foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

المؤدَّى البيانيّ في التعبير القرآنيّ دراسة بيانيّة في سورتي: آل عمران والنساء

0
المؤدَّى البيانيّ في التعبير القرآنيّ

دراسة بيانيّة في سورتي: آل عمران والنساء

د. خليل بيضون*

مقدّمة

أنزل الله تعالى الكتاب على رسوله بالحق موجَّهًا إلى الناس وموجِّهًا لهم، يقول في ذلك: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (الزمر: 41)، أي أن هدف الكتاب هو إرشاد النّاس وتوجيههم، لإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم والمعرفة والعبادة، وأسند هذه المَهَمّة إلى رسوله الكريم (ص) ليبيّن تعاليم الكتاب – من أمور العقيدة، والعبادة، ومنهج الحياة – ويشرحها للناس بلغتهم، يقول تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾ (النحل: 44). ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4). وبما أنّ لغة الرّسول عربيّة؛ كانت معجزة القرآن بها، لأنّ العرب كانوا أهل لسان يتغنّون بفصاحتهم وقوّة بيانهم، فجاء القرآن الكريم ببلاغته ودقّة بيانه ليتحدّاهم على أن يأتوا بسورة من مثله، وليكون عليهم حجّة، يقول في ذلك: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 2)، ويقول أيضًا: ﴿كَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيّا﴾ (طه: 113). ﴿وَهَذَا لِسَانٌ عربيّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103). وفي مكان آخر: ﴿بِلِسَانٍ عربيّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195). وقوله: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عربيّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الزخرف: 3). ﴿قُرْآنًا عربيّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر: 28).

وفي المقابل يقول: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعربيّ﴾ (فصلت: 44). ويقول أيضًا: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ (هود: 1). وبما أنّ إحكام آيات الكتاب العزيز جاء من الخالق الحكيم المطلق، والخبير المطلق، فإنّه من المفترض أن يكون إحكامه غاية في الدقّة البيانيّة والدّلاليّة، وفق معايير القواعد اللغويّة المحكمة والثّابتة، ووسيلة إعلام حيّة، فيها من الأبعاد الإعلاميّة ما لا يقف عند حدّ، فيها الإخبار والإقناع، وفيها الدعاية والإعلان الهادف، وفيها الرأي والرأي الآخر، كما الحوار المقنع والحجّة البالغة والبليغة، إلى التصوير بالكلمة… وغيرها، وهذا ما يستوجب التأني في تدبّر آياته من منطلق علميٍّ غايته الفهم والإدراك.

… والدراسة هذه تنطلق من تحليل الظواهر اللغويّة اللافتة للتعابير القرآنيّة، ووضعها على مشرحة العلوم اللغويّة انطلاقًا من الإشكاليّات الآتية: هل أنّ المدخل إلى فهم النصّ القرآنيّ هو مدخل لغويّ يستوجب فهم عمليّة التّفاعل بين الكلمات في السّياق التّعبيريّ للوصول إلى المعنى المراد؟ أم أنّ فهم الآيات القرآنيّة بتماثلها، وتآلفها، واختلافها، وتباينها، يعتمد على القياس بناءً على أسباب نزولها ومناسباتها قبل الاعتماد على اللغة؟ وهل أنّ للإحكام تأثير في توظيف الألفاظ لخدمة المعاني أو العكس؟ وهل أنّ المؤدَّيات البيانيّة للألفاظ التزمت قواعدها اللغويّة والمعجميّة؟

ومن الفرضيّات المقترحة هنا، أنَّ:

  • القاعدة في التعبير القرآنيّ هي أن لا يتقدّم حرف عن حرف إلاّ بهدف وحكمة، ولا يتأخّر حرف عن حرف إلاّ بهدف وحكمة.
  • التقديم والتأخير في التعبير القرآنيّ لا تحكمه قاعدة محدّدة، بل معقود على ما يقتضيه السّياق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الإعلام، الفرع الأوّل، قسم الصحافة، وقسم العلاقات العامّة، وحائز على دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها.

  • تشابه العبارات في الآيات، وتخلّل بعضها حروف دون البعض الآخر ميّز دلالاتها البيانيّة.
  • تماثل سياق بعض الآيات واختلاف خواتيمها له مؤدّاه البيانيّ.
  • تحديد المؤدّيات البيانيّة للألفاظ والسّياقات يؤدّي إلى وضوح كنايات بيانيّة خلف المعنى المدرك.
  • وجود بعض الحروف وانعدامها في الآيات المتشابهة لها مؤدَّياتُها البيانيّة.

تلك بعض القضايا التي تحاول هذه الدراسة الإضاءة عليها… من خلال تناول سورتي آل عمران والنساء كنموذج يحاكي السور القرآنيّة عامّة، مع الاستعانة بمراجع منهجيّة متنوّعة… فضلاً عن مؤلّفات تعنى بموضوع الدراسة ككتب اللغة والتفاسير. والواضح ممّا تقدّم؛ تلك الإشارة إلى أهمّيّة اللغة العربيّة وقدرتها البيانيّة على حمل مضامين القرآن الكريم والتعبير عنها. والسؤال البديهيّ الذي يُطرح هنا: ما هي ميزات اللغة العربيّة التي جعلتها قادرة على حمل هذه المضامين وتبيان مرادها، دون سواها من اللغات؟

المبحث الأوّل: لمحة موجزة عن خصاص اللغة العربيّة وقدراتها التّعبيريّة والبيانيّة، ليصار إلى ربط هذه الخصائص بالآيات المستهدفة بالدراسة كنماذج حيّة لها. بداية نعرض لبعض خصائص اللغة العربيّة التعبيريّة والبيانيّة، لتسليط الضّوء على إمكانياتها الدّقيقة في صناعة المعاني وفهمها، التي من خلالها ندرك خصوصيّات التعبير في بعض الآيات القرآنيّة، ومعرفة مؤدَّياتها البيانيّة، فمن خصائص اللغة العربيّة:

1 . اللغة العربيّة هي لغة معربة، ولا شكّ أنّ في الإعراب صعوبة، وهدف الإعراب هو التحدّث بشكل سليم، أو إدراك المعنى المقروء وفهمه فهمًا واضحًا، فمثلًا عندما أقول: حضر خالدٌ – رأيت خالدًا- ذهبْتُ مع خالدٍ. فهذا ليس موجودًا في أشهر اللغات الأخرى كالإنكليزيّة والفرنسيّة، وأقول في الفعل المضارع أيضًا: أنا أذهبُ – أريد أن أذهبَ – أنا لم أذهبْ، ففي الإنكليزيّة – مثلًا – نستعمل كلمة أخرى أو كلمتين مع فعل الذهاب فقط. هذا التحريك في التنوين، وحركات الإعراب كلّها لا توجد في اللغات المبنييّة كالإنكليزيّة والفرنسيّة وغيرهما. فاللغات المبنيّة أسهل من اللغات المعربة، والسؤال المهمّ هنا: هل السهولة مزيّة إيجابيّة دائمًا؟ لا، حتمًا، فاللغة – في الأصل – وُجدت للتعبير عن المعاني، والثابت أنّ ما كان أكثر دقّة في التعبير عن المعاني، وأكثر اتّساعًا وشمولًا في الدلالة عليها، يكون أوفر وأحسن، والإعراب في هذا المجال يؤدّي ما لا تؤدّيه اللغات المبنيّة.

أمّا الإعراب فهو التعبير عن المعاني، نقول: أعرب الرجل عن حاجته أي أبان، والإعراب والتعريب معناهما واحد، وهو الإبانة، يقال: أعرب عنه لسانه وعرب أي أبان وأفصح. وأعرب عن الرجل: بيّن عنه[1]، فكثير من التعبيرات لا يُعرف معناها إلاّ بالإعراب، وتتعدّد معاني الجمل بتعدّد الإعراب، فعندما أقول: كيف أنت ومحمّدٌ، وكيف أنت ومحمّدًا، فالجملة واحدة، لكن المعنى متعدّد، فالأولى تعني السؤال عن حالك وحال محمّد، أمّا الثانية فتسأل عن علاقتك بمحمّد. وكذلك قولنا: كم طالبًا عندك حاز النجاحَ؟ وكم طالبٍ عندك حاز النّجاح، وكم طالبٌ عندك حاز النّجاح؟ فالأولى كم الاستفهاميّة تتطلّب جوابًا بعدد الطلاّب، بينما الثانية كم الخبريّة تدلّ على كثرة الطلاّب الذين حازوا النّجاح، أمّا الثالثة فمعناها أنّ الطالب الذي حاز النّجاح كم مرّة عندك حاز النّجاح؟ وهذا غير موجود في اللغات المبنيّة. وكذلك في قولنا: “سلْ أيُّهم قام”، وسلْ “أيَّهم قام” فالأولى سؤال عن الذي قام، أمّا الثانية فالسؤال موجّه للذي قام، فتكون أيّ اسمًا موصولاً بمعنى الذي، وكذلك: عندما نقول: لا يذهبْ محمّودٌ، لا يذهبُ محمّودٌ، الأولى أمر، والثانية إخبار. أعطني فأُكرِمَكَ، وأعطني فأُكرِمُكَ، الأولى المدح غير قائم، والثانية المدح قائم. وكلّ تلك المعاني لا تُدرك إلاّا بالإعراب.

  1. سعة التعبير، لو أخذنا جملة معيّنة نرى أنّ كلّ كلمة تحمل دلالتها، نحو:

أعطى محمّدٌ عليًّا قلمًا: المخاطب خالي الذهن من مفردات الخبر كلّها (إخبار أوّليّ).

محمّدٌ أعطى عليًّا قلمًا، المخاطب يعلم أنّ شخصًا ما أعطى خالدًا قلمًا، فاستفهم عنه.

عليًّا أعطى محمّدٌ قلمًا، المخاطب يعلم أنّ محمّدًا أعطى شخصًا ما قلمًا، فاستفهم عنه.

قلمًا أعطى محمّدٌ خالدًا، المخاطب يعلم أنّ محمّدًا أعطى خالدًا شيئًا ما، فاستفهم عنه.

قلمًا خالدًا أعطى محمّدٌ، المخاطب يعلم أنّ محمّدًا أعطى شيئًا ما لشخص ما، فاستفهم عنه.

قلمًا خالدًا محمّدٌ أعطى، المخاطب يعلم أنّ محمّدًا فعل شيئًا غير معروف، فاستفهم عنه.

أعطى خالدًا كتابًا محمّدٌ، المخاطب يعلم أنّ أمرًا ما لدى محمّد، فاستفهم فكان الجواب.

أعطى خالدًا محمّدٌ كتابًا، أعطى كتابًا خالدًا محمّدٌ، خالدًا محمّدٌ أعطى كتابًا، الجملة واحدة والمضون واحد، ولكن لكلّ جملة دلالة بيانيّة متعدّدة. فالمعنى العامّ واحد، أمّا الدلالة البيانيّة فليست واحدة. وهذا ما لا يوجد في اللغات الأخرى.

كذلك عندما قال تعالى: صبرٌ جميلٌ، وصبرًا جميلًا، فالأولى أمرٌ بالصبر الثابت الدائم، بينما الثانية صبر مرحليّ ظرفيّ، يؤكّد ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ (محمّد: 4)، بالنّصب مثل صبرًا جميلًا لأنّ هذا الظرف موقوت في هذه المعركة وليس دائمًا. كذلك عندما نقول: مررْتُ بالرّجلِ الجميل، ومررْتُ بالرّجلِ الجميلَ، ومررْتُ بالرَّجلِ الجميلُ، فمن الناحية الإعرابيّة الأولى، نعت والثانية مفعول به (أعني الجميلَ) والثالثة خبر لضمير مستتر (هو الجميلُ)، لكن من الناحية البيانيّة فهناك اختلاف، فعندما نقولها بالاتباع “الجميلِ” معناها أن المخاطَب قد يعلم أنّه جميل أو لا، فتكون معلومة جديدة بالنّسبة إليه، ولكن القاعدة البيانيّة أنّه لا يصحّ القطع إلاّ إذا كنّا نعلم أنّ المخاطَب يعلم أنّه يتّصف بالصفة، فلا نقول مررْتُ بالرجلِ الجميلَ، أو الجميلُ، والمخاطَب لا يعلم أنّه جميل حقيقةً أو ادّعاءً، فالنّصب يعني شيوع جماله، أمّا الضّمّ فهو أشيع، وهذا ما لا نستطيع أن نعبّر عنه في اللغات المبنيّة.

  1. المساحة في التّعبير

للغة العربيّة مساحة واسعة في التّعبير، ليس فقط في الإعراب، يتجلّى ذلك في:

أ- الأبنية في تنوّعها وتعدّدها، نحو “عجيب” و”عجاب”: ﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ (هود: 72). وقوله: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ﴾ (ص: 5). ومنها وغفّار وغفور، همّاز وهمزة، عسير وعَسِرْ (فذلك يومٌ عَسِير، وذلك يومٌ عَسِر)، مجروح وجريح (كلاهما اسم مفعول ولكلّ منهما دلالة)، أشدّاء وشداد (كلاهما جمع شديد)، ولهان ووله[2]، هذا التنوّع الكبير في الأبنية للمعنى الواحد لا نستطيع أن نعبّر عنه في اللغات المبنيّة.

ب. تعدّد الصور التعبيريّة للمعنى الواحد، نحو: اصبر، صبرًا، صبرٌ، صباري (اسم فعل مثل نزاليّ)، تصبر (بمعنى فعل الأمر). هو يمشي، هو يمشي مشيًا، هو ليمشي (اللام لام الابتداء)، لهو يمشي، ليَمشِيَنْ، ليَمْشِيَنَّ، هو مشيًا، هو مشيٌ، إنّه يمشي، إنّه ليمشي. وهذا ما لا يوجد في اللغات الأخرى. هذه شواهد على أنّ اللغة العربيّة السليمة والفصيحة هي الوحيدة القادرة على حمل معاني القرآن الكريم، والمؤدّيات البيانيّة المتعدّدة والمتنوّعة لآياته.

المبحث الثاني: المؤدَّيات البيانيّة في سورتي آل عمران والنساء.

سورة آل عمران

لا شكّ في أنّ لكلّ سورة من سور القرآن الكريم موضوع تتمحور حوله، ويُستوحى اسم كلّ سورة من موضوعها الأساس. والغاية من سورة آل عمران هي الثبات، فبعد أن عرض الله تعالى في سورة البقرة النهج الذي يجب على الإنسان أن يتّبعه ليكون وريثًا صالحًا على الأرض؛ جاءت سورة آل عمران لترشدنا إلى الطرق التي تمكّننا من الثبات على هذا النهج؛ سواء أكنّا من حديثي العهد في هذا المنهج أم من القديمين فيه، فكلّ المؤمنين يحتاجون إلى الثبات على خطّ الصلاح حتّى لا يقعوا في التخاذل، ولا يتملّكهم الخوف من الزّيغ والضلال.

وسورة آل عمران تتوزّع بين قسمين:

  1. القسم الأول من الآية (1 حتّى الآية 120) هذه الآيات ترشدنا إلى كيفيّة الثبات فكريًّا في مواجهة الأفكار الخارجيّة.
  2. القسم الثاني من الآية (121 حتّى نهاية السورة) وفيها كيفيّة الثبات داخليًّا.

بدأت سورة آل عمران بمسار تحصين النفس فكريًّا من المؤثّرات الخارجيّة لتحضيبر البيئة المحيطة، ثمّ انتقلت إلى تحقيق الثبات الداخليّ للفرد. والسورة تتمحور حول حادثتين:

  1. الحادثة الأولى، هي حوار الأديان الذي تمثّل بمحاورة وفد نصارى نجران، حيث كان هذا الحوار أوّل حوار للأديان عرفه التاريخ، كانت غايته تمكين المؤمنين من الثبات في مواجهة الأفكار الخارجيّة من خلال تعليم فنّ المناقشة، والحوار، وفكرة مناقشة أهل الكتاب عامّة.
  2. والحادثة الثانية، هي غزوة أحد، والهدف من استعراض أحداثها هو تعليم المؤمنين كيفيّة الثبات العمليّ في مواجهة الأحداث الميدانيّة، رغم أنّ غزوة أحد وقعت قبل حادثة وفد نجران، إلاّ أنّ ورودها بعدها إنّما هو لتحقيق فكرة الثبات الخارجيّ أوّلًا ثمّ الداخليّ ثانيًا. والسورة في بدايتها ونهايتها أشارت إلى موطن الحقّ، وأنّه مع المؤمنين، وعلى المؤمنين التمسّك به. ﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ﴾ (آل عمران: 3). و﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).

ويمكننا استعراض محاور سورة آل عمران وفق العناوين التالية:

  • الثبات على الحقّ: كثيرة هي الآيات التي تؤكّد على الثبات على الحقّ، ولا تختصّ بفئة من الناس من دون أخرى.
  • ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 102).
  • ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103).
  • ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).
  • ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ آية (173 – 174).
  • ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200).

عقبات الثبات: سورة آل عمران تُحذّر من المغرِيات التي تعترض الإنسان المؤمن وتؤثّر في ثباته، وتشكّل عقبة في طريقه، منها:

  1. ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).
  2. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾ (آل عمران: 155).

والآية تشير إلى المسلمين الذين تولّوا في غزوة أحد، حيث استزلّهم الشيطان نتيجة بعض ذنوبهم السابقة.

  1. ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 165). تشير الآية إلى الانتصارات التي حقّقها المسلمون سابقًا، ونتيجة حبّهم الشهوات عصَوا الرسول، وما أصابهم هو من عند أنفسهم، ونتيجة معاصيهم. ثمّ تتحوّل السورة لتتحدّث عن: عوامل الثبات، وهي:
  2. اللجوء إلى الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران: 8)، والآيات في آخر السورة ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ* رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ* رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (الآيات: 192،193،194). وكذلك دعاء امرأة عمران ﴿إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (آل عمران: 35). وكذلك دعاء زكريا (ع) ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء﴾ (آل عمران: 38). وسورة آل عمران من أغنى السور بالدعاء، لأنّ الثبات على المنهج لا يكون إلاّ باللجوء إلى الله تعالى، ولا يكون إلاّ بعونه وتثبيته ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ (الإنسان: 30).
  3. العبادة: سورة آل عمران غنيّة بنماذج من العباد الصالحين. كعبادة السيّدة مريم (ع): ﴿فتقبّلها رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران: 37)، ووكذلك عبادة زكريا (ع) ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: 39)، ﴿رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ﴾ (آل عمران: 193).
  4. الدعوة إلى الله: الدّعوة إلى الله تعالى تعين على الثبات. ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104)، و﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران: 110).
  5. وضوح الهدف: على الإنسان أن يجتهد في التفكّر، والتدبّر ليتّضح هدف الحياة لديه. ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ (آل عمران: 191).
  6. الأخوّة: هي الركيزة الأساسيّة في الدين، لأنّها من العوامل الفاعلة في تحقيق الثبات. ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾، و﴿وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (آل عمران: 105).

والملاحظ أنّ النصف الأوّل من سورة آل عمران يتمحور حول الدّعوة إلى الثبات الفكريّ على الحقّ، ويتمثّل بمناقشة الرسول الراقية، والمنطقيّة لأهل الكتاب بهدف تحديد موقع الحقّ والتّسليم به.

ولتثبيت العقيدة لدى المسلمين جرت السورة في الكيفيّة التالية:

  • تقوية العقيدة لدى المسلمين قبل النقاش ﴿شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ* فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (الآيات: 18 – 20)، و(الآيات: 83 – 85 – 87) ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ* وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
  • تحديد نقاط التقاء بين المسلمين وأهل الكتاب ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ* قُلْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾. (الآيات: 64 و84).
  • الأدلّة والبراهين: من أسس التثبيت الحوار والمناقشة، وذلك بعد إقامة الأدلّة العقليّة والمنطقيّة في إقناع من نحاورهم. ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ (آية: 59)، ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (آية: 65)، ﴿هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ﴾ (آية: 66)، ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آية: 79).
  • تحذير أهل الكتاب من التكذيب ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ* يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الحقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الحقّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (آية: 70 – 71)، ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آية 75).
  • التحدّي والمواجهة: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ (آل عمران: 61).
  • النظرة العادلة والواقعيّة إلى أهل الكتاب ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾آية 75، ﴿لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ﴾ (آية: 113).
  • الثناء على الأنبياء الذين أُرسلوا إلى اليهود والنصارى ﴿إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (آية 33)، ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ﴾ (آية: 42).

نلاحظ السورة بأكملها أحيطت بالآيات التي تؤكّد على الثبات، ففي نهاية القسم الأوّل منها جاءت (الآية: 120) لتتحدّث عن الثبات ﴿إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾. واختتمت آيات القسم الثاني كذلك بـ(الآية: 200) التي تتحدّث عن الثبات أيضًا ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾. بعد كلّ هذا التوضيح المسهب المقرون بالحجج والبراهين لا بدّ للمؤمن من أن يثبت فكريًّا.

النصف الثاني من السورة: يتناول هذا القسم غزوة أحد وما خلّفتْه من أثر شديدٍ في نفوس المسلمين جرّاء عصيانهم أوامر الرسول (ص). فنلاحظ في السورة تسلسل حوادث الغزوة وتثبيت المسلمين في سياق غاية في الدّقّة والحكمة، فيذكر الله تعالى فضله على المسلمين أوّلًا ﴿وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ* وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ﴾ (الآيات من 121 حتّى 124)، ثمّ راح يخفّف عنهم، ويرفع من روحهم المعنويّة، ويوجّه اللوم، والعتب الرقيق للذين خالفوا ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حتّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾(آية 152)، ثم يعاود رفع روحهم المعنويّة فيقول: ﴿ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الحقّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (آية: 154)، ثمّ يؤكّد على أنّ أسباب الهزيمة والمعصية هي حبّ الشهوات ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ﴾ (آل عمران: 14)، وهذه الشهوات هي التي تدفع إلى المعصية.

أمّا تسمية السورة بـ(آل عمران) فجاءت إكرامًا لزوجة عمران والسيّدة مريم ابنة عمران، فالسيّدة مريم عليها السلام كانت مدرسة في الثبات في العبادة والعفّة، وزوجة عمران كانت رمزًا للثبات على نصرة الإسلام ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا﴾. فعندما كان المسجد الأقصى مسلوبًا من المؤمنين نذرت ما في بطنها لخدمة المسجد الأقصى، ووضعتها أنثى وتقبّلها الله تعالى منها.

ونلاحظ في سورة آل عمران نظرة تقدير عالية للمرأة من خلال ذكر زوجة عمران، ومريم (ع)، ودورها في رفع الروح المعنويّة لدى زكريا (ع)، حيث بادر إلى دعاء ربّه أن يهب له ذرّيّة صالحة. وفي هذا إشارة إلى أنّ الثبوت تمثّل بالنساء.

وجوه بيانيّة

  1. يقول تعالى: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (آل عمران: 11)، ويقول أيضًا: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الأنفال: 52)، ويقول كذلك: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ (الأنفال: 54).

ما الفرق بين كذبوا بآياتنا وكفروا بآياتنا؟

لا شكّ في أنّ الكفر أعمّ من التكذيب وأشمل، فالتكذيب حالة من حالات الكفر. ففي آية آل عمران قال تعالى: (… كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وفي الأنفال قال: (… كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ)، فمع الكفر أكّد بـ(إنّ) وأضاف كلمة (قويّ)، وبما أنّ الكفر أعمّ وأشدّ أكّد، وشدّد (إنّ الله قويّ شديد العقاب) بينما في حال التكذيب قال: (والله شديد العقاب)، ولو قال في الآية الثانية (شديد العقاب) فإنّها لا تدلّ على أنّه قويّ، فقد يكون شديد العقاب، ولكن غير قويّ.

وفي سورة الأنفال نفسها (الآية: 54) ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾، عاد واستعمل “كذّبوا”، والسؤال، لماذ اختار هنالك كذّبوا وفي الآية الثانية “كفروا” وهنا عاد في الأنفال واختار “كذبوا”؟

لو تتبّعنا السياقات للاحظنا أنّه ذكر في آل عمران حالة جزئيّة من الكفر تتعلّق بالأموال والأولاد ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا﴾ (آل عمران: 10). وذكر في كثير من الموارد حالات من الاستغناء كالاتّباع، والآلهة، والسلطان ﴿وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾ (إبراهيم: 21) هذا غير الأولاد، ﴿مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ* هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ﴾ (الحاقّة: 28 – 29) السلطان، ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ﴾(هود: 101) الآلهة، ﴿لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا﴾ (النجم: 26) الشفعاء. فعندما ذكر حالة جزئيّة ذكر معها حالة جزئيّة من الكفر وهي التكذيب.

أمّا في (الآية: 52) من الأنفال فقد ذكر حالة عامّة، لنلاحظ: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ* ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ* كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ الأنفال: (50 – 51 – 52) حالة عامّة ليس فيها ذكر حالة جزئيّة.

والخلاصة، أنّه عندما ذكر حالة جزئيّة وصفهم بحالة جزئيّة وهي التكذيب، وعندما ذكر حالة عامّة وصفهم بأمر عامّ وهو الكفر، وختم كلّ آية بما يناسبها. فالمعنى اللغوي السليم لا يستقيم إذا ذكر حالة عامّة ثمّ أتى بالتكذيب، فهذا ليس من اللغة وإنّما من البلاغة.

  1. يقول تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14). ما دلالة بناء الفعل زُين للمجهول؟ وما دلالة تقديم الأولاد على الأموال (الذهب، والفضّة، والقناطير المقنطرة)؟ ولِمَ لم يقل: زُيّن للرجال طالما أنّه ذكر النّساء في الآية وهنّ شهوة الرجال؟

إنّ الله تعالى لا ينسب فعل العيب إلى نفسه، وإنّما ينسب لنفسه الخير فقط، وهذا خطّ بيانيّ واضح في القرآن الكريم، وأمثلة ذلك كثيرة، يقول: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا﴾ (الإسراء: 83)، لم يقل مسَسْناه بالشرّ، وإن كان الكلّ من عند الله سبحانه وتعالى لكن تأدّبًا لم يقل زيَّنَ لهم، بينما يذكر: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ (الحجرات: 7). وقوله تعالى: ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ﴾ (الصافات: 6).

أمّا في حبّ الشهوات فإنّه يقدّم النساء على باقي الشهوات، لنرى، ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾ (آل عمران: 14).

أمّا في حديثه تعالى عن الإلهاء كما فى سورة “المنافقون” فقد قدّم الأموال على الأولاد مع أنّ حُبّ الإنسان للأولاد أكثر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ﴾ (المنافقون: 9). ولأنّ الالتهاء بالمال يكون أكثر فإنّه قدّم الأموال على الأولاد للتحذير.

أمّا لماذا لم يقتصر التزيين على الرجال دون الناس كونه ذكر النساء؟ ذلك لأنّه ذكر النساء في الآية تورية عندما ذكر البنين، لأنّ إنجاب البنين رغبة لدى النساء، هن يحملن البنين ويرغبن فيهم. والبنون ليسوا خاصّة من خواصّ الرجال، وفي الآية إلماح إلى رغبة النساء، وليس تصريحًا لأنّ الله تعالى لم يشأ أن يخدش حياءهن، لذلك لم يقل زُين للنساء حبّ الشهوات من الرجال، فكلمة البنين فيها إشارة إلى حبّ النساء للرجال، وإلاّ كيف يأتي الأولاد؟ فعندما قال: البنين دخل فيه النساء تضمينًا لا تصريحًا. فالناس يحبّون شهوة النساء، والبنين، والذهب، والفضّة، ولم يقل زُيّن للرجال حبّ الشهوات من النساء لأنّ الرجال يسعون في ذلك وينفقون لأجله، والناس أعمّ لأنّ البنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة ليست خاصّة بالرجال، وإنّما يدخل فيها النساء.

  1. يقول تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران: 27)، ويقول أيضًا: ﴿إنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾(الأنعام: 95). ما الدلالة البيانيّة في استخدام فعل (يُخرج) مرّتين في الآية الأولى، واستعمل الاسم “مُخرج” في الآية الثانية، ولم يستعمل صيغة واحدة؟

هناك قاعدة نحويّة تشير إلى أنّ الفعل يدلّ على الحدوث والتجدّد، والاسم يدلّ على الثبوت، وهذه الآية تدخل في إطار هذه القاعدة. فبما أنَّ صفات الحيّ تقوم على الحركة والتجديد (من الحياة) قال تعالى مع الحيّ (يُخرِج الحيّ من الميّت) جاء بالصيغة الفعليّة التي تفيد الحركة والتّجدّد، وبما أنّ صفات الميّت السكون، والثبوت جاء بالصيغة الاسميّة مع ما تقتضيه من السكون.

والفعل (يُخرج) لا يأتي دائمًا مع الحركة، وإنّما يلتزم سياق الآيات كما في قوله تعالى: ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران: 27)، لأنّ السياق العامّ في الآيات يفيد التغييرات، والتبديلات، والأحداث التي تتجدّد، ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 26) (إيتاء الملك ونزعه، تعزّ من تشاء، وتذلّ من تشاء، تولج الليل، وتولج النهار) كلّها جاءت في أحوال المتغيّرات، وليست في الثبات، وهذا ما يُعرف بمطابقة الكلام لمقتضى الحال.

  1. يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 29)، ويقول أيضًا: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 284). ما دلالة تقديم كلمة “تخفوا” وتأخيرها الآيتين؟

الحديث في سورة آل عمران جاء في سياق ما يضمره الإنسان في سريرته، لذا قدّم الإخفاء على الإبداء لأنّه يعلم السرّ وأخفى، لنلاحظ: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ* قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (آل عمران: 28 – 29).

أمّا في سورة البقرة فقد جاء الحديث في سياق ما يُبدي الإنسان، وليس في سياق ما يُخفي لذا قدّم الإبداء على الإخفاء، لنلاحظ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (البقرة: 283: 285)، ففي سياق العلم قدّم الإبداء، وفي سياق المحاسبة قدّم الإخفاء.

  1. يقول تعالى: ﴿فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (آل عمران: 37). لماذا قال أنبتها نباتًا ولم يقل إنباتًا؟، ولماذا قدّم الجار والمجرور على الفاعل “دخل عليها زكريا” ولم يقل: دخل زكريا عليها، وما المؤدّيات البيانيّة لذلك؟

في التساؤل الأوّل (أنبتها نباتًا) قد نستعمل أحيانًا فعلًا ما ونأتي باسم المصدر منه (أي ما يقلّ عدد حروفه عن حروف الفعل) أو قد يكون مصدرًا لفعل آخر كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ نوح: 17)، لم يقل إنباتًا، وهذا الاستعمال يكون لغرض سواء كان الفعلان بمعنى واحد أم لم يكونا، كما في قوله تعالى: ﴿وتبتّل إليه تبتيلا﴾ فالمصدر “تبتّلًا” وليس “تبتيلًا”. فكلمة “تبتيل” مصدر “بتّل” و”بتل” ومعناها مختلف عن “تبتّل” تمامًا. أمّا الدلالة البيانيّة لهذا الاستعمال فهدفها جمع معنيَيْنِ لفعلَيْنِ معًا، فيأتي بالفعل لدلالة معيّنة فيه، ثمَّ يأتي بالمصدر من فعل آخر لدلالة أخرى فيجمع بينهما للحصول على معنييْن في عبارة واحدة، فبدل أن يقول: وتبتّل إليه تبتُّلًا، وبتِّل نفسَك إليه تبتيلًا، يقول: “وتبتَّل إليه تبْتِيلًا” فيجمع المعنيين، وهذا من أعجب الإيجاز. فعندما قال: ﴿تَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا﴾ (آل عمران: 37)، لم يقل إنباتًا، ولو قال “إنباتًا” فهذا يعني أنّ الله تعالى أنبتها، ولم يجعل لها فضلًا، لكنّه أنبتها فاستجابت فنبتت نباتًا حسنًا، أي إنّه جعل لها من معدنها الطيّب قَبول هذا النبات، وأنبتها فنبتت نباتًا حسنًا، أي طاوعت هذا الإنبات فجعل لها القَبول، وجعل لها فضلًا في معدنها الكريم، فنبتت هذا النبات الحسن.

أما في تقديم شبه الجملة على الفاعل (دخل عليها زكريا) فهناك قاعدة نحويّة قال بها سيبويه في التقديم والتأخير: “يقدّمون الذي هو أهمّ لهم وهم أعنَى به”[3].

والتقديم والتأخير في القرآن الكريم يقرّره سياق الآيات، فقد يتقدّم المفضول، وقد يتقدّم الفاضل. والكلام في هذه الآية من سورة آل عمران، والآيات التي سبقتها كان في مريم (ع) وليس في زكريا، ولا في المحراب، لذا قدّم ما يعنيها “عليها” على الفاعل لأنّ سياق الكلام كلّه كان محوره مريم (ع).

  1. يقول تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (آل عمران: 39)، ويقول أيضًا: ﴿فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ﴾ (ص: 73). ما سبب ورود كلمة الملائكة بالتأنيث والتذكير في القرآن الكريم، وما الدلالة البيانيّة لذلك؟

الحكم النحويّ في مسألة التذكير والتأنيث يُجيز أن يُؤنَّث الفعل أو يُذكّر مع جمع تكسير (أي إذا تلاه جمع تكسير)، كما في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا…﴾ (الحجرات: 14)، وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ (يوسف: 30). فمن حيث الحكم النحويّ يجوز تذكير الفعل، أو تأنيثه.

أمّا من حيث الدلالة البيانيّة لذلك، فإنّ في القرآن الكريم خطوط تعبيريّة تحدّد تأنيث الفعل أو تذكيره، هذه الخطوط هي أنّ:

أ. كلّ فعل أمر يصدر في القرآن الكريم إلى الملائكة يكون بالتذكير، (اسجدوا، أنبئوني، فقعوا له ساجدين…).

ب- كلّ فعل يعقِب ذكر الملائكة يأتي بالتذكير أيضًا، كما في قوله تعالى: (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب…) و(الملائكة يشهدون…) (الملائكة يسبحون بحمد ربهم…).

ت- كلّ وصف اسميّ للملائكة يأتي بالتذكير (الملائكة المقرّبون…) (الملائكة باسطوا أيديهم…) (مسوّمين، مردفين، منزلين).

ث- كلّ فعل عبادة يأتي بالتذكير، نحو: (فسجد الملائكة كلّهم أجمعين…) (لا يعصون الله ما أمرهم…) لأنّ المذكر في العبادة أكمل من الأنثى في عبادتها، لذلك جاء الرسل كلّهم رجالًا.

ج- كلّ أمر يعبّر عن شِدّة وقوّة حتّى لو كان عذابَيْن أحدهما أشدّ من الآخر فالأشدّ يأتي بالتذكير، نحو: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الأنفال: 50)،(يتوفَّى) جاءت بالتذكير، لأنّ العذاب أشدّ (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ). أمّا في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (محمّد: 27)، توفَّتهم جاءت بالتأنيث لأنّ العذاب أخفّ من الآية السابقة. وكذلك في قوله تعالى: (ونزّل الملائكة تنزيلا) بالتذكير، وقوله تعالى: (تتنزّل عليهم الملائكة) بالتأنيث، وقوله: (تنزل الملائكة والروح فيها من كلّ أمر) بالتأنيث، نزّل أشدّ وأقوى من تتنزّل أو تنزّل.

د. البشرى مع الملائكة لم تأت بصيغة التذكير في القرآن الكريم، بل جاءت بصيغة التأنيث، كما في قوله تعالى: ﴿نَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى…﴾ (آل عمران: 39)، و﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ…﴾ (آل عمران: 45).

  1. قال تعالى: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾ (آل عمران: 40 – 41). وقال أيضًا: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (آل عمران: 45 – 47) في تبشير مريم بعيسى (ع).

ما الفرق في الدلالة البيانيّة بين استعمال كلمة ولد وكلمة غلام؟ وما المؤدّى البيانيّ في استخدام كلّ من الفعل “يفعل” و”يخلق” في قصّتّيْ زكريا ومريم (ع)؟

إذا سألنا شخصًا ما عن فعل قام به، لم تفعل هذا؟ يقول أنا أفعل ما أشاء، ولكن لا يقول أنا أخلق ما أشاء، القول “أن يفعل” أيسر من “أن يخلق”، فالقيام بالفعل أيسر من إحداث الخلق. وإذا سألنا سؤالًا آخر: أيّهما أسهل، الإيجاد من أبوين أم الإيجاد من أمّ بلا أبّ؟ يكون الجواب حتمًا أنّ الإيجاد من أبوين أسهل، وعليه جعل تعالى الفعل الأيسر (يفعل) مع الأمر الأيسر، وهو الإيجاد من أبوين، وجعل الفعل الأصعب (يخلق) مع الأمر الأصعب، وهو الإيجاد من أمّ بلا أبّ.

أمّا في ما يتعلّق باستخدام كلمة ولد أو غلام، فعندما بشّر الله تعالى زكريا بيحيى قال: ﴿فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى…﴾ (آل عمران: 39)، فكان ردّ زكريا ﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ…﴾ (آل عمران: 40) لأنّ البشارة جاءت بيحيى، ويحيى غلام فكان الجواب باستخدام كلمة غلام. أمّا عندما بشّر مريم بعيسى قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ﴾ (آل عمران: 45)، فجاء ردّها: ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ…﴾ (آل عمران: 47)، من باب استغراب أصل الولادة من دون وجود أبّ، لذلك استعمل كلمة “ولد” نسبة إلى الولادة. وبما أنّ عبارة (كلمة منه) في الآية أعمّ من كلمة الغلام، جاء الردّ على التبشير بكلمة “ولد” (من الولادة)، لأنّ الولد يُطلق على الذكر والأنثى، وعلى المفرد والجمع، وفي القرآن الكريم تمّ استخدامها في موضع الجمع: ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾ (الكهف: 39).

  1. قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ (آل عمران: 55). كيف يتوفاه الله تعالى مع أننا نقول إنه حيٌّ لم يُتوفَّى؟

التّوفّي في اللغة لا يعني الموت، فالموت هو حالة من حالات التوفّي بدليل قوله تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الزمر: 42). الله يتوفَّى الأنفس حين موتها، ويتوفَّى التي لم تمت في منامها، فالنوم هو القبض عن التصرّف الاختياريّ، لأنّ من معاني التّوفّي في اللغة النوم، والموت انتهاء الحياة، أي القبض الكامل ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حتّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ﴾ (النساء: 15)، فالموت نزع الروح من الجسد بصورة نهائيّة دون إعادة، بينما في النوم فيها إعادة. ورافعك إليّ لكنّه ليس ميتًا فهو كالنائم يتوفّاه بروحه، لكن جسده باقٍ. ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ النساء: 97، هذا بمعنى الموت. إذًا التوفّي بمعنى الموت، وبمعنى القبض عن التصرّف في الحياة، وفي الآية متوفّفيك أي قبضه عن التصرّف في الحياة.

  1. ما الفرق بين جاءهم البيّنات بالتذكير، وجاءتهم البيّنات بالتأنيث، في الآيات: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ* وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ* وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: 102 – 103 – 104 – 105). هذا تذكير. في التأنيث: ﴿فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ* سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَـكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾ (البقرة: 209 – 210 – 211 – 253)، هذه آيات. ﴿يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ… من بعد ما جاءتهم البينات﴾ (النساء: 153)، هذه معجزات.

يستعمل القرآن الكريم أحيانًا معنى الكلمة ليذكّر ويؤنّث وفاق المعنى، فعندما كان الحديث في المجموعة الأولى عن البيّنات بمعنى الإشارات الدالّة، والآيات، والمعجزات أنّثها، وحيث كانت في المجموعة الثانية بمعنى الأمر، والنهي ذكّرها. لنلاحظ سياق الآيات الأولى حيث البيّنات بمعنى المعجزات، والإشارات الدالّة على المراد فأنّثها، بينما السياق في المجموعة الثانية دلّ على الأمر والنهي فذكّرها.

  1. ما المؤدّى البيانيّ للفرق بين كلمة ريح ورياح في التعبير القرآنيّ؟

جاء استعمال كلمة ريح في القرآن الكريم في مواقف الشّر والقسوة والانتقام، كما في قوله تعالى: ﴿مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 117)، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ﴾ (إبراهيم: 18)، ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ (الإسراء: 69).

أمّا كلمة الرّياح فجاء استعمالها في مواقف الخير والرّحمة كالرياح المبشّرات في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأعراف: 57)، وفي الآيات: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾ (الحجر: 22)، ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ (الروم: 48).

أما في سورة سبأ فقد استعملت كلمة ريح مع سليمان (ع) ولم تُخصّص لشيء، وبقيَتْ عامّة قد تكون للخير أو للشرّ، لأنّ الله تعالى سخّرها لسليمان يتصرف بها كيف يشاء: ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ (سبأ: 12).

  1. قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾ (آل عمران: 126). وقال أيضًا: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (الأنفال: 10). ما المؤدّى البيانيّ في تقديم الجار والمجرور “بهِ” على الفاعل “قُلُوبُكُمْ”؟ وذكر كلمة “لكم” في الآية الأولى ووعدم ذكرها في الثانية؟

الضمير في قوله “قلوبكم به” أو “به قلوبكم” يعود على الجند الإلهيّ الذي أمدّهم الله به في المعركة، وهذا التقديم والتّأخير محكوم بسياق كلّ من الآيتين، ففي سورة آل عمران عرض مجريات معركة بدر وتمهيد لمعركة أُحد وما أصاب المسلمين من حزن وقرح، والمقام فيها تهدئة للقلوب وطمأنة لها، لنلاحظ: ﴿وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 139 – 140)، آيات فيها مواساة، وتصبير لما أصابهم من قرح إثر هزيمة أحد لأنّهم كانوا بحاجة إلى مواساة وتصبير، وإلى بشرى تطمئن قلوبهم بها، لأنّ حالتهم النفسيّة ليست كما كانت بعد النصر في بدر (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) فقال: (وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ) قدم القلوب لأنّها غاية الحديث، ولأن المقام مقام تصبير لها ومواساة.

أمّا في سورة الأنفال فقد ذكر الإمداد الإلهيّ وفصّل فيه، وأهمّيّته في تحقيق النصر، وهذا ما لم يذكره في آل عمران، فقدّم (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ)، لنلاحظ: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ* إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ* إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إلى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ (الأنفال: 9 – 10 – 11). فلمّا كان الحديث عن الإمداد الإلهيّ، والتفصيل فيه قدّم “به” لأنّه محور الحديث، ولما أراد أن يصبِّرهم قدّم القلوب (قلوبكم به).

أمّا في ذكر كلمة “لكم” في آل عمران وعدم ذكرها في الأنفال، نلاحظ أنّ في الأنفال تقدّم ما يدلّ على البشرى ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾، هذه بشرى، وحصل الإمداد عندما قال (فاستجاب لكم) فقال “بشرى” بدون “لكم” لأنّه ذكر “لكم” في الآية السابقة، وكأنّما قال البشرى بشكل آخر ولم يخصّصها، بل جعلها عامّة (وما جعله الله إلا بشرى).

  1. يقول تعالى: ﴿وَسَارِعُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 133). ويقول أيضًا: ﴿سَابِقُوا إلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ (الحديد: 21). ما الدلالات البيانيّة للفوارق بين الآيتين؟

في الآيتين أكثر من فارق: (وجود الواو، وانعدامها)، (السموات، والسماء)، (عرضها، وكعرض)، (للمتقين، وللذين آمنوا بالله ورسله)، ذلك فضل الله، ولم ترد في الآية الأولى.

أوّلاً: السماء والسموات: للسماء في اللغة وفي المباني القرآنيّة معنيان:

الأوّل: هو أن تشير إلى إحدى السموات السبع، كما في الآية: ﴿وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ…﴾ (الملك: 5).

الثاني: هو كلّ ما علا وارتفع عن الأرض ـ فالسقف – مثلاً – يسمّى في اللغة سماء. قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إلى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ﴾ (الحج: 15)، فالسماء هنا بمعنى السقف (أي ليمدد حبلاً إلى سقف بيته ثمّ ليخنق نفسه)[4].

  • وقد جاءت بمعنى السحاب: ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا﴾ (الرعد: 17).
  • وقد تكون بمعنى المطر: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾ (نوح: 11).
  • وقد تكون بمعنى الفضاء والجوّ: ﴿أَلَمْ يَرَوْا إلى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ﴾ (النحل: 79).
  • وقد تشير إلى هذا الارتفاع الشاهق: ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ (الأنعام: 125).

نلاحظ، أنّ السماء لها معانٍ كثيرة وواسعة جدًّا، فقد تأخذ معنى كل ما ارتفع ما عدا الأرض من السحاب، أو المطر، أو الفضاء، أو السقف، وغيرها، وبهذا تكون السموات جزءًا من السماء. بهذا المعنى الواسع فإنّ “السماء” تكون أوسع من “السموات” فالسماء تشمل السموات وغيرها، بدليل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (الفرقان: 6)، وقوله: ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ (الأنبياء: 4) فالقول أوسع وأشمل من السرّ، فقد يكون القول سرًّا، أوجهرًا، فيكون السرّ جزءًا منه.

ثانيًا: عرضها، كعرض

لِمَ لمْ يستعمل أداة التشبيه “الكاف” في الآية الأولى، بينما استعملها في الآية الثانية؟ السماء والأرض واسعتان جدًّا ولا يمكن تحديد اتّساعهما، لذلك استعمل لها التشبيه لتقريب معنى الاتّساع، لأنّها غير محدودة، لكن عندما استعمل السموات استعمل التحديد (عرضها السموات والأرض) للتقريب. والعربيّ عندما يسمع (عرضها عرض السموات والأرض) يفهم منها السماء الأولى الواحدة، لكن عندما قال (كعرض السماء والأرض) يفهم أنّ هذا إطلاق. فالقول (كعرض) أقوى، وأشمل، وأوسع من القول (عرضها) هكذا يُفهم.

عندما قال “السموات” قال: (عرضها السموات)، وعندما اتّسعت هذا الاتّساع الهائل استعمل التشبيه لإفادة الكثرة (عرضها كعرض السماء) لأنّ المشبه به عادة أبلغ من المشبه، ومن صفاته المبالغة في صفة المشبه، فالجنّة واسعة، ولكنّها لا تبلغ مبلغ السماء الذي يشمل كلّ شيء.

وكلمة “السماء” تأتي عامّة شاملة ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ…﴾ (الذاريات: 47)، ﴿وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ﴾ (الذاريات: 22)، ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ…﴾ (الملك: 16)، ثمّ تتّسع لأشياء أخرى، فعندما يقول: ﴿أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا﴾ (نوح: 15)، فهي ليست محصورة بالفضاء، ولا السقف، ولا السحاب، فعندما اتّسعت قال (كعرض السماء)، وعلى هذا بني التعبير كلّه في الآيتين.

ثالثًا: أعدّت للمتّقين، أعدّت للذين آمنوا

عندما ضيّق الاتّساع ذكر المتّقين، ثمّ وصفهم في الآيات التالية، وعندما وسّع المدى عمّم القول ليسع كلّ الخلق (الذين آمنوا بالله ورسله)، والمتّقين جزء من الذين آمنوا، فقد يكون الإنسان مؤمنًا، ولكن ليس تقيًّا، لذلك لم يذكر سلوكًا محدّدًا لهم كما ذكر للمتّقين.

رابعًا: سابقوا، سارعوا

عندما استعمل العرض المحدود (عرضها السموات والأرض) قال “سارعوا”، وعندما استعمل العرض الأوسع (كعرض السماء والأرض) قال: “سابقوا”. فالمسارعة تكون في المكان الذي لا يستدعي التنافس نظرًا إلى قلّة السالكين، بينما المسابقة تكون في مكان الازدحام والكثرة. فلمّا قلّ العدد “المتّقين” اقتضى المسارعة فقط، وليس المسابقة. ولمّا اتّسع المكان، وكثر العدد (الذين آمنوا) اقتضى المسابقة، وذكر السماء التي تشمل السموات وزيادة، وذكر الذين آمنوا بالله ورسله، وهي تشمل المتّقين وزيادة، ثمّ زاد وقال: “ذلك فضل الله”. لأنّ الفضل لا يحدّ، فقد جاء عامًا أوسع ممّا جاء في آل عمران ليناسب التعميم، والاتّساع المطلق.

خامسًا: تكرار العطف:

تتوالى في سياق سورة الحديد العبارات التي تشير إلى تفضّلات الله تعالى على المؤمنين في إرشادهم وهديهم، فلو عدنا إلى سياق الآيات نلاحظ أنّ هناك تشريع، ونهي عن ارتكاب المحرّمات، ودعوة إلى لتقوى، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ* وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ (آل عمران: 130 – 131 – 132)، ثمّ جاءت الآية (وسارعوا إلى مغفرة)، لذا توالت الواوات، لأنّ الآية وردت في سياق العطف. بينما الآية الثانية التي وردت في سياق آيات سورة الحديد ﴿…أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ (الحديد: 20). فيها شرح قضية معيّنة وتوضيحها، ولا وجود لأمر، أو نهي فيها، فجاءت (سابقوا) من غير الواو. فعندما كان الحديث عن التحريم طلب منهم أن يسارعوا، لأنّ المسألة ليست سباقيّة، فكلّ إنسان مسؤول عن فعله، لذا طلب إليه أن يُسرع إلى مغفرة بالتوبة، لأنّ التوبة شخصيّة تقتضي الإسراع، ولا مجال للمسابقة، والمنافسة. أمّا في الآية الثانية فالكلام جاء على أمور الدنيا، وأمور الدنيا فيها لهو ولعب، واللعب بذاته فيه منافسة، وتفاخر بين الناس، لذا قال: (سابقوا). والمسابقة هي أن يتسابقوا إلى مغفرة من ربّهم ويلجأوا إليه هربًا من هذا اللهو والعبث، والسباق قطعًا فيه سرعة وزيادة.

  1. يقول تعالى: ﴿وَمَا محمّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 144)، سياق الآية يستدعي الصبر، لماذا لم يقل “سيجزي الصابرين” بدل الشاكرين؟ وما الدلالة البيانيّة لذلك؟

الشكر مرحلة تأتي بعد الصبر، وهي أعمّ، فالصبر يكون على المصيبة، والثبات رغم قسوتها، والشكر يكون على التمكين من الصبر، والثبات، وعدم الضلال. فبذلك يكون الشكر مرحلة بعد الصبر، لأنّ الشكر اقتضى الصبر وزيادة. وفي العقيدة أنّ الرسول لا يرحل إلاّ بعد إكمال الدّين وإتمام النعمة، فإذا مات يكون الدّين قد اكتمل، عندها يكون الشكر لله تعالى على أمرين: على الثبات، وعلى إتمام الدين، فيجزي الله تعالى الشاكرين.

وقبل ذلك فإنّ الآية جاءت في سياق الشكر، لنلاحظ: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ (آل عمران: 145) فإذا صبر الإنسان على البليّة فله أجر الصابرين، وإن شكر كان أجره أعلى، فالشكر على الصبر عبادة، والشكر على العبادة صارت عبادة أخرى. فالصبر على المصيبة عبادة لها أجرها، وأنّ الشكر على الثبات على هذا الصبر صارت عبادة أخرى، قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ (سبأ: 13).

  1. يقول تعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (آل عمران: 147) لماذا قال: “قولَهم” بالنصب وليس بالرّفع؟ وما الدلالة البيانيّة لذلك؟

قُرِئت هذه الآية قراءتين متواترتين، الأولى بالنَّصب (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ) على احتساب أنّ خبر كان “قولَ” مقدّم على اسمها “أن قالوا”، والقراءة الثانية (وما كان قولُهم إلاّ أن قالوا) على احتساب “قولُهم” هي اسم كان والمصدر المؤوّل “أن قالوا” خبرها، فمن حيث اللغة ليس فيها إشكال في القراءتين، ويبقى السؤال أنّه ما الفرق في المؤدّى البيانيّ بين القراءتين؟ أو لماذا قُرِئت بقراءتين؟ ما يعني أنّ لكلّ قراءة معنى. لنرى: لو أخذنا الأصل بالرفع، وجعلنا مكان المصدر “إلاّ أن قالوا” اسم الإشارة “هذا” حتّى يتّضح الكلام، ويسهل فهمه، (ما كان قولُهم إلا هذا) قولُهم بالرفع، فيصير “هذا” خبرًا لكان، ما كان قولُهم إلاّ هذا القول، يعني في هذا الموقف لم يقولوا إلاّ هذا القول، وهو طلب المغفرة، والتثبيت، والنصر ﴿ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾.

أمّا في حالة النصب (قولَهم) فيصبح السياق (ما كان هذا إلا قولَهم) بتقدّم الخبر، أي لم يقله أحد غيرُهم، لم يقل هذا القول إلاّ هذه الفئة المؤمنة. وبهذا أصبح لدينا معنيان: الأوّل أنّهم لم يقولوا في هذا الموقف غير هذا القول، وهذا الدعاء، والثاني لم يقل هذا القول غيرُهم، أي إنّهم وحدَهم الذين قالوا هذا القول، فتحقّق المدح في القول، والأشخاص في القراءتين، مدح القائل، ومدح المقول. فعندما أقول مثلاً: ما هذا إلاّ صديقي، يعني ليس له صفة غير الصداقة بالنسبة إليّ، أمّا ما صديقي إلاّ هذا فيعني أنّه ليس عندي صديق غيره، وهذا ما يُعرف بالحصر.

  1. يقول تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (آل عمران: 153)، ويقول أيضًا: ﴿لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد: 23). ما الفرق البيانيّ بين “حزِنَ” و”حَزَنَ” و”أَسِيَ” في التعبير القرآنيّ؟

الفرق بين “حَزَنْ” من “حَزَنَ” بالفتحة و”حُزُنْ” بالضمّة من “حَزِنَ”، كِلا الفعلين يدلّ على الحُزن، حَزِن يحزَن، وحزَن يحزُن، حزِن يحزَن فعل لازم لا يتعدّى إلى مفعول، كما في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾ (فاطر: 34). ﴿وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾ (الحجر: 88). وحزِن يحزُن فعل متعدٍّ، ﴿فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ﴾ (يس: 76)، (الكاف مفعول به). حزنني وأحزنني ﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ﴾ (يوسف: 13). ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ﴾ (الأنعام: 33). اللغة العليا حزَنه يحزُنه وتستعمل أحزن أيضًا، أحزن من حَزَن[5].

أمّا الفعل “أسي” يأسى يأتي بمعنى حزِن أيضًا، كما في قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ﴾ هي في الأصل أأسى، وكلاهما يفيد الحزْن، لكن الفارق بين لكيلا تحزنوا، ولكيلا تأسوا أنّ الحُزْن مشقّة وشدّة أكثر لأنّه قريب من معنى الحَزْن الذي هو الغلظ، والشدّة في الأرض (اللهم لا سهل إلاّ ما جعلته سهلًا وأنت تجعل الحزْن إذا شئت سهلًا) الحَزْن أي الصّعب، وتقال للأرض الصّعبة. وعليه، فالحَزن فيه غِلظ وشدّة في الأرض، والحُزن هو الغلظ والشدّة في النفس، فيكون الحُزن أثقل على النفس من الحَزْن، الحَزْن – بمعنى الشاقّ والوعِر من الأرض – تجتازه، وينتهى الأمر، أمّا الحُزن فيبقى في النفس. الحَزن فتحة والحُزن ضمّة فاختيار الضمّة لما هو أثقل لأنّها تناسب اللفظة، ومدلولها، أو معناها[6].

والسؤال الذي يُطرح، هل هناك مفاضلة بيانيّة بين الحركات الإعرابيّة؟

ليس الأمر هكذا، ولكن ما لدينا أنّ الفتحة أخفّ الحركات، تليها الكسرة، ثمّ الضمّة أثقلها، والعرب كثيرًا ما تراعي هذه الأمور، إذ تجعل الثقيل للثقيل سواء في الحركات أم في اللفظ لتناسب اللفظ والمعنى، فعندما يتحوّل الفعل إلى وزن “فَعُل” يتحوّل إمّا للتعجب، أو للمدح والذّم، أو للمبالغة، أو التحوّل، نحو: فقِه وفَقُه، نقول: فقِه الرجلُ الأمر أي فهمه، فتكون “فقِه” جزئيّة، وفَقُه الرّجل أي صار فقيهًا. أمّا عَسِر وعَسُر، فنقول: عسِر عليه الأمر أي صعب عليه، أمّا عسُر الأمر فالأمر هو عسير. خَطَب ألقى خطبة، وخَطُب صار خطيبًا. وكذلك “صَلَحَ” و”صَلُحَ” ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ﴾ (الرعد: 23)، ما قال صلُح رأفة بالعباد. لأنّ صلُح تعني صار صالحًا إلى حدّ الكمال من الصلاح، والله تعالى يكفيه من الإنسان أن يكون صالحًا لا أن يبلغ كمال الصلاح. فالحركة تغيّر الدلالة تمامًا، هذه قاعدة عامّة، ولكن السماع يقطع بذلك أحيانًا.

نعود إلى سياق الآيات، لكيلا “تأسوا” ولا تحزنوا” اتّضح لنا ممّا تقدّم أنّ الحزن أشدّ من الأسى، لننظر في السياق ونقدّر: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمَّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ جاء هذا الكلام بعد واقعة أُحد حيثُ أُصيب المؤمنون بهزيمة وشدّة وجراح، وفاتتهم الغنائم، فقال تعالى: ﴿فَأَثَابَكُمْ غُمَّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ﴾. فالحُزُن في أُحد جاء على أمرين: الأوّل على ما فاتهم، والثاني على ما أصابهم،. أمّا في سورة الحديد (لكيلا تأسوا على ما فاتكم) أمر واحد (ولا تفرحوا بما آتاكم) هذه نعمة. في أُحد الحزن أكثر، أمّا في الحديد فالحزن أقلّ، لذلك استعمل “تأسوا”. وبهذا تكون كلّ كلمة جاءت في مكانها البلاغيّ، إذ لا يوجد ترادف في القرآن الكريم، فالتعبير القرآنيّ تعبير فنّيّ مقصود، حتّى عند اختيار لغة على لغة يكون الاختيار مقصودًا.

  1. ما المؤدّى البيانيّ لاستخدام الفعل الماضي والمضارع في آية سورة فاطر ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ﴾ (فاطر: 29)؟

من المعروف أنّ الفعل المضارع يدلّ على الحال، والتّجدد، والاستقبال، والفعل “يتلوّن” فعل مضارع، وأقاموا فعل ماضي، والماضي مضى، هذا هو الأصل. وفي الآية بدأ التعداد أوّلًا بما يتجدّد أكثر، فتلاوة القرآن أكثر من الصلاة لأنّ إقامة الصلاة لا تكون إلاّ بقراءة القرآن، وقراءة القرآن تكون في كلّ وقت، وإقامة الصلاة هي أكثر من الإنفاق، إذًا فالأفعال مرتّبة في الآية بحسب الكثرة، وبحسب الاستمرار، فبدأ بما هو أكثر بالأكثر، والأكثر استمرارًا، ثمّ بما دونه كثرة “الصلاة”، ثمّ الأقلّ “الإنفاق”.

والفعل “أقاموا” هو فعل ماضٍ فهل هو مضى؟ إذا جاء الفعل الماضي بعد اسم موصول يكون له زمنان، فقد يكون له الماضي، نحو قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ﴾ (آل عمران: 173) وقد يحتمل معنى المضي والاستقبال، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَـئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة: 159 – 160). هذه الأفعال الماضية “تابوا، وأصلحوا، وبيّنوا” تدلّ على احتمال الاستقبال (أي في ما بعد) لأنّها جاءت بعد الكتمان (إنّ الذين يكتمون). أمّا “كان” فلها أزمنة خاصّة بها، فهي تفيد الاستمرار (كان ولا يزال) وتأتي أصلًا للاستقبال كما في قوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ (النبأ: 19). تفيد الاستقبال لأنّ الحديث عن الآخرة، وفي قوله تعالى: ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (النساء: 96)، فهي تدلّ على كونه غفور رحيم وهذا كونه سبحانه.

  1. يقول تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ (آل عمران: 176 – 177 – 178). ما المؤدّى البيانيّ لاختلاف صفة العذاب في خواتيم الآيات (عذاب عظيم، عذاب أليم، عذاب مهين)؟

في الآية الأولى ذكر الذين يسارعون في الكفر، فتوعّدهم بأن لا يجعل لهم حظًا في الآخرة ولا في الآخرين، فقال “العذاب العظيم” وهو أشد العذاب. وفي الآية الثانية ذكر الذين اشتروا الكفر بالإيمان، يعني تركوا الإيمان واشتروا الكفر فخسروا، فالذي يشتري بضاعة يطلب الربح، فإذا خسر يتألّم، والخاسر يتألّم، فقال “عذاب أليم”. أمّا الآية الثالثة فهي تختصّ بالذين أملى لهم من المال، والرزق، والسّعة، يملي لهم ما هو خير لهم في ظاهره، وما يفخرون ويعتزّون، وقد يتطاولون على خلق الله، فهذا المتطاول يُهان، فجاء بضدّ ما كان يصنع في حياته الدنيا، كان يعتزّ ويفخر، فأُهين. فالعذاب قائم في الآيات الثلاث، لكن كلّ عذاب تناسب مع ما قيل فيه، ومن قيل فيه.

  1. ورد التعبير عن مجيء الرّسل في القرآن الكريم مرّة بالتذكير، ومرّة بالتأنيث، في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ (آل عمران: 183) وقوله: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (الأعراف: 53). ما الدلالة البيانيّة لذلك؟

القاعدة النحويّة المتعلّقة بالفعل السابق لجمع التكسير تُجيز تذكير الفعل وتأنيثه، فيؤنّث الفعل عندما يكون الفاعل يدلّ على الجماعة ويفيد التكثير، لأنّ تاء التأنيث تفيد التكثير، ويذكّر الفعل إذا كان يدلّ على الجمع، ويفيد الأقلّ. كما في قوله تعالى: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا﴾ (الحجرات: 14)، أنّثَ الفعل لأنّ الأعراب كُثُر، وقال أيضًا: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ (يوسف: 30)، ذكّر الفعل لأنّ النسوة قلّة. وعليه، ففي الآية من آل عمران تحدّث عن مجموعة قليلة من الرسل، فقال (قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي)، أمّا في (الآية 43) من الأعراف تحدّث عن مجموع الرسل، فقال: (جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا) فهم أكثر، لذا جاء الفعل بصيغة المؤنّث ليفيد التكثير.

  1. ورد في سورة آل عمران قوله تعالى: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: 198)، وقوله: ﴿وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ ما المؤدّى البيانيّ لذكر الخلود في الآية الأولى، وعدم ذكره في الثانية؟

أوّلًا: نتأمّل السياق الواقع قبل الآية التي ذكر فيها الخلود، حيث قال: ﴿لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ…﴾ (آل عمران: 196 – 197)، فعكس المتاع القليل في الدّنيا متاع دائم في الآخرة، فعندما قال متاع قليل قابله بعدها بمتاع دائم ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ﴾ (آل عمران: 198)، فذلك يوجب أن يكون متاعًا خالدًا لا متاعًا قليلًا، فقال: (لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) عكس المتاع الدنيويّ القليل الذي ذُكر في الآية السابقة.

ثانيًا: قال في سياق السورة قبل الآية الأولى: ﴿فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ (آل عمران: 195) فهؤلاء يدخلون في صفوف المتّقين عملًا بقوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177) فالذين هاجروا هم في المتّقين أنّهم خالدون، فعندما قال: ﴿لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ دخل فيها أولئك الذين هاجروا، وأخرجوا من ديارهم قطعًا.

من ناحية أخرى، فالتقوى أعمّ وأشمل من الهجرة والخروج رغمًا من الديار وتلقّي الأذى في سبيل الله، فالتقوى تشمل أمورًا كثيرة، كما في قوله تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ (البقرة: 177) فأولئك المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم هم جزء من هؤلاء. وعليه، يكون الذين اتّقوا ربّهم أعلى درجة من أولئك. ففي الآية الأولى قال: ﴿وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾، وفي الآية الأخرى قال: ﴿لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾، فأن تكون “لهم جنّات” أعلى من “يدخلهم جنّات”، فالإدخال لا يقتضي التملّك. ففي الجزء قال (لأدخلنّهم جنّات)، وقال خالدين فيها، وفي الثانية لم يقل خالدين فيها، بل قال نزلًا من عند الله، والأخرى ثوابًا من عند الله، فالنزل أعلى لأنّه مخصوص بالضيف من إكرام، وإطعام، وصلة، وقد يأتي النزل بمعنى المنزل أي في ضيافة الرحمن، أمّا الثواب فهو إعطاء الأجر، فقد تعطي المرء أجره، ولكن ليس بالضرورة أن تنزله ضيفًا.

وما بعد النزل يأتي الرضوان: ﴿وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 72). فالاختلاف بين الفريقين ليس في الخلود فقط، بل في الأجور كذلك.

ثالثًا: الله تبارك وتعالى قال: ﴿وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا﴾ فالدخول عكس الخروج، والإخراج عكس الإدخال، فالفعل “أُخرجوا” مبنيّ للمجهول، وعكسه المبنيّ للمعلوم، قال: (وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ)، والله تعالى قال: (لأدخلنّهم)، فمقابل الإخراج إدخال، ومقابل الديار جنّات.

رابعًا: هذه الآيات في أواخر سورة آل عمران، تنتهي بالآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200)، صابروا أعلى درجة من اصبروا، فالذين أُخرجوا من ديارهم، وأوذوا أشدّ من الذين هاجروا. فقال للذين أخرجوا من ديارهم وأوذوا “اصبروا”، مقابل “صابروا ورابطوا” للذين هاجروا، لأنّهم في الثغور أي في الحرب. فالذين أخرجوا من ديارهم وأوذوا يقابله صابروا، والذين قاتَلوا وقتلوا يقابله رابطوا. الترتيب نفسه و”اتّقوا الله لعلكم تفلحون” يقابله “لكن الذين اتّقوا ربّهم لهم جنّات” فالترتيب جاء بحسب الشدّة، وبحسب ما ذكر في الآية التي قبلها بالترتيب.

ختم سورة آل عمران بالأمر بالتقوى، وبدأ سورة النساء بعدها أيضًا بالأمر بالتقوى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1).

سورة النساء

في الآية الأخيرة من سورة آل عمران خاطب الله تعالى المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 200) وفي بداية سورة النساء خاطب الناس عامّة: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ (النساء: 1)، أمر المؤمنين بالصبر، والمرابطة، والتقوى، بينما أمر الناس جميعًا بالتقوى، فالمؤمنون فئة من الناس، والناس أعمّ، ولخصوصيّتهم أمرهم بأكثر من التقوى، فالمرابطة أمر لا يستطيعه كلّ الناس فخصّ به المؤمنين القادرين عليه. أمّا التقوى فهي أمر مطالبٌ به الناس جميعًا ومُشترَك بينهم. وسورة النساء مدنيّة، وعدد آياتها 176 آية.

أهداف السّورة وبعض وجوهها البيانيّة

بعد أن حدّد الله تعالى في سورة البقرة المنهج الذي يجب أن يسير عليه الناس في الحياة، وركّز في سورة آل عمران على وجوب الثبات على هذا المنهج، تأتي سورة النساء لترشدنا إلى أنّ العدل والرحمة بالضعفاء من أهمّ الالتزامات لاتّباع المنهج. وسورة النساء تتحدّث عن أنواع متعدّدة من الضعفاء، والمستضعفين كاليتامى، والعبيد، والنساء، والإماء، والأقليّات غير المسلمة التي تعيش في رحاب المجتمع الإسلاميّ، وقد تتعرّض للظلم. فجاءت سورة النساء لتؤكّد أنّ العدل والرحمة بالضّعفاء هما أساس المسؤوليّة في استخلاف الأرض.

والعدل يبدأ في البيت مع النساء، فعدل الرجل مع الزوجة مقدّمة للعدل مع باقي الناس في المجتمع مهما اختلفت طبقاتهم. والله تعالى أراد أن يرى عدل الناس بالنساء قبل أن يستأمنّا على الأرض.

وقد سبق وأتت سورة آل عمران على ذكر المرأة من خلال قِصّة زوجة عمران، ومريم (ع)، تمهيدًا لإعطاء المرأة مكانتها الاجتماعيّة، وتكريسها كرمز للثبات في الأرض. وسمّيت السورة بـ(النساء) تكريمًا لهنّ، ولدورهنّ في تكامل الأمّة الإسلاميّة.

ونستعرض آيات السورة حيث تزخر بمعاني العدل والرحمة

  • تبدأ السورة في مستهلّها بتذكيرنا أنّ خلق الإنسان كان من نفس واحدة، وأصل واحد، فلا يصحّ أن يظلم بعضنا بعضًا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1).
  • عدد أنواع الضعفاء، فهم من اليتامى، والنساء، والسّفهاء، وغيرهم، وحثّ على العدل والرحمة بهم: ﴿وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا* وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ* وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا* وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾ (النساء: 2- 3- 4- 5)… إلى آخر آيات التوجيه والإرشاد بوجوب العدل والرحمة بحق الضعفاء عمومًا.
  • تحذير الظالمين من عواقب ظلمهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ (النساء: 10).
  • ثمّ تأتي آيات الميراث، وأنصبة الورثة من تركة المتوفَّى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا* وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ (النساء: 11 – 12).
  • التأكيد على الحدود الموضوعة وإبراز خطورة التهاون بها: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (النساء: 13).
  • وضع حدود للتعامل مع المرأة، والحثّ على معاشرتها بالمعروف، والابتعاد عن ظلمها، والصبر عليها، والترفّق بقلبها لتنسى الظلم والإساءة. يبدأ بالعشرة بالمعروف، ثمّ الصبر عليها، ثمّ إذا كرهتموهن فلا حرج من استبدالها، لكن لا يأخذ أموالها كرهًا، وليتذكّروا ما كان بينهم من عشرة وعلاقة حميمة، ولذا جاءت كلمة “أفضى” بكلّ معانيها الجميلة، وليتذكّر الرجال أنّهم استحلّوا نساءهم بميثاق غليظ على سنة الله ورسوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا* وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا* وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ (النساء: 19 – 20 – 21).

كما أنّه تعالى أمر بالعدل مع الإماء، واستعمل كلمة أهلهنّ بدل أسيادهن، ونصحهنّ بأن لا يتّخذن أصحابًا حتّى لا تتأذّى قلوبهنّ رأفة بهنّ: ﴿وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (النساء: 25).

وهدف كلّ هذه التوجيهات رحمة الناس واللطف بهم: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 28).

  • تحقيق العدل في الأنفس والأموال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ (النساء: 29).
  • وضع الضوابط الأسريّة في ظلّ العدل داخل الأسرة كي تستقيم أمور الحياة وتأخذ مجراها الطبيعيّ: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ (النساء: 34).
  • الأمر بالإحسان وتحقيق العدل الاجتماعيّ الكامل: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا﴾ (النساء: 36). والتوجيه شمل شرائح المجتمع كافّة.
  • التحذير من سلوكيّات تؤثّر سلبًا على العدالة الاجتماعيّة، وتحدّ منها كالبخل، والرياء: ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا* وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ (النساء: 37 – 38).
  • الحثّ على الإحسان الذي يقابله الله تعالى بالفضل قبل العدل، ويستشهد الرسول على عدله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذرّة وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا* فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا﴾ (النساء: 40).
  • وأهمّيّة الأمانة في ترسيخ العدالة الاجتماعيّة (آية: جاءت آيتها محوريّة في الأهمّيّة): ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (النساء: 58).
  • المواجهة والقتال لتحقيق العدالة، وضمان حقوق الشرائح الاجتماعيّة المتعدّدة: ﴿فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا* وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ (النساء: 74 – 75).
  • العدل في خوض الحروب، ومعاملة الناس برحمة في المعارك بما تمليه أخلاق الحرب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء: 94).
  • التنبيه من خطورة المنافقين لتأثيرهم السلبيّ على تحقيق العدل، وتوجيهات للفئات المستضعفة: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا* إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ (النساء: 97 – 98).
  • الرحمة الإلهيّة بالعباد حتّى في تقصير الصلاة: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (النساء: 101).
  • العدل مع الأقلّيّات التي تعيش في المجتمع الإسلاميّ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا* وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ (النساء: 105 – 113).
  • التأكيد على وجوب العدل، وأنّ الله تعالى يراقب الأعمال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء: 135).

واللافت في هذه السورة غلبة عبارات العلم، والقدرة، والحكمة، والمغفرة، والرحمة، وهي من دلائل العدل، وأنّ أكثر آيات السورة خُتمت بأسماء من أسمائه الحسنى (عليم، حكيم، أو من صفات القدرة، والرحمة، والمغفرة)، وقد ورد فيها اثنان وأربعون اسمًا من أسماء الله الحسنى، ما يؤكّد على أهمّيّة إقامة العدل والرحمة.

وجوه بيانيّة

  1. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ (النساء: 1)، ويقول أيضًا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ (الأعراف: 189)، ويقول كذلك: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ (الزمر: 6) الواضح أنّ الحديث عن عمليّة خلق الإنسان، ما الدلالات البيانيّة لاختلاف الآيات؟ وما الفرق بين الخلق والجعل؟

الخلق أقدم من الجعل وأسبق، والجعل غالبًا ما يأتي بعد الخلق بمعنى التحوّل، أي من الصيرورة، جعل الشيء صيّره[7]، فعندما نقول جعل القماش ثوبًا، ليست كقولنا خلق القماش ثوبًا، فالقماش مخلوقٌ بدءًا ثمّ يُجعل ثوبًا، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ﴾ (المائدة: 60)، فهذا يعني صيّرهم، وليس خلقهم خنازير، ﴿قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا﴾ (البقرة: 124)، صيّره إمامًا، وليس خلقه إمامًا، فالجعل يكون بعد الخلق غالبًا. أمّا في (الآية: 1) من سورة النساء قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ (النساء: 1) هذا الكلام محصور بآدم وحواء، وهو خلق.

أمّا قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (الأعراف: 189 – 19). هذا الكلام بعد خلق آدم وحوّاء، لذلك فهو جعل.

وفي سورة الزمر قال: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا…﴾ (الزمر: 6) أي خلقكم من نفس واحدة هي آدم (ع)، وهو الأصل، و(خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) يقصد بها حواء، و(جعل منها زوجها) تحوّل الكلام إلى الحديث عن الذرية، فعندما ذكر حواء قال: (خَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا): وعندما ذكر الذريّة قال: (جَعَلَ مِنْها زَوْجَها).

  1. يقول تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا﴾ (النساء: 3). لماذا استخدم “ما” ولم يستخدم “مَنْ” مع أنّ الحديث عن العاقل؟ وما الدلالة البيانيّة لذلك؟ وهل تضمّنت الواو معنى الجمع ليصبح عدد الزوجات تسع؟ أم أنّ للواو دلالات بيانيّة متعدّدة؟

أوّلًا: في استخدام “ما” و”مَنْ”: تُستعمل “من” لذات من يعقل، فأقول: مَنْ هذا؟ هذا فلان، مَنْ أنت؟ أنا فلان. فهي لذات العاقل سواء كانت اسم استفهام، أم اسم شرط، أم نكرة موصوفة، أم اسم موصول. أمّا “ما” فتستعمل للسؤال عن ذات غير العاقل، فنقول ما هذا؟ هذا طائر. وتُستعمل أيضًا لصفات العقلاء، الذات أي الشخص الكِيان، وتُستعمل لذات غير العاقل نحو: أشربُ ما تشرب. نقول: من هذا؟ تقول خالد، ما هو؟ تقول أديب، أو تاجر. وفي الآية ﴿فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء﴾ النساء عاقل، والمقصود هو صفة العاقل وليس العاقل، أي انكحوا الطيّب من النساء. لنرى بعض الأمثلة: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ (الشمس: 7)، الذي سواها هو الله، ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى﴾ (الليل: 3)، الخالِق هو الله تعالى. إذًا “ما” قد تكون لصفات العقلاء مهما كان معناها سواء كانت بمعنى الذي أو غيره، فهذه دلالتها.

وقد تكون “ما” للسؤال عن حقيقة الشيء، كقوله تعالى: ﴿قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ﴾ (الفرقان: 60) يسألون عن حقيقته، ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (الشعراء: 23) يتساءل عن الحقيقة.

وقد تأتي “ما” للتفخيم والتعظيم، كما في قوله تعالى: ﴿الْقَارِعَةُ* مَا الْقَارِعَةُ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ (القارعة: 1)، ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ﴾ (الواقعة: 27) تفخيم وتعظيم سواء كان في ما هو مخوف، أو في ما هو خير.

ثانيًا: دلالة الواو في قوله تعالى (مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ): مثنى معناها اثنتين اثنتين أي مكرر، وثُلاث في اللغة معناها ثلاث ثلاث، وليس معناها ثلاثة، ورباع معناها أربع أربع، وليس معناها أربعة. ولكي تتوضح إشكاليّة معنى مثْنى وثُلاث ورُباع؛ نقول مثلًا لمجموعة: خذوا قلمين، يعني كلّهم يشتركون في أخذ القلمين، ولكن إذا قلنا خذوا قلميْن قلمَيْن فهذا يعني أنّ كلّ واحد منهم يأخذ قلمين. وخذوا ثلاثة كتب يعني كلّهم يشتركون في أخذ ثلاثة كتب، ولكن عندما نقول: خذوا ثلاثة ثلاثة يعني أنّ كلّ واحد يأخذ ثلاثة. هذا معنى مَثْنى، ولو قال اثنتين لا يصحّ، فكيف يتزوّج الناس كلّهم اثنتين؟ أمّا اثنتين اثنتين، ثلاث ثلاث، أو أربع أربع، يعني الإباحة اثنتين اثنتين، أو ثلاث ثلاث، أو أربع أربع، فإنّ لم تعدلوا فواحدة، وأقصى شيء مذكور هو أربع. فإمّا أن يكنَّ اثنتين اثنتين إن شاء الناس، أو ثلاث ثلاث، أو أربع أربع، وهو الحدّ الأعلى، وليس تسع بجمع الأعداد المذكورة. فلا يمكن في اللغة أن يقول اثنتين، وثلاث، وأربع، إذ لا يصحّ، ولا يجوز، لأنّها تعني أنّ الكلّ يشتركون في العدد. وهذا ينطبق على قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (فاطر: 1)، يعني أنّ قسمًا له اثنين اثنين من الأجنحة، وقسم له ثلاثة ثلاثة، وقسم أربعة أربعة، ولا يعني أنّهم يشتركون جميعًا في جناحين، أو ثلاثة، أو أربعة. فالمباح من النكاح حدّه أربعة، فإن لم تعدلوا فواحدة.

ولكن السؤال الذي يُطرح، لماذا لم يستخدم “أو” بدلاً من “و” مثلًا؟

عندما اختار الواو فهذا يعني أنّ بإمكانك أن تختار اثنتين ثلاثة أربعة، ولكن لو قال “أو” فهذا يعني تخييرك بواحدة من هذه الحالات، إمّا اثنتين، أو ثلاث، أو أربع، ومتى اخترت واحدة منها فلا يحقّ لك اختيار ثانية، لأنّ “أو” تفيد التخيير، كما في قوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ (المائدة: 89). والواو تأتي لمجرد العطف، وفيها الإباحة أن يختار ما يشاء من هذه الحالات. والأصل واحدة والتعدّد هذا شيء آخر، لأنّه قال: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً﴾، واحدة هو الأصل.

  1. يقول تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 11)، ويقول أيضًا: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (النساء: 131) ما الفرق بين وصّى وأوصى في التعبير القرآنيّ؟

– وصّى بالتّشديد وردت في أمور الوصيّة الشديدة والمُهِمّة، لذلك جاءت في أمور الدّين الأساسيّة التي لا يمكن التهاون بها، وجاءت كذلك في الأمور المعنويّة، يقول تعالى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 132)، أمر دينيّ أساسيّ، ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ (النساء: 131). التقوى أساس الأمور الدينيّة، ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ (العنكبوت: 8)، كذلك الإحسان بالوالدين أمر دينيّ أساسيّ شدّد الله تعالى عليه في أكثر من مقام، ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا﴾ (الشورى: 13)، وهنا أمر دينيّ أساسيّ كذلك لا يمكن التهاون به.

– أما “أوصى” فاستعملت في الأمور المادّيّة: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾، أمر مادّيّ. ﴿وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ﴾ (النساء: 12) كذلك جاءت هنا لأمر مادّيّ. ولم ترد كلمة “أوصى” في ما يتعلّق بالأمور الدينيّة أو المعنويّة إلاّ في موطن واحد اقترنت بأمر مادّيّ عباديّ، في قوله تعالى على لسان المسيح (ع): ﴿وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا﴾ (مريم: 31)، فقال أوصاني لأنّها اقترنت بأمر مادّيّ وعباديّ وهو الزكاة، وورودها في هذا المقام عائدٌ إلى أنّ القائل هو غير مكلّف، لذلك خفّف من الوصيّة لأنّه لم يحن تكليفه بعد لا بالصلاة ولا بالزكاة، لذلك جاء بالتفخفيف.

  1. وردت لفظة “والد” في القرآن الكريم بصيغة المفرد والمثنى، والتّذكير والتّانيث، 26 مرّة، وكلمة أب بصيغ المفرد والمثنّى والجمع 87 مرّة. ما الفرق بين الوالدين والأبوين في التعبير القرآنيّ؟

كلمة “الوالدان” تعني الوالد والوالدة، ولكنّها تثنية للوالد، والولادة الحقيقيّة للأمّ، وليست للأب، فالأب ليس والدًا إلاّ مجازًا، فالأمّ هي التي تلد. واللافِتُ أنَّ الله سبحانه وتعالى لم يستعمل البرّ، والإحسان، والدّعاء إلاّ للفظ الوالدين، كقوله تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ (النساء: 36) فيها برّ، وقوله: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ﴾ (نوح: 28) فيها دعاء. وذلك إكرامًا لفعل الولادة.

أمّا كلمة “الأبوين” فتعني الأب والأمّ، وهي تثنية الأب، والأمّ تُلحق بالأبوة، ولأنّ الأحقّ بحسن الصُّحبة هو الأمّ بسبب الولادة، قدّم الوالدين (أي أصل العمل). أمّا في أمور القيمومة كالميراث، والسلطة فقدّم الأبوين، لأنّ الأب له النّصيب الأكبر في الميراث، والحقّ في السلطة، فتُصبَغُ الأمّ بصفة الأب ﴿وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ﴾ (النساء: 11) الأمر يتعلّق بالميراث، وليس بالبرّ، أو بالدعاء، وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ﴾ (الكهف: 80)، لا يوجد برّ. وعندما أورد لفظة “أبويه” ولم يقل والديه في قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ (يوسف: 100). كان ذلك لسببين:

الأوّل: إكرامًا للأمّ، حيث جعلها تابعًا للأبوّة في السّجود، ولو قال “والديه” لكان السّجود للولادة أي للأمّ، بينما هي أكرم من الأب في هذا المقام.

الثاني: أنّ الأب أحق بالعرش وليس الأمّ، فقُدِّم الأبوان على الوالدين.

  1. في سورة النساء خُتمت آية المواريث بالنسبة إلى الذكور بقوله تعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 11)، وفي آية المواريث من السورة نفسها بالنسبة إلى الكلالة خُتمت بقوله: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النساء: 176) فما دلالة الاختلاف بين خواتيم الآيتين؟

في قوله: ﴿إن الله كان عليمًا حكيمًا﴾ أدلّ على العلم من ﴿والله بكل شيء عليم﴾. فالفعل “كان” يدل على أن الله تعالى يعلم بالأمر قبل أن يقع، وهذا التعبير أدّلّ على العلم من التعبير الثاني (يعلمه الآن). ففي الأولاد الذكور قال تعالى: ﴿آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا﴾. وبما أنّ الله كان عليمًا حكيمًا فقد شرّع بناءً على علمه المسبق بهذا الأمر.

أمّا في آية الكلالة فلم يذكر حيرتهم في عدم المعرفة، ولكنّه ذكر حالتهم، فالإنسان يقول لو أعلم هذا لفعلت كذا. فلمّا ذكر جهل الإنسان وعدم المعرفة؛ ذكر أنّ علمه سبحانه وتعالى سابق ﴿إن الله كان عليمًا حكيمًا﴾، ولما لم يذكر هذا الأمر قال: ﴿والله بكل شيء عليم﴾. فالذي يدلّ على العِلم أكثر هو عندما تقول كنت أعلم بهذا وليس قولك: أعلم هذا.

ملاحظة: إن لكلمة “كان” دلالات متنوّعة تبعًا للسياق الموضوعة فيه، والذي يريده المتكلّم. فالنحاة أفردوا شروحًا لزمنها، فهناك الزمان الماضي المنقطع، كأن تقول كان ذاهبًا وعاد. وهناك الماضي المستمرّ (كان الاستمراريّة) بمعنى كان ولا يزال، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ (الإسراء: 11)، ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (الإسراء: 53) ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ (النساء: 58) يسمّونها كان الاستمراريّة، أي هذا كونه منذ أن وُجِد. وليس في الماضي المنقطع، فعندما نقرأ ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ (الإسراء: 53)، لا تعني أنّه كان عدوًّا، والآن أصبح صديقًا، وإنّما كان لا يزال عدوًّا.

و”كان” تفيد الاستقبال، كقوله تعالى: ﴿وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا﴾ (النبأ: 19)، أي صارت في المستقبل. ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً﴾ (الواقعة: 7)، أي صرتم، أصبحتم. فكلمة “كان” فيها كلام كثير عند النُحاة غير “كان” التامّة والناقصة من حيث الزمن، وهي ليست كما يظنّ البعض ممّن على معرفة قليلة باللغة. ومن يريد المعرفة أكثر عليه أن يراجع قواعد اللغة.

  1. قال تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (النساء: 13)، وقال: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ (النساء: 14). وقال أيضًا: ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ (الجن: 23)، لماذا قال خالدين فيها مرّتين، وخالدًا فيها مرّة واحدة مع أنّ السياق واحد؟ وما المؤدّى البيانيّ لذلك؟

في الآية الأولى يتحدّث عن النعيم في الجنّة، قال “خالدين فيها” بالجمع لأنّ في الجنّة نعيمان: نعيم الجنّة، ونعيم الصحبة الكريمة، والإنسان يأنس بالجمع، لذلك لا نجد في أصحاب الجنّة عبارة “خالدًا فيها” بالمفرد مطلقًا، بل دائمًا “خالدين فيها” لأنّه ليس هناك وحدة في الجنّة.

أمّا في الآية الثانية فالحديث عن معصيتين: الأولى معصية الله، والثانية تعدّي الحدود (كالسرقة، وشرب الخمر، والزنا، وغيرها…) ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا﴾ (البقرة: 187)، فيأتي العذاب مضاعفًا، عذاب جهنّم، وعذاب الوحدة، والإنسان يرهب الوحدة، ويستوحش بها حتّى لو كان في الجنة، فعندما يكون وحده وليس معه أحد يكلّمه، فإنّه يستثقل ذلك جدًّا، فيكون العذاب أشدّ وقعًا وفيه من الإهانة، لذلك قال: ﴿وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾.

أمّا في الآية الثالثة فقد ذكر العصيان فقط، وهو عصيان جماعيّ للكفّار حين اجتمعوا على الرسول كما تخبرنا الآية التاسعة عشرة من سورة الجنّ: ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا﴾ (الجن: 19). فاستحقوا على عصيانهم العذاب الجماعيّ بالخلود في العذاب زمرة واحدة.

  1. يقول تعالى: ﴿وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حتّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (النساء: 18)، ويقول أيضًا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ﴾ (المائدة: 106). وقوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ (البقرة: 133)، ويقول أيضًا: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ﴾ (المؤمنون: 99)، وفي سورة الأنعام يقول تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حتّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ﴾ (الأنعام: 61). ما الفرق في المؤدّى البيانيّ بين حضر وجاء في الآيات القرآنيّة؟

فعل حضر في اللغة هو من الحضور والإقامة، يعني الوجود ﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ﴾ (الأعراف: 163) أي قائمة وموجودة على شاطىء البحر، وليس معناه بالضرورة الانتقال والمجيء، فإذا قلتَ: كنتُ حاضرًا إذ حصل الحادث، فهذا يعني شاهد وموجود، أي نقيض الغياب، ويقال كنت حاضرًا في المكان أي كنت موجودًا فيه.

أمّا الفعل جاء فيعني الانتقال من مكان والمجيء إلى آخر، وبذلك يكون الحضور غير المجيء، ولهذا نقول: إنّ الله حاضر في كلّ مكان دليل وجوده في كلّ مكان، يقول تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ﴾ (الكهف: 98)، بمعنى أنّ الأمر لم يكن موجودًا وإنّما جاء. وكذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ﴾ (المؤمنون: 27).

وخصوصيّة استعمال الأفعال في القرآن الكريم غاية في الدّقة البيانيّة، كاستعماله -مثلًا- كلمة “بررة” للملائكة وكلمة “أبرار” للمؤمنين.، ففي الآيات أعلاه نلاحظ أنّ لكلٍّ من الفعلين حضر وجاء خصوصيّة دقيقة في الاستعمال، فحضور الموت ورد في الحديث عن الأحكام والوصايا كما في آية سورة البقرة، وكأنّ الموت هو من جملة الشهود (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ)، (ووصية يعقوب لأبنائه بعبادة الله الواحد). فالقرآن في هذه الآيات يتحدّث عن الأحكام، والوصايا لا عن الموت بذاته وأحوال الناس فيه.

أمّا في ما يخصّ مجيء الموت في القرآن “جاءَ أحدَهم الموتُ” فورد في الكلام على الموت نفسه، أو أحوال الناس في الموت، كما في آية سورة “المؤمنون”، فالذي جاءه الموت يريد أن يرجع ليعمل صالحًا في الدنيا، فالكلام متعلّق بالموت نفسه، وأحوال الشخص الذي أدركه الموت. وكذلك في آية سورة الأنعام.

كما يستعمل فعل جاء مع الأجل: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾ (فاطر: 45)، ومع سكرة الموت: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾ (ق: 19)، ولا يستعمل هنا حضر الموت لأنّ فعل حضر لا يؤدّي البيان المطلوب كما أدّاه في سياق الوصايا والأحكام.

  1. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذرّة﴾ (النساء: 40)، و﴿أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا* وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا﴾ (النساء: 49 – 77)، و﴿وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ (النساء: 124)، و﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾ (فاطر: 13) ما الفرق بين ذرّة، وفتيل، ونقير، وقطمير؟ وما المؤدّى البيانيّ لاستعمال هذه المقادير المتعدّدة؟

هذه العبارات جاءت لضرب المثل بالقلّة، وتقريب المعنى إلى ذهن المتلقّي، ولكلّ مثل منها وجهة بيانيّة للاستعمال، لنرى أوّلًا معاني هذه المقادير:

  • الذرّة: من المعروف أنّ ما من شيء يدقّ على النظر كالذرّة، فهي حجم موجود، ولكن لا يُرى بالعين المجرّدة. والله تعالى استعمل هذا المقدار لتأكيد عدله في مقام علمه بأمور الناس، وتقدير عطاءاتهم، وقدرته الدقيقة على إحصائها ﴿…عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذرّة فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (سبأ: 3)، وبما أنّ المقام وزن الإنفاق وتقديره، وعدالة إحصائه؛ استعمل مثقال الذرّة، أي إنّه لا يظلم أعداءه من الجاحدين مثقال ذرّة واحدة، فهذا الربّ لا خوف من عدله.
  • الفتيل: هو ما يفتله الإنسان بيده من أوساخ وترسبات بين أصابعه بعد التّعرّق[8] على إثر القيام بمجهود ما. والفتيل جاء في سياق التحقير لأعمال اليهود، والكفار، والمنافقين لما يأتون به من أعمال قذرّة، فبادلهم الله تعالى بأنّ عدله قائم، ولا يظلمهم مقدار فتيل من قذارة أعمالهم، فتناسبت طبيعة المقدار مع طبيعة العمل.
  • النقير: هو النقطة التي تقع في ظهر نواة التمر، والمعروف أنّ العرب جميعًا، والمسلمين يعدّون أنّ ألذّ فاكهة عندهم هي التمر نظرًا إلى حلاوتها.

وقد استعمل مقدار النقير في مقام مكافأة الناس على أعمالهم الصالحة ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾، فقرّب مفهوم عدله باستعمال ما يناسب حلاوة العمل الصالح بأنه لا يحرم صاحبه حتّى مقدار ما يعلق على رأس نواة التمر من حلاوة. أي إنّ المؤمنين سيأخذون جزاءهم كاملًا، ولن يُظلموا بقدر هذه النقطة التي تعلق في ظهر النواة.

  • القطمير: هو الغشاء الشفاف الذي يلف النواة، إذ لا قيمة له ولا نفع. وقد استعمل هذا التعبير في مقام الملكيّة، أي إنّ الملوك، والسلاطين، والأصنام التي قد تعبدونها من دون الله لا يملكون في هذا الكون مقدار قطمير ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ﴾.

إذًا، في مقام الوزن استعمل الذرّة، وفي مقام تحقير الكافرين، والجاحدين. استعمل الفتيل الذي يعبّر عن نتانة أعمالهم، وفي مقام المكافأة استعمل الحلاوة “النقير”، وفي مقام الملكيّة استعمل القطمير الذي يعبّر عن انعدام القيمة، أي حدّد كلّ سياق بما يناسبه، ومن يناسبه.

  1. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾ (النساء: 47) ما الدلالة البيانيّة للتحوّل في الخطاب من ضمير المتكلّم إلى ضمير الغائب؟

لم يحصل في السياق تحوّل في الضمائر، فكلّ الضمائر جاءت للمتكلّم (بما نزّلنا، نطمس، فنردّها، أو نلعنهم كما لعنّا)، ولكن ما حصل في آخر الآية هو ما يُعرف في البلاغة بالالتفات من ضمير المتكلّم إلى الاسم الظاهر له، ويسمّى التفات من المتكلّم إلى الغائب، فبدل أن يقول: وكان أمرنا مفعولًا، قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا﴾، وهذا يدلّ على أنّ المتكلّم هو الله، وليس ذاتًا أخرى. ووظيفة الالتفات في البلاغة هي لفت انتباه السامع وإثارة نشاطه.

وهناك خط بيانيّ للتعظيم بضمير الجمع في التعبير القرآنيّ، فكلّ ضمير جمع في مجمل القرآن بلا استثناء يتكلّم فيه عن الله لا بدّ من أن يكون قبله، أو بعده ما يدلّ على أنّ الله تعالى واحد أحد مفرد، فعندما قال: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ قال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾، فلم يقل: فصلِّ لنا. وكذلك عندما قال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ قال: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ﴾. ففي الآية لدينا مجموعة من ضمائر تعظيم وبموجب ما تقدّم قال: ﴿وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا﴾ حتّى يستقيم نسق الخطّ البيانيّ الواحد في القرآن الكريم أنّ الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له.

  1. يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 48)، ويقول أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾. ما المؤدّى البيانيّ لاختلاف نهايتي الآيتين في سورة النساء؟

الواضح أنّ صدر الآيتين واحد والاختلاف قائم في الخاتمتين، الأولى (فقد افترى إثمًا عظيمًا)، والثانية (فقد ضل ضلالاً بعيدًا).

في مثل هذه الحالات نعود إلى السياق لفهم الغرض البيانيّ، فالآية الأولى نزلت في أهل الكتاب وجاءت في سياق قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا﴾ (النساء: 47). والكتب السمويّة نزلت بالتوحيد لا بالشرك، وقولهم بأنّ الكتاب أتى بالشرك هو افتراء على الله لأنّهم يعلمون أنّه ليس من الكتاب، فأشركوا بقولهم بالتثليث، أو أنّ عزيرًا هو ابن الله، أو غيرها من الأقاويل ونسبوها إلى الله وإلى الكتب، وروّجوا أنّ هذا هو الذي نزل، فجاء الرّدّ في الآية بأنّ ذلك هو افتراء، فختم الآية (فقد افترى إثمًا عظيمًا) لأنّهم كذبوا على لسان الله، والافتراء هو كذب، ومن الآثام العظيمة. والسياق أصلًا يتحدّث عن ارتكاب الآثام، لنرى: (يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ)، (مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ)، (وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ)، (انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الكَذِبَ)، (أَلَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)، وبما أنّ أفعالهم هذه كلّها آثام، جاءت خاتمة الآية لتناسب ما جاء في السياق.

أمّا الآية الثانية فقد نزلت بكفّار قريش، وهم ليسوا من أهل الكتاب ولم يعرفوا الكتاب، فهم يُعدّون في الغافلين الضالين، إضافة إلى أنّ الآية جاءت في سياق الحديث عن الضلال ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى﴾، هذا ضلال، ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذا ضلال أيضًا، ﴿وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ﴾ وهذا ضلال. نلاحظ إذًا، أنّ كلّ خاتمة ناسبت السياق الذي وردت فيه الآية (فقد افترى إثمًا عظيمًا) ناسبت السياق، ومن نزلت فيهم، والآية الثانية (فقد ضلّ ضلالًا بعيدًا) ناسبت السياق، ومن نزلت فيهم.

  1. ما الفرق بين كلمتي “النّصيب” و”الكِفل”، ودلالة كلّ منهما في قوله تعالى: ﴿مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا﴾ (النساء: 85)؟

من معاني الكفل في اللغة النصيب المساويّ، ومنها المِثل (أي المقدار المساوي). أمّا النّصيب فهو مُطلق غير محدّد، هو صغير، وكبير، وأكبر، وليس له مقدار محدّد[9]. والقرآن الكريم استخدم كلمة “كفل” عند ذكر السيّئة (له كفل منها) أي ما يساويها في المقدار أو يماثلها، لأنّ السيئات تُجزى بقدرها، ولا يزاد عليها، بدليل قوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ (غافر: 40).

أمّا كلمة “النصيب” فقد جاءت مع الحسنات، والحسنات لها نصيب أكثر من السيّئات، فالحسنة تضاعف، وقد تصل إلى عشرة أضغاف، وقد تكون أكثر، وليس لها تحديد المماثلة. فعندما ذكر الشفاعة الحسنة في الآية قال: ﴿يكن له نصيب منها﴾، وليس مثلها، لأنّ الحسنة بعشر أمثالها ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا﴾ (النمل: 89). أمّا السيّئة فتُجزى بمثلها ﴿مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا﴾ (غافر: 40)، فاستعمل الكفل لجزاء السيّئة، والنّصيب للشّفاعة الحسنة.

  1. ما الفرق بين استعمال صيغة الماضي والمضارع في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ (النساء: 92)، وقوله: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 93).

كثيرًا ما وردت صيغة الماضي والمضارع في القرآن الكريم، كما في الآية: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطًَا وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطًَا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾، فصيغة المضارع تفيد الدوام والتكرار، أي كلّما سنحت له الفرصة قام بالقتل. وكذلك في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ صيغة المضارع لأنّ الشكر على كلّ نعم الله دائم، ومستمرّ في كلّ لحظة. أمّا (ومن كفر) فقد جاء بصيغة الماضي لأنّ الكفر يحصل مرّة واحدة فقط.

  1. يقول تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ (النساء: 95). ويقول كذلك: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الأنعام: 17). ويقول أيضًا: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ (يونس: 49). ما الفرق بين الضُّر، والضَّر، والضَّرر في التعبير القرآنيّ؟

الضُّرّ: هو ما يصيب البدن من مرض، أو أذى وغيره، ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾ (الأنبياء: 83). ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 12). ﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾ (يوسف: 88).

الضَرّ: مصدر عكسه النفع، ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا﴾ (الأعراف: 188).

الضَّرَرُ: هو الاسم، أي النقصان الذي يصيب الأرزاق والممتلكات ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ (النساء: 95). أي من لديه علّة.

  1. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ (النساء: 135)، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8). ما المؤدّى البيانيّ للتقديم والتأخير في الآيتين؟

لو تتبّعنا السياق في سورة النساء نلاحظ أنّ مساره العامّ يتحدّث عن القسط، والعدل، وإيتاء كلّ ذي حقّ حقّه من أيتام، ونساء، وغيرهم، لنلاحظ: ﴿وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ و﴿وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾ (النساء: 4)، فاقتضى السياق تقديم “قوّامين بالقسط”.

أمّا في سورة المائدة فسياق الآيات يتحدّث عن حقوق الله تعالى لجهة الولاء والبراء، لنلاحظ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة: 2) و﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ (المائدة: 7)، فالكلام تمحور حول حقوق الله تعالى والقيام بأمره لذا اقتضى تقديم “قوّامين لله”.

  1. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾ (النساء: 135)، وقال أيضًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النحل: 90). ما الفرق بين القسط والعدل في التعبير القرآنيّ؟

– القِسط: في اللغة هو المقدار، أو الحظ والنصيب، والقسط الميزان[10]، ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ (الشعراء: 182). ولم تأت كلمة “القسط” في القرآن الكريم إلاّ مع الوزن ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 9)، ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ (هود: 85).

– العدل: معناه المساواة في الأحكام ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ (المائدة: 95). ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ (الإسراء: 35)، فالقسطاس هو ميزان العدل، لذلك سمّوا الميزان قسطاسًا لأنّه عَدَلَ بين حِملَيْن، والقرآن الكريم استعمل العدل في الأمور التي لا تُبصَر ﴿أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا﴾ (المائدة: 95) فالصيام لا يُبصر، وكذلك ﴿وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا﴾ (الأنعام: 70) لم يقل كلّ قسط، ﴿وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ﴾ (البقرة: 123). إذًا القسط اقترن في القرآن الكريم مع الموازين، وهذا من خصوصيّة الاستعمال القرآنيّ، وهو يُستعمل مع غير الميزان، ولكنّه لم يُستعمل في القرآن الكريم إلاّ مع الميزان، واستعمل العدل مع الأمور المجرّدة.

  1. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا﴾ (النساء: 137). ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾ (محمّد: 34) ما الدلالة البيانيّة لعدم ذكر الفاء في الآية الآولى وذكرها في الآية الثانية؟

الموضوع يتعلّق بالفرق بين دور الفاء، ودور الواو في التعبير عن المعنى، فالواو تُسعمل لمطلق الجمع، فقد يكون عطف جملة على جملة، أو اسم على اسم، أو فعل على فعل.

أمّا الفاء فالمشهور في معناها أنّها تفيد السبب، نحو: (ثابر فنجح)، فإذا كان ما قبلها يفضي إلى ما بعدها أي سببًا له نأتي بالفاء وليس بالواو، لأنّ الواو تُستعمل لمطلق الجمع. ومن جملة ما تفيد الفاء أيضًا التهديد، فلو كان لدينا عبارتان بإمكاننا ذكر الفاء في إحداهما، والأخرى بغير فاء في باب جواز الذِكر وعدمه، فإنّنا نضع الفاء مع العبارة الأشدّ توكيدًا، كما في الآية الثانية، لأنّ الكفّار لا تُرجى لهم توبة.

أمّا في الآية الأولى فالكفّار أحياء وقد يتوبون. فنلاحظ أنّ في الحالة التي لم يكن الموت فيها حاصلًا لم يأت بالفاء، وعندما تحقّق الموت جاء بالفاء، نحو: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ﴾ (آل عمران: 90) لم يأت بالفاء لعدم تحقّق الموت. ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ (آل عمران: 91) أتى بالفاء لتحقّق الموت وهم كفّار.

  1. قال تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (النساء: 138)، وقال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ (البقرة: 25). ما الدلالة البيانيّة لذكر الباء في الآية الأولى “بأنّ” وحذفها في الآية الثانية “أنّ”؟

في السياق السابق للآية في سورة النساء أكّد في عذاب المنافقين، وفصّل في عشر آيات متتالية بدءًا من قوله تعالى: ﴿… وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ (النساء: 136). أمّا في الآية الثانية فهي الآية الوحيدة في سورة البقرة التي تحدّث فيها عن الجزاء وصفات المؤمنين، وبهذا تكون “بأنّ” أكثر تأكيدًا من “أنّ” فالباء الزائدة فرضها التفصيل لتناسب الزيادة في ذكر المنافقين وجزائهم.

وفي سورة الأحزاب “الآية: 47” يقول تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ لأنّه فصّل في سياق السورة جزاء المؤمنين وصفاتهم.

  1. يقول تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ (النساء: 138). ويقول تعالى: ﴿قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾ (آل عمران: 52). لماذا دخلت الباء هنا على الحرف “أنّ”، ولم تدخل عليه في شهادة التوحيد “أشهد بأن لا إله إلا الله” ؟ وهل يصحُّ ذلك؟

الباء في شهادة التوحيد موجودة، وهي داخلة على اسم، وليس على حرف، لأنّها داخلة على أن المصدريّة، وأن حرف مصدريّ، والمصدر المؤوّل هو الذي يدخل عليه حرف الجرّ، نحو: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا﴾ (الأحزاب: 47). أي بفضلٍ كبير لهم، وقد سقط حرف الباء في شهادة التوحيد على نزع الخافض، كقولنا مثلًا: علمتُ أنّك مسافرٌ، أي علمتُ سفرَك، دخلت على المصدر المؤوّل وهذا جائز، وعلى نُزِع الخافض في الأصل هي موجودة، إذًا هي: أشهد بأن لا إله إلا الله، نُزِع الخافض، فصارت أشهد أن لا إله إلا الله. والخافض هو حرف الجرّ على مصطلح الكوفيّين والخفض هو الجرّ.

  1. قال تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النساء: 146). ويقول أيضًا: ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (لقمان: 32) ما الدلالة البيانيّة لتأخير الجارّ والمجرور وتقديمه؟

إذا تتبّعنا هذا الأمر في عموم القرآن الكريم نلاحظ أنّه يقدّم الجارّ، والمجرور على الدين عدا آية النساء: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ قدم الدّين على الجارّ والمجرور. والتّقديم والتأخير يُحكم عادة بما يقتضيه السّياق، والآية في سورة النساء جاءت في سياق الحديث عن المنافقين، إذ بدأ من قوله تعالى: ﴿بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا* وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا* الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا* إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إلى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا* مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إلى هَؤُلَاءِ وَلَا إلى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا* يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا* إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا* إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 138 – 146). سياق الآيات تحدّث عن المنافقين، فلمّا جاء الكلام على ذكرهم قدّم ما يتعلّق بهم “وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ” دينهم مضافة إليهم، أخلصوه لله. أمّا الآيات الأخرى فجاء الكلام فيها على الله تعالى، فقدّم ما يتعلّق به، نحو: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ* أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾ (الزمر: 2 – 3). فمحور الكلام هنا على الله تعالى. ويستمرّ السياق: ﴿قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ* وَأُمِرْتُ لأنّ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ* قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دينيّ﴾ (الزمر: 11 – 12 – 13 – 14) فلما تمحور الكلام على الله تعالى قدّم ضميره وما يتعلّق به. إذًا فالذي يحكم التقديم والتأخير هنا هو السياق والعنصر الذي يتعلّق الحديث به.

  1. يقول تعالى: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (النساء: 155). فما الدلالة البيانيّة لعدم ذكر الجواب وما يترتّب على كونهم نقضوا الميثاق؟ بينما جاء ذكر الجواب في قوله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ (النساء: 160).

هناك خلاف حول هذه الآية بين المفسرين واللغويين، لذلك نرى لها أكثر من تعليل عندهم:

  • التعليل الأوّل: أنّ قوله تعالى: (فبظلم من الذين هادوا) هي بدل من (فبما نقضهم ميثاقهم) فيكون الجارّ والمجرور بدلًا من قبله (فبما نقضهم) فذكر المتعلّق (حرّمنا عليهم). وهذا وارد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 75). (لمن آمن) بدل من (الذين استضعفوا)، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ﴾ (الزخرف: 33). لبيوتهم سقفًا بدل لقوله (لمن يكفر بالرحمن).
  • التعليل الثاني: إنّ ذكر نقض الميثاق قد ورد في آيات أخرى وذكر فيها المتعلّق: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 13). فكأنّ الجواب في الآية أُحيل إلى ما ذُكر في آيات أخرى.
  • التعليل الثالث: إنّ الحذف جاء للتعظيم، وهذا ما نراه كثيرًا في القرآن الكريم كحذفه جواب القسم في سورة ق: ﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ (ق: 1). كذلك فإنّ جواب الشرط يُحذف كثيرًا قي القرآن الكريم كما في قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ (سبأ: 31)، وقوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ (الانشقاق: 1)، ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾ (الأنفال: 50)، وهذا الإضمار يجعل الذهن يذهب في تصوّر العقوبات كلّ مذهب، فالأمور التي ذكرها تعالى تستدعي من العقوبات أشدّها، واللعن الذي ذكره تعالى (لعنّاهم) ليس قليلاً، وكذلك الغضب يضيق عنه الكلام.

ولا ضير في أن تحتمل الدلالة جميع هذه المعاني السابقة، على قاعدة التوسّع في المعنى، ولا بأس بالميل إلى التعظيم، وإن كان البدل تعليلًا نحويًّا واردًا.

  1. قال تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا* وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ (النساء: 163- 164). ما المؤدّى البيانيّ لاستخدام كلمة “أوحينا” مع الرسول، وسائر الأنبياء المذكورين في الآية، وإفراد كلمة “آتينا” لداوود فقط؟

للإجابة عن هذا التساؤل هناك أمران، الأمر الأوّل: أن نتتبّع سياق الآية وما سبقها ليتّضح لنا السياق، ونخلص إلى المؤدّى البيانيّ لهذا الاستعمال، لنلاحظ: ﴿ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا﴾ (النساء: 153) الواضح من السياق أنّ الله تعالى فنّد السيّئات التي ارتكبها هؤلاء، والآية – موضوع تساؤلنا – سبقتها الآية 153 حيث اشترط هؤلاء أنّهم كي يؤمِنوا بالرسول عليه أن يُنزّل عليهم كتابًا من السماء، فهوّن الله تعالى على الرسول بقوله: ﴿فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾، ثمّ ردّ الله تعالى عليهم في الآية بقوله: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ فأقام الله تعالى حوارًا تحليليًّا كشف من خلاله زيف هؤلاء، فذكر مجموعة من الأنبياء السابقين الذين آمن هؤلاء بهم مع أنّهم لم يأتوهم بما طلبوا، فهم آمنوا بنوح وإبراهيم، وإسماعيل، ويقوب، وإسحق، ويونس، وغيرهم من الأنبياء الذين أوحى إليهم كما أوحى إلى الرسول، فإذا كانوا آمنوا بأولئك من خلال الوحي ومن دون كتاب؛ فالوحي مع الرسول يجب أن يكون كافيًا ليؤمنوا.

والأمر الآخر: يبين الله تعالى لنبيّه أنّه سواء كان معهم كتب أم لم يكن معهم فالوحي إليك كما الوحي لسائر الأنبياء، (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح…)، وأنّه كما آتينا داوود زبورا آتيناك كتابًا، وقد خصّ الزبور بالذكر لأنّ الزبور نزل منجّمًا أي بالتقسيط كما أُنزل القرآن على الرسول، والخطاب موجّه إلى المعاندين، فإذا كنتم تؤمنون بداوود، وقد نزل عليه الزبور منجّمًا، وتؤمنون بالأنبياء الذين أوحينا إليهم، وقد أوحينا إليك كما أوحينا إلى باقي الأنبياء. وكما أرسلنا رسلًا أرسلنا محمّدًا أيضًا ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ ثمّ يقول: (وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) فالنبيّ إذن حصل على الوحي، والإيتاء كما الأنبياء السابقين. وإذا كان الله تعالى كلّم موسى تكليمًا في موضعين، فإنّ النبيّ محمّد (ص) قد صعد إلى سدرة المنتهى، فأعلى مكان كلّم الله تعالى موسى عليه هو الطور. بينما رفع الرسول إلى مكان أعلى ممّا رفع عليه موسى، فالأمور التي ينبغي الإيمان على أساسها خصّ الله تعالى بها الرسول مجتمعة فسقطت حجّة الكافرين.

خاتمــة

إنَّ تتبّع المؤدّيات البينيّة في التّعبير القرآنيّ لا يحدّ ببحث، أو دراسة محدودة، فكم من البحوث أجريت على هذا الإعجاز الرّبانيّ، ولم يكتمل عقدها، والسلوك في دروبه يستوجب التسلّح بعلوم اللّغة وقواعدها، والقراءة المتأنّية لسياق الآيات، للتمكّن من رصد العمليّة الدّقيقة التي تربط بين اللّفظ ومدلوله البيانيّ ضمن السّياق التّعبيريّ.

وإنَّ هذا البحث الموجز هو أنموذج يسير من المعجزات البيانيّة أبرز بعض الوجوه البيانيّة لآيات قرآنيّة، فثبت من خلال الآيات التي تناولتها الدراسة أنّ هناك قاعدة بيانيّة خاصّة بالقرآن الكريم تفيد أنّه لا يتقدّم حرف عن حرف إلاّ بهدف وحكمة، ولا يتأخّر عن حرف إلاّ بهدف وحكمة، وأنّه ما من لفظ سيق في عبارة إلاّ كان له دلالته البيانيّة بهدف خدمة المعنى، حتّى إنّ تعدّد التعابير في الحديث عن حدثٍ واحد له دلالاته، وله أحكامه في مراعاة السياق أيضًا، فعلى سبيل المثال لا الحصر، أورد الله تعالى ثلاثة ألفاظ متعدّدة لحدث واحد في خطابه النبيّ موسى (ع) حيث قال: ﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ (النمل: 12)، ﴿اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ (القصص: 32)، ﴿وَاضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ﴾ (طه: 22)، فكلّ لفظ من هذه الألفاظ (أضمُم، واسلُك، وأدخِل) لا يمكن استعماله مكان الآخر، وذلك لعدم تآلفه مع السّياق الآخر، ولاختلاف دلالته عن دلالة اللفظ الآخر في سياقه الذي ورد فيه. وأنّ هذه الدراسات البيانيّة لا تنتهي عند هذا الحدّ بالتأكيد، فالإعجاز اللّغوي في القرآن الكريم يتجاوز البحوث والدراسات، ولا يُختصر بصفحات، فهو بحر واسع في عبابه رغبة المبحرين، وهوى المهتمّين، فكلّما غُصْتَ فيه استهواك الغوص، واستخرجت من درّ معانيه ما يؤنس مشاعرك، ويزيد ارتواءك، ويدهش سامعَيْك قلبك وأذنيك.

فهرس المصادر والمراجع

1 ــ القرآن الكريم.

2 ــ أضواء البيان، الشنقيطيّ، تحقيق مكتب البحوث والدراسات – دار الفكر للطباعة والنشر – بيروت – 1995م.

3 ــ أوسع المسالك إلى ألفيّة ابن مالك، عبد الله بن جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبد اللهبن هشام الأنصاريّ – دار الجيل – بيروت – ط 5 – 1979م.

4 ــ البداية والنهاية، إسماعيل بن عمر بن كثير المعروف بابن كثير – دار الكتب العلميّة – بيروت – ط 5 – ت 1989. تحقيق وتدقيق: أحمد ابو ملحم، علي نجيب عطويّ، فؤاد – السيّد، مهديّ ناصر، عليّ عبد الساتر. دار إحياء التراث العربيّ – بيروت – ط1 – 1408هـ/ 1989م.

5 ــ تاج العروس من جواهر القاموس، محمّد بن محمّد بن عبد الرزّاق الحسينيّ، الملقّب بمرتضى الزَّبيديّ (المتوفَّى: 1205هـ) – تحقيق عليّ شيري – دار الفكر – بيروت – ط 1994م/ 1414هـ.

6 ــ تاريخ الإسلام، الذهبيّ محمّد بن أحمد بن عثمان – تحقيق د. عمر عبد السلام تدمريّ – دار الكتاب العربيّ – بيروت – ط1 – ت 1407 – 1987م.

7 ــ تاريخ الأمم والملوك، محمّد ين جرير الطبريّ – تحقيق نخبة من العلماء – مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات – بيروت – ط 4 – ت 1083.

8 ــ تاريخ مدينة دمشق، ابن عساكر – تحقيق: عليّ شيريّ – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت/ 1996م.

9 ـ التبيان في إعراب القرآن، أبو البقاء العكبريّ – تحقيق عليّ محمّد البجاويّ – نشر شركة بابيّ الحلبيّ د. ط – د. ت.

10 ــ تفسير ابن كثير، إسماعيل بن كثير القرشيّ الدمشقيّ – دار المعرفة – بيروت – ط 1992.

11 ــ تفسير الرّازيّ، ابن أبي حاتم الرازيّ – تحقيق أسعد محمّد الطيّب – مطبعة المكتبة العصريّة – صيدا – د. ط – د. ت.

12 ــ تفسير السمعانيّ، أبو المظفر، منصور بن محمّد بن عبد الجبّار بن أحمد المروزيّ السمعانيّ التميميّ الحنفيّ، ثمّ الشافعيّ (المتوفَّى: 489هـ) – تحيق ياسر بن إبراهيم وغنيم بن عبّاس بن غنيم – دار الوطن – الرياض – ط 1 – ت 1997م/ 1418هـ.

13 ــ تفسير القرطبيّ، القرطبيّ محمّد بن أحمد الأنصاريّ – تحقيق وتصحيح أبو إسحاق إبراهيم أطفيش – دار إحياء التراث العربيّ – بيروت – لبنان – طبعة 1405هـ – 1985م.

14 ــ تفسير جوامع الجامع، الشيخ الطبرسيّ- تحقيق مؤسّسة النشر الإسلاميّ – مطبعة النشر الإسلاميّ – قم إيران – ط1 – 1418هـ.

15 ــ تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسيّ – تحقيق وتعليق: لجنة من العلماء والمحقّقين الإخصائيّين – مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات – بيروت ط1 – 1995م.

16 ــ تهذيب اللغة، أبو منصور محمّد بن أحمد الأزهريّ – دار إحياء التراث العربيّ – بيروت – ط 2001.

17 ــ جامع البيان، ابن جرير الطبريّ – تحقيق وتقديم: الشيخ خليل الميس- دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت – لبنان- ط 1995.

18 ــ خزانة الأدب، عبد القادر بن عمر البغداديّ – تحقيق محمّد نبيل طريفيّ/ إميل بديع اليعقوب – دار الكتب العلميّة – بيروت – ط1 – ت 1998م.

19 ــ شرح أصول الكافي، مولي محمّد صالح المازندرانيّ- تحقيق: مع تعليقات: الميرزا أبو الحسن الشعرانيّ – دار إحياء التراث العربيّ – ط 1 – 2000م.

20 ــ شرح الرضيّ على الكافية، محمّد بن الحسن نجم الدين الرضيّ الأستراباذيّ – تصحيح وتعليق يوسف حسن عمر – جامعة قاريونس – الناشر مؤسّسة الصادق طهران – طبعة 1398هـ/ 1978م.

21 ــ الصحاح، الجوهريّ – تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار – دار العلم للملايين – بيروت – ط4 – 1987م.

22 ــ الفصول المُهِمّة في معرفة الأئمة، عليّ بن محمّد بن أحمد المالكيّ المكّيّ المعروف بابن الصباغ – تحقيق سامي الغريريّ – دار الحديث للطباعة والنشر- قم – ط1 – ت 1422ﻫ/ 2002م.

23 ــ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل، محمّود بن عمر الزمخشريّ الخوارزميّ – مكتبة مصطفى البابيّ الحلبيّ – مصر – ط 1 – ت 1966.

24 ــ لسان العرب، أحمد بن مكرم المعروف بابن منظور- دار إحياء التراث العربيّ – بيروت – ط1 – ت 1405 هـ/ 1986م.

25 ــ مجمع البيان في تفسير القرآن، الفضل بن الحسن الطبرسيّ – مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات – بيروت – ط1 – 1995.

26 ــ معاني الأبنية في العربيّة، فاضل صالح السامرائيّ، دار عمار، الأردن، ط2، 2007م.

27 ــ معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا – تحقيق عبد السلام محمّد هارون – مطبعة مكتبة الإعلام الإسلاميّ – قم – طبعة 1404هـ.

28 ــ الميزان في تفسير القرآن، محمّد حسين الطباطبائيّ – جمعيّة المدرّسين في قمّ المقدسة – قم – د.ط – د. ت.

 

[1] – لسان العرب: مادّة عرب.

[2] – معاني الأبنية في العربيّة، فاضل صالح السامرائيّ، دار عمّار، الأردن، ط2، 2007م، ص 6.

[3] – هادي نهر لعيبيّ – اللسانيّات الاجتماعيّة عند العرب – عالم الكتب الحديث – الأردن 2009.

[4] – الشيخ الطبرسيّ – تفسير الطبرسيّ – تحقيق لجنة من العلماء والمحقّقين الإخصائيّين – مؤسّسة الأعلميّ للمطبوعات – بيروت ط1 – 1995م – ج7 – (ص) 137.

[5] – لسان العرب: مادّة حزن.

[6] – لسان العرب: مادّة حزن.

[7] – لسان العرب: مادّة جعل.

[8] – لسان العرب: مادّة فتل.

[9]– لسان العرب: مادّة كفل.

[10] – لسان العرب: مادّة قسط.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website