنبيّة كانت تتمتع بحريّة التّعليم لم تتمتع بها المدارس الوطنيّة بفضل “الامتيازات”. وكان لذلك خطر كبير على عقول الناشئة، إذ أخذ المعلمون الأجانب يسعون إلى استمالة تلاميذهم إلى بلادهم. فشعر المسلمون أنّ الغزو التّبشيري بات يهدد عقائدهم الدّينيّة في عقر دارهم، خاصة أمام محاولات التّنصير التي حصلت (ثمرات الفنون،العدد134). ما حدا ببعض رجال الطائفة أن يتصدوا لهذه الهجمة ويقفوا بوجهها، فكانت جمعيّة المقاصد من أبرز الجمعيات الإسلاميّة التي أخذت على عاتقها الاهتمام بأمور المسلمين الثقافيّة والاجتماعيّة والدّينيّة. بالإضافة إلى دور أدّاه بعض المشايخ المسلمين لمواجهة حالة التّخلف والجهل التي تسيطر على مدارسهم فكانت لهم الأيادي البيضاء على صعيد النّهضة التّربوية الإسلاميّة، منهم الأستاذ الرئيس أحمد عباس الأزهري.
تولى المربي الشّهير والعالم المصلح الشّيخ أحمد عباس، شيخ الجيلين إصلاح النّفوس بالوعظ والإرشاد، وأعدّ مدة خمسين سنة بوصفه معلمًا ومربيًّا، أجيالًا من الشّباب العرب، انقلبوا بعد حين قادة فكر وتوجيه، بينهم الأديب والصحافي والطبيب والصيدلي والتاجر والحقوقي (داغر،1983،ص569).
ولد العلامة الشّيخ أحمد عباس الأزهري في بيروت العام 1270هـ الموافق 1853م، من أسرة مصريّة، والده عباس بن سليمان أحد جنود الجيش المصري، قدم إلى بلاد الشّام ضمن حملة إبراهيم باشا العسكرية سنة 1831م، حيث دارت بين هذه القوات والجيش العثماني معارك متواصلة، تمكن على أثرها من احتلال هذه البلاد لمدة عشر سنوات، اضطر بعدها للانكفاء بقواته باتجاه مصر التي انطلق منها، إلّا أنّ بعض عساكر الجيش المصري آثروا البقاء في بيروت، منهم عباس بن سليمان، الذي تزوج من بيروتيّة من آل الشّامي ورزق منها أولادًا عدّة، صفوتهم الشّيخ أحمد، فكان شعلة من نور أضاءت بيت الوالد الفقير(الولي، 1993،ص306). فكان الشّيخ أحمد كما وصفه الأستاذ عبد الباسط فتح الله في المنار” كان مما تركته الحملة المصريّة التي اكتسحت الدّيار الشّاميّة، بقيّة صالحة تأصلت في ثغر بيروت فنشأ منها فرع أزهر وأثمر وانتظم خير البلاد…”(المنار،1927،ص387).
عندما بلغ الشّيخ أحمد السّنة الخامسة من عمره أرسله والده إلى الكتّاب، على عادة أهل زمانه فقد قرأ القرآن الكريم، واستظهر بعض أجزائه على الشّيوخ الموجودين آنذاك أمثال (النّصولي والدّسوقي والحافظ اسماعيل الطنطاوي)، وفي السّنة العاشرة من عمره دخل المدرسة التي أنشأها الشّيخ حسن البنا حوالي سنة 1863م، تعلم التّجويد ومبادئ اللغة العربيّة والحساب والخط العربي، وكان من شيوخه الشّيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي الذي كان علامة زمانه في مادة الفقه الإسلامي. ثم تتلمذ في مدرسة جامع النّوفرة (الأمر منذر) على الشّيخين الكبيرين محمد الحوت الكبير والشّيخ عبد الله خالد (حلاق، 1997، ص1). أُرسل الشّيخ أحمد في بعثة إلى الجامع الأزهر حيث تلقى علوم العربيّة وآدابها على خواص مدرسيها في ذلك الوقت كـ (الشّيخ المرصفي والإشرافي والأبياري والبابي الحلبي)، واضطلع بالعلوم العقليّة والفلسفيّة والصوفيّة بين يدي جهابذة هذه العلوم آنذاك (جمال الدّين الأفغاني والبابي الحلبي والشّيخ محمد الولي الطرابلسي)، (المنار، 1927،ص388-389).
ما لبث أن عاد الأستاذ الشّيخ أحمد عباس إلى بيروت العام 1874م، حتى بدأ التّعليم ليفيد أبناء مدينته بيروت التي أحب مما ناله من علوم. دعاه المعلم بطرس البستاني إلى التدريس في “مدرسته الوطنية” وكلفه بتدريس الدّين الإسلامي واللغة العربيّة (الخوري، 1908،ص115). ثمّ وقع عليه الاختيار لتدريس العلوم العربيّة والدّينيّة في “المدرسة الرشيديّة” التي أُعيد افتتاحها مرة ثانية عندما عيّن رائف أفندي متصرفًا على بيروت، وهي التي تعرف اليوم باسم “مدرسة حوض الولاية” (الولي،1993،ص307). وبعد أن تمّ لجمعيّة المقاصد افتتاح أربع مدارس (اثنتان للأناث واثنتان للذكور) وجهت اهتمامها لإنشاء مدرسة داخليّة، لافتقاد ولاية سورية لمثل هذا النّوع من المدارس، لذلك تشكلت لجنة ضمت كلًّا من: محمود رمضان، عبد القادر سنّو، حسن بيهم، أحمد عباس الأزهري، أحمد دريان وعبد القادر قباني (ثمرات الفنون،1879،ص4). ومن انجازته المساهمة بـ “المدرسة السّلطانيّة” وهي المدرسة العالية الإسلاميّة الوحيدة في سورية بل في الولايات العربية جميعها التّابعة للسّلطنة آنذاك (ثمرات الفنون،1886، ص1).
بعد أن استقال من عمله في المدرسة السّلطانيّة أسس “المكتبة العثمانيّة” متأسيًّا بأستاذه أحمد البابي الحلبي سنة 1886، وبقي يتعاطى تجارة الكتب في المكتبة العثمانيّة طوال ثماني سنوات، من دون أن يفارقه الفكر في تأسيس مدرسة تشبع طموحاته العلميّة والمنهجيّة، تواكب التّطور العلمي العصري فكانت “الكلية العثمانية” 19 آب 1895، وكان الشّعار الذي اتخذه للكلية “أغنى الغنى العلم وأكرم الحسب الأدب”، وقد اتخذ من دار محمد أفندي ديّة – طريق المحافر- تجاه المكتب الإعدادي الملكي مقرًا لها (تعرف اليوم منطقة الزيدانية – طلعة شحادة) (ذكريات الحاج محمد جميل الرواس).
أمّا مراحل التدريس فيها فكانت تتطور وفق المدرسة، واستجابة لمتطلبات المجتمع الإسلامي في بيروت، كانت قسمين: قسم تمهيدي مدّة الدّراسة فيه أربع سنوات، وتدرّس فيها العلوم الدّينيّة مع مبادئ اللغة العربيّة والفرنسيّة، وقسم استعداداي مدّته أربع سنوات أيضًا، ثم أُدخل لاحقًا تعديلين منها زيادة مراحل الدّراسة، وآخر شمل إنشاء فرع ليلي داخلي (البيان السنوي للكلية،1911،ص7).
أقام المسؤولون عن الكليّة علاقات طيبة مع السّلطات العثمانيّةـ تجلّت باعتراف هذه السّلطات رسميًّا بشهاداتها ومعادلتها بالشّهادات الحكوميّة العثمانيّة (حويلي،1990، 185). كما كان للكلية علاقات ثقافيّة مميزة مع فرنسا التي اعترفت بشهاداتها في معاهد الحكومة الفرنسيّة العالية، وكانت تتلقى بعض المنح الدّراسيّة المخصصة لطلابها لمتابعة دراستهم العالية (الحقيقة،1910).
وعند اندلاع الحرب الكونيّة الأولى تبدّل الدّعم العثماني للكلية وشيخها، فانتهى الأمر إلى إقفال المدرسة، ونُفي الأستاذ إلى استانبول ووُضِع تحت المراقبة (المشنوق،1986،ص51).تأثر وضع الكلية إبّان الحرب العالمية الأولى 1914-1918م، وبعد انتهائها، إذ فقدت الكثير من أعضاء أعمدتها نتيجة للوفاة أو الاستشهاد، وكان من بين عمدتها: أحمد مختار بيهم، الشّيخ أحمد حسن طبارة، عبد الغني العريسي، كامل الصلح….(الكلية العثمانية،1933،ص4). فلما وضعت الحرب أوزارها عاد الشّيخ إلى بيروت، وبعودته أستأنفت الكليّة رسالتها التّعليميّة، ولكن تحت اسم جديد وهو (الكليّة الإسلاميّة).
على الرّغم من عمره والصّعوبات التي واجهته والأعمال المضنيّة التي أخذت من قواه، والأوضاع والظروف السياسيّة الصعبة التي كانت تمر بها البلاد، إلّا أنّ الشّيخ لم يملّ ولم يتعب، فقد كان يبذل جهدًّا كبيرًا في مدرسته، وقد حقق حلمه الثاني بـ “صحيفة الحقيقة” التي صدرت في بيروت بين أعوام (1909-1921م)، كانت الصحيفة لا تهتم بالواقع التربوي وحسب، وإنما كانت تعالج القضايا السياسية اللبنانيّة والعربيّة، وقد حذرت مرارًا من مخاطر السياسة الأجنبيّة في البلاد، وحذرت من مخاطر الحركة الصهيونيّة، وأفسحت للقراء كتابة الموضوعات المهمة، وفي مقدمتها قضية فلسطين والخطر الصهيوني على واقعها، ومستقبلها وذلك لتلبية الرأي العام إلى الأخطار المحدقة بالعالمين العربي والإسلامي.
أوضح الشّيخ أحمد الهدف من إنشاء “جريدة الحقيقة” والغاية من إصدارها في العدد الأول “….فعزمنا بعد الاتكال على وليّ التّوفيق على إصدار جريدة يوميّة سياسيّة أدبيّة عمرانيّة تميل مع الحقيقة كيفما مالت وتلتقط الحكمة أينما كانت تنتقي الأخبار أصدقها مقالًا ومن المباحث أكثرها نفعًا لا تأخذها بالحقّ لومة لائم، ولا يثنيها عن الصّدق عذل عاذل لا يستفزها عامل الأنانيّة ولا تتلاعب بها الأغراض الشّخصيّة، تجتنب ثلم الأعراض ولا تجعل الإطراء وسيلة لمآربها بل تكون نبيلة المقاصد شريفة المبادئ تتخذ الحقّ شعارها، والصدق دثارها مع سهولة لفظها وجزالة معناها ليعمّ النّفع بها سائر الطبقات …. ورجاؤنا من أهل الفضل الكرام أن ينظروا إلى عملنا هذا بعين الرضا لا بعين السخط…”(الحققيقة،1909،ص1).
تعهد الشّيخ جريدة الحقيقة تسعة أشهر من بدء صدورها، ثم عهد بها إلى نجله كمال وهو لم يكمل التّاسعة عشر من العمر، ومنح امتيازها وإدارتها إلى حسن النّاطور، وأعلن للملأ أنّه لا علاقة له بها وكلّ ما كتب أو سيكتب فيها يطلب من صاحب الامتياز. وانعكف بكلّيته لمتابعة مشروعه العظيم، خاصة وأنّه أشار إلى أنّ الصحافة السّورية لم تبلغ سنّ الرشد.
تناولت الحقيقة في أعدادها الكثير من المواقف السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، منها الموقف من الدستور العثماني 1908 الذي قوبل بحماسة، وربما كان التّهليل له والابتهاج به من القوميين العرب أكثر مما كان بين غيرهم، فتوهموا أنّه الحرّية الحقيقيّة، على الرّغم من تأييد الصّحيفة للدستور وفق ما ورد في العدد الأول ما يعكس تأييد الشّيخ أحمد إلاّ أنّها اصطدمت بالمواقف الدّاعية إلى محو الصّحافة وحذفها، فكان لها في العدد 216″…أن يطلب من أولي الأمر أن تضرب على أيدي الجرائد، وتمنع صدورها بداعي أنّها مضرة للهيئة الاجتماعيّة؟….إنّهم يجهلون أنّ الشّعب يريد أن يستيقظ من سباته…”(الحقيقة،216،ص1).
كما تناولت الصحيفة العديد من الأمور منها وضع اللغة العربيّة، والاوضاع الاجتماعيّة والاقتصاديّة التي كانت سائدة العام 1910 من تباعد بين الملل والحالة العامة المزرية التي كانت عليها البلاد، والتّقهقر السياسي والعسكري والفساد في جهاز الإدارة الذي تمثل بفقدان سلطة القانون، وانتشار الرشوة وإفراغ الخزينة للإنفاق على الحروب وأعمال التّجسس. كما وجهت “الحقيقة” نقدًا لاذعًا إلى بعض الولاة والوجهاء والموظفين لطريقة تعاطيهم مع المشاكل الاجتماعيّة والمطالب. منها على سبيل المثال لا الحصر مقال ورد في العدد 240 بعنوان “سياحة الوالي” وصفت فيه الجريدة تعاطي الولاة مع الشّعب منتقدةً الحاجز الكثيف الذي كان يحيط بهم ويحول بينهم وبين العامة، ومما ورد”…إذا كانت سياحة الوالي كسياحة الولاة في الزّمن الماضي إذ كانوا يذهبون إلى مراكز المتصرفيات والقائمقامين وكبار الموظفين، ويقنعون من العلم بأحوال البلاد واستطلاع شؤونها بما يسمعونه ممن حضر مجلسهم فلا تستفيد البلاد من هذه السياحة….”.(الحقيقة،1910،ص1).
وعلى الرّغم من كل ما أوردناه سابقًا والمظاهر العنصرية كلّها في سياسة الاتحاديين، ظل العرب يتمسكون بـ “الرابطة العثمانيّة” التي توسموا فيها الخير والإصلاح لسائر أجناس السّلطنة، وهو ما نادى به الشّيخ أحمد “…هلموا أيّها العثمانيون إلى ما يعزّ مقام الخلافة ويعليها… ففي عهد عبد الحميد كان رجال الدّول الأخرى ينظرون بتعجب واستخفاف لأنّها كانت في حاجة إلى انصراف الهمم على اقتسام أملاكها لا انصراف الخوف منها على أملاك جيرانها…”(الحقيقة،1911،ص1).
لقد أطلق زعماء العرب العديد من دعوات للتعايش إلّا أنّها لم تلق آذانًا صاغية لدى الاتحاديين، بل عمدوا إلى السّيطرة والاستئثار بالحكم، فكان من شأن ذلك أن تبدلت مواقف العرب، وبدأوا بتشكيل جمعيّات سرّيّة وعلنيّة للوقوف في وجه محاولات التّتريك. منها “الجمعيّة الإصلاحيّة” عندما تداعى يوم الأحد 14 كانون الأول 1913، مندبون رسميون من كلّ طائفة للاجتماع في دار المجلس البلدي، حضره 42 مندوبًا من الطائفة الإسلاميّة، و42 مندوبًا من الطوائف الأخرى غير الإسلاميّة. وعدّت حينها “الجمعيّة الإصلاحيّة” أول تكتل بيروتي غير طائفي أنشىء في أوائل القرن العشرين.(حلاق،1987،ص280). ترأس الجلسة الشّيخ أحمد عباس الأزهري، وتقرر وضع لائحة إصلاح لولاية بيروت وملاحقة تنفيذها. وإزاء المطالبات والمواقف التي أعقبتها حُلّتِ الجمعيّة في 26 آذار ومُنِعت اجتماعاتها. ونُفِي الشّيخ أحمد كما أسلفنا سابقًا إلى الآستانة بتهمة إيقاظ الوعي القومي العربي.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أواخر 1918 وانسحاب القوات التركيّة، دخلت القوات العربيّة وقوات الحلفاء بلاد الشّام، وكان الشّيخ أحمد من المرحبين بالحكم العربي والدّاعين للانضمام إليه، وكان لجريدة الحقيقة وقفات واكبت الأمير ومواقفه، منها “مرحبًا بأول حاكم عربي….لا يفوتك العلم بأنّا أمّة برح بها الاستبداد فأفسد أخلاقها وغيّر طباعها…فمهما كان من عمل الأصحاء من أهل الفضل، والحكمة فيها لا يؤدي إلى الغاية من مداواتها إذ لم يكن حاكمها طبيبها….أيّها الحاكم يجرؤنا على مخاطبتك بهذه اللهجة الصّادقة ما عهد فيك من الأخلاق العربيّة الإسلاميّة الأولى، وإنّا نرجو أن تكون أنت الموفق للقيام بواجبات الولاية الحكيمة سلبًا وإيجابًا في هذا البلد الطيب…”(الحقيقة،1918،ص1).
التزمت “جريدة الحقيقة” خط الحكم العربي ومعه الحلفاء، الأمر الذي عرّضها للانتقاد، ودفع بعضهم إلى اتهام “الحقيقة” بالانحياز لبريطانيا وفرنسا، وهو ما ورد جليًّا عندما أوردت في عددها 986 “….إنّنا نرد الشّكر والامتنان والثّناء لفرنسا وبريطانيا العظمى وأميركا التي أخذت بيدنا في طريق استقلالنا، وساعدننا على التّخلص من نير الاستعباد كما أنّنا مديونون بحريتنا، واستقلالنا للسّلطان حسين الأولى قبل كلّ أحد….”.(الحقيقة،1918،ص1). على الرّغم من معارضتها للانتداب وتأييدها، والدّفاع عن وجهة النّظر العربيّة المطالبة باستقلال البلاد العربيّة التام ووحدتها، نراها في أعداد أخرى تدافع عن الحلفاء والجنرال الّلنبي بوصفه “صاحب العلم”، مقتنعة أنّ لا نية للحلفاء من احتلال البلاد الشّاميّة. غير أنّ الحكم العربي لم يدم طويلًا، وتكشّفت نية الحلفاء الاستعماريّة فما كان من هذه “الجريدة” التي أراد مؤسسها “أن تميل مع الحقّ”، عادت لتصوّب مسارها مع الانشقاق الدّاخلي ما بين مؤيد للاستقلال تحت راية الحكم العربي، وبين ما يريد الاستقلال تحت الحماية الفرنسيّة، واختطت الطريق المناوئ للانتداب ما عرضها للاحتجاب مرات عدّة.
و على الرغم من أنّ الفرنسيين حاولوا الضّغط على الشّيخ أحمد عباس كي لا يقوم بالدّور السياسي، والإصلاحي الذي قام به أيام العثمانيين، غير أنّهم فشلوا في جميع محاولاتهم، واستمرّ الشّيخ يقوم بدوره في المجتمع إلى أن وافته المنيّة يوم الثلاثاء 9 شوال 1345 هـ الموافق 11 نيسان 1927. لتستمر الكليّة من بعده بإدارة المربي المعروف الدكتور بشير القصّار لعدة سنوات 1934. ليتولى إدارتها من بعد وفاة مدير الكليّة الطبيب القصار ابني الشّيخ أحمد عباس (كمال ونوري)، غير أن الخلافات العائليّة والسياسة الفرديّة والابتعاد من العمل الجماعي والمؤسساتي، أفقد الكليّة تراثها التّربوي والتّعليمي ما أدى إلى إقفالها العام 1943م.
لتذهب تضحيات هذا العالم خاصة أنّه عانى ما عانى في سبيل الوطن وخاصة مدينة بيروت سدى، لقد ترك رائد النّهضة بعض المؤلفات القيمة في علوم الصرف والبلاغة والمنطق واصول الفقه، وله عدّة تمثيليّات مثلت مرار منها “السموأل”(الحقيقة،1910،ص2)، ذي قار، فتاة الغار، وروايات عن العرب في الجاهلية والإسلام ورواية السّباق، وله تاريخ آداب اللغة العربية.(الزركلي،1992،ص139).
نختم بحثنا هذا في مآثر ابن عباس بما رثاه حينه سليمان الظاهر ومما قال فيه(العرفان،1927،ص953):
ما الثمانون أوهنت لك ركنًا لا ولا أضعفت سنوها قواكَا
صفحة كنت من كتاب المعاني ومعاني النبوغ من معناكَا
كنت ملء الرداء علمًا وحلمًا فطواك الردى كطي رداكّا.
المصادر والمراجع:
- الحصري، ساطع، حولية الثقافة العربية، الإدارة الثقافية لجامعة الدول العربية، القاهرة 1949 ، ط1،ص3.
- حلاق،حسان، الأستاذ الرئيس العلامة الشّيخ أحمد عباس الأزهري (1853-1927)، محاضرة ألقيت في المركز الإسلامي -عائشة بكار- بتاريخ 25 آذار 1997، بمناسبة مرور سبعين عاماً على وفاة الشّيخ أحمد عباس.
- حلاق،حسان، بيروت المحروسة في العهد العثماني، الدار الجامعية، بيروت 1987،ص280.
- حويلي،محمد علي، التطور الثقافي لمدينة بيروت من الفتح المصري لبلاد الشام وحتى الحرب العالمية الأولى 1831-1918،بيروت 1990،اطروحة دكتوراه،الجامعة اللبنانية،ص185.
- الخوري، شاكر، مجمع المسرات، دار الاجتهاد، بيروت 1908،ص115.
- داغر،يوسف أسعد، الفكر العربي الحديث في سِيَر أعلامه الراحلين (1800-1955)، المكتبة الشرقية،بيروت 1983، الجزء الثاني، منشورات الجامعة اللبنانية، قسم الدراسات الأدبية، ص569.
- الرواس، محمد جميل، ذكريات محمد جميل الرواس (إبن الحاج جميل الرواس رئيس ومؤسس جمعية البر والإحسان) عن مدرسة الشّيخ أحمد عباس الأزهري.
- الزركلي،خير الدّين،الأعلام،دار العلم للملايين، المجلد الأول،بيروت 1992،الطبعة العاشرة،ص139.
- عوض، عبد العزيز، الإدارة العثمانية في ولاية سورية 1864-1914، دار المعارف، القاهرة 1969، ص252.
- قصير،سمير،تاريخ بيروت،ترجمة ماري طوق غوش، دار النهار، بيروت 2006،ط1،ص 190.
- الكلية العثمانية الإسلامية، البيان السنوي لعام 1910-1911،ص7.بيان عام 1932-1933،ص4.
- المشنوق،عبد الله، فصول من حياتي، مؤسسة ماسترز للنشر والاتصال،بيروت 1986، ط1،ص51.
- نعيم،بلال، الفكر الإسلامي بين النّهضة والتجديد، دار الولاء، بيروت 2015، ط1،ص15.
- الولي، طه، بيروت في التاريخ والحضارة والعمران، دار العلم للملايين، بيروت 1993، ط1، ص210، 306، 307.
الدوريات:
- الحقيقة،جريدة،العدد الأول، بيروت 6 شباط 1909،ص1.
- الحقيقة،جريدة،العدد 216، 7كانون الثاني 1910،ص1.
- الحقيقة،جريدة،العدد 232،بيروت7 نيسان 1910،ص2.
- الحقيقة،جريدة،العدد 240، بيروت 5 أيار 1910،ص1.
- الحقيقة،جريدة،العدد 284، بيروت 29 ايلول 1910.
- الحقيقة،جريدة،العدد 310، بيروت 21 كانون الثاني 1911،ص1.
- الحقيقة،جريدة،العدد 955،بيروت 9تشرين الأول 1918،ص1.
- الحقيقة،جريدة، العدد 986،بيروت تشرين الأول 1918، ص1.
- الفنون، ثمرات، العدد 134، 16 ذي القعدة 1294 هـ الموافق 22 تشرين الأول 1877.
- الفنون، ثمرات، العدد 255، 23 ذي الحجة 1296 هـ الموافق 17 تشرين الأول 1879.
- الفنون، ثمرات، العدد 599، 6 محرم 1304هـ الموافق 22 أيلول 1886.
- مجلة العرفان، المجلد رقم 13، صيدا نيسان 1927،ص953.
- المنار، مقال عبد الباسط فتح الله، حياة الشّيخ أحمد عباس، الجزء الخامس، مجلد 28، 1927، ص387- 388-389.
– طالبة دكتوراه في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة -قسم التاريخ السياسي. [1]
Doctorant à l’Institut Doctoral Supérieur de l’Université Libanaise des Arts, des Sciences Humaines et Sociales – Département d’Histoire Politique.Email: Sourayaismail23@gmail.com