foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

تمثّلات ما بعد الحداثة في الرّواية اللّبنانيّة

0

تمثّلات ما بعد الحداثة في الرّواية اللّبنانيّة

رواية “شاي أسود” لربيع جابر أنموذجًا

عبير أبو جهجه*

لم تكن الرّواية اللّبنانيّة، يومًا، على هامش ما طرأ على الرّواية من تغيّرات جذريّة طالت مؤشّراتها الإجناسيّة وموضوعاتها الجدليّة. فلقد شكّلت أحد الرّوافد المهمّة الّـتي ساعدت على تطوّر هذا الجنس الأدبيّ الإشكاليّ، على أكثر من صعيد، أقلّه على السّاحة العربيّة. كما استطاعت، من خلال نزعتها التّجريبيّة، أن تطرح إشكاليّة التّمثيل، وطبيعة هذا الجنس الأدبيّ غير الثّايتة من منظور نقديّ، عبر سعي حثيث إلى خلخلة البنى السّرديّة التّقليديّة حتّى وصلت إلى أسوار القارئ المحصّن بآفاق توقّع متينة، تحكّمت بوجهة التّلقّي لديه، وجعلته يدور عقودًا طويلة في فلك الرّواية التّقليديّة.

إلّا أنّ ذلك لا يعني بالضّرورة ” أنّ الرّواية الجديدة بلا شكل… بل يعني أنّ الشّكل هنا ليس قالبًا جاهزًا يُلقى على التّجربة فيحتويها… فهو في  مفهومه الجديد ينمو من خلال التّجربة ويخضع لمتطلّباتها… ومن ثَمَّ فإنّ الصّفة الرّئيسة لهذا الشّكل أنّه تجريبيّ يخلقه كلّ من المؤلّف والقارئ”.([1]) و يعدّ البعد التّجريبيّ من أبرز آليّات الخطاب السّرديّ المتجدّد في الرّواية المعاصرة، أو رواية ما بعد الحداثة ؛ فقد أعاد النّظر في هيكليّة المعمار السّرديّ( الشّخصيّة، الوظيفة السّرديّة، الحبكة، صورة الرّاوي…)، في محاولة جادّة لتّأسيس خطاب سرديّ متميّز يكون جزءًا من فاعليّات ما بعد الحداثة، والّتي شكّل الأدب أحد أبرز وجوهها. وفي الوقت نفسه يعمل على إيجاد حلول ممكنة للمسائل العالقة بعد أن عجزت الحداثة عن حلّها.

كان البعد التّجريبيّ من الأمور المثيرة لاهتمام روائيّي ما بعد الحداثة. فمن خلال تتبّع مسار العلاقة بين الرّواية المعاصرة وحركة الواقع/العالم يمكن استخلاص الدّلالة الكلّيّة لهذه الرّواية، وبالتّالي وضع تصوّر مفهوميّ لبنائها القائم على عدم الرّبط بين الظّواهر، ونبذ الوحدة والتّماسك المقرون بالنّموّ العضويّ، وزعزعة مبدأ الإيهام بالواقعيّة … كلّ ذلك يدور في فلك الغموض، والإرباك، والفوضى… ما يدفع إلى الاِعتقاد أنّ مهمّة الرّوائيّ تقوم، بالدّرجة الأولى، على إثارة الشّكّ والتّساؤلات، كما أنّها تجعل القارئ متواطئًا في اتمامها، فتبعده من الانفعال وتوهّم الحقيقة، وتحثّه على التّفكير والتّأمّل في كلّ ما يقرأ،  كأنّ” القارئ يقرأ وهو منفصل بدرجة عمّا يقرأ ويراقب… وهذا يمكّنه من النّظر نظرة نقديّة للرّواية ودلالاتها الكلّيّة، ويدفعه إلى التّأمّل( في مغزى التّجاور والتّنافر والتّوازي والانحرافات) لا للاندماج”.([2])

لقد تجلّت تمثّلات التّجريب في رواية ما بعد الحداثة اللّبنانيّة، رواية “شاي أسود”([3]) لربيع جابر انموذجًا، في أكثر من تقانة سرديّة، سيضيء البحث على أبرزها. ويمكن حصرها بأهمّ تمظهراتها:

  • غياب السّرديّات الكبرى (الميتاقصّ أو الميتاسرد)
  • النّزعة التّشكيكيّة ( المنحى العبثيّ)
  • السّخرية الجارحة ( اللّاجدّيّة)
  • الغرائبيّة ( عدم واقعيّة الواقع)

اِنطلاقًا من المعطيات السّابقة، يظهر الشّكل الرّوائيّ مختبرًا يعجّ بإشكاليّات التّنوّع، والتّعقيد، سواء أكان على مستوى القراءة والتّلقّي، أو على مستوى الكتابة والتّأليف. على حدّ قول حسن بحراوي:” إنّ ما يميّز الرّواية هو كونها أساسًا من النّثر، إلّا أنّ هذا النّثر يمتلك تنوّعًا، واتّساعًا لم تعرفهما مع الأنواع الأدبيّة الأخرى الّتي سادت مع القدماء، ففي الرّواية نعثر على أجزاء تاريخيّة وبلاغيّة وأخرى حواريّة، إلخ.”([4]) ويعدّ التّجريب في رواية ما بعد الحداثة موقفًا متكاملًا من الحياة عبر الفنّ وإبداعاته؛ فهو ينطلق من حاجة ماسّة إلى التّخطّي والِاستمرار متمثّلان بالتّجديد. لذلك فهو يستدعي  نضجًا فكريًّا، ووضوح رؤية، كما يستدعي ابتكارًا في الأساليب الفنّيّة من خلال تطوير الأدوات السّرديّة الخاصّة بكلّ مؤلّف.

في المحصّلة، يصبح التّجريب تعبيرًا عن المواقف والرّؤى، والتّصوّرات الفكريّة، والوجوديّة ، والجماليّة، من ثمّ يؤدّي دور المظلّة الواسعة الّتي تحتشد تحتها تمظهرات ما بعد الحداثة الرّوائيّة.

لعلّ أبرز ما يحيل إلى التّجريب، على مستوى الرّواية، هو اللّغة؛ فلقد أصبحت ميدانًا ملائمًا للأديب، يمارس فيه لعبة التّفكيك والتّركيب تارةً، والاكتشاف والإثارة تارة أخرى. فما عادت اللّغة تتغذّى على الواقع، وما عادت النّافذة الشّفّافة الّتي نعبر من خلالها إلى ما ورائها. تنامت قدرتها التّجريديّة وتكشّفت إمكانيّاتها اللّانهائيّة المتلذّذة باللّعب في أجواء الكارثة الّتي فشلت الحداثة في احتوائها. فوضعت ما لا يمكن عرضه في سياقٍ قابلٍ للعرض، ودارت عناوينها حول ” التّمثيل الدّرامي لثيمة عدم القدرة على امتلاك إمكانيّة تفسير مقبولة للعالم.”([5]) فكيف تجلّت التّجريبيّة السّرديّة في رواية” شاي أسود”؟

سيجيب البحث عن هذا السّؤال الإشكاليّ، من خلال دراسة مختصرة لأهمّ تمظهراتها:

1 – غياب السّرديّات الكبرى( الميتاقصّ أو الميتاسرد)([6])

سادت في زمنيّة ما بعد الحداثة نزعة تمرّديّة على كلّ أشكال التّفكير السّابقة. فالمثاليّات السّرديّة الكبرى الّتي تعدّ خزينًا غنيًّا بالقيم والموروثات، مع ما شكّلته هذه الموروثات من أنماط  توجيهيّة اتّخذت صفة (النّماذج الإرشاديّة)، أصبحت من أولى أهداف التّجريب السّرديّ ما بعد حداثّي. وفي رواية ربيع جابر” شاي أسود” تجلّى غياب السّرد المتّصل الموجّه ذي الأسس المستقرّة. فالقصّ داخل القصّ( الميتاقصّ)([7]) يعدّ آليّة تجريبيّة واضحة في هذه الرّواية. وقد مكّنت السّرد من أن يصبح ثيمة ضمن الرّواية ذاتها، قصّة تكتب عن قصّة أخرى، رواية داخل رواية! كلّ ذلك أصبح ممكنًا عبر اللّغة الّتي أصبحت الوسيط بين القارئ والمؤلّف من جهة، و بين الواقع من جهة أخرى.

يبدأ ربيع جابر روايته بالتّعريف ببطلها الإشكاليّ (حسام) الّذي ” لا يؤمن بحقيقة وجوده ومادّيّة هذا الوجود …”( [8]) كما أنّه لا يعبأ بالمشاعر الإنسانيّة و تجلّياتها؛ فالحزن، والفرح، والتّعلّق، والهجر… كلّها (قصص شعور)، على حدّ قوله مثيرة للسخريّة.

لا يستطرد جابر كثيرًا حتّى يجنح بالقارئ نحو أفق بعيد كلّ البعد من الأفق الحكائيّ الأدبيّ: إنّه أفق علميّ بحت تجهد نظريّاته في تفسير الوجود والكينونة… فيطلعنا على حقيقة علميّة مفادها أنّ ” المُشاهد هو عامل مؤثّر في العمليّة الّتي يقوم بمشاهدتها( درس هذا في مادّة هي بمثابة مدخل إلى الفيزياء الكوانتيّة) فبواسطة من هذه المعلومات و بواسطة من هذه الحقيقة العلميّة قرّر حسام أن يعلن كونه غير مؤمن بحقيقة وجود هذا العالم المادّيّ)…” ([9])

وظّف ربيع جابر تقنيّة الميتاقصّ باكرًا في روايته. فكثّف شروحاته التّمهيديّة من خلال المزج بين التّعريف بالشّخصيّة الرّئيسة في روايته ( الاِسم، الوظيفة، الزّمان، المكان… وبين أهمّ ما تؤمن به هذه الشّخصيّة/البطل من أفكار أبعد ما تكون من المعتقدات الدّينية، والأسس القيميّة المتعارف عليها. فبعد عرضه الموجز للنّظريّة الفيزيائيّة وربطها بماهية وجوده، كما حدّدها هو، لا يلبث أن يفاجئنا بنظريّة كوميديّة تمّ تبنّيها من قبله وربطها بوجوده من منظور آخر. هي نظريّة تعتقد ” بكون العالم وهمًا، وفي أحسن الأحوال منامًا، وبالتّالي فإنّ كلّ كلام عن الشّعور والمشاعر هو حتمًا كذب وخداع، وبذلك توصّل حسام إلى أن يكتشف أنّه غير موجود إلّا في الخيال…”([10]) تبدو صفات بطل ربيع جابر غريبة عن البطولة. إنّه الضّعيف، والقلق، والمشكّك إلى أبعد الحدود. يتحرّك مع باقي شخصيّات الرّواية عبر أزمنة مختلفة في غيرمكان. وهنا يبدو شاسعًا الفرق بين زمن الحكاية وزمن السّرد الّذي لا يتعدّى اليوم الواحد، في حيّز مكانيّ مغلق وضيّق توسّع جابر في وصفه وإبراز معالمه الدّقيقة، وصف أشبه ما يكون بتصويرٍ فوتوغرافيّ : رصْد اللّحظة المونوتونيّة العابرة في مشهدٍ جامع.

تشكّل الأشياء في عالم (حسام) منطلقات السّرد، والبذور الّتي تتنامى من خلالها الأحداث. فمشهد الفتاة الدّاخلة إلى الدّكّان وقد أمسكت قبّعتها بيدها اليمنى، فقط، في مشهد طبيعيّ مألوف، إلّا أنّ جابرتعامل مع هذا المشهد بكثير من التّوليد والتّخييل السّرديّين؛ فتخيّل الفتاة بيد واحدة، ما ذكّره بالحرب النّفسيّة الفظيعة الّتي أخذت منه أمّه. من ثمَّ يتذكّر والده المزارع والحقل المزروع، أسفل الوادي وقصر الأمير بشير الثّاني الكبير، بثمار البندورة والكثير من الذّكريات المرّة … قليل من السّرد يقابله غزارة في التّفاصيل المنتشلة من تخوم ذاكرة لعوب، ومراوغة، ومشكّكة. يستعيد (حسام) كلام حبيبته (سهى)،

ونعتها له بالمزيّف في سؤال أشبه ما يكون بمصارحة باللّغة العامّيّة المحكيّة :” ليش بتحبّ تفكّر إنّك وحيد ومظلوم؟”([11]) إنّها تطعيمات اعتمدها جابر في أكثر من حوار بين شخصيّاته، وكأنّه يريد للّغة أن تصبح عارية من حصانة الفصحى وقواعدها، في محاولة منه لاكتشاف مستويات لغويّة تعبيريّة تتجاوز المألوف الّذي لا يروق لبطله (حسام)، وتعمل في الوقت نفسه على تدعيم شعريّة السّرد عنده. ولعلّ ربيع جابر استخدم المحكيّة، غالبًا، في حوارات شخصيّاته ليوحي بواقعيّة مشبوهة، ومتذبذبة، هو نفسه يعاني من إثباتها وتصديقها. يقول في حوار بين حسام و سهى:

قال لها:” سألتك ليش بتكرهيه؟ ”

قالت لها:” عيونه. عيونه بيخوفوني، مش كأنّه عندو إمّ.”([12])

تتوالى فصول لعب “ما وراء القصّ” ، من توالد الحكي وتشظّي السّرد، إلى التّطعيم بالدّارج من اللّهجات تارة، إلى إقحام النّظريات ذات الأبعاد العلميّة والفنّيّة، والفكريّة تارة أخرى. ويعبّر عن ذلك تكثيف المقولات المختلفة ورموزها: روميو وجولييت، أنطونيو وكليوباترة، أوديب، المسيح، الفرسان الثّلاثة، هزمان هسه، الأمير بشير، لاكي لوك، هاملت، هايزنبرغ، اينشتاين، غالب هلسا، غراهام غرين، جيمس جويس، جرجي زيدان، سارتر، كامو، نجيب محفوظ…

لقد أدّى غياب السّرديّات الكبرى، في مرحلة ما بعد الحداثة، إلى اعتماد تقنيّة الميتاسرد محاولة لكسر تقليديّة السّرد الإبداعي في إطار النّسق الشّائع. إن من خلال توظيف السّرد المتقطّع والمتكسّر وفاق تقنيّات الاسترجاع والاستباق، والوقفة، أو من خلال الجمل القصيرة، والتّكرار السّاعي إلى تحقيق هدف حكائيّ تساعد على بلوغه ” أفعال تمثّل وحدات سرديّة أي العرض اللّغويّ لمتوالية من الأحداث داخل النّصّ السّردي.”([13]) أو من خلال خلال كشف أسرار اللّعبة السّرديّة القائمة على تفاعل الأحداث والشّخوص. وصولًا إلى التّعليقات والتّضمينات الّتي تهدم كلّ ما سبق وتمّ تشييده من أحداث ووقائع في المعمار السّرديّ، أحداث توهم بالواقعيّة إلى أن يثبت العكس عندما تحين لحظة الكشف عن حقيقة أنّ الرّواية لم تكن إلّا محاولة مراوغة اقترفها جابر وهو لم يكن مجرّد مؤلّف لنصّه إنّما شخصيّة مشاركة وموجِّهة للفضاء الرّوائيّ بكلّيّته. فهو الرّاوي الميتاسرديّ الّذي يدير عمليّة السّرد ليصل في نهاية المطاف إلى تقديم رؤيته الذّاتيّة المعبّر عنها بالهمّ الإبداعيّ.

يطرق جابر باب المسكوت عنه، والمتعلّق بالمقدّس الدّينيّ، والعرفيّ الاجتماعيّ. كما يعرّي الذّات الإنسانيّة ليُظهر أدرانها ونتوءاتها، فنقرأ تناول الذّات الإلهيّة بأوصاف دنيئة تطاول حدود الكفر والسّخرية. وكأنّه يقصد من وراء ذلك أن يضع الإصبع على الجرح الإنسانيّ في سبيل معالجته. فهل نجحت رؤى ما بعد الحداثة الثّورويّة في مهمّتها، أم أنّها أضرمت النّار في هشيم إرث الحداثة؟

لحظة الكشف الميتاسرديّ نقرأها في خاتمة الرّواية عندما يصدمنا بخلفيّات اللّعبة السّرديّة:” منذ البداية، كانت مجرّد مسرحيّة، مجرّد لعبة. كنت ضجرًا فقلت أملأ الوقت،. بلى، كلّه كذب بكذب منذ العصر… إفهموا القضيّة جيّدًا … كلّ ما في الأمر أنّني ضجرت. اخترعت العزلة وسكنت في قلبها. بلى طوعًا اخترعت جحيمي منذ البداية… كلّ ما في الأمر أنّني أردت أن أصارحكم كي لا تُذهلوا عندما يُسدل السّتار فجاة.”([14])

2 – النّزعة التّشكيكيّة ( المنحى العبثيّ)    

تعدّ رواية ما بعد الحداثة من التّجارب الفنّيّة الرّافضة للتّقاليد الجماليّة الّتي أرستها المرحلة السّابقة، أو مرحلة الحداثة. فقد تمرّدت هذه الرّواية على المنظومات الفكريّة والأيديولوجيّة، مع ما عرفته هذه المنظومات من بصمة مؤثّرة في ميادين الفنّ كافّة. إضافة إلى مكابدتها في سبيل إقامة أبنية سرديّة جديدة، لعلّها تؤمّن ما تطمح إليه من إرساء لقيم التّعدّد والاختلاف، والشّكّ والحيرة، والتّيه والغموض الموصلينِ إلى اعتناق رؤية عبثيّة أو لا يقينيّة للعالم. يتأكّد كلّ ذلك في مرونة هذه الرّواية وتلبيتها لطموح التّجديد والأبداع معًا.

عُرفت الرّواية العبثيّة ذات النزّعة التّشكيكيّة واللّايقينيّة في تعاطيها مع جدليّات الوجود الحسّاسة، أوّل ما عُرفت بشكل صارخ في فرنسا، تحديدًا في روايات( ألبير كامو). وامتدّ تأثير هذا النّوع من الرّواية العبثيّة التّشكيكيّة إلى الأدب العالميّ. وكان للرّواية اللّبنانيّة نصيب لا بأس به من هذا التّأثير، لانزال نرصد تجلّياته في النّتاج الرّوائيّ حتّى اليوم. ويعود ذلك إلى محفّزات عديدة اجتماعية وثقافية… ما يؤكّد مقولة انّه من المستبعد أن تتشكّل الرّواية ببنيتها المعقّدة ” ذات يوم من مجرّد الابتكار الفرديّ، من دون وجود أيّ أساس لها في الحياة المجتمعيّة للمجموعة.”([15])

اِنطلاقًا من المعطيات السّابقة، طوّرت الرّواية اللّبنانيّة طرقها التّعبيرية، وكرّست موقعها في القائمة السّرديّة على امتداد الزّمن. فابتعدت عن تمثيل الواقع والبحث عن الحلول لمعضلاته، واقتربت من الاِنزياح عنه لتتحوّل تدريجيًّا إلى شبه إضاءة على الحالة الإنسانيّة بعموميّتها.

يجتهد ربيع جابر في روايته” شاي أسود”، في رسم ملامح سرديّة مغايرة لبعض سرديّاته السّابقة. ففي هذه الرّواية يظهر البطل الإشكاليّ (حسام) بحالة إنسانيّة نافرة بصفاتها ومواقفها، إلّا أنّها من الحالالت المتفشّية بين سطور روايات ما بعد الحداثة. هو بطل مثخن بالانكسارات والخسرانات. تدور في رأسه ألف قصّة وقصّة عن الحرب، والجنون، والحبّ، والجنس، والذّاكرة المتصدّعة بفعل التّشظّي والعبث واللّايقين… يشكّ بمنظومات القيم، كما يشكّك بأمّات المقولات الفلسفيّة. يتمادى شكّه ليطال المقدّس الدّينيّ! إنّه التّخبّط اللّاواعي والانكسار الإنسانيّ أمام معضلات الوجود الكبرى، تخبّط لم يفلح بطله (حسام) في الافلات منه مهما حاول أن يعتنق من نظريات وفلسفات، ومهما حاول أن يؤكّد هويّته الّتي تعني وجوده وتثبّته. فنراه لا يفتأ يردّد عبارة” يُدعى حسام” مرّات عديدة بين سطور روايته، ربّما كان ذلك ردًّا على التّشكيك الّذي لا يرحمه. يقول واصفًا تطرّفه العقيديّ، وشكوكه في جدوى وجود إله مدبّر عظيم ” … الدّخول في الثّقب أو الخروج منه- يفكّر حسام الآن – إنّه الأمر ذاته… هايزنبرغ ومعادلات اللّايقين لأنّ الله يلعب بالنّرد وإن غضب أينشتاين، وإن جّنّ. اللّعنة، اللّعنة، عالم بلا إله… أهذه هي روايتي؟”([16]) كثيرة هي المواقف الّتي يعلن فيها البطل حسام قطيعته مع المعتقدات الدّينيّة، معزيًا ذلك إلى عدم جدوى الإيمان ما دام لا يستطيع أن يقدّم تفسيرًا مقبولًا للعالم. ما يذكّرنا بغريب ألبير كامو المتخم بالعبثيّة، إذ لم يشكّل موت أمّه أي اهتزاز لمشاعره المضطربة وقد انطوى في قوقعة الوحدة والانعزال، وراح يفنّد فهمه للموت والحياة والوجود بشكل فلسفيّ مبتكر انضوى تحت عنوان ” العبثيّة واللّامعقول”. نقرأ ردّ (حسام) على سؤال حبيبته ( سهى) إذا ما كان يحبّ أمّه:” لا أعرف. لا أعتقد. بلى، أظنّ كنت أحبّها. هي أمّي… لكن لا. في الحقيقة موتها لم يشكّل لحظة مهمّة بالنّسبة لي…”( [17]) إنّه لا يدرك إذا ما كان يحبّ أمّه! تشكيكه مربك، قاتل يلفّ أقدس المشاعر بضبابيّة كريهة منفّرة فيشوّه الملامح الإنسانيّة السّويّة.

في رواية” شاي أسود”، تتجلّى واضحة النّزعة التّشكيكيّة القائمة على العبثيّة والتّشظّي، وكأنّها تنفي صورة أي عقيدة بحقيقة مطلقة. فيغيب المركز التّوجيهيّ، وتُستدعى الشّخصيّات من مختلف مجالات الحياة في إحالات بارزة في ميل واضح إلى “ترسيخ حالة من اللّايقين الوجوديّ.” ([18]) كما تختلط في هذه الرّواية، المشاعر بين الشّخصيّات. مشاعر الحبّ والصّداقة، والخيانة والشّذوذ… في شكل عبثيّ فوضويّ عبر لغة مرواغة تتأرجح بين الواقع والتّخييليّ. يصف (حسام) صديقه (علاء) الغريب الأطوار إلى حدّ الانتحار: “وحيد على نصف دزينة من الفتيات الجميلات، صغير العائلة، ملحد لا يؤمن بالله، وسط عشيرة بعلبكيّة متديّنة إلى الحدّ الأصوليّ. حامل هويّة جنسيّة مربكة إلى حدّ كبير، عبثيّ غريب في عبثيّته، لا يملك أدنى طموح أو حلم…” ([19]) حتّى حبيبته (سهى)، لم تسلم من عبثيّته، فعلى الرّغم من عشقه لها إلّا أنّه لا يريد الاِرتباط بها بشكل قانونيّ شرعيّ، مدّعيًا أنّه يُشفق عليها من الاِرتباط بشخص لا يستطيع تحمّل نفسه وفهمها!

3- السّخرية الجارحة ( اللّاجدّيّة )  

     لعلّ أوّل ما يشدّ انتباه القارئ إلى الرّواية هو: العنوان، كونه البنية المشكّلة لأوّلى معالم بلاغة النّصّ، إضافة إلى ما يحيله من ترجمة مرجعيّة مرتبطة بالنّوع الرّوائيّ.

“شاي أسود” هو عنوان رواية ربيع جابر! فما الّذي يمكن أن يقدّمه هذا العنوان المفرغ بنيويًّا من كلّ حمولة معنويّة يمكن استشفافها قبل قراءة الرّواية، لربّما أكثر من مرّة؟

تؤشّر صيغة العنوان الّذي لا يخلو من نكهة ساخرة، إلى الّنزوع نحو الغريب السّاخر والسّائر على حبل اللّاجدّيّة والإبهام. وكأنه بهلوان تثير حركاته الضّحك والخوف في الوقت عينه. يمكن القول إنّ عنوان رواية جابر قد شكّل أولى محاولات الخيانة لمفهوم النّوع الأدبيّ في إطار لعبة السّرد ما بعد حداثوي. تتوالى فصول الرّواية من غير أن تختفي ملامح السّخرية الجارحة فيها. يقول جابر:” يتذكّر مزاعمه حول كون العالم مجرّد وهم ويفكّر أنّه يستحقّ أكثر من صليب. أستحقّ خازوقًا، يفكّر حسام. ثمّ مجدّدًا تعود حليمة إلى عادتها القديمة.”([20]) هي السّخرية المرّة حين لا يجد الإنسان أي عزاء يمكن أن يخفّف من وطأة الألم والمعاناة. هو يعرف أنّه ارتكب خطأً ما عندما زجّ نفسه في لعبة الوهم. ثمّ راح يعتنق النّظريّة تلو الأخرى هربًا من الواقع الّذي يرفضه.

تشكّل السّخرية في رواية ما بعد الحداثة، تقنيّة تعبيريّة يلجأ إليها الرّاوي حين يدرك أنّ الجدّيّة، والعقلانيّة من الأمور غير المجدية في مقارعة الواقع وإلحاح أسئلة الوجود. فحين يغدو الوجود نفسه غير قابل للاستيعاب، والعقل ليس سوى أداة منهكة لا يعوّل عليها في اجتراح الخلاص، يصبح البحث عن إمكانيّات متاحة في أكثر ألأمور تفاهة حلًّا بديلًا. فالسّخرية ثيمة سرديّة استلهمها الأدباء كما الفنّانون في أعمالهم الإبداعيّة، لعلّها تقدم السّلوى والعزاء في غياب فاعليات العقل في ظلّ تغوّل الواقع، والأزمات الإنسانيّة من قلق ويأس وانكسار… ” قالت له سهى: أنت ما فيك تغرق بعيوني، لأنّ راسك خشب والخشب ما بيغرق.”([21]) في مزيج من السّخرية واللّغة العامّيّة، يسعى ربيع جابر إلى التّأكيد على ضحالة أفكار بطله (حسام) الّذي أغرق نفسه في الأوهام، وقد حشا رأسه بها ظنًّا منه أنّها تساعده في فهم العالم، وتخطّي مآزق الوجود. إلّا أنّ حبيبته (سهى)، وبطرفة منها تفنّد كلّ ادّعاءاته: فرأسه فارغ غلى الرّغم من تراكمات الأفكار، خفيف على الرّغم من ثقله!

مشهد ساخر آخر يثير الضّحك حتّى البكاء:” قال لعلاء : أروع انتحار رصاصة  في الرّأس يخرج كلّ ما في داخل رأسك إلى خارجه. ترتاح من الصّداع إلى الأبد. لا يعود رأسك ثقيلًا، تنام الخفّة كتفيك.”([22]) فهل كان (حسام) يعطي لصديقه الحميم (علاء) أفكارًا ونصائح عن الرّاحة من ثقل الوجود، ما لبث علاء أن عمل بها  حين قرّر أن ينهي حياته ويرتاح! ما جعل (حسام) يعاني من بداية الرّواية حتّى نهايتها من عذاب الضّمير، كونه لم يقدّم لصديقه سوى نصيحة ساخرة غير ملائمة جعلته يدفع الثّمن أرقًا، وخيبة، وانكسارًا، وهذيانًا…

هكذا تمكّنت رواية” شاي أسود” من الاستجابة إلى “أوهام” ما بعد الحداثة، إذا صحّ التّعبير، عبر المحاكاة السّاخرة، واللّاجدّيّة في التّعاطي مع بعض الجدليّات الوجوديّة المقلقة. فاستحالت هذه الرّواية إلى مادّة لرواية الخيبات والانكسارات، حتّى بدت في نهاية الأمر، أشبه برواية فارغة من الرّؤية المتطلّعة إلى المعنى، والحقيقة، والإيمان، والأصالة… ما يذكّنا بسؤال (جيسّي ماتيز) الإشكاليّ “إذا لم يكن ثمّة سبيل للكتابة عن شيء أصيل، ألن يكون الأفضل الاِكتفاء بإبداء السّخرية ممّا هو كائن؟”([23])

4 – الغرائبيّة و الفنتازيا ( عدم واقعيّة الواقع)

تناول البحث الأثر الغرائبيّ أو الفنتازيّ في رواية” شاي أسود”، على أنّه ترجمة لعدم واقعيّة الواقع. على الرّغم من تمظهراته الّتي جاءت قليلة، إلّا أنّ ما يدفع إلى التّطرّق إلى موضوع مماثل، هو كون الرّواية بتمثّلاتها السّرديّة، وأشكال خطابها، تنزع إلى أن تكون أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع.

عبرت الرّواية العربيّة مسارًا حافلًا بالتّطوّر والتّفاعل ؛ فلقد تلوّنت بألوان النّماذج، والمذاهب الأدبيّة، عبر مدّ الجسور بينها وبين حاضنات الرّواية الغربيّة انطلاقًا من اطّلاعها على تجارب روائيّ البحر الأبيض المتوسّط، وصولًا إلى أمريكا اللّاتينيّة أرض الفنتازيا والغرائبيّة…([24]) إضافة إلى ما اكتسبته من غنى من جرّاء تعالقها مع التّراث الإنسانيّ الغنيّ برموزه التّاريخيّة والفكريّة. وقد استفادت من كلّ هذه المعطيات في فكّ شرنقة الواقعيّة  والرومنسيّة المحبوكة بخيوط الكلاسيكيّة السّرديّة. ثمّ تابعت مسيرتها حتّى رست على أعتاب ما بعد الحداثة، وإن تأخّرت بعض الوقت، إلّا أنّ ذلك لم يمنعها من مجاراة ما طرأ على هذا الجنس الأدبيّ من تغيّرات طالت بنياته الإجناسيّة، أو أعادت تشكيلها بما يتوافق مع وجدان الإنسان العربيّ المعاصر، وقضاياه المصيريّة، ومآزقه الكيانيّة. وقد أدّى ذلك إلى تشبّع هذه الرّواية من نصوص التّراث العربيّ، والإنسانيّ الحكائيّ والملحميّ. فغدت إناءً طافحًا بالواقعيّ والغرائبيّ، بالمألوف واللّامألوف، بالمعقول واللّأمعقول… وهكذا ارتبطت الرّواية العربيّة، ومنها اللّبنانيّة، ” بالتّراث القديم لتوليد دلالة جديدة تنطبق على الحاضر ولا سيّما الحكايات الشّعبيّة في التّراث العربيّ.”([25])

بإمكان المتتبّع لتمثّلات الفنتازيا في الرّواية العربيّة، أن يلحظ أنّ الرّغبة في التّجريب والتّنويع، شكّلت إلى جانب الرّغبة في رسم رؤية للعالم المتحوّل والمتناقض، أهمّ أسباب لجوء الرّوائيّين العرب، لا سيّما في حقبة ما بعد الحدداثة، إلى توظيف هذه التّقانة السّرديّة تحت عنوان الفنتازيا أو العجائبيّة. على أنّ المصطلحين يفترقان في تفرّعاتهما، إلّا أنّهما يلتقيان في الهدف والغاية. على حدّ قول (إيتر):” إنّه يمكننا أن نقرأ الرّواية أو الحكاية الفنتازيّة في أغلب الأحوال على أنّها قصّة رمزيّة ترمز لشيء حقيقيّ نعيشه في واقعنا.”([26])

استفاد ربيع جابر من أسطورة ” الفرسان الثّلاثة” في تقديم شخصيّات روايته وتوضيح العلاقة القائمة بينهم على أساس التّضحية والوفاء، كما هو مفترض في الرّواية الأصل. كما استلهم أسطورة “أوديب” ليعلن حزنه المدوّي، فيثير تعاطف الآخرين. يقول في إحدى هلوساته:” أنا يتيم، يتيم مثل يسوع المسيح. أنا أعمى، أعمى مثل أوديب…” ([27]) كما تحفل الرّواية بفيض من الأسماء التّراثيّة، والتّاريخيّة، والفكريّة… في سبيل إقامة علاقة جدليّة بينها وبين العالم الغيبيّ ركيز الفنتازيا السّرديّة.

كما عمل جابر على تصوير الواقع/العالم بكلّ تناقضاته وتحوّلاته في خدمة التّعبير عن رؤيته المغايرة لما يحدث حقيقة. وجاء ذلك عبر جملة أمور منها:

  • اعتماد الأحلام والرّؤى وسائل في بناء السّرد.
  • مسخ المألوف والطّبيعيّ من طريق السّخرية، وخلق المفارقة والتّطرّف.

وهو يكشف، في نهاية روايته، قواعد لعبته السّرديّة، بعد أن بعثر بشكل مدروس وقصديّ خيوط لعبته السّرديّة. ليدرك المتلقّي لهذه الرّواية أنّها لم تكن سوى خدعة منمّقة سرديًّا:” كانت مجرّد مسرحيّة، يؤدّيها رجل واحد، يدعى حسام، وفي جمجمته ألف قصّة وقصّة… لديكم كلّ الشّخصيّات تقريبًا، يبقى أن تكتشفوا القصص، وفي النّهاية ما هي المتعة في لعبة كلمات متقاطعة، مرفقة بحلولها سلفًا؟ “ ([28])

يبالغ البطل الفنتازيّ (حسام) في تطرّفه الوجوديّ؛ فأمام عجزه عن فهم القضايا الوجوديّة، وجدليّاتها المتناقضة إلى حدّ الجنون والارتياب، يقف حائرًا، وقلقًا، يتآكله الشّكّ حتّى يهتدي إلى الحلّ : هو غير موجود فعلًا، كذلك العالم من حوله، لا وجود لمكوّناته، إلّا بإرادته هو. ففي النهاية كلّ شيء وهم بوهم” …والآن يجد حسام نفسه في حالة متطرّفة في خياليّتها…”([29])

أمّا الزّمان فيتكسّر، ويتشظّى في غير اتّجاه، تتداخل أوقاته تداخلًا يصيب قارئ الرّواية بالدّوران، والتّأمّل بجدوى كلّ ذلك. ولا تترك الفنتازيا المكان ينجو من أحابيلها، فأمكنة الحكاية تترامى وتتشابك مسالكها الوعرة، وتختزن مفارقها قصص الخيبات والفقدانات… وتتمّ المفارقة الصّدمة أنّ مكان الرّواية كتابيًّا هو شقّة حسام المؤلّفة من غرفة بقياس سرير، ومطبخ وحمّام بالغ جابر في وصفهما ليجعل القارئ شريكًا قريبًا من الأحداث، يشعر بالضّيق والاختناق اللّذين يشعر بهما ( حسام).

في مشهد يزخر بالرّعب الممزوج بالفنتازيا، يصف (حسام) الجثّة المرميّة تحت الجسر، إبّان (حرب الجبل) الّتي حصدت أرواحًا بريئة، وقد تركت ندوبها في ذاكرة ربيع جابر الّذي عايشها، وذاق مراراتها ” يقترب، يمسك بالجسد من الكتف الأيمن ثمّ يقلبه على ظهره بصعوبة. يحدس أنّ الوجه هو وجه سهى، قبل أن ينظر ليتأكّد قد يكون فكّر بوجه آخر. بلى، يفكّر بوجه أمّه، وفجأة، وإذا كان الشّعر الطّويل يتساقط جانبًا، يكتشف أنّه وجه علاء. يصرخ صرخة هائلة ويقفز…” ([30])

إنّه الألم القاتل الّذي يخلّفه الفقد، حين يتحوّل كلّ من حولنا إلى مشروع ضحيّة، وحين يتآكلنا شعور القلق من المجهول متمثّلًا بالموت! بهذه الطّريقة يكتب ربيع جابر المشاعر الإنسانيّة القلقة، والمتشظّية، فوق جسد الوطن المستباح. يستلّ خطوطها من ذاكرته وذاكرة كلّ لبنانيّ اكتوى بنارها. وهكذا يصبح الانفصام بين الشّعور واللّا شعور سمة من سمات الإنسان العربيّ، المتمثّل بالإنسان اللّبنانيّ المعاصر، بحسب رؤية جابر  الّذي لا يجد أمامه سوى الانتحار أو نفي الوجود، روائيًّا، وسيلةً لمقارعة الواقع المأزوم.

خاتمة البحث

أبدت رواية ربيع جابر” شاي أسود” تجاوبًا ملموسًا مع متغيّرات المجتمع، ومتطلّبات التّعبير الإبداعيّ، كونها أمّنت تواصلًا متشعّبًا وفاعلًا مع البنى الثّقافيّة، والفكريّة ، والأيديولوجيّة…

لتصبح ” موازاة إبداعيّة تخييليّة للواقع والمجتمع والتّاريخ، موازاة فاعلة، أي لا تقتصر على التّسجيل والنّظر التّقريريّ، بل تعمل أيضًا على البحث في حلول مشكلات العالم ومآزقه…”([31])

اِنطلق السّرد عند ربيع جابر من مكان وزمان حكائيّين مرتبطين بالواقع، وقد ساقهما عبر وحدات سرديّة تخصّ عالم السّرد المنفصل عن عالم التّجربة الحيّة. إذ أعاد تصويرها من خلال وسيلة سيميوطيقيّة فاعلة هي اللّغة في مجالها السّرديّ.

اتّخذ جابر من التّجريب غاية مرجعيّة في معالجة تقانات السّرد المتنوّعة، حيث تعاطى مع الزّمن السّرديّ المتقطّع، والمتكسر وفاق تقنيّات التّحديث البعيدة كلّ البعد من الأسس التّقليديّة الّتي حكمت السّرديّات الكلاسيكيّة الكبرى في مرحلة الحداثة وما قبلها. تجلّت واضحة تمثّلات ما بعد الحداثة في رواية “شاي أسود”، وذلك دليل على أنّ الرّواية اللّبنانيّة المعاصرة واكبت ما طرأ من تغيّرات على عوالم السّرد. كما استفادت من واقع التّجربة، ليمكننا القول إنّها:” تجاوزت مرحلة الرّواية الحكاية، والرّواية/ السّيرة الذّاتيّة، والرّواية الحبكة التّقليديّة.”([32])

سجّل جابر رفضًا واضحًا لكلّ التّقاليد الجماليّة والفكريّة، والعقائديّة… في محاولة لإرساء قيَم التّعدّد والاِختلاف، والرّفض، عبر طرح نظريّات مشكّكة نحت منحى العبثيّة واللّامعقول بعد فشل المنظومات الفكريّة السّابقة في إيجاد حلول ناجعة لأزمات الإنسان ومعضلات الوجود. فتعامل مع المقدّس الدّينيّ، والاجتماعيّ بتهكّم وتجرّؤ صارخ، يحيل إلى الفراغ العبثيّ العاجز عن إيجاد العزاء والحلول البديلة. بل على العكس، لقد توسّعت الهوّة بين الممكن والمستحيل، وغدا التّطرّف الفكريّ عبئًا إضافيًّا حملته رواية ما بعد الحداثة.

تجلّى نزوع جابر إلى السّخرية واللّاجدّيّة في تعاطيه مع الواقع المّأزوم، بشكل واضح. لعلّ العنوان كان المؤشّر الأوّل على حسّ السّخرية والغرابة. من ثَمَّ تحوّلت الرّواية، تدريجيًّا، إلى حكايات متتالية للخيبات والانكسارات لا تخلو من نكهة لامبالية كردّ فعل على التّشظّي والضّياع اللّذين حكما رؤية الكاتب وروايته. وهنا يصبح التّأمّل، والوعي هو ما ينتج الواقع، وليس الواقع هو العامل على تشكيل الوعي. لم تسلم رواية” شاي أسود” من حبائل الغرائبيّة والفنتازيا، وهما ركيزتان من ركائز رواية ما بعد الحداثة. فبين سطورها نلمح استلهامًا للعديد من الحكايات التّراثيّة، والأسطوريّة، والخياليّة. إضافة إلى مشاهد القتل الّتي تثير الرّعب والغثيان… كأنّ المؤلّف يدخلنا معه، قسرًا، في دهاليز الكوابيس، وأحلام اليقظة الّتي أتقن حبك خيوطا، من ثمّ أمسك أطرافها بيده ليفاجئنا في نهاية روايته المدوّخة بأنّ كلّ ذلك لم يكن سوى وهم، ومحض مساءلة لقدرة الإنسان على تحمّل الخيبة الصّادمة، والإفلات من سطوة ” أوهام” ما بعد الحداثة الرّوائيّة!

 المصادر والمراجع

  • جابر، ربيع. (1995). شاي أسود. بيروت: دار الآداب.

المراجع

1-  السّعدون، صبّار، مترجم.( 1989). ت. ي. إيتر. بغداد: دار المأمون للتّرجمة والنّشر.

  • باتلر، كريستوفر.( 2002). ما بعد الحداثة/ مقدّمة قصيرة جدًّا. (نيفين عبد الرّؤوف، مترجمة). مصر: مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة.

3- بحراوي، حسن.(2009). بنية الشّكل الرّوائيّ: الفضاء، الزّمن، الشّخصيّة.(ط2)، بيروت: المركز الثّقافي العربيّ.

4- جرييه، آلان روب.(1985). لقطات،(عبد الحليم إبراهيم، مترجم). القاهرة: الهيئة المصريّة العامة.

  • زراقط،عبد المجيد.( 1999). الرّواية اللّبنانيّة (1972- 1992). ج2. بيروت: منشورات الجامعة اللّبنانيّة.
  • حليفي، شعيب.( 1993). مكوّنات السّرد الفانتاستيكي، بحث منشور، مجلّة فصول،مج12، عدد1.

7-  حليفي، شعيب،(1998). بنيات السّرد العجائبيّ في الرّواية العربيّة. بحث منشور في مجلّة فصول، مج16، عدد 3.

8- علّوش، سعيد( 1985). معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة. بيروت: دار الكتاب اللّبنانيّ.

9- عيّاد، شكري محمّد.( 1971). الأدب غي عالم متغيّر. القاهرة: الهيئة العامّة للكتب.

10- ماتيز، جيسّي.( 2016). تطوّر الرّواية الحداثيّة .(لطفيّة الدّايمي، مترجمة). بغداد : دار المدى.

11- نسر، علي.( 2019). الرّؤية إلى العالم في الرّواية العربيّة. بيروت: دار المؤلّف للنشر.

– Brook,Rose, Christine.(1980). “Where do we go from here?”. Granta3. 12

– G0ldman, Lucien( 1964). Pour une sociologie du roman. Paris, Gallimard. 13

* عبير أبو جهجه: طالبة في المعهد العالي للدكتوراه الجامعة اللّبنانيّة، الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية.

[1] – جرييه، آلان روب.(1985). لقطات،(عبد الحليم إبراهيم، مترجم). القاهرة: الهيئة المصريّة العامة.ص25.

[2] – عيّاد، شكري محمّد.( 1971). الأدب غي عالم متغيّر. القاهرة: الهيئة العامّة للكتب. ص89،90.

[3] – جابر، ربيع. (1995). شاي أسود. بيروت: دار الآداب.

[4] – بحراوي، حسن.(2009). بنية الشّكل الرّوائيّ: الفضاء، الزّمن، الشّخصيّة.(ط2)، بيروت: المركز الثّقافي العربيّ. ص10

[5] – Brook,Rose, Christine.(1980). “Where do we go from here?”. Granta3.p143.

[6]  – مصطلحا الميتاقصّ والميتاسرد مرادفان لمصطلح ما فوق الحكائيّة، وهو مصطلح يطلق عند (جينيت) على قصّة من الدّرجة الثّانية، أي الاندماجيّة، ( مثال ألف ليلة و ليلة). وهو تثنيه للحكي ، في حكايات أخرى، أو في نفس الحكاية. يُراجع: علّوش، سعيد( 1985). معجم المصطلحات الأدبيّة المعاصرة. بيروت: دار الكتاب اللّبنانيّ. ص 75.

-[7]  القصّ داخل القصّ أو حكاية في الحكاية : طريقة تقنيّة عاليّة، الغرض منها، بلوغ درجة الإبهام، بتكسير الإيهام الكلاسيكيّ. علّوش، سعيد.م.س.   ص73.

[8] – جابر، ربيع، شاي أسود.م. س. ص 6.

-[9]  المصدر السّابق نفسه. ص 6.

[10] – م. س. ن. ص 6

[11] – جابر، ربيع، م.س. ص 10.

[12] – م.س. ص 12.

-[13]  جينيت، جيرار.(1992). حدود السّرد. (بنعيسى بوحمالة، مترجم).ص 71.

[14] – جابر، ربيع.م.س. ص 132،133.

[15] – G0ldman, Lucien( 1964). Pour une sociologie du roman. Paris, Gallimard. P 120.

-[16]  جابر، ربيع.م.س. ص59.

[17] – م. س. ن. ص 17.

-[18]  باتلر، كريستوفر.( 2002). ما بعد الحداثة/ مقدّمة قصيرو جدًّا. (نيفين عبد الرّؤوف، مترجمة). مصر: مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة.ص 75.

-[19]  جابر، ربيع.م.س. ص 93.

-[20]  جابر، ربيع.م.س. ص 128.

-[21]  م.س.ن. ص 25.

-[22]  م.س. ن. ص 53.

[23] – ماتيز، جيسّي.( 2016). تطوّر الرّواية الحداثيّة .(لطفيّة الدّايمي، مترجمة). بغداد : دار المدى. ص 288.

-[24]  العجائبيّ والغرائبيّ يندرجان تحت “معاطف” الفانتاستيك الّذي يعدّ اختراقًا لكلّ حدود الأزمنة والأمكنة والمقاييس الّتي اعتادها النّاس في واقعهم وحياتهم الطّبيعيّة. يُراجع: حليفي، شعيب.( 1993). مكوّنات السّرد الفانتاستيكي، بحث منشور، مجلّة فصول،مج12، عدد1.

-[25]  حليفي، شعيب،(1998). بنيات السّرد العجائبيّ في الرّواية العربيّة. بحث منشور في مجلّة فصول، مج16، عدد 3.

[26] – السّعدون، صبّار، مترجم.( 1989). ت. ي. إيتر. بغداد: دار المأمون للتّجمة والنّشر.

-[27]  جابر، ربيع.س. ص 112.

-[28]  جابر، ربيع،م.س. ص 133.

-[29]  م.س.ن. ص 6.

[30] – م.س.ن. ص 111.

-[31]  نسر، علي.( 2019). الرّؤية إلى العالم في الرّواية العربيّة. بيروت: دار المؤلّف للنشر.ص26،27.

[32] – زراقط، عبد المجيد. (1999). الرّواية اللّبنانيّة (1972- 1992). ج2. بيروت: منشورات الجامعة اللّبنانيّة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website