فاعليّة الذّاكرة في الشّعر العراقي الحديث حمد محمود الدّوخي أنموذجًا
The effectiveness of memory in modern Iraqi poetry، Hamad Mahmoud AlDokhi as a model
Tuqa Saad Jassim Al-Abbadi تقى سعد جاسم العبادي([1])
تاريخ الإرسال: 3-8-2024 تاريخ القبول: 16-8-2024
الملخص
شكَلَ البحث دراسة الذّاكرة في شعر شاعر عراقيّ حديث لكشف ماهية الذّاكرة، والفنّ ولاسيما الشّعر منه بوصف الذّاكرة المادة الخام التي تساهم بشكل كبير في إغناء التّجربة الذّاتيّة لكل مبدع، وما يتوافق مع الذات المبدعة وخصوصية تجربته وموهبته الإبداعيّة بتحويل الماضي إلى تنصيص شعري يتَسم بالابتكار والجدة .
الكلمات المفتاحيّة : الذّاكرة ، شعر، عراقي، حديث.
Abstract:
The research constituted a study of memory in the poetry of a modern Iraqi poet to reveal the nature of memory and art, especially poetry, describing memory as the raw material that contributes greatly to enriching the personal experience of every creative person and what is consistent with the creative self and the specificity of his experience and creative talent by transforming the past into a poetic text characterized by innovation and novelty. Keywords: Memory, Poetry, Iraqi, Modern.
Keywords: Memory, Poetry, Iraqi, Modern.
المقدمة
تنبثق الذّاكرة من حقل الدّراسات الأدبيّة لكي تسهم بشكل واضح في كشف العمل الإبداعي، وملامحه التي لها أثر كبير في رفد النّتاج الإبداعي، وبمعطياته المتنوعة منها الأفكار والأحاسيس والرؤى لكشف ملامح التّجربة الفنيّة والذاتية للمبدع، بما لديه من مخزون تراكمي يتحوّل إلى تشكيل إبداعي ومزيج فني، بما يتوافق مع خصوصيّة وميول ذات المبدع.
تهدف الدّراسة إلى ما يلي:
1- التعرف إلى الشّاعر حمد محمود الدّوخي
2- التعرف إلى الجانب اللغوي والاصطلاحي لمفهوم الذّاكرة
3- إيضاح مفهوم الذّاكرة في شعر حمد محمود الدّوخي
المنهج: اتبعت المنهج الوصفي التّحليلي، وقد تضمن البحث بعد المُقدّمة التمهيد الذي تناول حياة الشّاعر ومفهوم الذّاكرة في اللغة والاصطلاح، ثم المطلب الأول الذّاكرة وتوظيف التّاريخ في إنتاج المعنى، ثم المطلب الثاني الذّاكرة وتوظيف الأسطورة في إنتاج المعنى، وأخيرًا المطلب الثالث الذّاكرة وتوظيف الدّين في إنتاج المعنى، وفي الخاتمة وقفت الباحثة على أبرز النتائج التي توصَّلت إليها وأهمّها.
الدّراسات السّابقة: واجهت الباحثة صعوبة عديدة مِنها: قلّة المصادر كون الموضوع غير مدروس مسبقًا في شعر هذا الشّاعر.
أ- حياة الشّاعر: ولد الشّاعر حمد محمود محمد عبد الله الدّوخي في مدينة الشّرقاط سنة 1974م في صلاح الدّين ولقب بشاعر القرية([1])؛ لأنّه نشأ في وسط ريفي في بساتين النّخيل وهذا ما منحه متخيل واسع([2])، فهو شاعر وناقد أكاديمي ورث الشّعر عن أبيه وأمه وإخوته، وحصل على درجة الأستاذيّة في الأدب العربي الحديث ونقده من جامعة تكريت سنة 2016م، يعمل أستاذًا لمذاهب الأدب العربي في الدّراسات الأوليّة، وأستاذًا للتّحليل السينمائي للنصوص الأدبيّة في الدّراسات العليا، وهو عضو في اتحاد أدباء العراق وله أنشطة ثقافيّة توزعت في حقول متنوعة، ويعد الدّوخي مجددًا في شعر الشّطرين كما نوّه لذلك الدّكتور ذنون الأطرقجي فهو من نخبة الشّعراء المجددين الذين لفحتهم رياح الحداثة ولكنهم أبو أنِّ يتخلوا عن أصالتهم بل عملوا على تذويب هذه الحداثة في نسغ أصالتهم([3])، ويقول عنه النّاقد الرّاحل د.عمر الطالب “هذه الجزالة والعذوبة الصادرة عن شاب لين العود مازال في سني دراسته فماذا سيكون عليه شعره إذا أشتد عوده وتعمقت تجربته”([4]).
ب – الذّاكرة بين اللغة والاصطلاح:
1– لغة: من الناحية المعجميّة ورد في لسان العرب “الذّكرى في اللغة نقيض النسيان وهي مصدر كلمة “الذَّكْرُ: الحِفْظُ للِشَئْ تَذْكُرُهُ”([5])، والاسم من ذّكَّرَ هو “الذَّكْرى الذي يرد في معنيين “يَكُونُ الذَكرَى بمَعْنَى الذَّكْرِ، ويَكُونُ بِمَعْنَى التَذَكُّر في قَوْلهِ تَعَالى: “وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ”([6]).
2– اصطلاحًا: إنّ الذّاكرة هي “قوّة عقليَّة قادرة على الاحتفاظ بالأحداث الغابرة ، وعلى إحضارها للمرء عند الاقتضاء“([7])، أمّا في عند التّهانوي “الذكر يجيء لمعان كثيرة الأول التلفُّظ بالشيء، والثّاني إحضاره في الذهن بحيث لا يغيب عنه وهو ضد النسيان”([8])، ما في المعجم الفلسفي “القدرة على إحياء حالة شعوريّة مضت وانقضت”([9])، ويمكن أنَّ تعرف أنّها “وظيفة نفسَّية قوامها معاودة إنتاج حالة وعي سابقة… وكل حفظ لماضي كائن ٍحّي في حالة هذا الكائن الراهنة”([10])، ويمكن الوقوف على حدود الذّاكرة عند علماء النّفس؛ لأنّها قريبة من ميدان عملهم، هو ما مر به الإنسان من تجارب وما تعلمه من معلومات أو استدعاء ما يحتاج إلية الفرد حين يكون في موقف يتطلب منه ذلك، وتعد ذاكرة الفرد إحدى قدراته العقليّة، وهنالك تفاوت في ما بين الناس حيث القوة، فالذّاكرة لها القدرة الكبيرة في الاحتفاظ بمعلومات الماضي مع القدرة على استرجاعها([11])، أمّا في ميدان الفلسفة شغلت بال الفلاسفة في القرن السّابع عشر وما بعده ؛ لأنّها مصدر للمعرفة وصب اهتمامهم على الذّاكرة الواعية أي التذكر إذ يتوفر لدى الفرد معها مضمون عقلي([12])، يمكن من خلالها أن نربط الأحداث الآتية بخيط من نسيج الماضي والإفادة من خبراته المكتسبة عن طريق عمليّة التّذكر الفاعلة ذات النتائج البيئيّة وهذه العميلة هي استرجاع الصور الماضية التي مرت في حدود الذّاكرة، كما أن المعرفة تذكر على حد قول أفلاطون فالتذكر مكون زماني وبه يستطيع الإنسان التنقل من زمن إلى آخر معتمداً على الذّاكرة التي هي معين المعرفة”([13]).
المطلب الأول: الذّاكرة وتوظيف التاريخ في إنتاج المعنى
من البراعة الشّعرية والمقدرة الفنية للشّاعر يقوم بتنظيم شعره وليس بمعزل عن التاريخ، ثم تأتي ذاكرته الإبداعيّة لاختيار ما هو مؤثر من التاريخ أي يحمل في طياته المواقف، والأحداث أو الشّخصيات التّاريخيّة التي تناسب الحالة التي يريد وصفها، وتحوليها إلى فن وإبداع شعري لا يندثر؛ لأن التاريخ ثراءً معنويًّا، يتكئ علية الشّاعر في إبراز صور شعريّة يعمل فيها خيال المبدع على إثارة ركن مهم من الصور الذّهنيّة المختزنة في القوة الذّاكرة لدى المتلقي، وعندما تُستثار هذه الصور المختزنة بفضل الصور أو المخيلات التي يطالعها أو يسمعها في القصيدة، يجد المتلقي نفسه حاضرًا أمام الصورة الكاملة للحادثة التّاريخيّة محيطًا بمواقف تلك الحادثة أو تلك الشّخصيّة من التّاريخ([14])، ومن ذلك قول الشّاعر
“للهوى في دمي
مدىً وبيوتُ
وطيورٌ
إذا أنام تموتُ
وسؤالٌ لطالما نسجته
في رؤى
غار لثغتي
عنكبوت”([15]).
يستذكر حمد محمود الدّوخي في النّص السّابق العمق التّاريخي الإسلامي، لقصة دخول الرسول (ص) وصاحبه إلى غار حراء وهو جبل مشهور بينه، وبين مكة ميل ونصف صعب المرتقى فيه شق مبارك([16])، اختفى بحرّاء من أذى المشركين، وقيام العنكبوت والحمامة على إخفاء وجود الرّسول (ص) وصاحبه عن طريق نسج خيوط العنكبوت على الغار ورقود الحمامة في عشها، لذا أفاد الشّاعر من فحوى القصة لكي يسهم في تذكير المتلقي بالمنسي في ذاكرته، ولكي يشركه في رحلة البحث عن المعنى الشّعري عند تعبيره عن هواية الذات عبر الدّوال اللسانية “مدىً وبيوت، وطيور، وسؤال” ايَّ علامات تعريفية عن ذات الشّاعر.
وفي قوله في قصيدة “ملصق على باب الوطن”:
“هذا عراقَكَ
ما كلَّت مناكِبُهُ
ولا تثاقلَ
من أسفاره كَتِفُ
الكلُّ يشهدُ
بالنصر العظيمِ بهُ:
نيسان الصبر
والأعلام والسُّرفُ
والخبز والناسُ،
والأيام والشَرَفُ،
والأنبياء، وآل البيت
والنجفُ”([17]).
عند التّمعن في النّص السّابق نلاحظ مجموعة من الدّوال الموصولة ببعدها التّاريخي منها:” الصبر، السُرف الأعلام، الناس،الخبز، الأيام، الأنبياء، آل البيت” وهذا ما يعيدُ إلى ذاكرة المتلقي لحظات عراقيّة معينة، منها صبرهم على البلاء والحروب، ومنها تكافلهم في وقت الشّدائد وتارة جنوحهم الدّيني كلها لحظات تاريخيّة مؤرخة في الذّاكرة الجمعيّة العراقيّة، وتؤرشف في الذّاكرة للأجيال القادمة، كما أنَّهُ استدعى مدينة النّجف الأشرف وهذا ما يعيد إلى ذاكرة المتلقي مجدها وعمقها التاريخي للمساهمة في ثراء شعرية النص.
وفي قوله في قصيدة “وصايا بابلية لتموز”:
“تموز..
أين دربي نحو أندلس؟
تموز..
باسمك مكتوب موشحنا
فاقرأ له الغيم
واغرق شهوة اليَبَسِ
تموز..
غرناطة تصبو لموعدنا
فاسمع نشيدي لتغفو أعين الحرس”([18]).
يتمحور توظيف الذّاكرة عن طريق استدعاء منطقة الأندلس وغرناطة اللتان لهما أرث ثقافيّ وحضاري في الذّاكرة الجمعيّة العربية، بكونهما مجدًا للفتوحات العربيّة عن طريق ابتكارهم الشّعري لفن الموشحات من خلال الدّوال التي وظفها الشّاعر “أين دربي نحو أندلس، غرناطة تصبو لموعدنا” وهذا ما يكشف لنا طريق المجد والحنين الجارف له وتيه الحاضر.
المطلب الثاني: الذّاكرة وتوظيف الأسطورة في إنتاج المعنى
عمد الشّاعر بما أوتي من مقدرة وبراعة فنيّة وذاكرة خصبة إلى استحضار العديد من الأساطير، وبلورة الرؤى والأفكار التي يرغب بإيصالها إلى المتلقي لأنّ “الأسطورة تجعل للشّعر طابعًا مميزًا في باب المعارف الإنسانيّة يميزه عن الفلسفة وعن العلوم التّجريبيّة ويجعله شعرًا([19])، وعودة الشّاعر إلى استحضار الأساطير لدلالات ذاتيّة أو رمزيّة أو سياسيّة. ومنها ما قام الشّاعر بتوظيفها أسطورة العنقاء “طائر خرافي كثر توظيفه في الشّعر الحديث وهو يرمز إلى الانبعاث من جديد، وتقول الأسطورة أن هذا الطائر ينبعث بعد احتراقه مثله في ذلك مثل طائر الفنييق ويضارع طائر العنقاء طائر السيمزغ عند الفرس، ويطلق على هذا الطائر في التّراث العربي اسم “عنقاء مغرب” فهو حيوان نصفه نسر ونصفه الآخر أسد (griffon)“([20])، فمحمد محمود الدّوخي كان من ضمن الشّعراء الذين استخدموا أسطورة العنقاء في قوله في قصيدة “البوح في حضرتك”
“الريح ناعورٌ، وشوقك أمةً
كانت تدورُك َ والوداع دلاءُ
كانت تفكَركَ الجهات مواقدًا
فاض الرماد وماتت العنقاء ُ
من سوف يُبعث فيك غيرك؟ يا الذي
شرح المكان وما احتواه فضاءُ”([21])
تغنى الشّاعر هنا بحبه للوطن؛ ويستذكر العمق التاريخي له عن طريق استدعاء أسطورة العنقاء أنّها رمز لخراب الواقع الذي حول الوطن إلى محرقة لا يرتجى انبعاثه من جديد؛ أيَّ يريد إيصال فكرة بتوظيفه الأسطوري بأن الوطن ليس له انبعاث آخر بدليل قوله (من سوف يُبعث فيك غيرك)، وهذا يعكس المفهوم الدلالي لطائر العنقاء.
وفي قصيدة “مشهد مباشر” التي يقول فيها:
“يحمل سكينًا
يبحث عن جسدٍ
فزَّ من الكأس
يجوب الليلَ
يميل الموج الأبيض
تحت خطاه
فينفخ في قرنِ الثور
مزاميرَ
يضحك منه الشارع ُ
والحاوي
يتبعه سرًّا
ليفسَرَ آخر لغز
في الطلسمْ
ينفخ أن الموت
الموت
سيأتي من ذلك اليمْ“.
الشّاعر يستحضر أسطورة شاعت في الذّاكرة الإنسانية في السطر الشّعري “فينفخ في قرن الثور” وهي أسطورة الأرض عندما كانت محمولة على قرني ثور وهي تتناغم مع المشهد الشّعري لبربريّة وجهل الإنسان المتمثلة مع بدائية الإنسان المتسمة بالتّهجير والقتل، إضافة إلى أنّ الثور يمثل في الثقافات رمزًا أسطوريًّا، “يرمز به القوة والخصب وهو إله العواصف عبده السومرين ويرمز عند الآشورين للحماية والرعاية فيضعونه على أبواب قصورهم وعند العرب كان يرمز للخصب والمطر”([22])، وهذا ما يجعل متن النّص يتحرك ضمن الفضاء الأسطوري.
كما أنّ “موضوع الجن يثير فضول المتلقي ويدفعه إلى الغوص في أعماقه؛ كونه جزءًا من معتقدات قديمة أعادها الإنسان المعاصر بتفاصيلها الدقيقة، وأضاف إليها صورًا جديدة، وألبسها حُلةً واقعية من نسج مخيلته الجريئة التي شكَّلت ملاذًا خصبًا للاعتقاد بوجود كائنات خفية تدير دفة الحياة، وتتحكم في مصير الآدميين”([23]) ما نجده في” قصيدة دمعتان”:
“أنا لا أجنّ
ولكنه صوت (ريّا)
يشق صياح الحداة
فيوقظ قبرة
تحت شوكة قلبي
فيوخزني الرمل
بالانتباه
وأدرك أنّ خان خطوي الدليل”([24])
يقوم النص السّابق على المرجعيّة الأسطوريّة “أنا لا أجنّ” وهذا ما “يستمد من الاعتقاد بعالم الجن، ما يلجأ ذهن المتلقي إلى تذكر الحكايّة الأسطوريّة الموصولة بعالم يسمى عالم الجن والتي تتناسل أمام وعي المتلقي، كما تشير السّرديات القديمة مكان يقطنه الجن بعالم الصحراء”([25]) وهذا ما وجدنا متغلغل في ذاكرة الشّاعر الفردية مما أثر على معجم قصيدته نحو” الحداة، قبرة، الرمل، الدليل”.
وفي قوله:
“الشّوق بي، شوق درويش إلى مَدَدِ
وأنت تموز.. لا تقَوى على البردِ
النخلَ تموز.. لا تبخلْ على بلح ٍ
قد عتَّق الجذع كأساً نشوةً لغدِ
تموز.. ما زالت الأقمار ساجدةً
رؤياك تموز ﴿لا تقصصْ على أحَدِ﴾”([26])
يتراءى للمتلقي ملامح أسطورة تموز بدوال اللسانية “البرد، النّخل، الجذع، البلح، الأقمار”؛ لأنّ الشّاعر أعاد المعنى الملازم لهذه الأسطورة لذاكرة المتلقي ألا وهي عودة الحياة في فصل الربيع وانبعاث الطبيعة معتمدًا على معجم الطبيعة، وجاء هذا التّوظيف لوظائف معينه منها الوظيفة الجماليّة؛ والأخرى سياسيّة من خلال هذا الاستدعاء لتلك الأسطورة والتّضرع له، كما أنّ جوهرها موت الخصب والنماء بسبب الساسة.
وفي قصيدة “تداعيات” التي يقول فيها:
“يبحث عن
قبرةٍ
لركضة المشدوه
في البلاد
يبحث عن عينٍ
لكي
ينهمرَ
الزيتون والرمادُ
يسأل عن امرأة
على جدارها
يمارس السراطْ
يزرع في سريرها
شقائق النعمانْ
ويقطف الأقراطْ”([27])
يستخدم حمد محمود الدّوخي دوال لغوية بأفعال مضارعة تتصدر مضمون النّص “يبحث، يسأل، يزرع” ليرمز بها إلى أسطورة شقائق النّعمان ليقدم لنا عمقًا شعريًّا للتعبير عن صورة الشّهيد حين يسيل دمه الطاهر من أجل أرضه، والمنبعث من التراب كمثل شقائق النعمان الحمراء وبصورتها الزاهية فيكون دم الشّهيد المبعث كحياة للمبدأ الإنساني.
المطلب الثالث: الذّاكرة وتوظيف الدّين في إنتاج المعنى
النص الشّعري لا يأتي من العدم أو الفراغ، بل من ذاكرة المبدع التي يستخدم بها معارفة، وثقافته الدّينيّة في لحظات إبداعيّة لتشكيل نصه، والإسهام في بلوغ غايته المنشودة لإقناع المتلقي بما يحمله من بعدٍ معرفيٍّ بالثقافة الدّينيّة التي نشأت في ذاكرته منذ الطفولة([28])، وفي الذّاكرة الجمعيّة العامة، لذا عمل على استحضار المفردة القرآنيّة ذات الدّلالة العميقة والشّخصيات المقدسة كمثل الأنبياء والأولياء الصّالحين([29])، وهذا ما يعطه تميزٌ في دلالات النصوص الشّعرية له.
في قوله في قصيدة “مما لا يحمله الماء”:
“أنا لا أموتُ
وفي يديَّ قصيدة ٌ
أمشي…
وينمو تحت خطوي مولدُ
من يقرأ الإنجيلَ
يشهد أنني وحدي العراقُ
وليس بعدي أحمدُ”([30])
تشكل الدّوال التّعبيريّة وتحديدًا في السّطر الأخير”وليس بعدي أحمدُ” البراعة الأدبيّة، والمنجز الشّعري للشّاعر بأن لديه حسًّا أزليًّا وبقاءً فريدًا بين الشّعراء كأنّه خاتمهم وهذا ما يجعل ذاكرة المتلقي تستحضر قوله: ﴿إِذۡ قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ يَٰبَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيۡكُم مُّصَدِّقٗا لِّمَا بَيۡنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَمُبَشِّرَۢا بِرَسُولٖ يَأۡتِي مِنۢ بَعۡدِي ٱسۡمُهُۥٓ أَحۡمَدُۖ فَلَمَّا جَآءَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ قَالُواْ هَٰذَا سِحۡرٞ مُّبِين﴾([31]) مع إجراء التّحوير المناسب لمضمون الآية السابقة لما يخدم دلالة المعنى الذي يريد إيصاله للمتلقي.
وفي قوله في قصيدة “كاظم غيلان”
“له أُمه ُ
وله همُّهُ
يستطيعُ الكلامَ كثيرًا
عن القمح
عن مفرداتِ الأغاني
وأسماء كتابها، يستطيعُ
لأنَّ الفتى سومريَّ
…
هو الفتى المشتعلُ الرأسِ شيبًا”([32])
المرتكز الجوهري في النص السّابق الذّاكرة التي صاغت صورة الجنوبي العراقي بسومريته، والعمق الحضاري له والحروب الذي أشعلت رأسه شيبًا وهذا ما يلفت الانتباه لذاكرة المتلقي لقوله تعالى: ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا [33]﴾ مع تعديل في البنيّة الدّلاليّة والنّحويّة للنّص القرآني فقد حولها الشّاعر من الصيغة الفعلية إلى الصيغة الاسمية لجعل القارئ أمام معنى ثابت.
وفي قوله في قصيدة “عذابات”:
“نفختك أيها القلم الأجفُّ
من الروح التي لا تستشفُ
فبح عن (كربلاء) وعن (حُسينٍ)
فداخل كل بيت فيه (طف)
وبدد غيمة حُبلى برأسي
ليمطر فوق زرع الروح سقف”([34])
تعمل الذّاكرة في هذا النّص على استحضار شخصيّة الأمام الحسين (ع) ثم يحيلنا إلى مشهد عمل على استحضاره من عمق ذاكرة التّاريخ، وهو ثابت في ذاكرة الزّمان وانعكس على ذاكرة المتلقي من خلال سحب الذّاكرة إلى قضية مقتل الحسين (ع) بأنّه رمز للحقّ، والعدالة، والحزن الأزلي.
وفي قوله في قصيدة “عذابات”:
“فأبي كان الصوت الأوِّل
يأتي من شرفات الطين هديلا
﴿لا تقصص رؤياك على أحد﴾
فالكل غبار المنعطفات يضيعه
أنت العاشق والمعشوق
فلا ترحل
ستفتش عنك سواقي اذار
فلا ترحل”([35])
عملت ذاكرة الشّاعر على تضمين المفردة القرآنية ونفخها ضمن سياق النّص لكن بشكل منفصل عن جذرها القرآني لكي يثري دلالته ولغاية جماليّة تمثلَتّ في ﴿لا تقصص رؤياك على أحد﴾ وهذا ما يسلط الذّاكرة إلى قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَىٰ إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا ۖ إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِين﴾([36]) ليوضح ذات شاعرة تستل من نفسها ذاتًا لكي تحاورها، والآخر هو الأب يدخل معه بحوار افتراضي، ويتميز هذا الحوار بشفافيّة في النّهي والكفّ عن العمل ولن يكن الزاميًّا لكن بواسطة التّرغيب والنّصح، وقام الشّاعر بتطويع النص القرآني وجعله جزءًا تركيبًا لكي يكتمل به المعنى.
الخاتمة
1- أسهمت الذّاكرة في بيان ثقافته التّاريخيّة، وصياغة نصه الشّعري عبر تقمصه بعض الشّخصيات التي لها حضور مميز في الذّاكرة الجمعيّة.
2- أكّد البحث ماهية التاريخ وبيان قدرته في رفد النتاج الشّعري بطاقه فنيّة عاليّة، فكشفت ذاكرة الشّاعر إمكانيّة تطويع الحادثة التّاريخيّة في إنتاج المعنى منها ما يتعلق بالذّات والآخر.
3- لقد أجادت ذاكرة الشّاعر لثقافته الواسعة، والطاقة الموسوعيّة له في توظيف الأساطير المتنوعة، منها أساطير صريحة وشائعة في الذّاكرة الجمعيّة للإنسان، ومنها الكائنات الأسطوريّة المرئية وغير المرئية جاء توظيفها داخل النص لأبعاد جماليّة أو ذاتيّة أو سياسيّة.
4- تعاملت ذاكرة الشّاعر مع اللفظ القرآني، والشّخصيّات الدّينيّة كشخصيّة الأنبياء والأولياء الصّالحين لأبعاد عدة منها نفسيّة سياسيّة اجتماعيّة.
الهوامش
1– طالبة دكتوراه في الجامعة الإسلامية في لبنان ، كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة قسم الدراسات العليا – قسم اللغة العربية وآدابها.
PhD student in Islamic University of Lebanon، Faculty of Arts and Humanities، Department of Graduate Studies – Arabic Language and Literature. Email: sdtqy76@gmail.com
[1] – الحسيني، ماجد حامد، وآخرون، موسوعة شعراء الموصل في العصر الحديث، ط1، دار نون للطباعة والنشر، نينوى، 1999م، ص. 70.
[2]– ينظر: المشهداني، إيثار، وآخرون: مبدعون سيرة ونتاجات أدباء محافظة صلاح الدين، ط1، 2016، ص 65.
[3]– الشّعر العراقي في مواجهة الحصار، قراءة في شعر الشّباب، د. ذنون الأطرقجي، أعمال ندوة الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، نینوی، ۱۹۹۹: ۲۸.
[4] – الحسيني ، ماجد حامد ، وآخرون ، موسوعة شعراء الموصل في العصر الحديث، ص 70.
[5]- ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم : لسان العرب ،تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمّد الشاذلي، (د. ط)، دار المعارف، القاهرة، (د. ت)، مادة: ذكر، ص 1507.
[6] – الذاريات: 55.
[7] – جبور عبد النور، المعجم الأدبي، ط2، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م، ص 117.
[8]– التهاوني، محمد علي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقدم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، مكتبة لبنان، ( ط1)، مكتبة لبنان، 1996م، ج1، ص 825.
[9] – د. جميل، صليبا: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، (د، ط) دار الكتاب العالمي، بيروت، 1994م، ج1، ص 585.
[10] – آندريه لالاند، موسوعة لا لاند الفلسفية – معجم مصطلحات الفلسفة التقنية والنقدية، تر: خليل أحمد خليل، إشراف: أحمد عويدات، ط2، منشورات عويدات، بيروت، مج1، 2001م، ص 1320.
[11] – ينظر، نور بير، سلامي: المعجم الموسوعي في علم النفس، ترجمة: وجية أسعد، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 2001م و ج3 وص 1127.
[12] – ينظر: د. محمد قاسم عبد الله، سيكلولوجية الذاكرة قضايا واتجاهات حديثة، (د، ط)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2003م، ص 29.
[13] – ينظر: الموسوعة الفلسفية، اشرف روزنتال ب يودين، ترجمة سمير كرم، ط3، دار الطليعة، بيروت، 1981م، ص 2201.
[14]– ينظر: د. جابر عصفور: الصورة الفنية (في التراث النقدي والبلاغي عند العرب)، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1992م، ص 298.
[15] – الدوخي، حمد محمود: ديوان عذابات الصوفي الأزرق، ط1، دار الشؤون الثقافية وزارة الثقافة العراق، 2012م، ص 75.
[16]– الفارسي، محمد بن أحمد بن علي ،تقي الدين: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ط1، دار الكتب العلمية، 1421 – 2000م، ج2، ص 369.
[17]– الدّوخي، حمد محمود: ديوان الأسماء كلها، ط1، دار المسار، بيروت – دبي، 2009م، ص 39.
[18]– …………………: ديوان مفاتيح لأبواب مرسومة، (د، ط)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2007م، ص 89.
[19]– عز الدّين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر “قضايا وظواهره الفنية والمعنوية”، (د. ط)، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م و ص 225.
[20] – شليقة أمينة وآخرون، توظيف الأسطورة في ديوان اللعنة والغفران لعز الدين ميهوبي، جامعة أكلي محند أو لحاج – البويرة -، كلية الآداب واللغات، 2014 – 2015م، (ليسانس)، ص 28.
[21]– الدوخي، حمد محمود: ديوان مفاتيح لأبواب مرسومة، ص 86.
[22] – أنور أبو سويلم، المطر في الشعر الجاهلي، ط1، دار عمار للنشر والتوزيع، 1407ه – 1987م، ص 154، 155.
[23]– خالد فريد مصطفى عياش، الجن في الأدب الشعبي الفلسطيني، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، 2018م (دكتوراه): ص 1.
[24]– الدوخي، حمد محمود، ديوان مفاتيح لأبواب مرسومة، ص 37.
[25]- ينظر: خالد فريد مصطفى عياش، الجن في الأدب الشعبي الفلسطيني، ص 5.
[26]– الدوخي، حمد محمود، ديوان مختارات عن الدفوف والمرايا، ط1، دار الاستقلال للثقافة والنشر، 2020م، ص 8، 9.
[27]– ………………..، ديوان مفاتيح لأبواب مرسومة، ص 39.
[28]– ينظر، الحصونة، حسين، مجيد: المرجعيات الثقافية الموروثة في الشعر الأندلسي عصر الطوائف والمرابطين، ط1، دار الإسلام، مصر، 2014م، ص . 21.
[29] – ينظر: محمد زرمان، استدعاء التراث الديني في الشعر الجزائري المعاصر – قراءة في نماذج شعرية، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة باتنة 1، المجلد 21، العدد 2، 2020م، ص 638، 639.
[30] – الدوخي، حمد محمود، ديوان عذابات الصوفي الأزرق، ص 75.
[31]– الصف: 6.
[32] – …………………: ديوان الأسماء كلها، ص 51.
[33]– مريم: 4.
[34] – …………………: ديوان عذابات، (د، ط)، دار الشؤون الثقافية في بغداد، 2002م، ص 14.
[35]– …………………..: ديوان مختارات عن الدفوف والمرايا، ص 18.
[36] – يوسف: 5.
المصادر والمراجع
القرآن الكريم
أولاً : المجموعات الشّعرية
1- الدوخي، حمد محمود: ديوان الأسماء كلها، ط1، دار المسار بيروت – دبي، 2009م.
2- ………………..: ديوان عذابات، (د. ط)، دار الشؤون الثقافية في بغداد، 2002م.
3-………………..: ديوان عذابات الصوفي الأزرق، ط1، دار الشؤون الثقافية وزارة الثقافة العراق، 2021م.
4- ………………: ديوان مفاتيح لأبواب مرسومة، (د. ط)، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2007م.
ثانيًا: الكتب
1- ابن منظور، جمال الدين أبو الفضل محمد بن مكرم: لسان العرب ،تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، (د. ط)، دار المعارف، القاهرة، (د. ت).
2- آندريه لالاند، موسوعة لا لاند الفلسفية – معجم مصطلحات الفلسفة التقنية والنقدية، تر: خليل أحمد خليل، إشراف: أحمد عويدات، ط2، منشورات عويدات، بيروت، مج1، 2001م.
3- أنور أبو سويلم: المطر في الشعر الجاهلي، ط1، دار عمار للنشر والتوزيع، 1407ه – 1987م.
4- التهاوني، محمد علي: موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تقدم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، ط1، مكتبة لبنان، مكتبة لبنان، 1996م، ج1.
5- جبور عبد النور: المعجم الأدبي، ط2، دار العلم للملايين، بيروت، 1984م.
6- جميل، صليبا: المعجم الفلسفي بالألفاظ العربية والفرنسية والإنكليزية واللاتينية، (د، ط) دار الكتاب العالمي، بيروت، 1994م، ج1.
7- جابر عصفور: الصورة الفنية (في التراث النقدي والبلاغي عند العرب)، ط3، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، 1992م.
8- الحسيني، ماجد حامد، وآخرون، موسوعة شعراء الموصل في العصر الحديث، ط1، دار نون للطباعة والنشر، نينوى، 1999م.
9- الحصونة، حسين، مجيد: المرجعيات الثقافية الموروثة في الشعر الأندلسي عصر الطوائف والمرابطين، ط1، دار الإسلام، مصر، 2014م.
10- ذنون الأطرقجي، الشعر العراقي في مواجهة الحصار، قراءة في شعر الشباب، أعمال ندوة الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، نینوی، ۱۹۹۹.
11- عز الدين إسماعيل: الشعر العربي المعاصر “قضايا وظواهره الفنية والمعنوية”، (د. ط)، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، 1967م.
12- الفارسي، محمد بن أحمد بن علي، تقي الدين: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، ط1، دار الكتب العلمية، 1421 – 2000م، ج2.
13- المشهداني، إيثار، وآخرون: مبدعون سيرة ونتاجات أدباء محافظة صلاح الدين، ط1، 2016.
14- محمد قاسم عبد الله: سيكلولوجية الذاكرة قضايا واتجاهات حديثة، (د. ط)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2003م.
15- الموسوعة الفلسفية، اشرف روزنتال ب يودين، ترجمة سمير كرم، ط3، دار الطليعة، بيروت، 1981م.
16- نور بير، سلامي: المعجم الموسوعي في علم النفس، ترجمة: وجية أسعد، منشورات وزارة الثقافة في الجمهورية العربية السورية، دمشق، 2001م وج3.
ثالثًا: الرسائل والأطاريح الجامعيّة
17- خالد فريد مصطفى عياش: الجن في الأدب الشعبي الفلسطيني، جامعة النجاح الوطنية، كلية الدراسات العليا، 2018م (دكتوراه).
18- شليقة أمينة وآخرون: توظيف الأسطورة في ديوان اللعنة والغفران لعز الدين ميهوبي، جامعة أكلي محند أو لحاج – البويرة – كلية الآداب واللغات، 2014 – 2015م، (ليسانس).
رابعًا: المجلاّت والدوريّات
19- محمد زرمان، استدعاء التراث الديني في الشعر الجزائري المعاصر – قراءة في نماذج شعرية، مجلة العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة باتنة 1، المجلد 21، العدد 2، 2020م.