الغزوُ المغوليُّ وواقعُ التردّي الإسلاميّ*
أ.د.دلال عباس
تدمع العيون أسًى وأسفًا على أمِّ المدائنِ بغداد،عاصمة الإمبراطورية العبّاسيّة العجوز المتهالكة، تسقط شهيدةً تحت سنابك المغول، ويتبارى الشعراء في رثائها، ويتساءل الغيورون : كيف تسقط الخلافة؟ من حرَّض الغزاة على انتهاك قدسيّتِها؟ ونتساءل معهم :
- أكان المغول بحاجة إلى من يزيّن لهم فتح بغداد؟
- هل كان بإمكان ذلك الشتات من دول الشرق الإسلامي المتناحرة في ما بينها، المهدّدة من كلِّ ناحية بهجوم المغيرين الأجانب، أن تصمد أمام الزحف المغوليِّ العاتي القادمِ من أقصى الشمال؟
- هل كان بإمكان تلك الدول التي تفتقر إلى قيادةٍ واحدةٍ حكيمةٍ،أن تقاوم قيادة اثنين من أعظم القوّاد الموهوبين قدرةً على التنظيم أعني جنكيزخان(1) وحفيدَه منكوقاآن، الجدّ الذي استطاع في مدّة قصيرةٍ نسبيًّا أنْ يوحّد قبائل كانت أشبه بخليّة النحل، من حيث تعدّدُها وكثرةُ حركاتِها وتنقلاتِها؛ فوحّدَ الشتات ، وكوّن دولةً مركزيّةً واحدة، ووضع بمساعدة مستشارين أكفاء من حكماء الدول المهزومة(2) أُسُسَ التنظيم الذي سارت عليه الدولة المغوليّة بعد وفاته(3)، والحفيد منكو الذي اتّبع سياسة جنكيز خان في تفصيلاتها، وذلك عندما أرسل أخاه هولاكو للقضاء على الإسماعيلية وإخضاع الخلافة؟
لقد استطاع المغول أولئك الغزاة المتبربرين، في مدّة قصيرة نسبيًّا غزوَ أقطار كانت قد بلغت شأوًا بعيدًا في الحضارة والمدنيّة، ولكنّها أيضًا كانت قد بلغت مدى بعيدًامن الترف، وتاليًا الضعف والفتور والإنحلال. ينطبق عليها ما قاله جنكيزخان مخاطبًا إمبراطور الصين الشماليّة : “كلّ ما تمتلكه من بلاد يعدُّ ملكًا لي، فما أصبحْتَ فيه من الضّعف يقابله ما توافر لي من القوّة”(4).
كان المغول القوة التي انشقّت عنها الأرض لتهدّدَ العالم بأسره، وبعد وقوع الصين الشماليّة في أيدي المغول، طال التهديدُ العالمَ الإسلاميّ الذي كان يفتقر إلى زعامة تستطيع أنْ توحّد الشتات لتقف في وجه الرياح العاتية. وعلاء الدين محمد الخوارزميّ (596ه – 617ه=1199 – 1219م ) الذي كان يحدِق التهديدُ المغوليُّ بدولته، كان يمنّي النفس ببغداد وتاليًا تزعُّمَ العالم الإسلاميّ، لأنّ الخلفاء العباسيين ” تقاعدوا وتكاسلوا وتركوا الجهاد في سبيل الله، وتغافلوا – على الرغم من استطاعتهم – عن المحافظة على الثغور، وقمع أرباب البدع والضلالات”(5)، وقد استقوى على الخليفة الناصر لدين الله بعد أن استعان به هذا للقضاء على آخر سلاطين السلاجقة في العراق، وها هو يقصد بغداد في خريف 614ه / 1217م، ولكنَّ العواصفَ الثلجيةَ والبردَ الشديد أهلك جنده وعتاده ودوابه، وكان ذلك هو الدافع لأن تشيع تلك الخرافة المشهورة التي تقول إن ما حدث لم يكن إلا غضباً من الله انتقاماً من السلطان الذي تطاول على خليفة المسلمين، وحاول إزالة بيتِ بني العباس المؤيَّدِ من السماء(6).
ولما هاجم المغول دولةَ الخوارزميِّ لم يستطع الصمود في وجههم، وإذا كان من الثابت تاريخيّاً أنّ الناصر لدين الله استنجد بالمغول على خصمه محمد خوارزمشاه، فإنَّ الثابتَ أيضًا أنَّ جنكيزخان لم يكن بحاجة إلى من يحرّضه على محاربة خوارزمشاه، ولكنَّ سوءَ تقدير هذا الأخير وطمعَه هو الذي حمل المغولَ على محاربته، وإنَّ العَلاقةَ السّيئةَ بينه وبين قادتِه، وانبعاثَ الفتن بين عناصر الجيش المختلفة الأهواء من الأسباب التي أدَّت إلى هزيمته أمام المغول(7).
امّا الخلافة العباسيّة التي كانت إلى زمن المتوكّل رمزَ وحدة المسلمين سياسيًّا، فقد أضحت شجرةً نخرها السوس ، وعشّشت فيها أسرابُ البوم والغربان، واهترأت جذورُها منذ أمدٍ بعيد، وكانت تنتظر عاصفةَ المغول الهوجاء لتقتلعَها من جذورها، إذ لم تكن رياح البويهيّين والسلاجقة من القوّة بحيث تستطيع إلغاء دور الخليفة المعنويّ، وإن كانت قد عطّلت دورَه السياسيَّ، ولمّا شاخت دولةُ السلاجقة ظنَّ الناصرُ لدين الله أنَّ باستطاعته أن يعيدَ الحياةَ إلى جذور الخلافة، ولكنه لم يستطعْ ذلك من دون الاستعانة بخوارزمشاه، الذي طمع في أن يعترف به الناصر سلطاناً في بغداد، وأْن يذكرَ اسمَه في الخطبة…
ولمّا قضى المغولُ على خوارزمشاه، فرح الخليفةُ ، كأنَّ هذه الدولة لم تكنِ السدَّ الذي يحول بين المغول وبين بقيةِ الأقطار الإسلامية.
والدولة الأيّوبية تعرّضت بوفاة صلاح الدين (589ه/1193م) إلى الضعف والتفكّك، وإنَّ حوادث المنازعات الداخلية بين أبناء البيت الأيوبي حول تقسيم تَرِكة صلاح الدين لتملأُ معظم تاريخ هذه الدولة. فكلّ واحد من الأمراء الأيوبيين كان يعدّ نفسه مستقلاً، ولا وفاق بينهمْ ولا سلطان لأمير منهم على أمير، ووصل الأمر بهم أن يستعين بعضهم بالصليبيّين على بعضهم الآخر(8).
ولما شنَّ المغول حملتهم على العالم الإسلامي كان من الطّبيعي أن يقف حكّام هذه المنطقة في حالة عجز تام عن مدِّ يد العون إلى إخوانهم في الشرق، وكلّ ما فعلوه أنّهم وقفوا يرقبون المعركة في غير اهتمام ولا بعدِ نظر، منتظرين ما سيحلّ بهم.
وحده ” الأشرف موسى”ابن الملك العادل أيوب أدرك نظريًّا خطورة سقوط دولة الخوارزميّ، وذلك أنّ جلالَ الدين بنَ محمد خوارزمشاه الذي كان قد فرّ إلى الهند بعد هزيمة أبيه، استغلّ فرصةَ انشغالِ المغولِ بعد وفاة جنكيزخان، وعاد ليسعى في سبيل استرداد ملك أبيه، ولقد كان عليه في سبيل ذلك أنْ يحاربَ المغولَ وأخاه وأتابكةَ كرمان وفارس ويزد والخليفةَ العباسيَّ والإسماعيليةَ والأشرفَ موسى صاحبَ أخلاط.
وتُلفِت النظر رسالةُ الأشرف موسى إلى شرف الملك وزير جلال الدين، التي يطلب إليه فيها أن يحرّض مولاه على توحيد كلمة المسلمين والكفِّ عن محاربتهم والتصدّي للمغول أعداء الجميع :
(…إنَّ سلطانَه سلطانُ الإسلام والمسلمين وسندُهم والحجابُ دونهم ودون التتار، وسدُّهم، وغيرُ خاف علينا ما تمَّ على حوزة الإسلام وبيضةِ الدين بموت والده، ونحن نعلم أن ضعفَه ضعفُ الإسلام ، وضررَه عائدٌ إلى كافّة الأنام…فهلّا ترغّبه في جمع الكلمة ما هو أهدى سبيلًا وأقوم قيلًا؟….)
وعندما شعر جلال الدين بالخطر المغوليّ أخذ يدعو أمراء المسلمين إلى التحالف معه للوقوف صفًّا واحداً في وجه هؤلاء الأعداء، كان يقول لهم : (إنّ جيشًا جرّاراً من عساكر التتار، كأنه النمل والثعابين من حيث الكثرة والقوة ، قد تحرّك نحونا. فإذا تُرك وشأنه، فسوف لا تصمد أمامَه القلاعُ والأمصار، وقد تمكّنَ الرعبُ من قلوب الناس في هذه المنطقة. فإذا هُزِمتُ وخلا مكاني من بينكم، فلن تستطيعوا مقاومةَ هذا العدو، وإذًا فأنا لكم كمَثَلِ سدِّ الإسكندر، فلَيسارِع ْكلٌّ منكم إلى إمدادنا بفوج من الجنود، حتى إذا ما وصلَهم نبأُ اتفاقنا واتحادنا فَتَرَتْ قوّتُهم وفُّتَّ في عَضُدِهم، فيتشجّع جنودُنا وتقوى قلوبُهم(9)…(
وإذا كان الصلح قد تمَّ بين جلال الدين وأعدائه من أمراء المسلمين، فإنَّ النيّات لم تكن خالصة ، وعلى الرغم من أنَّ بعضَ الحكّام من أمثال الأشرف كانوا يقدّرون خطورة الموقف تمام التقدير ويرون ضرورة التكاتف والتآزر، إلّا أن ذلك كان أمنيةً فقط، ولم يضعوا أيديَهم في يدِ جلال الدين، وعندما جدّ الجدُّ تركوه وحده أمام عدوٍّ جبّار يهدّد كيانَه وكيانَهم…
وجلال الدين هذا لم يكن الحاكمَ الذي يوحّد الكلمة، ويجمع القلوب، فإنَّ العنفَ الذي واجه به الناس والمظالمَ التي ارتكبها وأتباعَه فاقت في بشاعتها ما كان يفعله المغول(10).
لمّا قُتل جلال الدين بعد هزيمته أمام المغول، دخل جماعة على الأشرف موسى فهنّؤوه بموته فقال :”تهنّئوني به وتفرحون، سوف ترون غبَّه… والله لتكوننَّ هذه الكسرةُ سببًا لدخول التتار إلى بلاد الإسلام، ما كان الخوارزميُّ إلا مثل السد الذي بيننا وبين يأجوج ومأجوج”. (11) لقد سقطت المدن التي كانت تحت سلطة الخوارزميّ الواحدةَ تلو الأخرى في أيدي المغول، وزعماءُ المسلمين بين آسف ضعيف أو شامتٍ قالٍ، تجمعهم صفاتُ التخاذل والضعف وقصر النظر.
ويروي المؤرخون عن حصار بخارى وسمرقند ونيسابور روايات تقشعرّ لها الأبدان، حيث كان المغيرون يتحوّلون إلى وحوش كاسرة، عندما تتجرّأ قوةٌ أن تقف في وجههم، ويُروى أنهم بعد سقوط نيسابور قطعوا رؤوس القتلى وبنوا منها أهراماتٍ عاليةً أحدها للرجال والآخر للنساء والثالث للأطفال(12).
وفي كل مرّة يستثني المغول من هذه المجازر العامَّةِ العلماءَ والزّهادَ وأربابَ الحِرفِ والصنّاع(13) .كان من المتوقّع أن يزحف قادةُ المغول على بغداد بعد أن وصلوا إلى إربل بعد سقوط نيسابور وحصار مراغة سنة 618 ه/1222م، فقد أدرك الخليفة الناصر لدين اللّه أنهم قد يعدِلون عن جبال إربل لصعوبتها وعندئذٍ يطرقون العراق..
ولم ينقذ بغداد من هجوم المغول إلّا صعوبةُ اجتيازِ دروب الجبال الضيّقة، فعادوا إلى همدان وقتلوا معظمَ أهلها(14). وبعد اجتياح معظم إيران لم يبقَ من حاجز بين المغول وبغداد سوى قلاع الإسماعيليين.كان من المتوقع أن يستعدَّ قادةُ المسلمين للغزو المنتظَر، بعد سقوط الدولة الخوارزميّة وأن يعدّوا ما استطاعوا من قوّة لحماية الأوطان التي تولّوا زعامتها، ولكنّهم أخذوا يحرّضون المغول على القضاء على الإسماعيليين العدو المشترك (في زعمهم ) للمسلمين وللمغول.
وإذا كان من القصور القول إن المغول كانوا ينتظرون تحريض زعماء المسلمين لمهاجمة قلاع الإسماعيلية، فإن من المفيد أنْ نعترفَ بأنَّ غباء الحكّام المسلمين وقِصَرَ نظرِهم ومحاولتَهم الواحد إثر الآخر تحريض المغول على بعضهم البعض، وما كان يصل إلى أسماع القادةِ المغول من أخبار الخلاف بين زعماء المسلمين، هو الذي سهّل عمل المغول فاستعملوا أسلوب التدرّج في صبَّ جامِ غضبهم على أعدائهم هؤلاء.
وما إن يتولى كيوك حفيد جنكيز خانيّة المغول، (644-647ه/1246-1249م) حتى يتسابقَ زعماءُ العالم على تقديم فروض الطاعة للخان الجديد، وهنا تبرز حقيقة تاريخيّة أغفلها الذين تباكوا على سقوط الخلافة، وهذه الحقيقةُ تؤكّدُ نيّةَ المغولِ على فتح بغداد بعد القضاء على الإسماعيلية منذ (عهد كيوك ) خان، وتذكر المصادر أنَّ الخليفةَ العباسيَّ أرسلَ مندوباً عنه للتهنئة ، وكذلك أرسل زعيم الإسماعيلية ممثليه لحضور الإجتماع، وقد سلّم القاآن رسولَ الخليفة رسالةً كلّها تهديد ووعيد، وصرف ممثّلي الإسماعيلية أذلّاء مهانين(15)، ومعنى ذلك أنّه كان قد صمّم على محاربة الإسماعيليين الذين كانوا قد صمدوا أمام هجمات عمِّه تولوي، أمّا الخليفة العباسي فلم يكن دوره قد حان بعد…
وتشير المصادر إلى أن كيوك خان كان مصمّماً على فتح بغداد، ففي سنة 1247م أي بعدَ جلوس المستعصم باللّه بخمس سنوات، التقى مبعوث البابا “انوست الرابع” بالقائد المغوليِّ بايجو في تبريز، وقد أبدى بايجو استعداده لقيام تحالف لمناهضة الأيّوبيين، إذ كانت خطته تهدف إلى مهاجمة بغداد، ويناسبه أن تقومَ حملةٌ صليبيّة لتصرفَ مسلمي الشام عنه(16).
وتشاء المقادير أن تنتقل زعامة المغول إلى منكوقا آن(648– 655/1250 – 1257م) حفيد جنكيز خان من ابنه الأصغر تولوي الذي ما إن تستقر له الأمور حتى يصمّم على فتح البلاد التي لم يتيسّر فتحُها من قبل، وقد دفعه هذا التصميم إلى تجهيز حملتين كبيرتين، نصّب أخاه الأصغر (هولاكو) على رأس إحداهما وعهد إليه بالقضاء على الإسماعيلية وإخضاع الخليفة العباسي، ونصّب أخاه الأوسط قوبيلاي على رأس الحملة الأخرى لفتح أقاليم الصين الجنوبيّة(17).
سنة 1253 زار (هيثوم) ملك أرمينية بلاط منكو بقصد الحصول على مساعدة الخان لاستعادة بيت المقدس من أيدي المسلمين، فعلم أيضاً من الخان أنه عهد إلى أخيه هولاكو بالاستيلاء على بغداد وتدمير الخلافة، وفي السنة ذاتها زار روبروق مبعوث لويس التاسع بلاط منكو فعلم منه أنه قد وطّد العزم أن يوجّه شقيقه الأصغر هولاكو إلى فارس والعراق للقضاء على الإسماعيلية والخلافة(18). والمفارقة، أنه في الوقت الذي يتزاحم فيه زعماء الصليبيّين على التودّد إلى المغول، يزور القاضي المسلم شمس الدين أحمد الكافي القزويني منكوقاآن طالباً إليه القضاء على الملاحدة [الإسماعيليّين](19).
أما منكوقاآن(20)، فقد أفهم جميع الذين قدموا إلى بلاطه أنه لا يقبل أن يكون في العالم سلطان حاكم سواه، وسياستُه الخارجيّة تتلّخص بإيجاز في أنَّ أصدقاءه هم الذين يدينون له بالتبعّية، ولا بّد من استئصال شأفةِ خصومِه أو إلزامهم بقبول التبعيّة له.
يتّضح ممّا تقدّم أنَّ المغول ما كانوا بحاجةٍ إلى أنْ يحرّضهم أحدٌ على قصدِ بغدادَ و ” الاستيلاء على هذه الغنيمة الباردة”(21)، وإنّما كان الأمر مقرّرًا قبل أنْ يُنفّذَ بمدة، ويحدّثنا المؤرخ رشيد الدين(22) أنّ منكوقاآن حرص على إعداد الحملة إعدادًا دقيقًا يكفل لهولاكو النصرَ، فقد أمدّه بكثير من القوات التي مارست الحروب، واقتحمت ميادينَ القتال، وخرجت منها مظفّرة، ولم يكتفِ بهذا بل أرسل رسله إلى بلاد الخِطا لاستدعاء ألف أسرة من أولئك الذين مهروا في استخدام أدوات القتال، مثل المنجنيق وقاذفات النفط ورمي السهام ، وبالإضافة إلى ذلك أصدر منكو أوامره باختيار اثنين من كل عشرة رجال من خيرة جنود جنكيز خان لتكوين حرس خاص لهولاكو، وقبل قيام الجيش بمهمته أرسل الرسل والمرشدين، فاختبَروا الطريق الذي سوف يخترقه جيش هولاكو.
وقد عُنيَ منكو عناية خاصَّةً بتنمية هذا الجيش، من جميع أنحاء الأمبراطورية.. ورسم منكو لأخيه هولاكو الخطّة التي سوف يتبعها فقال له: “إنك الآن على رأس جيش كبير وقواتٍ لا حصرَ لها، فينبغي أن تسير من توران إلى إيران، وحافظ على تقاليد جنكيزخان وقوانينه في الكلّيّات والجزئيات وخصَّ كل من يطعْ أمرَك ويجتنبْ نواهيك في الرقعة الممتدة من جيحون حتى أقاصي بلاد مصر بلطفك وأنواع عطفك وإنعامك، أمّا من يعصيك فاغرقه في الذلّة والمهانة مع نسائه وأبنائه وأقاربه وكل ما يتعلق به، وابدأ بإقليم قهستان في خراسان فخرِّب القلاع والحصون…ثم توجه إلى العراق وأنزل من طريقك اللور والأكراد الذين يقطعون الطريق على سالكيها، وإذا بادر خليفة بغداد بتقديم فروض الطاعة، فلا تتعرض له مطلقاّ، أمّا إذا تكبّر وعصى فالحقه بالآخرين من الهالكين… كذلك ينبغي أن تجعل رائدَك في جميع الأمور العقلَ الحكيمَ والرأيَ السديد، وأن تكون في جميع الأحوال يقظاً عاقلاً، وأن تعيدَ تعميرَ الولايات الخربة في الحال”.
ماذا كان يفعل خليفة المسلمين في تلك المدّة وقد كان أمامه وأمام غيره من الأمراء المسلمين الذين توقّعوا ومنذ العام 1222ه استمرار زحف المغول بعد سقوط المدن الإيرانية التي كانت تحت سلطة الخوارزميّ الواحدة تلو الأخرى… ماذا فعلوا أكثر من السكوت أو الشماتة أو تهنئة المغول، كلما سقط معقل من معاقل المسلمين! ويكادون يطيرون جذلاً عندما سقطت قلاع الإسماعيليين التي كانت الحاجزَ الوحيد الذي يفصل بين بغداد والمغول…
أمّا بغداد فقد كانت بالغةَ التحصين ، وفي وسع الخليفة أن يحشد 120 ألف مقاتل، ولكنَّه يُخفض عددَ جنوده إلى عشرين ألفاً توفيراً للنفقات، ولتتضخّم الثروة المدفونة في ساحة قصره، والتي سيقدمها إلى هولاكو بعد الهزيمة وهو صاغرٌ حقير.
كان يكنز الأموال ويخبّئها ويحرم جنوده من أعطياتهم، فيغيرون على الرعية الضعيفة، ويسلبونها في النهار المبصر، وهو كما يصفه ابن الأثير “لم يكن شديد البأس بل كان قليل الخبرة بشؤون المملكة، مطموعاً فيه، غير مهيب في النفوس ولا مطّلع على حقائق الأمور، وكان زمانه ينقضي بسماع الأغاني والتفرّج على المساخر، وكان أصحابُه مستولين عليه، وكلهم جهّال من أراذل العوام”(23). وممّا اشتُهِرَ عنه أنّه كتب إلى صاحب الموصل يطلب منه جماعة من ذوي الطرب، وفي تلك الحال وصل رسول هولاكو يطلب منجنيقات وآلات الحصار، فقال صاحب الموصل: “انظروا إلى المطلوبَيْن وابكوا على الإسلام وأهلِه ” وساعد على سوء الأحوال عند اقتراب وقوع الكارثة الفتنةُ التي اندلعت بين السنيين في بغداد والشيعة في ضاحية الكرخ، فأمر ابن الخليفة الجندَ فنهبوا الكرخ وهتكوا الحرمات واعتدوا على النساء…
على هذا المنوال تجري الأمور في العراق والأخبار تصل إلى الخليفة تباعًا باقتراب جيوش المغول، ومع ذلك لم يتخذِ الأُهْبَةَ لمواجهتِهِم، بل كان على العكس إذا لُفِتَ نظره إلى ما يجب أنْ يفعله مع المغول إمّا المداراة والدخول في طاعتهم وتوخّي مرضاتهم، وإمّا تجييش العساكر ولقاؤهم بتخوم خراسان قبل تمكّنهم وإستيلائهم على العراق يقول: ” أنا بغداد تكفيني ولا يستكثرونها لي إذا نزلت لهم عن باقي البلاد، ولا أيضاً يهجمون عليّ وأنا بها وهي بيتي ودار مقامي”(24).
ولمّا سقطتْ قلاعُ الإسماعيلية طلب هولاكو إلى الخليفة المستعصم أن يجعلَ له من السلطات الزمنيّة في بغداد ما سبق أنْ حازه أمراءُ بني بويه وسلاطين السلاجقة وقال له : “إذا أطعْتَ أمرَنا فلا حقدَ ولا ضغينةَ وتبقى لك ولايتُك وجيشُك ورعيّتُك، وأمّا إذا لم تنتصح وسلكتَ طريقَ الخلاف والجدال، فأعدّ جيشَك، وعيِّنْ جبهةً للقتال فإنّنا مستعدّون لمحاربتك. واعلمْ أنّني إذا غضبت عليك ، وقدتُ الجيشَ إلى بغدادَ، فسوف لا تنجو منّي ، ولو صعدتَ إلى السماء ، واختفيتَ في باطن الأرض”. فردّ الخليفة بالرفضِ برسالة حرصَ فيها على التهديد والوعيد، وربّما كان يظنّ أنّه بذلك قد يُرعب هولاكو، ولكنّه كان واهمًا في ظنّه ،لأنّه لم يكن له سندٌ حقيقيٌّ من قوّةٍ حتى يمكنُه أن يقفَ هذا الموقفَ المتشدد، ولم يُصغِ إلى نصح العقلاء ،الذين كانوا أبعدَ نظرًا منه، وكانوا يدركون قوّة المغول ، ويدركون أن الجيش الذي كوّنه الخليفة من المرتزقة الذين لم يؤدّ لهم أرزاقَهم لن يستطيع حماية بغداد ولا أهلَها، وكان للتهديدات الغبيّة أسوأ الأثر في نفس هولاكو، فصمّم على فتح بغداد بالقوّة وأرسل إلى الخليفة إنذاراً نهائياً “… عليك أن تكون مستعدًّا للحرب والقتال فإنّي متوجه إلى بغداد بجيش كالنمل والجراد”(25).
وهذا ما حدث بالفعل وفي الأحد من صفر سنة 656ه/ 1258م خرج الخليفة من بغداد وسلّم نفسه وعاصمته للمغول، من دون قيد أو شرط بعد أن وعده هولاكو بالأمان.
وعندما دخل هولاكو مدينة بغداد قصد قصر الخلافة وأمر أن يحصوا حرم الخليفة وحاشيته، فوجدوا سبعمائة من النساء والسرايا وألفا من الخدم، واعترف الخليفة بوجود حوض مملوء بالذهب وسط القصر. كان يناسب خليفة المسلمين لو أنَّ فيه ذرّةً من كرامة أنْ يفعلَ ما فعله آخر ملوك الصين الجنوبية الذي انتحر بعد هزيمته أمام المغولْ، ولكنّ تراثَ الصين الذي لم يستطع الحكّام المحافظة عليه حافظ عليه العلماء والحكّام من أمثال “لبوتشوتاي”. وفي الشرق الإسلامي، لو لم يسع الحكماء من أمثال الطوسي، لاستغلال مكانتهم لدى حكّام المغول لضاع تراث الأمة بأكمله، والمسؤول أولاً وآخراً عن ضياعه سياسةُ الملوك ـ الخلفاء وانحرافُهم عن الطريق.
الهوامش
* نشرت المقالة في مجلة المنطلق، العدد 86- 87 ك2، شباط 1992
- Barthoold, turtistan, doun to the mongol invasion p. 380.
- كان جنكيزخان يكرم العلماء والزّهاد من كل طائفة ويعفيهم من الضرائب ،كما كان يميل إلى الإصغاء إلى أقوال الحكماء، والاستفادة من تجاربهم، وقد كان أشهر مستشاريه ثلاثة:
أ ـ”محمود يلواج أو محمود الخوارزمي” –التحق بخدمة جنكيزخان قبل هجومه على الدولة الخوارزمية ،وكان سفير جنكيز إلى محمد خوارزمشاه… وقد نصّبه جنكيز خان حاكماً على منطقة ما وراء النهر، وقد بذل مجهوداً كبيراً في تعمير ما خرّبه المغول وإصلاح حال الناس، وإدارة هذه الممالك وتخفيف آلام الضربة القاسية التي أوقعها المغول بالرعايا في تلك المنطقة.
ب ـ تاتا اونجا من الأويغوريّين، كان مستشاراً لآخر ملك نايماني، ثم اتخذه جنكيز مستشاراً له ومعلّمًا لأطفاله، يعلّمهم الخطّ الأويغوري.
ج ـ لي ليوجوتساي كان أهمّ شخص أثّرفي حياة جنكيزخان، وهو من أهالي الصين الشماليّة، وقد شغل أبوه منصب الوزارة لسلاطين الصين . تثقّف “لي ليوجوتساي” ثقافة عالية فحصّل العلم والحكمة ودرس علوم الفلك والجغرافيا والأدب، وصنّف في هذه الفنون كتباً عديدة. وفي سنة 612 ه/1215م) عيّنه آل كين حاكماً على مدينة بكين ، ولكنْ سرعان ما سقطت تلك المدينة في أيدي المغول فوقع في أسرهم، وعندما لمس جنكيزخان كفاية لي ليوجوتساي ومقدرته ،فَكَّ أسره وولّاه أعلى المناصب في دولته…ويحدّثنا تاريخ هذا العالِم الصينيّ أنَّ ما كان يشغله هو إنقاذ الكتب الثمينة من الحرق والغرق، وذلك في المدن التي تعرّضَتَ لنهب المغول، أو تلك التي اشعلوا فيها النيران، أو تلك التي سلّطوا عليها الماء لإغراقها، فكان بذلك يؤدّي خدمة جليلة في سبيل العلم والثقافة، وهو العمل الخالد نفسه ،الذي قام به بعد نصف قرن الخواجة نصير الدين الطوسي، فقد شاء القدر أن يكون هذا الرجل في خدمة سفاك آخر هو هولاكو حفيد جنكيز خان. انظر عباس إقبال، تاريخ مفصل إيران ، ج1، ص77؛ و ذبيح الله صفا، تاريخ أدبيّات إيران ، آداب ورسوم مغول وتاتار ، ص٣٤ـ ٣٥؛ والصياد، المغول في التاريخ ، ص153.
- الصياد، ص165، نقلاً عن الجويني، ج1، ص30.
- الباز العريني: المغول، ص66، والصياد، المغول في التاريخ،ص 52.
وقد أورد المؤرخون قولة – جنكيز خان – المشهورة: “لقد برمت السماء بما ساد الصين من ترف زائد، أما أنا فإني أعيش في إقليم الشمال القاسي، سأعود إلى البساطة والسذاجة، وأرجع إلى حياة الاعتدال والقناعة…فما أرتديه من ملابس، وما أتناوله من طعام لا يتعدى ما يتدثّر به رعاةُ البقر وسيّاسُ الخيل من الخرق، وما يتّخذونه من طعام…لقد عاملتُ العساكر على أنّهم إخوتي، وما شهدته من مئات المعارك كنت دائمًا في المقدّمة، وفي غضون أعوام حقّقت عملًا مجيدًا، وفي جميع جهات الفضاء خضع الجميع لقاعدة واحدة”.
الصيّاد، المغول في التاريخ، ص149 نقلا عن .Grousset; l`empire des steppes. P.310.
- الصياد، ص70 نقلاً عن الجويني ،تاريخ جهانكشاه ، ج2 ص 96 – 97.
- الصياد، ص 73 نقلاً عن، السيوطي في تاريخ الخلفاء ص 449.
- الباز العريني، المغول، ص 115 و ص 122
- الصياد، ص 287.
- الصياد، ص 172، نقلاً عن تاريخ جهانكشاه، ج2، ص183.
- الصياد، ص144، وحسن الأمين الغزو المغولي للبلاد الإسلامية، ص71.
- الصياد، ص178، نقلاً عن النسوي، سيرة جلال الدين تنكبرتي، ص109 وابن تغري بردى، النجوم الزاهرة ج6، ص277.
- براون، تاريخ الأدب في إيران من الفردوسي إلى سعدي، ص 56، والصياد، ص131.
- كان من بين الناجين الأربعمائة من مجزرة نيسابور التي سقطت سنة 618 ه/1220م. نصير الدين الطوسي الذي هام على وجهه يطلب الملجأ الأمين، وهو في الثانية والعشرين من عمره. ذبيح الله صفا، يادنامه خواجة نصير الدين طوسى [سيرة نصير الدين الطوسي]، طهران 1957، ص90.
- الباز العريني، ص134.
- الصياد، ص182.
- الصياد، ص200 نقلاً عن ستيفن نسيمان، تاريخ الحروب الصليبية، ج3، ص447.
- الصياد، ص197، نقلاً عن جامع التواريخ، ج2، ص248 وتاريخ مختصر الدول، ص257.
- الباز العريني، ص197.
- منكوقاآن أشهر خانات المغول بعد جنكيز خان. اشتهر بأنه يكره الترف وينكر المباذل، وليس له هواية سوى الصيد…كان بالغ النشاط، بارعاً في تسيير الإدارة، متوقّد الذكاء، جنديًّا باسلاً وسياسيًّا ماهراً، كان بوذيًّاً ولكنّه كان يقول: ليست الديانات إلّا كالأصابع الخمسة ليد واحدة…وعلى الرغم من تعلّق أمّه بالنسطوريّة ،فإنّ ما اشتهرت به من رجاحة العقل ،حملها على أن تبذل أوقافاً لمدرسة إسلامية في بخارى، أنظر الباز العريني، ص194 وما بعدها.
- بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص 272.
- الصيّاد، ص232 نقلاً عن جامع التواريخ ص234 وما بعدها.
- الباز العريني، ص214، والصياد ص256.
- الصيّاد، ص252 نقلاً عن تاريخ مختصر الدول، ص255.
- الصيّاد، ص252.
- الصّياد، ص254 نقلاً عن جامع التواريخ ص228.
المصادر والمراجع
1ـ إقبال، عباس تاريخ مفصل إيران، منشورات أمير كبير، 136ش (1981م) ج1 .
٢ـ الأمين، السيد حسن: الغزو المغولي، دار التعارف، بيروت ١٩٧٦. دائرة المعارف الإسلاميّة، م٤، دار التعارف، ط١، بيروت، ١٩٩٠.
٣ـ براون، إدوارد، تاريخ الأدب الفارسي من الفردوسي إلى سعدي، ترجمة الشورابي، مطبعة السعادة، القاهرة ١٩٥٤.
٤ـ بروكلمان، كارل، تاريخ الشعوب الإسلاميّة، دار العلم للملايين، ترجمة بعلبكي ، بيروت ١٩٦٥.
٥ـ رشيد الدين، فضل الله الهمداني(ت.٧١٨ه)، جامع التواريخ، نقله إلى العربيّة د. فؤاد عبد المعطي الصيّاد، دار النهضة العربيّة، ط١ ، بيروت ١٩٨٣.
٦ـ السيوطي، تاريخ الخلفاء، دار الكتب العلميّة ، بيروت، لا تا.
٧ـ صفا، ذبيح الله: تاريخ أدبيات إيران، مج ٢، منشورات فردوس، ط٦، ١٣٧١ش [١٩٩٢م]ـ يادنامه خواجه نصير الدين طوسى، طهران ١٩٥٧.
٨ـ الصيّاد، المغول في التاريخ، دار النهضة العربيّة، بيروت ١٩٨٠.
9ـ العريني، السيّد باز، المغول، دار النهضة العربيّة، بيروت ١٩٨٦.