الأسرة العربيّة وأزمة التّواصل
د. أديبة حمدان[1]
مقدّمة
يتناول بحثنا هذا، الأسرة العربيّة في عالم متغيّر، وذلك في مُحاولة منّا، لرصد أثر التَحوّلات المتسارعة التي يشهدها العالم والتي تجعل الأسرة، على حدّ تعبير البعض، تقف في مهبّ الرّيح، وتشهد تغييرات تؤثّر على شكلها، ودورها، ووظيفتها، كما نسلّط الضوء على أثر العولمة بشكلٍ عامّ، وشبكات التّواصل الاجتماعيّ بشكل خاصّ التي ولا شكّ لإي أنّها أربكت حركة المجتمع ككلّ، والأسرة كجزء منه. ونبدأ بتعريفات حول المفاهيم الأساسيّة التي يتناولها البحث، وأوّلها نواة المجتمع الأولى أي الأسرة. الأسرة هي مؤسّسة اجتماعيّة تتشكّل من منظومة بيولوجيّة اجتماعيّة، وتقوم على دعامتين: الدعامة الأولى بيولوجيّة، وتتمثّل في علاقات الزواج، وعلاقات الدّم بين الوالدين، والأبناء وسُلالة الأجيال، والدعامة الثانية اجتماعيّة ثقافيّة، حيث تنشأ علاقات المصاهرة من خلال الزّواج، ويقوم الرباط الزوجيّ تبعًا لقوانين الأحوال الشخصيّة حيث يتمّ الاعتراف بها. (حجازيّ، 2015، صفحة 15).
يُعدُّ الفيلسوف والسياسيّ الفرنسيّ “لويس دو بونالد” أّنّ الأسرة هي مجتمع أيّ هيكل من الناس لكلّ منهم وظيفته الخاصّة والمحدّدة، تُسند السّلطة إلى الأب، وله على زوجته، وأطفاله سلطة دائمة، ولا يمكن تقاسمها، فالأب هو دائمًا صاحب السُلطة والأولاد يبقون قاصرين حتّى لو كانوا راشدين كأفراد في الدولة، وهذه السّلطة الأبويّة تستمر حتّى بعد وفاة الشّخص من خلال التصرّفات الجاهزة. (BRECHON, 1976, p. 22)
الأسرة هي الوحدة الاجتماعيّة الأولى في المجتمع، وبالتّالي فإنّ المجتمع يتكوّن من الأسر المتعدّدة، غير أنّ المجتمع في ذاته ليس أسرة كبيرة نظرًا لوجود فروق شاسعة تميّز الأسرة من المجتمع. ويعرّف أرسطو الأسرة أنّها أوّل اجتماع تدعو إليه الطبيعة إذ من الضرورة أن يجتمع كائنان، لا غنى لأحدهما عن الآخر، وهما الرجل والمرأة أي اجتماع الجنسين للتّناسل، وليس في هذا شيء من التحكّم، ففي الإنسان كما في الحيوانات الأخرى، والنّبات نزعة طبيعيّة هي أن يخلق بعده مولودًا على صورته/ فالاجتماع الأوّل والطّبيعيّ، وفي كلّ الأزمنة هو العائلة حيث تجتمع عدّة عائلات فتنشأ القرية، ثمّ المدينة فالدولة. (العزبيّ، 2013، صفحة 26).
أمّا “أوغست كونت” فيرى أنّ الأسرة هي الخليّة الأولى في جسم المجتمع، وهي النّقطة التي يبدأ منها التطوّر، ويمكن مقارنتها في طبيعتها، ومركزها بالخليّة الحيّة في المركز البيولوجيّ (جسم الكائن الحيّ)، ويُرجع كونت ذلك إلى عدم اعترافه بالوضع الاجتماعيّ للفرد، فالفرديّة في نظره لا تمثّل شيئًا في الحياة الاجتماعيّة التي لا تتحقّق بصورة كاملة إلاّ حيث يكون امتزاج عقول، وتفاعل أحاسيس، واختلاف وظائف، والوصول إلى غايات مشتركة، وأنّ هذه الفرديّة لا يتحقّق فيها شيء من هذا القبيل، ولكن يتحقّق ذلك من خلال الأسرة. (العزبيّ، 2013، صفحة 27).
منذ القدم عُدَّ الزواج رابطة إنسانيّة سامية لذلك يحرُص الرجل على تزويج أبنائه في حِقبة مبكّرة، ولا يكفّ الآباء عن توصية أبنائهم لتكوين أسرة، وإقامة بيت كما في الحضارة المصريّة، لذا عندما أراد حكيم الدّولة القديمة “بتاح حتب” الذي عاش قبل نحو 4500 سنة ق.م. أن ينصح ابنه فكان من بين ما أوصاه به: “إذا كنت رجلًا حكيمًا فكوّن لنفسك أسرة”. (شعلان، 1983، صفحة 35).
وبعد حكيم الدولة القديمة “بتاح حتب” بقُرون عدّة أتَى حكيم آخر في الدولة الحديثة، وعاش قبل نحو 3300 سنة ق.م. فنصح ابنه وأوصاه قائلًا: “من يكن حكيمًا يتّخذ له في شبابه زوجة تلد له أبناء فإنّ أحسن شيء في الوجود هو بيت الإنسان الخاصّ به”. (شعلان، 1983، صفحة 36).
ويميّز علماء الاجتماع بين نوعين رئيسين من الأُسر
– الأسرة النّواتية: تتكوّن من الزّوجين، وأولادهما غير البالغين، وتكوّن وحدة مستقلّة عن باقي الوحدات الأسريّة في المجتمع المحلّيّ، ويشيع فيها صِغَر الحجم ودرجة النسبيّة من الحرّيّة الفرديّة، والعلاقات الأفقيّة التّشاركيّة التبادليّة، والسكن المستقلّ، وكذلك الحياة الاقتصاديّة المستقلّة نسبيًّا عن أسر الأصل، على أنّ ما يميّز الأسرة النواتيّة عربيًّا هو حفاظها على شبكة من العلاقات مع أُسر الأصل، والأقارب.
– الأسرة الممتدّة: هي النّمط الذي ساد تقليديًّا في المجتمع العربيّ إذ إنّها تشكّل أحد فروع القبيلة، أو العشيرة، وتتكوّن عادة من ثلاثة أجيال: الأجداد، الآباء والأبناء، كما تندرج ضمنها قرابة الدّم من أعمام وأخوال. (حجازيّ، 2015، صفحة 16).
ومع تحوّل العالم المعاصر يومًا بعد يوم، حسب تعبير أحمد زايد، إلى عالمٍ يَنشغل بالمادّة أكثر من انشغاله بالقيم والأخلاق، وتحلّ فيه العلاقات الفرديّة القائمة على المصلحة محلّ العلاقات القائمة على العاطفة، والمودّة لا بدّ من التنبّه إلى أهمّيّة التأثيرات التي يمكن أن تخلقها هذه التغيّرات المتسارعة على الأسرة، وهنا أكّد “أنتوني جيدنز في كتابه الطريق الثالث” أهمّيّة النّظر إلى الأسرة من منظور مختلف في عالمنا المعاصر، وحسب زايد فقد بالغ بعض علماء الاجتماع في وصف حال الأسرة المعاصرة، فبعد أن كانت في الماضي، تُعدُّ الخليّة الأولى للمجتمع نجد أنّ البعض يَصفها بأنّها مؤسّسة تتأرجح بين الموت والحياة، وهي أشبه بالجسد الميْت الذي يحاول الفاعلون فيه أن يعيدوا إليه الحياة، وفي هذا السياق، ودائمًا حسب زايد، فإنّ علماء الاجتماع توقّفوا عن التحدّث عن أسرة، وأصبحوا يتحدّثون عن أسر. وهذا أمر خطير، فقد كان علم الاجتماع الكلاسيكيّ يُفرّق بين أنماط محدودة من الأسر كالأسرة النوويّة، والأسرة الممتدّة كما ذكرنا سابقًا، أمّا اليوم فأصبحوا يتحدّثون عن أنماط من الأسر لم تعرفها المجتمعات من قبل (زايد، 2011، الصفحات 5 – 6) راجع أيضًا (زايد، واقع الأسرة في المجتمع تشخيص للمشكلات واستكشاف لسياسات المواجهة، 2004، صفحة 13).
حاليًّا اختلفت درجة التأثّر والتأثير المتبادل بين الأسرة المعاصرة، والنُظم المحيطة بها على النطاق المحلّيّ، أو الإقليميّ فثورة الاتّصالات، والمعلومات، والقفزات التكنولوجيّة المتلاحقة قاربت بين الدّول، والمجتمعات المتقدّمة، والعالميّة ما جعلها تقع بين جذور، وقيم، وتراث تشدّها إليها؛ ومستحدثات عصريّة استهلاكيّة، وإعلاميّة، وثقافيّة، وترويحيّة تجذبها سواء أكانت ملائمة لخصوصيّتها، وهُويّة مجتمعها الثقافيّة أم غير ملائمة لأسلوب حياتها، ومستوى دخلها الاقتصاديّ، والأسرة العربيّة المعاصرة تعيش بدورها مثل مثيلاتها في دول العالم تحت وطأة تيّارات العولمة، وهي ليست عولمة فرضتها الأبعاد الإنسانيّة بقدر ما هي عولمة فرضتها الهيمنة الرأسماليّة الأميركيّة التي لا تقتصر على تحقيق مصالحها الإنتاجيّة، بل تحاول فرض نوعيّة حياة. Quality of life. (عبدالمتعال، 2004، صفحة 29)
وقد نجح الاختراق في بعض جوانبه فدفع إلى بروز ظواهر غريبة على ساحة الأسرة في مجتمعاتنا سواء تعلّقت هذه الظّواهر بشكل الأسرة وتكوينها، وطبيعة العلاقات بين أعضائها، أو بين تلك التي تتعلّق ببعض وظائفها، وهذا هو تحديدًا موضوع بحثنا.
وضعت العولمة بكلّ وسائلها وتَقنيّاتها الحضارة العربيّة والأسرة في مواجهة تحديّات جديدة أربكتها وأبعدتها من الحوار، والاتّصال الإنسانيّ الخلّاق، وقبل الدّخول في دراسة هذه التّأثيرات لا بدّ من تقديم تعريفات للاتّصال البشريّ.
الاتّصال البشريّ
يعرّف “جورج لاندبرغ” كلمة الاتّصال أنّها تشير إلى التّفاعل بواسطة العلامات والرموز، وتكون عبارة عن حركات، أو صور، أو لغة، أو أيّ شيء آخر تعمل كمنبّه للسلوك، أي إنّ الاتّصال هو نوع من التّفاعل يحدث بواسطة الرموز. (رشتي، 1978، الصفحات 50 – 51)
ويعرّف “دي فلير وروكيتش”: الاتّصال البشريّ بأنّه عمليّة دلاليّة يعتمد على الرموز؛ وعمليّة عصبيّة حيويّة يتمّ فيها تسجيل معاني رموز معيّنة في ذاكرة الأفراد، وعمليّة نفسيّة إذ يتمّ اكتساب معاني الرموز من خلال التعلّم، وعمليّة ثقافيّة، فالّلغة مجموعة من الأعراف الثّقافيّة المتّفق عليها وأنّه عمليّة اجتماعيّة، وهو أسلوب أساسيّ ومهمّ للتّفاعل الاجتماعيّ. (حسن، 1987، الصفحات 82 – 83).
والأهمّ في هذا السياق أن نعرف أنّه في عمليّة الاتّصال يتفاعل المرسِلون والمستقبلون للرسائل في سياقات اجتماعيّة معيّنة، وأنّ لوسائل الاتّصال، والتّواصل دورًا كبيرًا في التأثير على سلوك المتلقّين وتوجّهاتهم، وأنّ عمليّة التأثّر والتأثير هي عمليّة مُعقّدة تدخل فيها عوامل كثيرة منها ﺸﺨﺼيّة ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ ﻭﺒيئته ﺍلاﺠﺘﻤﺎﻋيّة وتربيته الأسريّة. لذا؛ وبناءً على ما تقدّم نفترض وجود فروقات بين الأفراد في معدّلات الاستجابات لهذه المثيرات الخارجيّة. ولا بدّ في هذا الإطار من تعريف العولمة الّذي يتضمّن تمييزًا بينها وبين العالميّة على أساس أنّهما مفهومان متداخلان أحيانًا.
يُفرّق محمّد عابد الجابريّ العولمة عن العالميّة إذ يحسبُ أنّ العالميّة تفتح العالم على الثقافات الأخرى مع الاحتفاظ بالخلاف الإيديولوجيّ. أمّا العولمة فهي نفي للآخر، وإحلال للاختراق الثقافيّ محلّ الصراع. (هداج، 2013-2014، صفحة 10).
ويرى أحمد بخوش أنّ مفهوم العولمة يختلف تمامًا عن مفهوم العالميّة التي تعني طموحًا نحو الارتقاء إلى مستوى عالميّ، ومن ثَمَّ تفتح العالم على ما هو عالميّ وكونيّ، كما تسعى إلى إشاعة قيم ومعايير إنسانيّة: كالعدالة، والحرّيّة، والاستقرار في العلاقات الدوليّة، أمّا العولمة فهي إقصاء لكلّ ما هو خصوصيّ، وفرض لإدارة الهيمنة. (بخوش، 2008، صفحة 111).
ويشير عبد الإله بلقزيز إلى تلازم معنى العولمة في مضمار الإنتاج، والتبادل المادّيّ، والرمزيّ مع معنى الانتقال من المجال الوطنيّ، أو القوميّ إلى المجال الكونيّ، ويتضمّن المفهوم تعيينًا مكانيًّا يتّسع إلى مستوى الفضاء العالميّ برمّته من خلال تهاوي حدود المكان. كما يتضمّن تعيينًا زمانيًّا مُزدوج المدلول، إذ يصبح الزمن راهنًا وفي اللحظة (تهاوي حدود الزمان)، ويتجاوز مرحلة الدولة القوميّة مدشّنا مرحلة تاريخيّة تستوعب فيها المجموعة الإنسانيّة المجموعات الوطنيّة. (حجازيّ، علم النفس والعولمة ، 2010، صفحة 136).
والأهمّ في كلّ ما سبق أنّ العولمة تعمل بأسلحتها المتعدّدة على فرض ثقافة التّسلية، والتّرفيه وهي تعمل، حسب تعبير مصطفى حجازيّ، عبر مجموعة من التّوجّهات إلى تهميش الدّور وتخدير الوعي، وتقدّم مجموعة المتع الحسّيّة التي أصبحت تعرف باسم سياسة التخدير والإلهاء، ويستند حجازيّ إلى بريجنسكي، المنظّر المعروف للنّظام العالميّ الجديد الذي ابتدع تعبير “رضاعة التّسلية” “TYttytainement from tytt”. أي حلمة الثدي أي التّرفيه، ويطلق بريجنسكي هذا الشعار كحلّ لمشكلات الشباب المهمّش والمحروم من الفرص إذ: “تكفي بعض المساعدات والكثير من التّسلية كي تحلّ المشكلة ويتخدّر الوعي، ويتمّ امتصاص الإحباطات، والأحقاد المتراكمة من خلال الهروب في المتع الحسّيّة التّي توفّرها القنوات التجاريّة. (حجازيّ، علم النفس والعولمة ، 2010، الصفحات 122 – 123).
العولمة التّواصل والأسرة
يحسب حجازيّ أنّ الأسرة تجهد اليوم للحفاظ على أبنائها الشباب، وارتباطهم بها، واستمرار رعايتها لهم من جانب، وتجهد من جانب آخر لأن توطّن ذاتها للقبول بانطلاقهم في عالم العولمة الرحب، وأخذ نصيبهم من فرصه، ما يفرض على الأهل إنجاز فطامهم النّفسيّ عن أبنائهم. (حجازيّ، علم النفس والعولمة ، 2010، صفحة 175).
كل ما تقدّم يؤكّد فكرة أحمد زايد أنّ الأسرة المعاصرة تقف اليوم في مهبّ الريح، وهي تتعرّض لضغوط عديدة تحتاج إلى سياسات اجتماعيّة جديدة تتواكب ومتطلّبات العولمة في عصرها الجديد. (زايد، واقع الأسرة في المجتمع تشخيص للمشكلات واستكشاف لسياسات المواجهة، 2004، صفحة 14).
وبالتّالي نحن أمام مشكلات أسريّة ينبغي التوقّف أمامها. وقد عرّف “موراليز”، المشكلات الأسريّة أنّها نوع من المشكلات التّي يمكن أن تؤثّر على بنية الأسرة وقدرتها على مواجهة أعبائها، ومن ناحية أخرى فإنّ انتشار هذه المشكلات يعوق الأسرة عن أدائها لوظائفها الحيويّة التّي يتوقّع منها المجتمع أداءها بفاعليّة. (هداج، 2013 – 2014، صفحة 99).
ويتراوح موقف الشّباب من تلك التأثيرات التي تحدثها العولمة بين تبنّي ما يقدّم إليهم أو الاكتفاء بموقف المتفرّج، وبين التثبّت بموقف المحافظة الرافضة الذي لا يعدّ اتّباعًا لتقاليد الآباء بقدر ما هو ابتداع لها على نحو يتحدّى ثنائيّة الحداثة/ التقليد، فالعولمة تعمّق من التّمايزات بين الشّباب، ولا يخضع الشباب لها بالضرورة، ولا هم ضحاياها السلبيّون، وإنّما تتوافر لهم قدرات متفاوتة على التفاوض، وعلى إدماج العناصر الوافدة ضمن شيفرة محلّيّة. (القصاص، 2008، صفحة 224).
وفي هذا الإطار نشير إلى نتائج بحث ميدانيّ أجري على عيّنة من 217 طالبًا فقيرًا في إحدى الجامعات في الصين العام 2003م، وقد جاءت النتيجة أنّ العديد من طلاّب الجامعة يشعرون بالتبعيّة، والاكتئاب، والفقر في ظلّ النظام العالميّ الجديد، وأنّ 56% وصفوا حياتهم على أنّها غير سعيدة، وأنّ 52% يشعرون بالقلق في ظلّ نمط الحياة المادّيّ السريع. (القصاص، 2008، صفحة 225).
وهذا ما نأمل التحقّق منه حول مؤشّر القلق من العولمة، ونظامها الجديد، ومحاولة الكشف عن تداعياتها على التّفاعل، والتماسك الأسريّ، في عمل ميدانيّ يستهدف مجموعة من العائلات اللبنانيّة من خلفيّات ثقافيّة واجتماعيّة واقتصاديّة من خلال مقابلات متنوّعة.
كما نأمل التحقّق من مؤشّر القلق من خلال مجموعة من الاستبيانات تتضمّن مقياسًا حول التّفاعل الأسريّ؛ وذلك هدف الوقوف على التّأثيرات الجديدة على نمط التّواصل داخل الأسرة، ومؤشّر الرّضى، أو عدمه، وننطلق من فرضيّات مفادها أنّ العولمة بتَقنيّاتها المتعدّدة أدّت إلى تقليص الحوار داخل الأسرة، وإلى تغيير في ثقافتها، وفي شكل السلطة، وتوزيع الأدوار داخلها، ونتناول تحديدًا أثر شبكات التّواصل الاجتماعيّ إذ برز الاهتمام الأكاديميّ بقضايا الشبكات الاجتماعيّة، والمجتمع الافتراضيّ منذ أن نجحت شبكة الإنترنت في تشكيل فضائها المعلوماتيّ وفي تأسيس مجتمع، أو جماعة افتراضيّة، وبعد أنّ احتلّت شبكة الإنترنت بتفاعلاتها، ومميّزاتها، وخدماتها المتعدّدة جزءًا من الحياة اليوميّة للعديد من البشر، فأصبح المجتمع الافتراضيّ يُزاحم المجتمع الواقعيّ. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا المفهوم يرجع إلى “هاوارد رينجولد”، الذي كتب الكتاب الأوّل، والرّائد في هذا السياق بعنوان المجتمع الافتراضيّ VIRTUAL COMMUNITY.
ويُعرّف شبكات التّواصل أنّها مجموعة من المواقع على شبكة الإنترنت العالميّة WORD WIDE WEB تُتيح التّواصل بين الأفراد في بيئة مجتمع افتراضيّ يجمعهم الاهتمام، أو الانتماء لبلد، أو مدرسة، أو فئة معيّنة في ظلّ نظام عالميّ لنقل المعلومات، وجاء تعريف الشبكات الاجتماعيّة “أنّها خدمة إلكترونيّة تسمح للمستخدمين بإنشاء ملفات شخصيّة لهم وتنظيمها كما تسمح بالتّواصل مع الآخرين”. (شكيرب، 2016، صفحة 87).
وأهمّ مواقع التّواصل التي نتناول تأثيرها في دراستنا هي: FACEBOOK, TWITTER, YOU TUBE لأنّها من المواقع التي تعدّ الأكثر انتشارًا . وهنا لا بدّ من مقاربة موضوع هذه المواقع من خلال دراسة أبعادها، وآثارها الإيجابيّة، والسلبيّة على العلاقات الإنسانيّة.
في مستوى الآثار الإيجابيّة: على الصعيد الاجتماعيّ تتيح لمستخدميها الاتّصال بأصدقائهم، وزملائهم في العمل، والدراسة كما تسهّل التّواصل مع من يعيشون حولهم، وهذا من خلال الانضمام إلى مجموعات العمل، والدراسة، والحياة العامّة، ومن خلال إضافة معارفهم السابقين، فيتمّ إنعاش العلاقات الاجتماعيّة الواقعيّة. (شكيرب، 2016، صفحة 94).
في مستوى الآثار السلبيّة: فقد ذهب العديد من المتخصّصين في علم الاجتماع أمثال: ثومبسون، وديماجيو، وكروات، وزالوف، وستول، إلى أنّ هناك “تغييرات عملت على تفتيت العلاقات الاجتماعيّة بين الأفراد، وحوّلت ما كانت تتمتّع به من دفء وحميميّة إلى برود، وفتور، وغيّرت أنماط تفاعلهم الاجتماعيّ، وفتحت أمامهم مسارب سلوكيّة أضرّت بقيمهم، وأخلاقهم، فضلًا عمّا أوجدته بينهم من مشكلات جديدة غير مألوفة من قبل، كتبلّد حسّهم الاجتماعيّ والوجدانيّ، واغترابهم النّفسيّ، وعزلتهم الاجتماعيّة، وانتشار قيم الاستهلاك بينهم، فضلًا عن العوالم الافتراضيّة المتخيّلة التي أوجدتها لهم ليعيشوا فيها كعوالم بديلة عن عوالمهم الحقيقيّة، علاوة على مساهمتها في انتشار نوع جديد من الإدمان بين مستخدمي هذه الوسائط الاتّصاليّة غير مألوف الخصائص، والصّفات لدى المهتمّين بالمشكلات الاجتماعيّة، وقد أطلقوا عليه “إدمان الإنترنت”. (شكيرب، 2016، صفحة 96) راجع (حلمي خضر ساري، تأثير الاتّصال عبر الإنترنت على العلاقات الاجتماعيّة، دراسة ميدانيّة في المجتمع القطريّ، ص306 – 307).
سلّطت دراسات كثيرة الضوء على آثار العولمة من الناحية الاقتصاديّة، ولكن قليلة هي الدراسات التي تناولت مخاطرها على الأسرة، ومن المهمّ أن نعلم أنّنا لا نتناول ظاهرة العولمة لأنّها ظاهرة موجودة، ولا يمكن تجاهلها، ونتناول بالتحديد كيفييّة التطبيق، وهل فعلًا تمّ بناء وعي عربيّ لمواجهة آثار هذه الظاهرة اجتماعيًّا من خلال ما تحمله من تغييرات تهدّد الأسرة العربيّة؟ وهل فعلًا أعدّت العدّة لقراءة الوجوه الأخرى لهذه الظاهرة؟
ينشأ الأبناء في ضوء قيم اجتماعيّة خاصّة تكوّن بيئة الجماعة الأوّليّة، لكن في ضوء ما يتعرّضون له من خلال المواقع الإلكترونيّة، ومواقع التّواصل الاجتماعيّ من تأثيرات ضاغطة بهدف إعادة تشكيلهم تبعًا لما يُعرف في مصطلح علم النفس بتأثير الجماعة المرجعيّة، الأمر الذي يؤدّي إلى محو آثار الجماعات الأوّليّة عليهم، ويُفقدهم الترابط مع مجتمعهم المحيط بهم ويعرّضهم للعزلة، والانطواء، ومن ثَمَّ التوتّر، والقلق، والاضطراب، (حسين، 2016، صفحة 530). في ضوء ما تقدّم الحديث به يتأثّر دور الأسرة كمؤسّسة اجتماعيّة أولى في المجتمع مسؤولة عن غرس القيم، والأفكار في عقول الأبناء والمؤثّر الأوّل على أفكارهم، وتوجّهاتهم، بالشكل الذي يتناسب مع ثقافة المجتمع، وتقدّمه، وتطوّره من خلال التوضيح والنُصح للأبناء، والتصحيح لبعض الأفكار السلبيّة وتحويلها إلى خُبرات إيجابيّة، ونافعة للفرد. (حسين، 2016، صفحة 531).
أمّا كيف يتمّ الاتّصال الأسريّ فيكون ذلك بالإجابة عن السّؤال الذي يطرحه “ميشال غروس”، كيف تتّصّل؟ إذ يُعبّر الناس عن مشاعرهم بالإيماءات، كما بالكلمات، ونبرة الصوت، وبحركات الجسم، ويُعدّ الاستماع جزءًا مُهِمًّا في الاتّصال، فنبرة الصّوت قد تحوي تلميحًا للمشاعر التي يعجز الفرد عن التّعبير عنها بالمُفردات المنطوقة فتُفهِم هل هو غاضب، سعيد، حزين، محبط، متحمّس، هل هو متفهّم؟ وذلك حتّى تصل إلى أفضل اتّصال يحدث في الأسرة، وأفضل تواصل يَحدث في الأسرة هو ذلك التّواصل التلقائيّ الذي يحدث من دون سعي من الفرد من أجل تحقيقه، فالدراسات تثبت أنّ الأسر التي تتواصل كثيرًا تختلف عن تلك التي لا تتواصل. (عبّود، 2016 – 2017، صفحة 56).
أشكال الاتّصال الأسريّ
1- الاتّصال بين الوالدين: تؤدّي السعادة الزوجيّة إلى تماسك الأسرة ما يخلق جوًّا يساعد على نموّ طفلك كشخصيّة متكاملة ومتّزنة. كما تؤدّي العلاقات السويّة بين الوالدين إلى إشباع حاجة الطفل إلى الأمن النّفسيّ، والتّوافق الاجتماعيّ. أضف إلى أنّ التّعاسة الزوجيّة تؤدّي إلى تفكّك الأسرة ما يخلق جوًّا يؤدّي إلى نموّ الطفل نموًّا نفسيًّا غير سليم، ويعاني من توتّر يؤدّي إلى أنماط السلوك المضطرب لديه، وقد ذكر “كول وهول” أنّ هناك ثلاثة أساليب للاتّصال بين الوالدين هي:
أ- سيطرة الأمّ وخُضوع الأب: وهي تثير لدى الأبناء اتّجاهات، واستجابات التمرّد، واضطرابات في توافق الشخصيّة.
ب- سيطرة الأب وخضوع الأمّ: حيث تكون الكلمة الآمرة الناهية للأب وحده، وهي تثير لدى الأمّ حالة من التمرّد والثورة هربًا من السيطرة الزائدة.
ج- تساوي الأب والأمّ في علاقة أحدهما بالآخر: فيسود العلاقة بين الزوجين التّعاون، والمشاركة، والمساهمة، والتّخطيط، والّتفاهم والرضى، وقد يتأثّر أسلوب الاتّصال بين الأب والأمّ بثقافة المجتمع كما يتعدّد تأثير الاتّصال بينهما على الأبناء.
2- الاتّصال بين الوالدين والأبناء: تساعد العلاقات، والاتّجاهات المشبعة بالحبّ، والقَبول، والثقة بالطفل من قبل الآباء على النموّ السليم للأبناء، بينما تؤثّر العلاقات والاتّجاهات السيّئة مثل الحماية الزائدة، والإهمال والتسلّط… على الصحّة النفسيّة للأبناء.
3- الاتّصال بين الأخوة: إنّ العلاقة بين الأخوة الخاليّة من تفضيل طفل على طفل، والخالية من النقائص تؤدّي إلى النموّ السليم للطفل والتنافس بين الأخوة يعدُّ عاديًّا. (عبّود، 2016 – 2017، الصفحات 56 – 58)، واستنادًا إلى ما تقدّم نفترض أنّ وتيرة استخدام وسائل التّواصل، ونمطها، والسّعي إلى العيش في هذا العالم الافتراضيّ يرتبط بنوعيّة الاتّصال الأسريّ، إذ نفترض أيضًا أنّ أيّ خلل في الدفء العائليّ، والأمان، والاحتضان في كنف الأسرة يؤدّي إلى سوء استخدام شبكات التّواصل، وعدم التّواصل السليم مع العالم الافتراضيّ ما ينعكس بدوره سلبًا على نموّ شخصيّة الطفل، أو المراهق.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّنا نستخدم شبكات التّواصل الاجتماعيّ في التعرّف على شخصيّة مستخدميها، والتعريف بأدقّ تفاصيل هذه الشخصيّة من خلال المنشورات التي نُشَاركها مع غيرنا، ولكن هذه الهُويّة التي نُشَاركها تعكُس هُويّة المرء المثاليّة، ونتوقع من الآخرين أن يفعلوا الشيء نفسه ما يؤدّي إلى خلق صداقة بين مستخدمي هذه الشبكات، فتجعل المُستخدم ذاتَه يتصوّر أنّ لديه جمهور. ويُلاحَظ أنّ مُستخدمي مواقع التّواصل الاجتماعيّ الذين يستخدمون هذه الاستراتيجيّة يشعرون بلذّة النجاح إذا كانت لديهم القدرة على جذب الآخرين، ويرى كثيرون أنّ الشًهرة التي يسعى إليها أغلب مستخدمي شبكات التّواصل هي غير حقيقيّة، أو زائفة، وتسعى إلى ترويج الذات؛ إذ إنّ الرغبة الحقيقيّة في أن تكون هذه الشخصيّة أصليّة يتناقض مع الحاجة إلى التحدّث إلى جماهير معيّنة بما في ذلك جماهير مجهولة الهُويّة. (دخيل، 2016، صفحة 12). راجع (مارويك وبويد،2011، صفحة 111). وهذا الكلام يُسلّط الضوء على مشكلة يجب التنبّه لها، وهي أن تكون الشخصيّة التي يُطلّ بها الفرد على شبكات التّواصل متناقضة إلى حدٍّ بعيد عن شخصيّت، وما يعيشه في الواقع كالمشكلات الأسريّة، والانفصال عن الوالدين، وغيرها ما يشكّل خطرًا على شخصيّة هذا الطفل خصوصًا إذا غرّد طويلًا في العالم الافتراضيّ، وفقد الاتّصال بالعالم الواقعيّ.
وهنا نشير إلى أنّ روجيرو(2000) توقّع من خلال عددٍ من البحوث أنّ شبكة الإنترنت ستساهم في العديد من التحولاّت، ما يؤدّي إلى تغيّرات عميقة في عادات مستخدمي وسائل الإعلام إلى جانب الأدوار الشخصيّة والاجتماعيّة.
نرى أنّه مع التحوّل السّريع في العادات، والأدوار خصوصًا؛ كان روجيرو على حقّ في توقّعاته إذ إنّ التّفاعل الشخصيّ مع الأصدقاء، والعائلة، والاتّصال المهنيّ تحوّل من العالم الفيزيائيّ إلى كِيان على شبكة الإنترنت نظرًا إلى ازدياد شعبيّة مواقع الشّبكات الاجتماعيّة مثل “فايسبوك”، “يوتيوب”، “تويتر”، وغيرها من المواقع. RAACKE & BONDS-RAACKE إنّ الشّبكات الاجتماعيّة هي أماكن افتراضيّة تلبّي حاجات مجموعة محدّدة من الأشخاص، وكثيرون غير قادرين على إيجاد حاجاتهم خارج بيئة الإنترنت. (نومار، 2011 – 2012، الصفحات 38 – 39).
ويُعدُّ تطبيق نظريّة الاستخدامات، والإشباعات اليوم في دراسات مواقع الشبكات الاجتماعيّة ذا أهمّيّة بالغة إذ تمّ التوصّل إلى أكثر العوامل لفتًا بالنّسبة إلى نظريّة الاستخدامات، والإشباعات التي لها علاقة مع الشبكات الاجتماعيّة حيث وجد “بارك” PARK(2009)أنّ عوامل الاستخدام، والإشباع الرئيسة الخاصّة بمواقع الشبكات الاجتماعيّة هي: خلق الصداقات، التّسلية، التعريف بالذات، الحصول على المعلومات، في حين وجد EASTIN & LA ROSE عوامل أخرى تتمثّل في البحث عن المعلومات، التّسلية والتّرفيه إلى جانب الحاجات الاجتماعيّة، وهي الأكثر انتشارًا، فقد كشفت العديد من الدّراسات التّي لها علاقة بالاستخدامات، والإشباعات أن مُستخدمي “الفايسبوك” يستخدمونه لتحقيق إشباعات اجتماعيّة بالدرجة الأولى، وذلك للحفاظ على العلاقات القائمة، والتعرّف على أصدقاء جُدد. (نومار، 2011 – 2012، صفحة 40).
فشبكة مواقع التّواصل الاجتماعيّ فعّالة جدًّا في تسهيل الحياة الاجتماعيّة بين مجموعة من المعارف والأصدقاء، كما تمكّن الأصدقاء من التّواصل مع بعضهم، وبعد طُول سنين، وتمكنّهم أيضًا من التّواصل المرئيّ، والصّوتيّ، وتبادل الصور وغيرها من الإمكانات التي توطّد العلاقة الاجتماعيّة بينهم. (الزهريّ، 2010، صفحة 16).
وقد أشارت الباحثة برناديت شالBERNADETTE H. SCHELL في كتابها حول الإنترنت والمجتمع: إنّه في حين أنّ الإنترنت قد خلقت العديد من الفرص للمجتمع بهدف تحسين نوعيّة الحياة وجودتها، إلاّ أنّ التكلفة كانت باهظة، فكما نجد في العالم الواقعيّ أنّ لكلّ نتيجة إيجابيّة تنبع من أحداث العالم الحقيقيّ، واكتشافاته نتائج سلبيّة موازية يرتكبها مُجرمون بدوافع نرجسيّة. ويمكن القول هنا إنّ الشيء نفسه ينطبق على العالم الافتراضيّ. (SCHELL, 2007, p. 98).
نشير إلى أنّه عندما نتكلّم على انتشار هذه المستحدثات، وعن التأثّر بها لا بدّ من أن نذكر نظريّة روجرز التي هي إحدى النّظريّات الأساسيّة في العصر الحديث، والتي تشير إلى ظاهرة تبنّي المجتمعات للمخترعات الجديدة، ويمكن تعريف المقصود بالانتشار أنّه العمليّة التي يتّم من خلالها المعرفة بابتكار، أو اختراع ما من خلال قنوات اتّصاليّة عدّة بين أفراد النسق الاجتماعيّ، وقد قام روجرز بدراسات عديدة في هذا المجال، ووجد أنّ هناك علاقة بين انتشار المستحدثات، وحدوث التغيّر الاجتماعيّ، وهذا هو تحديدًا ما نبحثه هنا. أشار روجرز إلى أنّ المتبنّين للمستحدَث ينقسمون إلى خمس فئات هم:
INNOVATORS – المبتكرون
وتمثّل هذه الفئة أولئك الذين يتُوقون إلى تجربة الأفكار الجديدة، وتتميّز تلك الفئة بالدخل المرتفع، والتّعليم العالي، والانفتاح على الثقافات العالميّة كما أنّ أفرادها قليلو التمسّك بعُرف الجماعة، ويحصلون على معلوماتهم من المصادر العلميّة، والخبراء.
EARLY ADOPTERS – المتبنّون الأوائل
ويتميّزون أنّهم أكثر تمسّكًا بأعراف الجماعة؛ وبعضهم يحتلّ مرتبة قادة الرأي نظرًا إلى اندماجهم القويّ مع الجماعات.
EARLY MAJORITY – الغالبيّة المبكرة
وهم أولئك الذين يفكّرون مليًّا قبل تبنّي أيّ فكرة حديثة، ويعتمدون على الجماعة في إمدادهم بالمعلومات، ويمثّلون حلقة وصل لنشر الفكرة المستحدثة لتوسيط موقعهم بين المتبنين الأوائل والأواخر.
LATE MAJORITY – الأغلبيّة المتأخّرة
وصفهم روجرز بالمتشكّكين إذ يتبنون الفكرة إعتمادًا على عُرف الجماعة أو ربّما إنقيادًا للضغط عليهم وأعضاء تلك الفئة غالبًا ما يكونون أكبر سنًّا وأقلّ دخلًا وتعليمًا ويعتمدون في حصولهم على المعلومات على الاتّصال المواجهي أكثر من وسائل الإعلام.
LAGGARDS – المتمسّكون
وتُشير تلك الفئة إلى أولئك الذين يرتبطون بالتقاليد، ويتمسّكون بالأفكار القديمة، ولا يتبنّون الفكرة المُستحدثة إلّا إذا صارت قديمة. (الشهري، 2011 – 2012، الصفحات 21 – 22).
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ المرونة النفسيّة ظاهرة تتكوّن من مجموعة من نُظُم الأسرة، والمجتمع، والفرد، وتتعامل مع المخاطر، ومناطق الضَعف لدى الفرد، وحاجة المراهقين في هذه المرحلة العمريّة الحاسمة من حياتهم؛ وذلك للشعور بالتّوافق داخل أسرهم في ظلّ مناخ سويّ يتيح لهم الفرص المناسبة للتّواصل، والتّعبير عن مشاعرهم ما يزيد من قدرتهم على الفهم، ومواجهة متطلّبات هذه المرحلة، ويحقّق لهم حياة مثمرة تتّسم بالصحّة، واللّياقة النفسيّة بعيدًا من الأسرة التي فشلت في توفير المناخ الأسريّ الذي يساعد أفرادها على تحقيق التّوازن بين الحاجات التّواصليّة بالآخرين، والحاجات الاستقلاليّة ما يجعل الباب مفتوحًا للعديد من صور التّواصل الخاطئ بالدخول إلى عالم الطفل إذ سينتهي عندها إلى اضطراب جوّ الأسرة، وتحويلها إلى بؤرة مولّدة للاضطراب، بل وإصابة بعض أفرادها بالاضطراب الواضح الصريح. (العصيميّ، 2017، صفحة 220). بناءً على ما تقدّم تبدو دراسة هكذا مواضيع من الأمور الملحّة على السّاحة البحثيّة فهي تتناول الأسرة ودورها كخليّة اجتماعيّة أولى كما أنّها تتناول الأبناء، وانعكاس ما يحصل اليوم من عولمة، وأدوات اتّصال، وتواصل على الصحّة النفسيّة للأبناء.
أبعاد التّواصل الأسريّ وعلاقتها بالتّفاعل الأسريّ DIMENSION FAMILY COMMUNICATION
تحت هذا البعد ظهر نوعان من التّواصل الأسريّ وهما: التّوجّه التجانسيّ والتّوجه الحواريّ
CONFORMITY ORIENTATION & CONVERSATION ORIENTATION.
أ- التوجه التجانسيّ: ويمكن قياس هذه الأنماط تبعًا للدّرجة التي يشترك فيها أفراد الأسرة في أنواع معيّنة من السلوك، إذ ترتكز الأسر ذات التوجّه التجانسيّ على الانسجام في السلوكيّات، والقيم، والمعتقدات، وعلى التناغم بين أفراد الأسرة. وتحرص أيضًا على تجنّب أي جدال، أو صراع، كما تتميّز الأسر التي تتمتّع بقدر منخفض من التوجّه التجانسيّ بتنوّع المعتقدات، والسلوكيّات، وتركّز على امتلاك أفرادها لشخصيّات متفرّدة، وتُنسب مُعتقدات الأُسر التي تتمتّع بقدر عالٍ من التجانس إلى ما يسمّى بالهيكل التقليديّ للأسرة، وهي أسر متماسكة، وتتمتّع بنظام هرميّ، وهي تفضّل العلاقات داخل الأسرة على العلاقات خارجها.
ب- التوجّه الحواريّ: وفيه تخلق الأسر ذات التّوجه الحواريّ مُناخًا يُشجع أفراد الأسرة على التفكير بشكلٍ مستقلّ وعلى حرّيّة المناقشة كما تدعم هذه الأسر حرّيّة الأفراد، والاختلافات في الرأي، والمناقشات، وتدور مناقشاتهم حول الأنشطة الأسريّة، والقرارات الأسريّة المهمّة. (العصيميّ، 2017، الصفحات 224 – 225).
إذًا؛ يمكن القول إنّ الأهمّيّة العلميّة، والعمليّة لهذا البحث تتحدّد في دراسة وضعيّة الأسرة الّلبنانيّة اليوم في ضوء التغيّرات السريعة التي فرضتها العولمة. وخصوصًا أدوات الاتّصال، والتّواصل ما أربك حركتها، وانعكس على وظائفها، ودورها، والتّفاعل داخلها، ونحن من خلال مقابلاتنا، وقراءاتنا الأوّليّة لاحظنا أنّ هناك أسرًا حافظت في ظلّ التّغيّرات المتسارعة على وظيفتها الرّقابيّة، والحواريّة مع الأبناء، ولم يتأثّر دورها بالمستحدثات في حين نجد أسرًا أخرى، تأثّر دورها التّربويّ، والرّقابيّ، والمرجعيّ نتيجة هذه المستحدثات، وعليه تبدو أهمّيّة البحث في الكشف عن العوامل الكامنة وراء فقدان بعض الأسر لوظيفتها، ودورها واحتفاظ أسر أخرى بهذه الوظيفة.
من خلال كلّ ما تقدّم نرى أنّ إشكاليّة البحث تتلخّص في تساؤل البحث الأساسيّ:
هل هناك علاقة بين دور المستحدثات، والمقصود بها شبكة الإنترنت، وعالمها الإفتراضيّ، وبين قواعد التّفاعل الاجتماعيّ ومعاييره داخل الأسرة؟ ومن التساؤل الأساسيّ نقدم التساؤل الفرعيّ:
هل هناك علاقة بين الخلفيّة الثقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة للأسرة، ودرجة التّفاعل مع المستحدثات، وبالتالي على درجة التّفاعل داخل الأسرة؟ هل هناك علاقة بين نمط الحوار ووتيرته داخل الأسرة، ودرجة التّفاعل الأسريّ؟ هل هناك علاقة بين الخلفيّة الثقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة، ومؤشّر الرضى عن المستحدثات ما ينعكس على مؤشّر السعادة، أو القلق في هذا العالم الحديث؟ كلّ هذه التّساؤلات تجعلنا نقدّم فرضيّات البحث على الشّكل الآتّي:
الفرضيّة الأساسيّة
هناك علاقة بين دور المستحدثات، والمقصود بها شبكة الإنترنت وعالمها الافتراضيّ، وبين قواعد التّفاعل الاجتماعيّ ومعاييره داخل الأسرة.
الفرضيات الفرعيّة
هناك علاقة بين الخلفيّة الثقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة للأسرة، ودرجة التّفاعل مع المستحدثات، وبالتالي درجة التّفاعل داخل الأسرة. هناك علاقة بين نمط الحوار ووتيرته داخل الأسرة، ودرجة التّفاعل الأسريّ. هناك علاقة بين الخلفيّة الثّقافيّة، والاجتماعيّة، ومؤشّر الرضى عن المستحدثات ما ينعكس على مؤشّر السعادة، أو القلق في هذا العالم الحديث.
نتائج البحث الميدانيّ
وتضمّن الجانب النظريّ من البحث عرضًا لأبرز النّظريّات التي تناولت المفاهيم الأساسيّة في البحث كمفهوم الأسرة والعولمة، والاتّصال الأسريّ، والتّواصل من خلال شبكات الاتّصال، والتّواصل وأبعاده، وعلاقته بالتّفاعل الأسريّ. أمّا الجانب الميدانيّ فقد سعيت من خلاله إلى التحقّق من صحّة الفرضيّات.
لذا تعدُّ دراستنا دراسة الكمّيّة والنوعيّة في آن واحد؛ وذلك من خلال جمع المعطيات النّوعيّة، وكذلك المعطيات الإحصائيّة الكمّيّة، ولكي أتحقّق من فرضيّات البحث قمت بجمع المعطيات من ميدان العمل.
تَقنيّات البحث
المقابلة: تعدُّ المقابلة من التَقنيّات المُهِمَّة في البحوث الاجتماعيّة لما لها من تأثير، ويعدُّ هذا الاتّجاه مكمّلًا لاتّجاه البحث الكمّيّ القائم على الفلسفة الوضعيّة التي تجد أنّ الحقيقة موجودة في الخارج، ويمكن الوصول إليها من خلال العمليّات الإحصائيّة أمّا الهدف من المقابلة فهو معرفة الحقيقة من خلال الفاعلين الاجتماعيّين، واستهدفت المقابلة أسرًا لبنانيّة من خلفيّات ثقافيّة، واجتماعيّة، واقتصاديّة متعدّدة، وأخذت المقابلة شكل المقابلة المفتوحة من خلال ترك الحرّيّة للأهل، والأولاد في التّعبير عن الحقيقة التي يعيشونها، وبعد إجراء المقابلات طبّقنا تَقنيّة تحليل المحتوى، أو المضمون. ويُعدّ منهج تحليل المضمون من المناهج المعتمدة في مجال العلوم الاجتماعيّة، ونحن بدورنا اعتمدنا هذه التَقنيّة على أساس يمكّننا من الوصول إلى استنتاجات تساعد في التحقّق من الفرضيّات نظرًا لأهمّيّتها، ودلالاتها على المستوى الشخصيّ، والثّقافيّ، والاجتماعيّ وحتّى النفسيّ للمستجوبين.
الاستمارة: وهي ترجمة لمتغيّرات الدّراسة، وقد تضمّنت أسئلة حول البطاقة الشخصيّة بالإضافة إلى أثر هذه المستحدثات على الأسرة، وتضمّنت أخيرًا مقياسًا للتفاعل الأسريّ أمّا متغيّرات الدراسة فهي:
المتغيرات المستقلّة: الخلفيّة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة للأهل المستحدثات الخاصّة بشبكات الاتّصال والتّواصل.
المتغيّر التّابع: التّفاعل الأسريّ. وتألفت عيّنة البحث من مستجوبين من خلفيّات ثقافيّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة متعدّدة، ونعرض في ما يلي أبرز خصائص العيّنة حيث اعتمدنا في دراستنا العيّنة Convenience sample الموافقة للحالة تألّفت عيّنة البحث من 329 مستجوبًا، وشكلّت نسبة الإناث النّسبة الأعلى وهي 76.3%، ونسبة الذكور 23.7%.
أمّا في ما يخصّ الوضع الاجتماعيّ للمستجوبين، فاحتلّت فئة “أعزب” النّسبة الأكبر وهي 59.3%، يليها فئة المتزوّج، والنّسبة هي 37.1%، أمّا فئات الأرمل والمنفصلين فاحتلّت نسب قليلة جدًّا.
أمّا بالنّسبة إلى فئات الوضع المادّيّ التي تراوحت بين ضعيف جدًّا وصولًا إلى الوضع الجيّد جدًّا فنجد التمثيل الآتي:
الوضع المادّيّ الضعيف جدًّا: النّسبة هي 2.7%، الوضع المادّيّ الضعيف: النّسبة هي 10%.
الوضع المادّيّ الوسط: النّسبة هي 58.7%، الوضع المادّيّ الجيّد: النّسبة هي 27.4%.
الوضع المادّيّ الجيّد جدًّا: النّسبة هي1.2%.
مستوى التعليم
المستوى الإبتدائيّ: النّسبة هي 0.6%، المستوى المتوسّط: النّسبة هي 2.7%، المستوى الثّانويّ: النّسبة هي 7%، المستوى الجامعيّ: النّسبة هي 60.2% (وهي النّسبة الأعلى في العيّنة)، مستوى الدّراسات العليا: النّسبة هي 29.5%.
العمل الحاليّ للمستجوبين
فئة المياومة – عمالة: النّسبة هي 2.4%، فئة حرفة: النّسبة هي 1.2%، فئة الوظيفة: النّسبة هي 24.9% فئة التمريض: النّسبة هي 2.1%، فئة التعليم: النّسبة هي 16.1%، صاحب مؤسّسة: النّسبة هي 2.7%، مهنة حرّة: النّسبة هي 5.5%، فئة اللاعمل: النّسبة هي 45% (وهي النّسبة الأعلى). في ما يخصّ سكن المستجوبين نجد ما يلي: 31% من المستجوبين لديهم سكن مستقلّ، و69% يسكنون مع الأهل. ونعرض في ما يلي محورًا خاصًّا بالمواقع الإلكترونيّة، والعلاقة مع الأسرة من خلال الجدول أعلاه نجد أنّ الأجهزة الإلكترونيّة الأكثر استخدامًا هي الهاتف والكومبيوتر: النّسبة هي 50.5%.
يليها استخدام الهاتف، والأيباد، والكومبيوتر والنّسبة هي 17.6%.
في ما يخص المواقع الإلكترونيّة الأكثر استخدامًا نجد أنّ النّسبة الأعلى هي لموقع فايسبوك، وهي 48.6%. يليها مباشرة استخدام معظم المواقع الإلكترونيّة (فايسبوك – انستغرام – تويتر- يوتيوب – واتس أب)، والنّسبة هي 43.5%.
أمّا عن مدّة استخدام مواقع التّواصل فاحتلّت فئة الأكثر من ثلاث سنوات النّسبة الغالبة وهي 90.9%.
حول ساعات استخدام المواقع الإلكترونيّة يوميًّا فالنّسبة الأعلى كانت لفئة (بين ساعة و3 ساعات)، والنّسبة هي 90.6%. أمّا حول الهدف من استخدام مواقع التّواصل فنجد أنّ النسب الأعلى تمحورت حول الوسط وما فوق.
– استخدام المواقع بهدف العمل: 64.5% يستخدمون المواقع أحيانًا، غالبًا ودائمًا بهدف العمل.
– استخدام المواقع بهدف الثقافة والبحوث: 93.6% من العيّنة يستخدمون هذه المواقع لأجل هذا الهدف أحيانًا غالبًا ودائمًا.
– استخدام المواقع بهدف التّسلية والتّرفيه: 73.3% يستخدمون المواقع بهدف التّسلية أحيانًا وغالبًا ودائمًا.
– استخدام المواقع بهدف التّواصل: 93% يستخدمون هذه المواقع أحيانًا غالبًا ودائمًا بهدف المحادثة والتّواصل.
في ما يخصّ الحوار داخل الأسرة نجد أن النّسبة الأعلى تمحورت حول الوسط، وما فوق حيث نجد أنّ 89.7% يدور الحوار داخل الأسرة (أحيانًا، غالبًا ودائمًا) حول مواضيع عامّة. 81.8% يدور الحوار داخل الأسرة حول المشكلات العائليّة.
أمّا بالنّسبة إلى الحوار داخل الأسرة حول مواقع التّواصل فنجد النّسبة الأعلى في فئة أحيانًا وهي نسبة 39.8%. يليها نادرًا ما يدور الحوار داخل الأسرة حول مواقع التّواصل والنّسبة هي 34%. أمّا حول فئة اللاحوار فنجد أنّ النّسبة الأعلى موجودة في فئة الـ/أبدًا، وهذا مؤشّر سلبيّ حيث عبّر 56.5% عن عدم وجود حوار داخل الأسرة أبدًا. حول الشّعور بالرضى عن شبكات التّواصل نجد أنّ النسب الأعلى تمحورت حول الوسط وما فوق ونجد 71.2% من العيّنة يشعرون بالرضى (أحيانًا غالبًا ودائمًا) عن شبكات التّواصل. فقط 28.8% لا يشعرون أبدًا ونادرًا بالرضى عن مواقع التّواصل.
أمّا الشّعور بالقلق حول التطوّرات السريعة في شبكات التّواصل نجد أنّ 74.5% يشعرون أحيانًا وغالبًا ودائمًا بالقلق من هذه الشبكات، وهذا مؤشّر إيجابيّ يدلّ على وعي المستجوبين من التطوّرات السريعة. والإيجابيّة نفسها تنطبق على السّؤال حول سلب مواقع التّواصل لخصوصيّة الأشخاص حيث يشعر 88.7% بهذا السلب. ونعرض في ما يلي جدولًا لتأثير المواقع على الأسرة، ونعرض لاحقًا بعض الرّسوم البيانيّة التي تظهر هذه العلاقة بشكل واضح.
التّفاعل الأسريّ
معدل التّفاعل الأسريّ:
والنتيجة نفسها يمكن ملاحظتها من خلال قراءة مستوى التّفاعل الأسريّ.
من خلال الجدول أعلاه يمكن ملاحظة أنّ هناك ضَعفًا في التّفاعل الأسريّ من خلال عيّنة البحث. ونقدّم بعض الرسوم البيانيّة التي تظهر هذا التحوّل في العلاقات الأسريّة.
النّسبة الأكبر تتمحور حول الوسط أي أحيانًا، أي إنّ النّسبة الأكبر من العيّنة عبّرت عن أنّها أحيانًا تقضي وقتًا على مواقع التّواصل أكبر من الوقت الذي تخصّصه للعائلة.
ونعرض مثلًا آخر من خلال الشّعور بالآثار السلبيّة لمواقع التّواصل على الأسرة حيث تمحورت النّسبة الأكبر حول الوسط إذ إنّ غالبيّة المستجوبين يشعرون أحيانًا بالتّأثير السّلبيّ للمواقع على الأسرة، وهذا مؤشّر خطير.
وحول الشّعور بالقلق نعرض الرسم البيانيّ التالي:
إنّ غالبيّة العيّنة تشعر بالقلق جرّاء التّحوّلات السريعة في هذا العالم الجديد، وهذا مؤشّر إيجابيّ على الوعي للجانب السلبيّ لهذه الظواهر.
وحول ما إذا كان استخدام شبكة الإنترنت أثّر على العادات القديمة للأسرة: نجد أنّ غالبيّة العيّنة أجابت إيجابًا على هذا السّؤال. فتقريبًا 198 من المستجوبين عبّروا عن شعورهم أحيانًا، غالبًا ودائمًا بتأثير شبكة الإنترنت على العادات القديمة للأسرة.
ختامًا نقول إنّ تحوّلات سريعة لا ينبغي إغفالها تنعكس على دور الأسرة ووظائفها، ومع أنّ الأسرة اللبنانيّة شأنها شأن الأسرة العربيّة لا تزال، على الرغم من التّحول في السكن حيث تتّجه الأسر لأن تكون نوويّة من حيث المسكن والاستقلال المادّيّ، إلاّ أنّها لا تزال ممتدّة من حيث العلاقات، ولكن ينبغي التوقّف أمام هذه النتائج الميدانيّة التي تعطي صورة عن وضعيّة الأسرة اللبنانيّة اليوم، والتي تشهد تغيّرات جرّاء العولمة وأدواتها، ونقدّم في ما يلي نتائج مضمون المقابلات التي أجريناها مع أسر من خلفيّات ثقافيّة، واقتصاديّة، واجتماعيّة متواضعة، وأخرى مرتفعة وأبرز ما جاء فيها:
الأسرة الأولى:
الأب: تعليم متوسّط ويعمل سائقًا
الأمّ: تعليم متوسّط، ربّة منزل. الوضع المادّيّ وسط.
الأولاد: الأخ الأكبر، تعليم جامعيّ ويعمل في المحاسبة في إحدى الشركات.
الأخوات الثلاث يحملن إجازات جامعيّة ولا يعملن.
العلاقة داخل الأسرة متينة، العلاقة مع الأقارب، والأصدقاء، والجيران جيّدة، ولكن محدودة.
الأجهزة الإلكترونيّة المستخدمة الهاتف، والمواقع الإلكترونيّة المستخدمة هي: فايسبوك، وانستغرام، واتس آب، عدد ساعات استخدام المواقع يتراوح بين ساعة، وساعتين في النهار، والهدف التّرفيه، ومحادثة الأصدقاء، وكذلك البحث عن المعلومات الثقافيّة.
العلاقة داخل الأسرة لم تتأثّر بمواقع التّواصل كما أنّ العائلة لا تزال تجتمع حول مائدة الطعام كذلك الخروج مع الأسرة سواء للترفيه أم لزيارة الأقارب في الأعياد، وكذلك فإنّ الأهل لا يزالون يشكّلون المرجعيّة بالنّسبة إلى الأولاد والملاذ الأوّل لهم، أمّا الخوف الحقيقيّ الذي يخشاه الأولاد من جراء التّطوّرات المتسارعة فيتمحور حول فقدان العلاقة مع الأصدقاء الحقيقيّين لصالح صداقات وهميّة (على حد تعبيرهم). بالإضافة إلى خوف الأهل من عمليّة نقل القيم للأبناء التي أصبحت عمليّة معقدة. (مقابلة أجريت في 1 حزيران 2019).
الأسرة الثانية:
الأب دراسات جامعيّة عليا، ويعمل طبيب أسنان.
الأمّ: دراسات عليا، وتعمل أستاذة جامعيّة. الوضع المادّيّ جيّد.
هناك انفصال بين الوالدين، والأولاد يعيشون مع الأمّ بشكل أساسيّ، ولكن يلتقون بالأب مرّات عدّة في الأسبوع. العلاقات مع الأقارب والأصدقاء جيّدة، العلاقة مع الجيران محدودة. الأجهزة الإلكترونيّة المستخدمة: الهاتف، الأيباد، والكومبيوتر. أمّا المواقع المستخدمة فهي: واتس أب، انستغرام من قبل الأولاد، يوتيوب أحيانًا، ولكن استخدام المواقع محدود بسبب ضيق الوقت. هناك تأثير كبير (على حدّ تعبير الأمّ)، على العلاقة الأسريّة، والتّواصل داخل الأسرة، وهناك مشاكل ناتجة عن استخدام هذه الأجهزة، والمواقع أثناء اجتماع العائلة، أو تناول الطعام على الرغم من أهمّيّة هذه المواقع كمصدر للوصول إلى المعلومات الثقافيّة. وحسب تعبير الأمّ، إنّ جمع شمل العائلة أصبح موضوعًا صعبًا للغاية مع الحرص الدائم على مواكبة الأولاد في دراستهم وخروجهم، أمّا في ما يتعلّق بالانفصال الزوجيّ فقد عبّرت الأمّ عن إهمال الزوج لها، ولواجباته الزوجيّة، والأسريّة بالإضافة إلى النقص العاطفيّ الذي اكتشفت أنّ سببه وجود نساء، وصديقات للزوج من خلال واتس آب وفيسبوك، ما أثار المشاكل وصولًا إلى الطلاق، وقد حاولت الأمّ مرّات عدّة قطع الإنترنت عن المنزل ما حوّل المنزل إلى ساحة اقتتال يومي. وتؤكّد أنّها تعتمد على ذاتها في حلّ المشاكل، وليس على الأهل والأقارب. أمّا الأولاد الذين عاشوا هذه التفاصيل كلّ والتي أثّرت سلبًا على حياتهم فهم يلجأون أحيانًا إلى الهروب من هذه المشاكل من خلال المواقع، ولكن تحرص الأمّ على عدم فقدان الأولاد الاتّصال بالعالم الحقيقيّ خصوصًا أنّ ابنها لم يتجاوز العشر سنوات، أمّا ابنتها ذات الثمانية عشر عامًا فهي تسعى لأن تبني معها علاقة صداقة حتّى لا تلجأ إلى أصدقاء وهميّين للهروب من الواقع. (مقابلة أجريت في 20 حزيران 2019).
نلاحظ من خلال تحليل مضمون المقابلات أنّ الأسرة ذات المستوى المادّيّ المتواضع، وكذلك المركز الاجتماعيّ من حيث عمل الأب المتواضع، والأمّ كربّة منزل، وعلى الرغم من التّعليم الجامعيّ لكلّ الأولاد، لا تزال تتمتّع بتماسك وتفاعل أسريّ عالٍ، وكذلك لا تزال الأسرة هي المرجعيّة الأولى للأولاد، كما أنّها لا تزال تتمتّع بشبكة علاقات ممتدّة مع المحيط القريب، والبعيد، ولا يزال الحوار سائدًا داخلها حول مواضيع متعدّدة منها مشاكل الأولاد، كما أنّ تعبير الأولاد عن قلقهم تجاه هذا العالم الإفتراضيّ ينمّ عن وعي لديهم للآثار السّلبيّة لهذا العالم.
أمّا في ما يتعلّق بالأسرة الثانية فنلاحظ أنّ المستوى المادّيّ مرتفع، وكذلك المستوى التّعليميّ للأهل، ومن خلاله المكانة الاجتماعيّة، وكذلك تعليم الأبناء في مدارس خاصّة ذات مستوى عالٍ، أمّا الأسرة نفسها فتعاني من التفكّك جرّاء انفصال الوالدين، الذي كان للعالم الإفتراضيّ، وانغماس الزوج فيه أثّر كبير على الأسرة، وكذلك هروب الأولاد من المشاكل الأسريّة جعل هذا العالم بديلًا عن العالم الواقعيّ لولا تدخّل الأمّ ذات المستوى التّعليميّ المرتفع، والوعي الثقافيّ لتضع حدًّا لذلك، وتسعى إلى بناء روابط الصداقة مع الأولاد والسّعي إلى حلّ مشاكلهم. نقول في ختام هذا المحور إنّه مع ارتفاع الخلفيّة الثقافيّة، والاقتصاديّة، والاجتماعيّة للأسرة تصبح أكثر عرضة للتأثّر بهذه المستحدثات ما يجعل دورها ووظائفها في خطر.
الخلاصة
تعدّ الهُويّة والانتماء في أساس تكوين الشخصيّة، بل هما يشكّلان نواتها، ونقطة الارتكاز في مرجعيّتها. ولا بدّ لكلّ إنسان أو كِيان اجتماعيّ، مهما صَغُر حجمه أو كبر، من إطار مرجعيّ يوجّه سلوكه، وخِياراته، ويتيح تحديد مواقفه من العديد من الأوضاع والقضايا، بل أكثر من ذلك، يشكّل نظرته إلى الذّات والكون. (حجازيّ، علم النفس والعولمة، 2010، صفحة 164).
لذلك فإنّ أيّ تغييرات يمكن أن تصيب الأسرة فهي تهدّد المجتمع بكامله من حيث أهمّيّة دورها في بناء أجيال المستقبل، وإنّ التغيّرات التي رأينا ملامحها من خلال العمل الميدانيّ بدأت تصيبها في صميمها من حيث الدور والوظيفة، وهذا ما رأيناه من خلال ضَعف التّفاعل الأسريّ، وعدم وجود علاقة ارتباطيّة دالّة بين التّفاعل، والبطاقة الشخصيّة للعائلة (تعليم – عمل – …)، ما يدلّ على أنّ الأسرة اللبنانيّة برمّتها تحمل عبء هذه التغيّرات، وهذا أمر يجب التنبّه إليه.
أمّا الجانب الإيجابيّ فهو القلق الذي يشعر به غالبيّة المستجوبين في العيّنة حول النّمط المتسارع في هذا العالم من حولنا، وكذلك الشّعور بالأثر السّلبيّ لهذه المواقع على الأسرة، ونمط العلاقات داخلها. لذلك نردّد مع مصطفى حجازيّ أنّنا بأمسّ الحاجة إلى التفكير النقديّ الذي يستوعب الأبعاد غير الظاهرة من الأمور، ويقف من ظواهر العولمة مواقف متبصّرة تستكشف دروب التحرّك بما يضمن استمراريّة الفرص، وتجنّب الوقوع في الأخطار غير المحسوبة التي تهدّد مصالح الوطن والأجيال القادمة. وهذا الأمر يتطلّب القدرة على البقاء الفاعل في العولمة، والقدرة على رؤية الوجوه الأخرى، والقدرة على الوقوف ضدّ التيّار، أو على الأقلّ العمل على تعديل مساراته. (حجازيّ، علم النفس والعولمة، 2010، صفحة 164).
إذًا يتعاظم أمام ما تقدّم دور الأسرة وأهمّيّتها كنواة المجتمع الأولى، وكذلك ضمانة المستقبل، لذلك نؤكّد في الخلاصة ضرورة إعادة الاعتبار إلى الأسرة كمرجعيّة أساسيّة ومصدر لنقل القيم، كمصدر للتفاعل من خلال الإبقاء على الأنماط التقليديّة من العلاقات داخل الأسرة، ومع المحيط القريب والبعيد. كما نؤكّد على أهمّيّة توعية الأولاد وضرورتها حول “ما وراء ظاهرة العولمة” أو “وجوهها الأخرى”، مع الاحتفاظ بالقدرة على عدم حرمانهم من إيجابيّاتها المتمثّلة في فرص العمل، والتّفاعل الثقافيّ.
وأختم بحثي هذا لأفتح الآفق لأبحاث حول أثر العولمة على الهُويّة الوطنيّة، والهُويّة الفرديّة، وكذلك حول القيم الفرديّة التي بدأت تأخذ مكان القيم، والعادات العربيّة التقليديّة.
لائحة المراجع
أحمد بخوش. (2008). الاتّصال والعولمة. القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع.
أحمد زايد. (2004). واقع الأسرة في المجتمع تشخيص للمشكلات واستكشاف لسياسات المواجهة. جامعة عين شمس. مركز الدراسات المعرفيّة – المعهد العالي للفكر الإسلاميّ – جامعة عين شمس.
أحمد زايد. (2011). الأسرة العربيّة في عالم متغيّر. القاهرة: مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة.
آسيا شكيرب. (2016). أثر شبكات التّواصل الاجتماعيّ في تغيير أنماط العلاقات الأسريّة. مؤتمر ضوابط استخدام شبكات التّواصل الاجتماعيّ في الإسلام.
العيد هداج. (2013-2014). تأثير العولمة على دور الأسرة في التنشئة الاجتماعيّة. الجزائر: جامعة سطيف.
جيهان رشتي. (1978). الأسس العلمية لنظريات الإعلام . القاهرة: دار الفكر العربيّ للطباعة والنشر.
حمدي حسن. (1987). مقدمة في دراسة وسائل وأساليب الاتّصال. دار الفكر العربيّ للطباعة والنشر.
حنان الزهريّ. (2010). أثر استخدام شبكات التّواصل الإلكترونيّة على العلاقات الاجتماعيّة. جامعة الملك عبد العزيز.
حنان بنت شعشوع الشهري. (2011-2012). أثر استخدام شبكات التّواصل الإلكترونيّة على العلاقات الاجتماعيّة. جامعة الملك عبد العزيز.
زينب العزبيّ. (2013). علم الاجتماع العائليّ. جامعة بنها.
صلاح عبدالمتعال. (2004). واقع الأسرة في المجتمع. جامعة عين شمس. مركز الدراسات المعرفيّة – المعهد العالي للفكر الإسلاميّ – جامعة عين شمس.
عبدالله محيميد العصيميّ. (2017). أنماط التّواصل النفسيّ وعلاقتها بالمرونة النفسيّة. مجلّة الإرشاد النفسيّ تصدرها جامعة عين شمس العدد 49.
علاء حسين عبد دخيل. (2016). شبكات التّواصل الاجتماعيّ ودورها في رسم صورة المرأة من وجهة نظر طلبة الجامعات الأردنيّة. جامعة الشرق الأوسط.
محمود عبدالسميع شعلان. (1983). دار العلوم للطباعة والنشر – الجزء الأوّل.
مريم نريمان نومار. (2011 – 2012). استخدام مواقع الشبكات الاجتماعيّة وتأثيره في العلاقات الاجتماعيّة. الجزائر: جامعة الحاج لخضر – باتنة –.
مصطفى حجازيّ. (2010). علم النفس والعولمة. المركز الثقافيّ العربيّ.
مصطفى حجازيّ. (2015). الأسرة وصحّتها النفسيّة. المركز الثقافيّ العربيّ.
مهدي محمّد القصّاص. (2008). علم الاجتماع العائليّ. كلّيّة الآداب – جامعة المنصورة.
نسرين بن عبود. (2016 – 2017). تأثير مواقع التّواصل الاجتماعيّ على الاتّصال الأسريّ. جامعة العربيّ بن سيدي أم البواقي.
هالة حجاجيّ عبدالرحمن حسين. (2016). التنشئة الأسريّة للمراهقين في ضوء تأثير مواقع التّواصل الاجتماعيّ. دراسات عربيّة في التربية وعلم النفس – العدد الخامس والسبعون.
BRECHON, P. (1976). LA FAMILLE :IDEES TRADITIONNELLES -IDEES NOUVELLES.
BIBLIOTHEQUE PAUL EMILE BOULET.
SCHELL, B. H. (2007). THE INTERNET AND SOCIETY . CONTEMPORARY WORLD ISSUES.
[1] – أستاذة محاضرة في الجامعة لبنانيّاللبنانيّة كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة – قسم علم النّفس الاجتماعيّ.