التّسوّل في ميزان الإسلام دراسة مقارنة بين الشّريعة والقانون
Begging in the Balance of Islam
A Comparative Study between Sharia and Law
غازي شمص شمص([1])Ghazi Shams Shams
تاريخ الإرسال: 13-8-2024 تاريخ القبول: 30-8-2024
تحميل نسخة PDF
الملخص
تتناول المقالة موضوع التّسوّل كظاهرة اجتماعيّة وإنسانيّة، وتستعرض كيفيّة تعامل الشّريعة الإسلاميّة والقانون الوضعي معها، فتبرز الشّريعة الإسلاميّة كمنهج شامل يسعى إلى إصلاح الإنسان ومعالجة مشكلاته الاجتماعيّة من خلال أحكام شرعيّة، تعدّث التّسوّل جزءًا من هذه القضايا التي تستوجب حلولًا تراعي كرامة الإنسان وحقوقه، بينما يتبنى القانون الوضعي نهجًا أكثر صرامة في التّعامل مع المتسولين، فيصنف التّسوّل كجنحة تستوجب العقاب.
وتستعرض المقالة كيفيّة معالجة الشّريعة الإسلاميّة للتسول من خلال نظام الزّكاة والصّدقات، الذي يهدف إلى توزيع الثروة بشكل عادل وتقليص الفقر، ما يقلّل من الحاجة إلى التّسوّل. في المقابل، يركّز القانون الوضعي على الإجراءات العقابيّة كوسيلة للحدّ من الظاهرة، مع التّمييز بين أنواع المتسولين واتخاذ تدابير إصلاحيّة أو عقابيّة حسب الحالة.
تخلص المقالة إلى أنّ الشّريعة الإسلاميّة توفّر حلولًا متكاملة للتّسول تتماشى مع قيم العدالة والرّحمة، بينما يركّز القانون الوضعي على الحفاظ على النّظام العام من خلال العقوبات، بالإضافة إلى اعتماد نهج يجمع بين الجوانب الإنسانيّة والتّأديبيّة لضمان معالجة فعّالة لهذه الظاهرة الاجتماعيّة.
الكلمات المفتاحيّة: التّسوّل، الشّريعة الإسلاميّة، القانون الوضعي، الفقر، العدالة الاجتماعيّة.
The article addresses the issue of begging as a social and humanitarian phenomenon and examines how Islamic Sharia law and secular law deal with it. Islamic Sharia is highlighted as a comprehensive approach aimed at reforming individuals and addressing social problems through religious rulings, with begging being one of the issues that require solutions that respect human dignity and rights. In contrast, secular law adopts a stricter approach to dealing with beggars, categorizing begging as a misdemeanor that warrants punishment.
The article discusses how Islamic Sharia addresses begging through the system of zakat (almsgiving) and charitable donations, which aim to distribute wealth fairly and reduce poverty, thereby decreasing the need for begging. On the other hand, secular law focuses on punitive measures as a way to curb the phenomenon, distinguishing between different types of beggars and applying either corrective or punitive measures based on the situation.
The article concludes that Islamic Sharia provides comprehensive solutions to begging that align with values of justice and compassion, while secular law focuses on maintaining public order through penalties, alongside adopting an approach that combines humanitarian and disciplinary aspects to ensure effective handling of this social phenomenon.
Keywords: Begging, Islamic Sharia, Secular law, Poverty, Social justice.
المقدّمة
جاءت الشّريعة الإسلاميّة المقدسة لتنظم بأحكامها السمحاء حياة الإنسان من جوانبها كافة: الشّرعيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والسياسيّة، والثقافيّة، وذلك منذ الولادة وحتى الوفاة، بوصفها النّظام الإلهي المتكامل والتي تنظم حركة الإنسان بما يتلاءم مع طبيعته وخصائصه الإنسانيّة من جانب، وخلافته لله تعالى بما يتوافق مع الغاية من خلقه ووجوده من جانب آخر.
قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ﴾([1]).
وقد استطاعت الشّريعة الإسلاميّة من هذا الجانب أن تحارب العديد من الآفات والعادات والتّقاليد الاجتماعيّة التي كانت سائدة في الجاهليّة، منها: التّخلف، والجهل، والربا، والوأد، والفقر، أضف إلى المفاسد الاجتماعيّة والسّلوكيّة، كالكذب، والزنا، والسرقة، والخيانة، وقول الزّور.
وبذلك انتقلت الشّريعة بالمجتمع من حالة التخلّف والجهل والعبوديّة إلى حالة التقدّم والعلم والحريّة، وذلك ضمن الضوابط الشّرعيّة، وإلى التحلي بالقيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، ومن مجتمع مفعم بالعصبيات الجاهليّة، مجتمع يسلب فيه القوي حقّ الضعيف، ويمنع فيه الغني حقّ الفقير، إلى مجتمع العدالة والقيم الإنسانيّة.
وبالتالي، جعلت الشّريعة للحياة سننًا وقوانين، ووضعت للإنسان المؤمن في سلوكه وسيره في الحياة، وفي عبادته الله سبحانه وتعالى صفات لا يرتقي، ولا يستقيم دونها ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾([2]) ومن تلك الصّفات: العفة، والصّبر، والرجاء، والكرم، والعزة، والكرامة.
فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وفضّله وكرّمه على سائر مخلوقاته، وأمره بالعفّة، وعزة النفس، والابتعاد من كثرة السؤال، والاستغناء عن الحاجة إلى الناس.
مما تقدم تظهر دعوة الشّريعة إلى مجتمع متكافل متضامن، يأخذ فيه القوي بيد الضعيف، ويساعد فيه الغني الفقير والمحتاج، مجتمع تسوده قيَم التعاون والمبادئ والأخلاق، مجتمع لا يكون فيه الغني جشعًا ولا الفقير محتاجًا.
وفي مثل هذا المجتمع الإسلامي المتكامل، تختفي فيه الظواهر والبدع التي تحتاج إلى تفسير وبيان وبحثٍ عن الحلول باستمرار، وذلك من خلال معرفة الأسباب. ومن ذلك ظاهرة التّسوّل والتي تُعد من المشكلات المهمّة المتفاقمة التي يعاني منها العالم في هذا العصر، وأكثرها ظهورًا وأشدّها خطرًا على الأمة، وعلى كيانها الاجتماعي والاقتصادي وحتى السياسي والأمني.
وتفاقم هذه الظاهرة ترجع إلى انتشار الحروب، وما يرافقها من انتشار للفقر والجوع والهجرة وغير ذلك من الأمور المؤدية إلى فعل التّسوّل وغير ذلك من الموبقات والمفاسد.
لما كانت الشّريعة الإسلاميّة تسعى لتحقيق مجتمع متوازن ومتكافل، يعمّه السّلام والعدل الاجتماعي، فإنّها ترفض كافة الظواهر التي تعكر صفو هذا النّظام المثالي الذي تنشده. ومنها ظاهرة التّسوّل التي تتعارض بشكل مباشر مع المبادئ الإسلاميّة والقيم الإنسانيّة التي تدعو إليها.
فظاهرة التّسوّل لها آثار سلبيّة وسيئة على الفرد والمجتمع، وذلك لمنافاتها للشّريعة الإسلاميّة بشكل عام، وكذلك لتجريمها في القوانين الوضعيّة والتي نظرت إليها كجنحة يعاقب عليها، وخاصّة في القانون الوضعي اللّبناني، بالإضافة إلى القوانين العربيّة والغربيّة، والتي استعرضنا نماذج منها على سبيل المثال لا الحصر.
ومن خلال هذه المقدمة، جاء هذا البحث ليدرس بصورة واقعيّة أحكام المسألة والاستجداء (التّسوّل) في الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، والوسائل الكفيلة بمعالجتها والقضاء عليها كظاهرة تتنافى مع مبادئ الشّريعة الإسلاميّة السّمحاء، كما تناولت الموقف القانوني في بعض الدول كأمثلة، والتي أوجدت الحلول النّاجحة للمجتمع والإنسان.
أسباب اختيار الموضوع: تنبع أهمية اختيار موضوع التّسوّل من أنه يتطلب الأمر إلقاء الضوء على التأثيرات التربويّة لهذه الظاهرة، إذ يُلاحظ أن بعض الأطفال ينشأون في بيئة تشجع على التّسوّل وتتركهم عرضة للكسل وترك العمل، ما يتعارض مع قيم الإسلام التي تدعو إلى العمل والكسب الشّريف. كذلك، فإنّ إجراء مقارنة بين التّشريعات الإسلاميّة والقوانين الوضعيّة في معالجة هذه الظاهرة سيسهم في فهم دور النّظم الاقتصاديّة المختلفة في تعزيز أو مكافحة التّسوّل، ما يساعد في الخروج بتوصيات عملية لمعالجة هذه المشكلة الاجتماعيّة من منظور شامل.
إشكاليّة البحث: وفي ظل هذه الرؤية الشّموليّة التي تسعى إلى تحقيق مجتمع متوازن ومتكافل، تُطرح إشكاليّة البحث حول ظاهرة التّسوّل التي أثارت العديد من التّساؤلات الجدليّة. فكيف نظر الإسلام إلى هذه الظاهرة التي باتت تشكل خطرًا على النسيج الاجتماعي؟ وهل أباح الإسلام لأتباعه اللجوء إلى التّسوّل في حال ضاقت بهم سبل العيش، أم أنه وضع حلولًا جذريّة للتعامل مع هذه الظروف الصّعبة؟ وكيف تعامل القانون الوضعي مع هذه المشكلة، وهل استطاع تقديم حلول فعالة؟ وما هو تأثير النظم الاقتصادية المختلفة على انتشار التّسوّل؟ هذه التساؤلات تشكل جوهر الإشكاليّة التي يتناولها البحث، ساعيًا إلى استكشاف الإجابات من خلال دراسة مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي.
تعريف التّسوّل لغة: تُعرف كلمة “التّسوّل” لغةً بعدة معانٍ، تتعلق جميعها بفعل السؤال والاستعطاء. من هذه المعاني نجد:
أ ـ المسألة والسؤال والاستعطاء والاستخبار: والمسألة مصدر، وتُستعار للمفعول؛ فيقال: تعلمت مسألة ومسائل، وتُجمع على مسائل بالهمز، فإذا حذفوا الهمزة، قالوا: مَسَلَةٌ، والأمر منه سل([3]).
ويقال: سأل يسأل سؤلاً، ومسألة، وسآلة، وتسآلاً، وسالةً، وقد تُخفف همزته، فيقال: سال، يسال، لأن أصل السُؤال مهموز، غير أن العرب استثقلوا ضغطة الهمزة فيه، فخففوا الهمزة([4]) وللمبالغة يقولون: ويسمى الفقير سائلًا، ويجمع على سُؤال، والسائل الطالب([5]).
جاء في لسان العرب: “سألته الشيء: “بمعنى استعطيته اياه قال عز وجل﴿وَلا يَسْأَلْكُمْ أموالكُمْ﴾ ([6])، وقوله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾([7]).
والسؤال: استدعاء مال، أو ما يؤدي إلى المال، فإذا كان السؤال لاستدعاء مال، فإنّه يتعدى بنفسه أو بمن، نحو قوله تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا﴾([8]). وقال تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ ([9]).
ب ـ الإغواء مع التّزيين والتّحسين للشيء، حتى مع قبحه: ومن ذلك قوله تعالى: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً﴾([10])، أي: زيَّنت، وحسنت.
وقال الزبيدي: “وسول له الشيطان: أغواه” ([11]). قال الله تعالى:﴿الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ﴾ ([12])، ونقل الزبيدي عن الراغب قوله: (التّسويل): “هو تزيين النفس لما حرص عليه، وتصوير القبيح منه بصورة الحسن”([13]). وقال ابن الأثير: (والتسويل: تحسين الشيء وتزيينه وتحبيبه إلى الإنسان، ليفعله، أو يقوله)([14]).
ج- الاسترخاء: قال ابن فارس: (سوّل: السين والواو واللام: أصل يدل على استرخاء في شيء. يقال: سول يسول سولًا)([15]).
د- التمني: قال الزبيدي: (التسويل: تفعيل من السول، وهو أمنية الإنسان يتمناها، فتزين لطالبها وغيره من غرور الدنيا)([16]).
ولا تعارض بين هذه المعاني جميعها، فإنّ منها ما يعبر عن حقيقة التّسوّل، وهو الأول، ومنها: ما يعبّر عن تصور المتسوّل لمشروعيّة ما يصنع، وهو الثاني، ومنها: ما يعبّر عن نتيجة التّسوّل، أو عاقبته، وهو الثالث والرابع. وكأنّ التّسوّل سؤال المرء الناس، الناشئ من الإغواء المتمثل في التزيين والتّحصين لهذا السؤال، والذي عاقبته الاسترخاء، وتمني الغني والثراء.
تعريف التّسوّل اصطلاحًا: يعدّ مفهوم التّسوّل من المفاهيم الحديثة، إذ لم يذكر في كتب الاصطلاحات القديمة بمعناه الحديث، لذا تكفلت بذلك المعاجم الحديثة والتي عرّفته “أنّه طلب الصدقة من الأفراد في الطرق العامة، والمتسوّل: الشخص الذي يتعيّش من التّسوّل ويجعل منه حرفة له ومصدرًا وحيدًا للرّزق”([17]).
الفرق بين السؤال والتّسوّل (الاستجداء):
التّسوّل أخص من السؤال، والسؤال أعم، ذلك أن السؤال يشمل سؤال الله تعالى، وسؤال الناس أموالهم، وسؤال العلماء، وسؤال أهل العلوم والصناعة.
أما التّسوّل، فهو يختص بسؤال الناس المال والحاجات والعطايا، والسؤال حالة عامة تشمل جميع الناس بطبقاتهم الاجتماعيّة ومراتبهم الثقافيّة كافة.
بينما التّسوّل هو حالة تختص بها فئة معيّنة من الناس، وقد تتفاوت فيما بينها من حيث الأساليب والرغبات، فمنها ما يكون التّسوّل عن حاجة، ومنها من اتخذ من التّسوّل مهنة، والسؤال قد ينقلب إلى تسوّل حالة الالحاح في السؤال، لأنّ معنى التّسوّل هو الإلحاح في السؤال، وكذلك ينقلب السّؤال إلى معنى الكدية التي هي “كل ما جمع من طعام أو شراب، أو نحوه، فجعل كثبة، وهي الكداية والكداة، ويقال: أكدى، أي: ألحّ في المسألة، وتقول: لا يكديك سؤالي، لا يلحّ عليك سؤالي”([18]). بالاستناد إلى ما سبق الحديث به، يظهر أن مصدر كلمة التّسوّل ترجع إلى السؤال المتصف بالإلحاح على المسؤول الذي ينظر إليه كمتسوّل، لا كسائل، لشدة إلحاحه في الطلب إلى درجة إحراج المسؤول.
أو ما يمكن استنتاجه ما ورد أعلاه أن التّسوّل هو حالة من يبعثه الضعف والكسل على إلتماس الرزق بالذل والمسكنة من صدقات الناس.
نظرة قرآنية حول السؤال: حثّ الله سبحانه وتعالى عباده الحفاظ على كرامتهم ومكانتهم الإنسانيّة، وذلك من خلال السّعي نحو الرزق الحلال، والابتعاد من السؤال، والاستغناء عن الناس.
قال سبحانه وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾([19]). لقد اشارت بعض آيات القرآن الكريم إلى مسألة “السؤال“، وهذه الآيات إذا لم توضح بمعناها المراد منها، قد يفهم منها البعض في حال أخذت بعنوانها العام جواز “التّسوّل“، ومنها قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾([20])، فظاهر القول ضرورة إعطاء السائل وعدم رده، وهذا ما يشجّع على السؤال، وعلى “التّسوّل” إلّا أنّ الظاهر من التّفاسير أن الآية المذكورة تحمل على السائل عن العلم، وعلى السّائل للصدقة.
وفي تفسير الميزان: ﴿وأما السّائل فلا تنهر﴾، أيّ لا تزجره، فهو نهي عن إغلاظ القول، ولكن رده ببذل يسير أو رد جميل([21]). لذا، لا بدّ ألا يكون الإنسان المسلم قاسيًّا في ردّ السّائل لمنافاة ذلك خلق الإنسان المسلم والذي من الواجب عليه التحلّي بالأخلاق الحميدة، وعدم التّشبه بفعله بأفعال المنافقين والكفار، فـ”النهر هو الزّجر والرّد بغلظة”، “أي تزجره لفقره”([22]) وفي كلا الحالين هو إيذاء للسائل، فالغلظة ليست من خلق الإنسان المسلم، وكذلك زجر السّائل وإحقاره لفقره، فكلا الأمرين يرفضهما الإسلام، والنهي عن رد السائل لا يعني الرضا للمسلم بالتّسوّل.
ويظهر ذلك في قوله تعالى: ﴿لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً﴾([23]) أي من المؤمنين من لا سؤال لهم أصلًا، فلا يقع منهم إلحاف الذي هو بمعنى شدة الإلحاح في المسألة([24]).
ومن هنا يظهر لنا أن النظرة القرأنية ترفض أن يتّصف الإنسان المسلم بكثرة السؤال الذي يبلغ به حد التّسوّل، والذي هو أشد مراتب السؤال، وتدعوه إلى التّعفّف والاستعانة بالله الذي هو حسبه ونعم الوكيل، ولأنّ السؤال لغيره تعالى ذل ومهانة للسائل، والله عز وجل أراد العزة والكرامة لعباده.
السؤال في الأحاديث الشريفة: ما لا شك فيه أن التّسوّل ظاهرة منتشرة في العديد من الدول الإسلاميّة، وذلك نتيجة أسباب عدّة، منها: الكوارث الطبيعيّة، البطالة، الفقر، الهجرة الداخليّة، الهجرة من دول الجوار بسبب حرب أو فقر، أو الأمراض المزمنة…
ومن خلال هذه الأسباب وغيرها، نرى أن الكثيرين من هؤلاء المتسوّلين يحاولون التأثير على الناس بطرق متعدّدة، ومنها: استخدام الآيات والأدعية، واستغلال المناسبات الدّينيّة، وكثير من المتسوّلين يؤثرون بأدائهم في المسلمين، ويأخذون منهم الصّدقات والهبات والتّبرعات من غير وجه حقّ لذا كان لا بد للشّارع من التصدي لهذه الظاهرة، وخاصة في كونها ظاهرة تحمل في طياتها الكثير من الموبقات والفساد.
لذا، تلاقت المذاهب الإسلاميّة جميعًا على نبذ السؤال وذلك على تفصيل([25]) كظاهرة خطيرة؛ وذلك من جهة ما تتركه من آثار سلبيّة على العقيدة والإيمان، أو من جهة ما تحمله في طياتها من آثار سيئة على الفرد والمجتمع. لذا، ورد الكثير من الأحاديث والرّوايات التي تؤكد على رفض هذه الظاهرة، والتي تراوحت بين كراهية وتحريم، منها: ما روى عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله (ص): “ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزعة([26]) لحم”([27]).
وعن أبي سعيد الخدري “إنّ أناسًا من الأنصار سألوا رسول الله (ص)، فأعطاهم ثم سألوه، فأعطاهم حتى نفد ما عنده، فقال: ما يكون عندي من خير، فلن أؤخره عنكم، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاءً أوسع من الصبر”([28]).
وما نجده في ما سبق، نجده أيضًا في روايات أئمتنا الأطهار عليهم أفضل الصلوات والسلام وأحاديثهم، والتي تؤكد على رفض هذا السلوك في السؤال. ففي صحيحة محمد بن مسلم، قال: قال أبو جعفر (ع): “يا محمد، لو يعلم السائل ما في المسألة ما سأل أحد أحدًا”([29]).
وفي مرسلة الحسين بن حماد عن أحدهم، سمع أبا عبد الله (ع) يقول: “إياكم وسؤال الناس، فإنه ذل في الدنيا، وفقر تستعجلونه وحساب طويل يوم القيامة”([30]). وعن النبيّ (ص) أنه قال يومًا لأصحابه: ألّا تبايعوني؟ فقالوا: قد بايعناك يا رسول الله، قال: تبايعوني على أن لا تسألوا الناس، فكان بعد ذلك تقع المخصرة([31]) من يد أحدهم، فينزل لها، ولا يقول لأحد: ناولنيها([32]).
وعن رسول الله (ص) أنّه قال: الأيدي ثلاثة: يد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد المعطى أسفل الأيدي، فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم: إنّ الأرزاق دونها حجب، فمن شاء قنى حيائه، وأخذ رزقه، ومن شاء هتك الحجاب، وأخذ رزقه، والذي نفسي بيده لئن يأخذ أحدكم حبلًا، ثم يدخل عرض هذا الوادي، فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه، ثم يدخل السّوق، فيبيعه بمد تمر، فيأخذ ثلثه، ويتصدق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو حرموه([33]).
والواضح من الأحاديث والرّوايات أن المذاهب الإسلاميّة([34]) كافة ترفض مثل هذا الأسلوب من السؤال (التّسوّل) وإن كان ذلك على تفصيل في ما بينها، وذلك لما يحويه هذا الفعل من مساوئ وآثار تتجاوز الفرد إلى المجتمع والعقيدة؛ إذ إن هذا الفعل يصيب الإنسان في أخص مظهر لكرامته وإنسانيته، وهو وجهه، وهذا الفعل بعيد من الصفات التي من الواجب على المسلم أن يتحلى بها مثل العزة والكرامة والعفة.
ومن ثَمَّ مدح الله عز وجل في كتابه الكريم من تعفّف من الفقراء، فقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾([35]). وفي الآية إشارة إلى الفقراء الذين امتنعوا عن إظهار الحاجة والسؤال للناس، وهم بهذه الحال يحسبهم الجاهل بحالهم أغنياء من التّعفف دلالة على أنّهم غير متظاهرين بالفقر، إلّا ما لا سبيل لهم لسترهم من علائم الفقر([36]). والآية وإن وردت في أصحاب الرسول (ص) إلّا أنّها تتسع لتشمل من اتصف بهذا الوصف، فالعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما يقول الفقهاء([37]).
جواز السؤال وكيفيته: لا شك في أن الإسلام لم يحرّم أو يمنع عن شيء أو أمر إلا إبعادًا للأذى والضرر والفساد عن الإنسان، ويظهر ذلك من خلال مقاصد الشّريعة الإسلاميّة، وذلك لحكمة ظاهرة أو خفيّة لا يعلمها إلّا هو (عز وجل). ومع ذلك، لم يغلق الأبواب والمنافذ على الفرد حال الضرورة والحاجة التي لا بد عندها من اللجوء إلى السؤال، فيكون مخصصًا لعموم أدلّة التّحريم. فالمقصد الأول للشريعة هو حفظ النفس الذي يشمل:
- المحافظة على النفس من جهة الوجود.
- ضمان عناصر الحياة من ماء وغذاء وإيواء وكساء ودواء وأمن.
ومن أجل ذلك، أباح الإسلام المحظورات عند الضرورة في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾([38]). وكذلك في قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([39]). فهنا أجاز الشّارع ذلك، ولا بأس عليه، ففي صحيحة عبد الحميد بن عواض، قال: قال أبو عبد الله: لا تصلح المسألة إلا في ثلاثة: في دم منقطع([40])، أو غرم مثقل([41])، أو حاجة مدقعة([42]).([43]) ولكن الإسلام، على الرّغم من إباحته السؤال حالة الإضطرار، جعل لذلك ضوابط، لكيلا يقع السائل في المحظورات الشّرعيّة.
ضوابط السّؤال
1– عدم الإكثار والإلحاح في الطّلب والسّؤال: وذلك لكيلا ينقلب السؤال تسوّلًا، ويقع السّائل في المحذورات الناتجة عن التّسوّل، والتي قد تصل إلى حد الحرمة الشّرعيّة.
2- سؤال الأرحام: وهم ممن يمت لهم بصلة القربى، وخاصة من كان موسرًا منهم والذين هم أحقّ من الآخرين بتقديم واجب المساعدة والعون إليه، إمّا من خلال الواجب الدّيني عليهم، وإمّا من جهة الواجب الأخلاقي والعائلي من جهة كونه جزءًا منهم، وهم جزء منه.
3- سؤال الإخوان من المؤمنين: وهم المؤمنون الحافظون لسرّه ممن لا نجد فيهم شماتة أو سخرية، السّباقون إلى العطاء والمساعدة فعن أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة أنّه قال: “من شكا الحاجة إلى مؤمن، فكأنما شكاها إلى الله، ومن شكاها إلى الكافر؛ فكأنما شكى الله([44]).([45])
4– سؤال أهل الخير والعطاء: المقصود بأهل الخير والعطاء أصحاب الأموال، والنّفوذ الذين اعتادوا على تقديم المساعدة والعون للمحتاجين والسّائلين، وهدفهم من ذلك هو عمل الخير والأحسان من دون النظر إلى هوية السائل المحتاج.
5- سؤال المؤسسات والجمعيات الخيريّة: وهي الجمعيّات الإنسانيّة الخيريّة التي تهدف إلى مساعدة المحتاجين والفقراء والضعفاء في المجتمع، وهي بدورها هذا تعمل على حلّ جزء من المشاكل الاجتماعيّة والإنسانيّة وأمثال هذه المؤسسات كثيرة في مجتمعاتنا، ويمكن للسائل أن يقصد واحدةً منها؛ تبعًا للحاجة أو المشكلة التي يعاني منها، وهي تقوم بمساعدته، أو بإيجاد المساعدة له.
الموقف من التّسوّل
1 ـ الموقف الشرعي: منعت الشّريعة الإسلاميّة أبناءها من اللجوء حال الحاجة إلى التّسوّل منعًا باتًا، وذلك لما يتضمنه من إذلال للنّفس، وبذل لماء الوجه، ولأن التّسوّل يصيب الإنسان في أخص خصائص عزته وكرامته، وقد أشارت الأحاديث والرّوايات إلى كراهية “التّسوّل”، وإظهار الحاجة والسؤال، فعن أبي عبد الله (ع) أنّه قال: قال: رسول الله (ص) “ولا تسألوا أمتي في مجالسها فتبخلوها”([46]). لذلك، دعت الشّريعة الإسلاميّة أبناءها إلى الابتعاد من مظاهر السؤال كافة وإلى المحافظة على عزتهم وكرامتهم؛ وذلك عبر التّرفع عن الدنايا، ومنها: التّسوّل.
عن علي(ع) انه قال: “من كرمت عليه نفسه، هانت عليه شهواته”([47]). كما دعتهم إلى العفة والتّعفف، وعدم إظهار الحاجة إلا لله عز وجل، وعن أبي عبد الله عليه أفضل السّلام أنّه قال: “رحم الله عبدا عفّ وتعفف فكفّ عن المسألة، فإنّه يتعجل الدّنيّة، في الدنيا، ولا يغني الناس عنه شيئًا، قال: ثم تمثل أبو عبد الله (ع) ببيت حاتم:
إذا ما عزمت الياس الفيته الغنى | إذا عرفته النفس والطمع الفقر([48]) |
والنتيجة هي أنّ التّشريع الاسلامي حرم التّسوّل، وسد أبوابه، ففي وسائل الشّيعة: أنّ الإمام أمير المؤمنين(ع) كان يمشي في أزقة الكوفة، فنظر إلى رجلٍ يستعطي الناس فقال(ع): ما هذا؟ فقالوا: إنّه نصراني كبُرَ وشاخ، ولم يقدر على العمل، وليس له مالٌ يتعيش فيتكفف الناس. فقال الإمام علي (ع) في غضب: “استعملتموه على شبابه، حتى إذا كبُرَ تركتموه”([49]). ثم جعل الإمام(ع) لذاك النّصراني من بيت المال المسلمين مرتباً خاصاً ليعيش به حتى يأتيه الموت([50]).
وبالرغم من هذا التحريم للتسوّل في التشريع الإسلامي، وسدّ أبوابه، فإنّه ترك ذلك في الظروف الإستثنائية، وحال الضرورة الشديدة. مثال: إنقاذ نفس، أو غرم شديد، أو شدة يندى له الجبين، وقد جاء ذلك في معرض حديثنا عن جواز التّسوّل حال الضرورة.
2 ـ الموقف القانوني: في واقع الأمر، لم تتناول القوانين والأنظمة الوضعيّة ظاهرة “التّسوّل” كمشكلة اجتماعيّة وحالة إنسانيّة تحتاج إلى المعالجة، بل نظرة إليها كظاهرة سلبيّة وخطيرة، تهدد أمن المجتمع واستقراره، فالمتسوّلون بنظر تلك القوانين ليسوا من أصحاب الحاجات والعوز، بل هم فئة خارجة عن المألوف من العادات والتّقاليد الاجتماعيّة، لأنّ فيهم مظنة من يدعون الحاجة، وليسوا أهلًا لذلك، وكيف ذلك، وفي مجتمعنا لا تتوافر المساعدات الاجتماعيّة التي توفر لذوي الدخل المحدود الاحتياجات الضروريّة وتبعدهم من الحاجة المؤدية للتسوّل والتشرّد؟!
فقوانين الضمان الاجتماعي لم تتطرق أنظمتها إلى هذه الظاهرة، ولا إلى وسائل معالجتها وكيفيّة التّعامل معها، كما أنّ أنظمة وزارة الشؤون الاجتماعيّة لم تلحظ أيضًا المتسوّلين ضمن نطاق دائرة اهتماماتها وواجباتها، فاهتمت بالأسر الفقيرة، وبالمعوقين وذوي الحالات الخاصة، وبالأمور الإنمائيّة، وغفلت عن ظاهرة التّسوّل كظاهرة خطيرة تهدد الأمن الاجتماعي.
أمّا من النّاحية القانونيّة، فإنّ قانون العقوبات في بعض الدّول العربيّة، وحتى الأجنبيّة، يعرف المتسوّل: أنّه من ليس له موارد عمل، أو كان يستطيع الحصول على موارد عمل، واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان صراحة، أو تحت ستار أعمال تجارية([51])، وهو ما دفع واضع هذا القانون إلى توقيع عقوبة الحبس التي تصل إلى مدة شهر على الأقل، وسنة على الأكثر، لمن يمارسه من دون وجه حق، أضف إلى وضع فاعله في دار للتّشغيل، والقضاء بهذا التّدبير وجوبًا في حالة التكرار. لما كان التّسوّل طريقًا من طرق الكسب غير المشروع، وسببًا من أسباب الجنوح نحو الجريمة، لذا عدَّ التّسوّل جنحة يعاقب عليها القانون، وبالنظر إلى القوانين الوضعيّة وضعف تطبيقاتها في الواقع نجد أن هذه القوانين لم تقف حائلًا دون نشوء حالة التّسوّل، وظهورها في أنحاء وجوانب عدة، من المجتمع وبأشكال متنوعة ولم تقضِ عليه بصورة نهائيّة، وإن كانت تحد منه حينًا، أو تمنع من تصاعده وانتشاره أحيانًا أخرى.
وهو ما اتفقت عليه معظم القوانين الوضعيّة المعمول بها في معظم الدّول العربيّة، وبعض الدّول الأجنبيّة والتي سوف نذكر نماذج منها على سبيل المثال، كالآتي:
القانون اللبناني: يحظر القانون اللبناني التّسوّل من خلال المواد 610 و611 و612 و613، إذ تعاقب المادة 610 أولئك الذين لديهم موارد، أو القدرة على العمل ويطلبون الصدقة لمنفعتهم الخاصة، بالحبس مع التّشغيل لمدة تتراوح بين شهر وستة أشهر، بالإضافة إلى إمكانيّة وضعهم في دار للتشغيل في حالة التكرار. وتشير المادة 611 إلى أن من يدفعه الكسل أو إدمان الكحول أو المقامرة للاستجداء يعاقب بنفس العقوبة، ويمكن للقاضي منعه من ارتياد الحانات. وتنص المادة 612 على معاقبة من يغادر مؤسسة خيريّة ويتسوّل، حتى لو كان عاجزًا، بالحبس لمدة شهر إلى ستة أشهر. أمّا المادة 613، فتحدد حالات الاستجداء التي يعاقب عليها القانون، وتشمل الاستجداء بالتّهديد أو بالتّظاهر بجروح أو حمل أسلحة، وتصل العقوبة فيها إلى الحبس من ستة أشهر إلى سنتين مع التّشغيل، أو الحبس البسيط إذا كان عاجزًا. بالإضافة إلى ذلك، تعاقب المادة 617 على ترك القاصر متشردًا بعقوبة الحبس أو الغرامة، بينما تنص المادة 618 على معاقبة من يدفع قاصرًا إلى التّسوّل بالسّجن من ستة أشهر إلى سنتين. يهدف القانون اللبناني من خلال هذه المواد إلى التّصدي لظاهرة التّسوّل، ومحاسبة المسؤولين عن انتشارها، سواء أكانوا الأفراد أنفسهم أو أولياء أمورهم.([52])
وهكذا نرى أن القانون اللبناني يمنع ويتصدى لظاهرة التّسوّل، ويُعدُّها جنحة، ويُعاقب عليها، بالإضافة إلى ملاحظته للأسباب المؤدية للتسوّل وشمول مواد العقوبات المتسببين في هذه الظاهرة، وتحميلهم جزء كبير من المسؤوليّة، وذلك غالبًا ما يكون المتسوّل متشردًا أو قاصرًا أو مدفوع إلى ذلك التّسوّل عبر تسلط أو قهر وغير ذلك مما قد يمارس عليه.
قانون العقوبات السّوري: عرف القانون السّوري المتسوّل وفاقًا لنص المادة 596 من قانون العقوبات العام “المتسوّل” بأنه من ليس له موارد وعمل، أو كان يستطيع الحصول على موارد عمل، واستجدى لمنفعته الخاصة الإحسان العام في أي مكان صراحة، أو تحت ستار أعمال تجارية. ورأى المشرع السّوري المتسوّلين والمشردين أشخاصًا خطرين بسبب عادات حياتهم وفاقًا لعنوان الباب العاشر من قانون العقوبات العام. أمّا عقوبة التّسوّل تحديدًا، فقد نصت عليها المادة 596 من قانون العقوبات السّوري والتي تحكم بالحبس مع التّشغيل لمدة شهر على الأقل وسنة على الأكثر، ويمكن أن يوضع في دار للتشغيل وفاقًا للمادة 79، ويقضي بهذا التّدبير وجوبًا في حالة التكرار.
قانون العقوبات البحريني: عرف القانون البحريني المتسوّل أنّه كل شخص يستجدي صدقة أو إحسانًا في الأماكن العامة أو الخاصة، حتى وإن كان غير قادر على العمل. ويُعدُّ كذلك كل من يعرض سلعًا تافهة أو يقوم بألعاب استعراضيّة بقصد التّسوّل. بالإضافة إلى ذلك، يُعدُّ متسوّلاً كل من يصطنع إصابة أو يستخدم الأطفال أو وسائل غش أخرى لاستدرار عطف الجمهور. وقد صدر القانون رقم (5) لسنة 2007 لمكافحة التّسوّل والتشرد، مشيرًا إلى خطر هذه الظواهر، وينطبق هذا القانون على جميع الأشخاص دون استثناء، مع الأخذ في الحسبان الجانب الإنساني والرحيم في بعض مواده. حددت المادة السّابعة من هذا القانون عقوبة التّسوّل، إذ يعاقب بالحبس مدة لا تتجاوز سنة وبغرامة تتراوح بين خمسين ومائة دينار، أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من عاد إلى التّسوّل أو التّشرد بعد خضوعه للرعاية الاجتماعيّة. أمّا من يحرض على التّسوّل أو يستخدم حدثًا بغرض التّسوّل، فتصل عقوبته إلى الحبس لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وإذا كان المحرّض وليًا أو وصيًا أو مكلفًا برعاية الحدث، فقد تصل العقوبة إلى الحبس لمدة لا تقل عن ستة أشهر، وقد تمتد إلى ثلاث سنوات.
قانون العقوبات الكويتي: جاء في القانون الكويتي الذي وافق عليه مجلس الأمة، وهو قانون رقم (3) لسنة 1983م في شأن الأحداث من الباب الأول تحت عنوان أحكام عامة: مادة رقم (1):
1- الحدث كل ذكر أو أنثى لم يبلغ من السن تمام السنة الثامنة عشرة.
2- الحدث المنحرف: كل حدث أكمل السنة السّابعة من عمره، ولم يبلغ تمام الثّامنة عشر، وارتكب فعلًا يعاقب عليه القانون.
الحدث المعرض للانحراف: يُعدُّ الحدث معرضًا للإنحراف إذا وجد متسوّلًا، أو مارس عملًا لا يصلح موردًا جديًّا للعيش.
قانون العقوبات الجزائري: كما أن قانون العقوبات الجزائري في المادة 195، “ويعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر كل من اعتاد ممارسة التّسوّل في أي مكان كان، وذلك على الرّغم من وجود وسائل التّعيّش لديه، أو إمكانه الحصول عليها بالعمل، أو بأية طريقة مشروعة أخرى.
كما نصت المادة 195 يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى سنتين كل من يتسوّل بقاصر لم يكمل 18 سنة، أو يعرضه للتسوّل. تضاعف العقوبة عندما يكون الفاعل أحد أصول القاصر أو أي شخصٍ له سلطة عليه”([53]).
القانون الفرنسي: عرفت محكمة النّقض والإبرام الفرنسيّة التّسوّل بأنه هو التقدم بطلب الإحسان من الغير بغية الحصول على مساعدة مجانيّة من دون تقديم أي شيء في مقابلها تكون له قيمة تذكر. وقررت أن التّسوّل يتحقق، سواء أكان طلب الإحسان قد وجه مباشرة، أو أخفى تحت ستار عمل تجاري لا شيء فيه من الجدّ أو الحقيقة، كبيع أوراق خطابات أو دبابيس أو علب ثقاب أو ما شاكل ذلك([54]). وقد نص القانون الفرنسي على معاقبة المتسوّل، فقد جاء في المادة (227) من القانون الجنائي فقرة (20) ما نصه: كل من حرض حدثًا لم يكتمل من العمر 18 عامًا بشكل مباشر على القيام بأفعال التّسوّل، يعاقب بالحبس الذي لا يزيد عن سنتين، وبالغرامة التي لا تزيد على 30000 فرنك، وإذا كان حدث السّن لا يتجاوز (15) سنة تصبح العقوبة بالحبس الذي لا يزيد على ثلاث سنوات، والغرامة لا تزيد على (50000) فرنك([55]).
مما تقدم، نجد أنّ معظم القوانين الوضعيّة تجرم المتسوّل، ولا تقرّ له بحاجته، ولا تضع الحلول الجذرية لحل هذه المشكلة. لذا، لا نجد إلّا بعض المواد التي تلحظ ذلك، ولكن التطبيق لا يزال ضعيفًا في معظم الدول العربيّة والإسلاميّة.
القانون الأمريكي: أمّا القانون الأمريكي، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكيّة أثناء الأعوام من سنة 1800م وما بعدها تجرم التشرّد، وتعاقب على التّسوّل، وكذلك على السّمعة السيئة بل أيضًا على مجرد التسكّع في الشوارع من دون وجود سبب مشروع لذلك([56]). ولكن مع بدايات القرن العشرين وتطور الفلسفات العقابيّة، وتفعيل دور التشريعات الاجتماعيّة في مواجهة الفقر، والحريّات، والبطالة، والتّسوّل، انتقل المتسوّل مع نهايات القرن العشرين مع بعض سياسات الدّول من الجاني إلى الضحيّة، وأصبح تقديم المساعدة للمتسول بدل العقاب.
وانقسمت القوانين إلى قسمين:
ـ سياسات لا تجرّم فعل المتسوّل.
ـ سياسات تجرّم فعل المتسوّل.
فالدّول التي أجرمت فعل التّسوّل اتجهت مع تطور السياسات الاجتماعيّة والجنائيّة إلى رفع التجريم، والأخذ بمبدأ المسؤوليّة الجماعيّة لمعالجة الفقر. ومن الدول التي اتجهت هذا الاتجاه فرنسا التي ألغت تجريم التّسوّل العام 1994م، وبذلك رفعت المواد الخاصّة بتجريم التّسوّل في التّشريع العقابي الفرنسي القديم. وأبقت على مادة واحدة تقضي بمعاقبة من يفرض حدثًا صغيرًا على التّسوّل. ممّا تقدم، نجد أنّ القوانين الوضعيّة في العالم العربي تجرّم التّسوّل ولا تقر له بحاجته، ولا تضع الحلول الجذريّة لحل هذه المشكلة بينما نجد بعض الدول الغربيّة وخاصّة مع بدايات القرن العشرين أخذت تتجه إلى إلغاء جرم التّسوّل والعقاب، وذلك بإيجاد حلول أخرى تتوافق مع التطور الاجتماعي والسياسي.
التّسوّل بين مقاصد الشّريعة وأهداف القانون: مما سبق يُعدُّ التّسوّل ظاهرة اجتماعيّة وإنسانيّة بشكل عام، ولذا فهو موضوع مهم. وتكمن الأهمية في آثاره السلبيّة على الفرد المتسوّل بالإضافة إلى البيئة الاجتماعيّة التي ينتمي إليها، ونظرًا إلى انتشار هذه الظاهرة في المجتمعات الإسلاميّة بما تحمله من مخاطر ومساوئ، لذا اعتنت الشّريعة الإسلاميّة بها، وعملت على معالجتها كسائر الظواهر المشابهة لها كالبطالة وغيرها. ولا غرابة في ذلك ما دامت الشّريعة الإسلاميّة تحمل في طيّاتها الحلول المعالجة لكثير من المسائل والمشكلات الإنسانيّة والاجتماعيّة. ولا عجب أيضاً، ما دامت الشّريعة الإسلاميّة هي شريعة حياة.
1 ـ مقاصد الشّريعة: الشّريعة الإسلاميّة من حيث كونها شريعة حياة، كان من أولى أهدافها إصلاح الإنسان والذي هو أحد مقاصدها المهمّة، لأنّ الهدف منه هو الإنسان الذي هو محور الحركة في الحياة، لذا أرسل الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل، بالشّرائع والرّسالات السّماوية. وذلك من أجل هداية الناس وتبصرتهم في أمور حياتهم، وكانت الشّريعة الإسلاميّة خاتمة تلك الرّسالات، والنّبي محمد (ص)، خاتم الأنبياء. لذا امتازت الشّريعة الإسلاميّة من غيرها من الشّرائع بشمولها مجالات حياة الإنسان كافة، فكانت دستورًا إلهيًّا كاملًا ومتكاملًا، سواء في العقيدة والعبادة أو في الأخلاق والسّلوك والمعاملات، وكذلك كانت نظامًا سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وتربويًّا، قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾([57]).
وقال سبحانه وتعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾([58]).
وخلاصة القول إن حفظ النظام العام وصلاحه من مقاصد الشّريعة الإسلاميّة المهمّة، وما لا شكّ فيه كما تقدّم في بحثنا هذا أنّ التّسوّل من الظواهر المستهجنة في المجتمع لأنّها تؤدي إلى اختلال النظام العام وهذا يجعل ظاهرة التّسوّل مخالفة ومتناقضة مع مقاصد الشّريعة الإسلاميّة.
2 ـ أهداف القانون: يهدف القانون، والمقصود هنا قانون العقوبات إلى تحقيق أهداف ثلاثة هي الآتية:
أ – حماية المصالح المشتركة للافراد والمجتمع: وذلك يكون على مستويات متعددة منها:
– جسديّة، كالحق في الحياة وسلامة الجسم.
– ماديّة، كحماية الحقوق والمصالح الاقتصادية.
– أدبية، مثل مسائل الشّرف والاعتبار، فالجسديّة تتحقق في المعاقبة على القتل والإيذاء مثلًا، والاقتصاديّة تتحقق في المعاقبة على السّرقة وإساءة الأمانة والإفلاس والاحتيال. والتسوّل جزء منه، فللاحتيال أبواب كثيرة: يلجأ إلى بعضها المتسوّلون، أمّا المصالح والحقوق الأدبيّة فتظهر حمايتها في المعاقبة على القدح، والذّم، والتحقير وما إلى ذلك، والمصالح الأدبيّة في القانون تتسع لتشمل مسائل (الشّعور الدّيني) و(الحقوق والواجبات المدنيّة) والمصالح السياسيّة للدولة.
ب ـ توفير الطمأنينة للأفراد: وهذا القانون يخضع لمبدأ عدم اعتبار فعل، جريمة، إلا بوجود النص المكتوب، وهذا المبدأ يوفر للأفراد مسبقًا معرفة ما هو ممنوع فيتجنّبوه، وما هو مباح فيمارسونه، وقد كفلت معظم القوانين هذه الطمأنينة للأفراد بإيراد النّص على مبدأ شرعيّة الجرائم والعقوبات المعروف بمبدأ، لا جريمة ولا عقوبة من دون نص. فهذا المبدأ يوفر للأفراد الطمأنينة والأمان وذلك لمعرفتهم المسبقة بكيفيّة تحقق الجرم وانطباق العقاب عليه. والتّسوّل بنظر القانون يُعدُّ جنحة يعاقب عليها، كما سبق وأشارت إلى ذلك المواد القانونيّة الخاصة بالتّسوّل.
ج ـ تحقيق العدالة: والعدالة لا تتحقق بترك الجريمة من دون جزاء. وهذه مسألة أخلاقية، حلت في الفكر الإنساني في محل الإنتقام، والتّسوّل لا يُعد جريمة في القانون بل هو جنحة ومع ذلك تشمله العقوبة، فالقانون لا ينظر إلى التّسوّل كحالة وظاهرة إنسانيّة واجتماعيّة، بل هو يطبق القانون عليه كجنحة. أمّا العلاج فيتركه لمؤسسات أخرى تعنى بذلك. فالعدالة في القانون تكون بتطبيقه على الجرم؛ أمّا المسائل الأخرى كالتسامح والمغفرة وغيرها فلا يُعنى بها.
مقارنة بين وسائل الشّريعة الإسلاميّة والقانون في معالجة ظاهرة التّسوّل: لكلّ من الشّريعة والقانون وسائل في معالجة التّسوّل، فمعالجة الشّريعة، كان بتطبيق التّشريع الإلهي المتكامل والسابق على التشريع القانوني، والقانون عالج مسألة التّسوّل من طريقين: طريق العقاب وطريق العلاج. العقاب هو عن طريق وضع المواد الرادعة عن فعل التّسوّل، بالإضافة إلى سن التشريعات الاقتصادية والاجتماعيّة ثم إنشاء ودعم الجمعيات التي تُعنى بذلك.
1ـ وسائل الشّريعة والقانون: في معالجة مشكلة التّسوّل نجد اختلافا بين وسائل الشّريعة في المعالجة، ووسائل القانون سواء على مستوى النّظرية أو على مستوى التطبيق، فالشّريعة تنطلق من خطاب إلهي شمولي ديني عقائدي ثابت لا يتغيّر مع تغيّر حدود بلاد أو لون جنس بشري، أو مرور الزّمن، وهذا الخطاب الديني يترجم عمليًّا بالشّريعة وهي الدستور الإلهي الكامل والمتكامل والذي لم يترك مسألة، أو مشكلة إلا وأوجد لها حلاً ومن ضمنها ظاهرة التّسوّل، فقد حاربها وعالجها الإسلام في الوقت ذاته، حاربها بسبب ظاهرها الاجتماعي، وتأثيراتها السلبيّة من جهة، وبسبب ما تحمله من إهانة للإنسان وحقه في الحياة الكريمة، فالشّريعة جاءت بالحق، ونجد ذلك في قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾([59]).
الحقّ هو الخطاب والحقوق هي الأساس. فالشّريعة بخطابها للفرد تدعوه لصون الحقوق وأول تلك الحقوق هي حقّ الله، وثانيها حق الناس عليه، وثالثها حقّ نفسه عليه فصون الحقوق هو من أوجب الواجبات، لذلك لم تتهاون الشّريعة في مسألة التّسوّل نظرًا لما تحمله من المسكنة والمذلّة، وفي بعض الأحاديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: “إنّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوّض إليه أن يذلّ نفسه، وقيل: وكيف يُذلّ نفسه؟ قال: يتصرّف لما يطيق، أو يدخل في ما يتعذّر منه([60]) وجاء في الكلمات القصار في نهج البلاغة: «الطامع في وثاق الذل”([61]).
وهناك حديث في رسالة الحقوق للإمام السجاد (ع) يشير إلى أهمية الحقوق في حياتنا، وبداية الحديث قوله: “اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقًا محيطة بك في كل حركة حركتها أو سكنة سكنتها أو منزلةٍ نزلتها أو جارحة قلتها أو آلة تصرفت بها بعضاً أكبر من بعض…”([62])
والإمام يشير بذلك إلى أنّ الإنسان محاط بالحقوق في كل حركاته وسكناته لذا فهو مطالب بتلك الحقوق ولا سيما حق نفسه، فواجبه المحافظة عليها وإبعادها عن كل ما يؤدي إلى إذلالها وإهانتها كالتّسوّل وما شابهه. أمّا الخطاب القانوني فهو ينطلق من مجموعة قواعد تنظّم نشاط الأشخاص في المجتمع وتقوم على احترامها سلطة عامّة توقع الجزاء على من يخالفها([63]).
من هذا التّعريف نجد أنّ القانون في معالجته لمشكلة التّسوّل انطلق بخطاب موجّه إلى فئة اجتماعيّة معيّنة بالمكان والزّمان، قاعدة قابلة للتغيير، فالقانون مرآة للبيئة التي ينطبق فيها، وهو قانون وضعي وضعه الإنسان بما يتفق مع واقعه، ذلك أنّ لكل مجتمع دينه وتقاليده، وأعرافه، وعاداته، لذا كان حتمًا أن يختلف القانون من دولة إلى أخرى، فالمشرع حين ينصّ القانون يأخذ بوصفه البيئة التي سوف يطبق فيها القانون بجوانبه كافة، وذلك ليكون قابلًا للتنفيذ، وهكذا تعامل القانون مع ظاهرة التّسوّل في المجتمع، فعدَّه جنحة يُعاقب عليها، فحكم بذلك عقابًا وعلاجًا، وذلك في قوانين نصّت لذلك هذا في الخطاب، أما في الآليات المستخدمة فهي على نوعين منها عقابيّة ومنها علاجيّة.
2ـ نتائج الشّريعة والقانون: الإسلام، كدين رحمة للبشرية، يعكس هذه الرحمة في الشّريعة الإسلاميّة التي تفاعلت مع المتسوّلين على أنّهم أناس يحتاجون للمساعدة. وعلى الرّغم من نبذ الشّريعة للتسوّل وعدِّه مكروهًا، لم تفرض عقوبات قاسية عليه، بل نهت عنه بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة، محتسبة أنّ الحاجة لا تعد جريمة ما دام الظاهر هو العوز. وقد عالجت الشّريعة هذه الظاهرة من خلال توزيع الحقوق الشّرعيّة كالزكاة والخمس والصدقات على مستحقيها، بما في ذلك المتسوّلون. في المقابل، تعاملت معظم قوانين الدّول مع التّسوّل على أنّه جنحة يعاقب عليها، مع تحديد العقوبات تبعًا لأشكال المتسوّلين وأقسامهم، وتشمل العقوبات السجن أو تأهيل القُصّر أو فرض العقوبة على من يساعد في التّسوّل. بالإضافة إلى ذلك، وُضعت تشريعات اجتماعيّة وإنسانيّة لمساعدة المتسوّلين والفقراء، مثل تشريعات الضمان الاجتماعي. ومع ذلك، لم تستطع هذه التّشريعات إيجاد حل جذري وموضوعي لهذه المشكلة.
بالإضافة إلى ذلك، وجدت قوانين دوليّة حقوقيّة لحماية الإنسان والدفاع عن حقوقه مثل: الإعلان العالمي لحقوق الإنسان([64])، الذي يتضمن في مادته الأولى: “يولد جميع الناس أحرارًا” ومتساوين في الكرامة والحقوق وهم قد وهبوا العقل، والوجدان، وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضًا بروح الأخاء”، وغيرها من المواد الحقوقية. واتّفاقيّة حقوق الطفل([65])، وهي اتفاقيّة تعنى بحقوق الأطفال وهي تقرّ بحقوق الطفل ومسؤولياته. ومن أهدافها المهمّة: “حماية الطفل جسديًّا ونفسيًّا، وتوفير الظروف كافة الملائمة لحياته، بالإضافة إلى حمايته من الاستغلال سواء في التّسوّل أو غيره ومن تلك المواد التي نصّت في إحدى بنودها على حماية الطفل من الحرمان (المؤدي إلى التّسوّل) المادة 20 والتي نصّت: 1 ـ الطفل المحروم بصفة مؤقتة أو دائمة من بيئته العائليّة أو الذي لا يسمح له حفاظًا على مصالحه الفضلى، بالبقاء في تلك البيئة، الحق في حماية ومساعدة خاصّتين توفرهما الدولة”. ونلاحظ على هذه التّشريعات الدّوليّة على الرّغم من أهميّتها إلاّ أنّها استُغِلت لتحقيق أهداف ومصالح سياسيّة عالميّة، وكانت في التطبيق يستغلّ ضد بعض الدّول لتحقيق المكاسب، وفي أفضل الحالات كانت استنسابيّة التطبيق.
النتائج في:
– الحكم: الشّريعة الإسلاميّة، نبذت التّسوّل ومنعت عنه، إلّا في حال الاضطرار بينما القانون فقد عدَّ فعل المتسوّل عملًا غير أخلاقي يعاقب عليه.
– العقوبة: الشّريعة الإسلاميّة لم تفرض عقوبة معيّنة على التّسوّل بمعناه العام، إلّا إذا أدى إلى محرّم.
أمّا القانون فقد عد التّسوّل جنحة يعاقب عليها، إمّا بالسجن، أو بدور التشغيل حال كان المتسوّل حدثًا.
– المعالجة: الشّريعة الإسلاميّة بشمولها كشريعة حياة أوجدت الحلول للمسائل كافة ومنها التّسوّل.
– أمّا القانون الذي هو من وضع الإنسان المتصف بالقصور والنقص فلم يجد حلًّا جذريًّا لهذه المشكلة نظرًّا لقصوره وأحال المعالجة إلى الجمعيّات الاجتماعيّة والخيرية، وذلك من خلال سن قوانين وتشريعات تنظم عمل تلك الجمعيّات، ولكن هذه القوانين حدّت بعض الشّيء ولكن المشكلة لا تزال تبحث عن حل.
الخاتمة: في ختام هذا البحث حول التّسوّل بين النظرة الإسلاميّة والقوانين الوضعية، توصلنا إلى مجموعة من النتائج والتوصيات التي تسلط الضوء على الموقف الشرعي الرافض للتسوّل إلا في حالات الضرورة القصوى، وقد شددت الشّريعة الإسلاميّة على أهمية حفظ كرامة الفرد والمجتمع من خلال رفض التّسوّل إلا للضرورة، ودعت إلى توفير وسائل دعم اجتماعي، مثل الزكاة والنفقات الواجبة، لتلبية احتياجات الفقراء والمحتاجين. كما أكدت القوانين الوضعيّة على تجريم التّسوّل، لكنها غالبًا ما تجاهلت معالجة الأسباب الجذريّة لهذه الظاهرة.
من بين أبرز التّوصيات، نجد ضرورة تعزيز التّكافل الاجتماعي من خلال توجيه الصدقات والزكاة للفقراء المتعففين، إضافة إلى تشجيع العمل كوسيلة أساسية لتأمين الحياة الكريمة. كما يجب على الأسر التركيز على تربية أبنائهم في بيئة سليمة تدعم القيم الاجتماعيّة والروحية التي تقيهم من الوقوع في التّسوّل. وأخيرًا، ينبغي على المؤسسات الدينية والاجتماعيّة التعاون في إيجاد حلول مستدامة لمشكلة التّسوّل، مع مراعاة الأبعاد الاقتصادية والتعليمية والاجتماعيّة، لضمان توفير مجتمع خالٍ من هذه الظاهرة.
الهوامش
1– طالب دكتوراه في الجامعة الإسلاميّة – بيروت – لبنان – كلّية الدّراسات الإسلاميّة.
PhD student at the Islamic University – Beirut – Lebanon – Faculty of Islamic Studies Email:ghazi_shamas20@hotmail.com
[1]– سورة الذاريات، آية 56.
[2]– سورة هود، آية 112.
[3]– محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، ط1، ج1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1419هـ ـ 1998م، ص199.
[4]– أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللّغة، ط2، ج3، بيروت، دار الفكر، 1399هـ ـ 1979م، ص59.
[5]– مجمع اللّغة العربية، المعجم الوسيط، مادة سول وسأل، ط4، بيروت، مكتبة الشروق الدوليّة، 2004م، ص352.
[6]– سورة محمد، آية36.
[7]– سورة المائدة، آية101.
[8]– سورة الممتحنة، آية10.
[9]– سورة النساء، آية32.
[10]– سورة يوسف، آية18.
[11]– المرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، ط2، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1983م، ص109.
[12]– سورة محمد، آية25.
[13]– المصدر الأخير، ص110.
[14]– أبو السعدات، ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، ط1، ج2، بيروت، المكتبة العلميّة، 1399هـ ـ 1979م، ص381.
[15]– المصدر الأخير، ص382.
[16]– المصدر الأخير، ص383.
[17]– بدوي، أحمد زكي، مصطلحات العلوم الاجتماعية، ط1، بيروت، مكتبة لبنان، 1986م، ص214.
[18]– ابن منظور، لسان العرب، ط1، ج15، بيروت، دار صادر، 1414هـ ـ 2016م، ص216.
[19]– سورة الملك، آية 15.
[20]– سورة الضحى، أية 10.
[21]– محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ط1، ج20، طهران، دار الكتب الإسلامية، ص430.
[22]– جلال الدين المحلى وجلال الدين السيوطي، تفسير الجلالين، ط1، بيروت، مكتبة العلوم الدينية، ص802.
[23]– سورة البقرة، آية 273
[24]– الإلحاف: شدة الإلحاح في المسألة. وفي التنزيل: (لا يسألون الناس (إلحافاً) وقد (الحف) عليه ويقال: وليس للمحلف مثل الرد، و(ألحف) السائل، تاج العروس، الزبيدي، م. س.
[25]– أي السؤال بمعنى الالحاح المؤدي للتسوّل، والتفصيل بين السؤال المحرم، والمكروه، وسؤال الحاجة والاضطرار.
[26]– والمُزعة: بالضم: قطعة لحم، ويقال: ما عليه مزعة لحم أي ما عليه حُزةُ لحم.لسان العرب. باب الميم.
[27]– مصطفى محمد عمارة، خواطر البخاري وشرح القسطلاني، ط1، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، ص147.
[28]– م. س، ص149.
[29]– الحر العاملي، وسائل الشيعة، ط5، ج4، باب الصدقة، بيروت، دار التراث العربي،1403هـ – 1983م، ص306 ـ 307.
[30]– أبي جعفر محمد بن بابويه القمي، الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1986، ص190.
[31]– المخصرة: كمكنسة ما يتوكأ عليه كالعصا ونحوهُ قاموس المحيط، فصل الخاء.
[32]– م. س، وسائل الشيعة، ح1118، ص307.
[33]– م. س، سنن أبي داوود، ص1649.
[34]– الجعفري، الشافعي، المالكي، الحنفي، الحنبلي.
[35]– سورة البقرة، آية273.
[36]– المصدر الأخير، ص1651.
[37]– الكليني، صحيح الكافي، كتاب الجهاد، باب كراهة القرض لما لا يطيق، ط5، ج2، طهران، الحيدري، ص 290.
[38]– سورة البقرة آية 173.
[39]– سورة المائدة آية 3.
[40]– دم منقطع: إنقاذ نفس.
[41]– غرم مثقل: دين كبير يعجز عن سداده.
[42]– حاجة مدقعة: حاجة ضرورية لا تقضى الا بالسؤال.
[43]– الحر العاملي وسائل الشيعة ج 4، باب جواز الشكوى، ص 312.
[44]– شبّه الإمام علي (ع) شكوى المؤمن إلى اخيه بشكواه لله تعالى والعكس.
[45]– الحر العاملي، وسائل الشيعة،، باب جواز الشكوى، ج4، ص 312.
[46]– وسائل الشيعة، باب كراهة السؤال في المجالس، ج4، ص 310.
[47]– نهج البلاغة، ح441، ص497.
[48]– وسائل الشيعة، كتاب الزكاة، ج4، ص308.
[49]– م .س، ص308.
[50]– شلبي، محمد مصطفى، المدخل في التعريف بالفقه الاسلامي، ط1، بيروت، دار النهضة العربية، 1995م، ص312.
[51]– الفقرة الأولى من المادة الأولى من قانون العقوبات السوري، والمادة 610 من قانون العقوبات اللبناني.
[52]– المادة 79: لا يمكن أن تنقض مدة الحجز في دار للتشغيل تزيد عن ثلاث سنوات.
[53]– صادر عن الجمهورية الجزائرية رئاسة الجمهورية الامانة العامة للحكومة، قانون العقوبات الجزائري التسوّل والتشرّد، القسم الرابع، المادة 195، ص 81، 2015.
[54]– راجع أحكام محكمة النقض والأبرام الفرنسية الصادر في 17 سبتمبر سنة 1874 مجموعة أحكام محكمة النقض نمرة 261، ومنوه عنه في جارسون مادة 274 ن 10، وجارو 5 في هامش صفحة 64.
[55]– جندي عبد الملك، الموسوعة الجنائية، ط1، ج1، اتجار – إشتراك، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط2008م، ص119.
[56]– جامعة منيوتا، مكتبة الحقوق، القانون الجنائي الأمريكي، ص207.
[57]-سورة الجمعة، آية: 2.
[58]– سورة المائدة، آية: 15.
[59]– سورة يونس، آية: 35.
[60]– الكليني، جعفر بن يعقوب، ج5، بيروت، منشورات الأعلمي، ط1، ص64.
[61]– نهج البلاغة، قصار الحكم، ج5، يروت، دار الكتب العلمية، ج226، ص508.
[62]– المجلسي، بحار الأنوار، ج74، بيروت، مؤسسة آل البيت، ج7، ص10.
[63]– فرج العدة، عبد المنعم، أصول القانون، بيروت، ط1، دار النهضة العربية، ص13.
[64]– الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة 7/2 ألف (د ـ 3) المؤرخ في 10 كانون الأول ديسمبر 1948.
[65]– الاتفاقية المعتمدة في الأمم المتحدة في 20 تشرين الثاني عام 1989 وقد وقّع لبنان على هذه الاتّفاقية عام 1990.
المصادروالمراجع
* القرآن الكريم
- الزمخشري، محمود بن عمر، أساس البلاغة، ط1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1419هـ ـ 1998م.
- فارس، أحمد، معجم مقاييس اللّغة، ط2، ج3، بيروت، دار الفكر، 1399هـ ـ 1979م.
- مجمع اللّغة العربية، المعجم الوسيط، ط4، بيروت، مكتبة الشروق الدوليّة، 2004م.
- الزبيدي، المرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، ط2، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1983م.
- أبو السعدات، ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث، ط1، ج2، بيروت، المكتبة العلميّة، 1399هـ ـ 1979م.
- بدوي، أحمد زكي، مصطلحات العلوم الاجتماعية، ط1، بيروت، مكتبة لبنان، 1986م.
- ابن منظور، لسان العرب، ط1، ج15، بيروت، دار صادر، 1414هـ ـ 2016م.
- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ط1، ج20، طهران، دار الكتب الإسلامية.
- السيوطي، جلال الدين، تفسير الجلالين، ط1، بيروت، مكتبة العلوم الدينية.
- عمارة، مصطفى محمد، خواطر البخاري وشرح القسطلاني، ط1، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى.
- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ط5، ج4، باب الصدقة، بيروت، دار التراث العربي، 1403هـ – 1983م.
- القمي، أبي جعفر محمد بن بابويه، الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ط1، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1986م.
- شلبي، محمد مصطفى، المدخل في التعريف بالفقه الاسلامي، ط1، بيروت، دار النهضة العربية، 1995م.
- قانون العقوبات الجزائري التسوّل والتشرّد، القسم الرابع، المادة 195، 2015م.
- عبد الملك، جندي، الموسوعة الجنائية، ط1، ج1، اتجار – إشتراك، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 2008م.
- جامعة منيوتا، مكتبة الحقوق، القانون الجنائي الأمريكي، 2006م.
- الكليني، جعفر بن يعقوب، الكافي، بيروت، منشورات الأعلمي، ط1، 1997م.
- نهج البلاغة، قصار الحكم، بيروت، دار الكتب العلمية، 2008م.
- المجلسي، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة آل البيت، ج7، 2006م.
- فرج العدة، عبد المنعم، أصول القانون، بيروت، ط1، دار النهضة العربية، 2014م.
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامّة للأمم المتحدة 7/2 ألف (د ـ 3) المؤرخ في 10 كانون الأول ديسمبر 1948م.
الاتفاقية المعتمدة في الأمم المتحدة في 20 تشرين الثاني العام 1989 وقد وقّع لبنان على هذه الاتّفاقية العام 1990م.