foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

بنية الصورة في الشعر العربيّ الحديث

0

بنية الصورة في الشعر العربيّ الحديث

مطوّلة غسّان مطر “عزف على قبر لارا” أنموذجًا

د. خليل بيضون*

مقدّمة

واكب تطوّر العلوم المعاصرة تطوّر مماثل في الفنون الأدبيّة على اختلافها، ففي مجال الشعر شهدنا تغييرًا كبيرًا في بنية القصيدة العربيّة، حين وجد الشعراء أنّه بات من الضروريّ الإقلاع عن التقليد القديم ومواكبة الحداثة بأشكالها الطارئة تماشيًا مع مستجدّات العصر ومتطلّباته، فبرزت على إثره تيّارات فكريّة، ومذاهب أدبيّة تعدّدت منطلقاتها الفكريّة ومذاهبها الأدبيّة، وتنوّعت معها الأشكال التعبيريّة في القصيدة العربيّة تبعًا لهيكليّات بنائيّة جديدة وجد فيها الشعراء حاجة ماسّة إلى التجديد في فنّيّة التعبير، فظهرت أنماط القصيدة الحديثة بأشكالها المتعدّدة، وكان التّحرّر من ضوابط النظم القديمة، والانتقال إلى وسائل فنّيّة جديدة مدخلًا إلى عهد جديد في تاريخ الشعر العربيّ مواكبة لمقتضيات العصر ومستجدّاته.

ومع تطوّر نظام القصيدة الشعريّة، والتجديد الذي طاول بناءها القديم على خلفيّة رغبة الشعراء المعاصرين بالتغيير، والتعبير بقالب فنّيّ جديد قوامه الرّمز والإيحاء، برزت المطوّلات الشعريّة الحديثة، واجتهد شعراؤها في سكب الجماليّة عليها عادّين أنّها حالة فنّيّة عالية تتكامل مع الرمزيّة والإيحائيّة.

وقد وُضِع التجديد في القصيدة الحديثة على مشرحة النّقد والتحليل من جوانبه كافّة، وطاول أسلوبيّته التي اعتمدت على التفاعلات اللغويّة في تحليل النصّ الأدبيّ، حيث يرتقي بالألفاظ من مستواها الوظيفيّ إلى المستوى الفنّيّ، ولتكون عاملاً مشتركًا في دمج العواطف والأحاسيس.

وكانت الصورة الشعريّة أحد الأركان الأساسيّة التي خضعت للنقد والتحليل، لأنّها تعدّ إحدى أهمّ الرّكائز التي تُبنى عليها القصيدة العربيّة، وإحدى مكوّناتها الإبداعيّة والفنّيّة، لما يكمن فيها من طاقة جماليّة وإيحائيّة تولِّدها أحاسيس الشاعر، وتعكس بدورها أفكاره ونظرته إلى الحياة والإنسان والكون.

وقد حظيت الصورة الشعريّة باهتمام المحدثين فأوْلَوْها عناية خاصّة جمعت بين فنون تشكيلها وبنائها بروابط نُسجت بين مكوّناتها المختلفة، حتّى أصبحت سمة بارزة من سمات النصّ الشعريّ، وعلامة فارقة تدلّ على تطوّر الشعر العربيّ وتقدّمه، ومواكبته الحداثة العصريّة، وصنوف متطلّباتها.

وتنوّعت الصورة الشعريّة وخصوصيّاتها تبعًا لتمايز الخيال واختلافه بين شاعر وآخر، ومفهوم الشعر بشكل عامّ عند شعرائنا المحدثين.

وهذا البحث يحاول في تفصيلاته الوقوف عند بنية الصورة الشعريّة في النصّ الشعريّ الحداثيّ، كونها المؤشّر الرئيس إلى الحداثة بما تتضمّنه في تكوّنها من إثارة الدّهشة، والإعجاب، وانزياح، ومفارقة، وخيال خصب، يهيّئ فضاءات المتلقّين لقراءات متعدّدة ومفتوحة.

وقد اخترت مطوّلة غسّان مطر “عزْفٌ على قبر لارا” لما يشغله هذا الشاعر من موقعيّة متقدّمة في مصاف شعراء الحداثة، وما تتميّز به هذه المطوّلة من خصائص تحاكي واقع العصر ومظاهره، فقد نظمها إثر استشهاد ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الإعلام، الفرع الأوّل، قسم الصحافة، وقسم العلاقات العامّة، وحائز على دكتوراه في اللغة العربيّة وآدابها.

 

ابنته الوحيدة “لارا” إبّان الحرب الأهلّيّة اللبنانيّة، فجاءت بأصدق صورة وتعبير عن الألم الذي ألمّ به جرّاء فقدان وحيدته، وكانت انعكاسًا للجرح البليغ الذي أحدثه هذا المصاب في نفسه، والحزن الذي تغشّاه، وعذاباته المستحكمة، فكان هذا الحدث بمثابة رصاصة الضياع التي أصابته وأفقدته معاني الحياة كلّها.

واختيارنا هذا الموضوع قائم على إدراكنا أهمّيّته، وقيمته العلميّة والأدبيّة، لأنّ الصورة الشعريّة على – وجه العموم – شغلت حيّزًا واسعًا من مشاغل الدارسين والنقّاد، حتّى أصبحت جزءًا أساسيًّا من علم التحليل، والنّقد الذي كثر روّاده والمهتمّون به فذاع صيتهم في مجالاته المتفرّعة، وكان لهم الأثر الكبير في إبراز هذا العلم وتطويره.

ومحاولة للدخول في هذا البحث إلى كنه مطوّلة شعريّة حديثة من باب النقد الحديث ليكون أنموذجًا متميّزًا ببعده من برودة النظريّات وجفافها، انطلاقًا من الكشف عن الظاهرة اللغويّة بأساليبها ودلالاتها، إلى الصورة الشعريّة في رمزيّتها وإيحاءاتها، والكشف عن مكامن الجمال فيها وفي فكرتها المطروحة.

وإذا كان اختيار البحث من المصاعب التي تواجه الباحث، فإنّ اختيار الصورة الشعريّة من بين عناصر الأسلوبيّة في الشعر الحديث أمر غاية في الدقّة؛ نظرًا إلى تشعّب موضوعاتها وكثرة الإشكاليّات حولها، وخصوصيّتها بين شاعر وآخر، وصعوبة تحديد مفهومها تحديدًا مُركَّزًا وثابتًا. فدراسة الصّورة الشعريّة أكثر ما تخضع للمنهج الأسلوبيّ، لما له من علاقة وثيقة بالشعريّة، وبما يتميّز به هذا المنهج من تتبّع الظواهر، أو استقصاء خبايا مشكلة ما بهدف توصيفها، أو معرفة حقيقتها وأبعادها، ليسهل تعرّف دوافعها وأسبابها، والروابط التي تحكم أجزاءها ومراحلها، لتصلا إلى تحديد صلتها بغيرها من القضايا. وغاية ذلك تحقيق نتائج محدّدة يمكن اتّخاذها كأحكام، أو ضوابط ومسارات لتوظيفها فكريًّا ومرجعيًّا[1].

فكيف تتجلّى جماليّة الصّورة في أسلوب مطوّلة غسّان مطر؟ وأيّ دورٍ كان لها في ترجمة أهداف الشاعر من خلال أساليبه اللغويّة الحديثة؟ وهل تنحصر جماليّة الصورة في اعتماد تراكيب لغويّة عُرفت في الشعر التقليديّ القديم؟ وما دور القناع الرمزيّ في تكوين الصورة الشعريّة في الشعر الحديث؟

أسئلة يحاول البحث أن يجيب عنها من خلال وجهتين محدَّدتين: الأولى تنطلق من تحديد مفهوم الصورة الشعريّة عند القدامى والمحدثين، وانعكاسها على بنية النصّ الشعريّ، والثانية تطبيقيّة من خلال دراسة بنيتها في مطوّلة غسّان مطر “عزفٌ على قبر لارا” بوصفها إحدى أهمّ مطوّلات الشعر الحديث، وبوصفه شاعرًا مقَدَّمًا من رواد هذا الشعر.

أوّلاً: مفهوم الصورة الشعريّة:

يُعدّ مصطلح الصورة الشعريّة من الركائز الأساسيّة من بين المصطلحات التي تُبنى عليها دراسة النصّ الشعريّ الحديث، وتُعدّ الأداة الأوضح التي تقودنا إلى استكشاف تجربة الشاعر، وإدراك أبعادها، والحاوية التي تستوعب تلك التجربة، وتوضحها عن طريق السموّ باللغة، وتحشيد طاقات الكلمة. فالصورة تتكوّن في مخيّلة الشاعر مع تبلوُر النصّ الشعريّ ذاته، وليست شكلًا منفصلًا عنه. وعليه، فإنّ جماليّة الشعر وقوّة دلالاته تتمثّل “في الإيحاء عن طريق الصور الشعريّة لا في التصريح بالأفكار المجرّدة ولا المبالغة في وصفها، تلك التي تجعل المشاعر، والأحاسيس أقرب إلى التعميم، والتجريد منها إلى التصوير والتخصيص، ومن ثَمَّ كانت للصورة أهمّيّة خاصّة”[2].

وتُعدّ الصورة الشعريّة السّمة الأسلوبيّة التي يتميّز بها شاعر من آخر، لأنّها انعكاس حتميّ لانفعالاته النفسيّة التي يكون عليها، وهي الوسيط الأوضح الذي يستكشف من خلاله تجربته الفنّيّة ويتفهّمها ليمنحها القيمة والنظام. فهي التّركيبة الفنّيّة التي تحقّق التّوازن بين المستوى المطلوب والمُنجز، أو المتاح تفاوتًا بين التقريريّة والإيحاء الفنّيّ، وهي الفاصل بين الظاهر والباطن، “وتظلُّ الصّورة هي عنصر العناصر في الشعر، والمحكّ الأوّل الذي تُعرف به جودة الشاعر، وعمقه، وأصالته”[3].

والتعبير بوساطة الصورة يحمل الشعر إلى تجاوز الظواهر من المعاني ويعبر إلى الحقيقة الباطنيّة، وذلك من خلال تشبيك اللغة الشعريّة المؤثّرة بعلاقات تنشئها بين المفردات بتجاوزها بنية التعبير بتركيبته الأفقيّة من خلال وسائل بيانيّة متنوّعة تُولِّد ما يسمّى بالصورة الشعريّة التي تكتسب طاقتها الإيحائيّة من تساميها وجاذبيّة تراكيبها. فالصورة الشعريّة في القصيدة الحديثة تتبلور من خلال اللغة الشعريّة التي يكتنزها الشاعر بوساطة التراكيب النحويّة بالدرجة الأولى، والتعبير بالصور لا يمكن أن تنتجه التراكيب فحسب، بل تتجاوزه إلى الصور البيانيّة وموسيقى النصّ.

وتختلف مفاهيم الصورة الشعريّة وتتعدّد بتعدّد أزمنتها وظروفها؛ فالمفهوم الذي ساد قديمًا كان قائمًا على روابط التشابه بين التصوير والشعر، والخيال، والرسم، والعناية بالأشكال البلاغيّة للصورة: كالتشبيه، والاستعارة، والكناية[4].

أمّا في العصر الحديث فقد تعدّدت مفاهيم الصورة الشعريّة وتنوّعت مزاياها، فقد عرّفها عليّ البطل بأنّها: “تشكيل لغويّ يكوّنها خيال الفنّان من معطيات متعدّدة يقف العالم المحسوس في مقدّمتها”[5]، وعرّفها عبد القادر الرباعيّ بأنّها “هيئة تُثيرها الكلمات الشعريّة بالذهن شريطة أن تكون هذه الهيئة معبّرة وموحية في آن”[6]، وفي نظر عبد القادر القط هي: “الشكل الفنّيّ الذي تتّخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينظمها الشاعر في سياق بيانيّ خاصّ ليعبّر عن جانب من جوانب التجربة الشعريّة الكاملة في القصيدة مستخدمًا طاقات اللغة وإمكانيّاتها في الدلالة، والتركيب، والإيقاع، والحقيقة، والمجاز، والترادف، والتّضاد، والمقابلة، والتجانس وغيرها من وسائل التعبير الفنّيّ، والألفاظ والعبارات هما مادّة الشاعر الأولى التي يصوغ منها ذلك الشكل الفنّيّ أو يرسم بها صوره الشعريّة”[7].

ومن التعريفات البسيطة للصورة الشعريّة أنّها “رسم قوامه الكلمات”[8] فالشاعر يُعمِل خياله ويعتمد عليه في رسم صوره الشعريّة، فهو “يتميّز بالقدرة على خلق أثر موحد من الكثرة، مثلما يتميّز بالقدرة على تعديل سلسلة من الأفكار، بواسطة فكرة واحدة سائدة، أو انفعال واحد مسيطر، في مرحلة واحدة متكاملة لا مراحل متعاقبة منفصلة”[9]، فالصورة “ابنة للخيال الشعريّ الممتاز الذي يتألّف عند الشعراء من قوى داخليّة تفرّق العناصر، وتنشر الموادّ ثمّ تعيد ترتيبها، وتركيبها لتصبّها في قالب خاصّ حين تريد خلق فنّ جديد متّحد ومنسجم”[10].

إنّ وظيفة الصورة الشعريّة، في نظر جان كوهن؛ هي التكثيف، فالشعريّة هي تكثيفيّة اللغة، والكلمة الشعريّة لا تُغيّر الدلالة البيانيّة للمعنى، ولكنّها تُغيّر شكله. فهي تجتاز من الحياد إلى التكثيف، وعليه، يصبح للصورة الشعريّة ملمحان اثنان، فهي من الناحية البنيويّة شموليّة، ومن الناحية الوظيفيّة تكثيفيّة، فإذا كانت الشعريّة تكثيفًا للغة، فإنّ الصورة الشعريّة تكثيف للشعريّة[11].

وفي ضوء ما تقدّم، فإنّ الصّورة الشعريّة شغَلت حيّزًا واسعًا من مناهج النّقد، حيث جعلها النقّاد في طليعة وسائلهم لدراسة جوهر الشعر، إذ إنّ “الأشكال البلاغيّة أدّت دورًا مهمًّا في تحديد الأسلوب، على أساس أنّ البلاغة تترك للنحو مجال تحديد المعنى والاستخدام الصحيح للأبنية اللغويّة، وتُعنى بتلك الأبنية التي تتميّز بقيمة جماليّة أو تعبيريّة خاصّة، وتُطلق كلمة الشّكل البلاغيّ أو الصّورة على الصّيغة الكلاميّة التي تتّسم بحيويّة أشدّ من اللغة العاديّة، وتهدف إلى جعل الفكرة محسوسة من طريق المجاز، كما تلفت النّظر بدقّتها وأصالتها”[12].

فقصائد الشعر الحديث اتّسمت باعتماد واسع على الصّورة الشعريّة وفضاءاتها، فانبثق منها مجال رحب من الصور التي تحاكي مجالات متعدّدة متّصلة بمواقف من الحياة، كما أنّها أبرزت الخبرات الشاعريّة، ودلّت على مفهوم دقيق للأمور، وبذلك تكون قد نقلت مشهدًا حيًّا وتجربة إنسانيّة وافرة، “فالأدب ليس شكلًا تعبيريًّا فقط، ولكنّه انطلاقًا من ذلك، أفكار ومضامين ورسالة إنسانيّة، أو قوميّة، أو فنّيّة، وألوان تُتّخذ في مجابهة ألوان من السلوك المعيّن أو الظروف المعيّنة، ثمّ هو أيضًا صادر عن نفس معيّنة ذات ثقافة خاصّة، وظروف تتعدّد من لحظة إلى أخرى”[13].

والصّورة الشعريّة ليست لغة سطحيّة عاديّة، بل مشاهد لأوجه تعبيريّة متعدّدة ومفتوحة على مؤشّرات سيمولوجيّة قد يعنيها الشاعر في مقاصده، أو يحلِّق بها القارىء في فضاءات معنويّة بعيدة وواسعة ليعيد تشكيل أبعادها من جديد، باعتبارها العنصر الإبداعيّ الأهم الذي يوظفه الشعراء في إحداث الإثارة، وبعث الدّهشة والتّصادم، والبكارة الفنّيّة كلٌّ حسب إمكاناته.

إذًا، فبنية الصورة الشعريّة تكوّنها أبعاد اللغة الشعريّة بعد تجاوزها البنية التركيبيّة الأفقيّة، واعتمادها على النسيج التوافقيّ والتكامليّ الذي تنشئه بين المفردات، من خلال الوسائل البيانيّة المتعدّدة، فهي متخيّل إيحائيّ يدرِك به النصّ الشعريّ الحرّ أقصى دلالاته التعبيريّة، وأعلى مستوياته التأثيريّة في المتلقّي. فالصورة الشعريّة “لا تهدف إلى أن تقرّب دلالتها من فهمنا، ولكنّها تسهم في خلق إدراك متميّز للشيء، أي إنّها تخلق رؤية ولا تقدّم معرفة. إنّ ما يهمّ المتلقّي ليس ما كان عليه الشيء، وإنّما اختبار ما سيكون عليه”[14].

ثانيًا: وسائل بناء الصورة الشعريّة في مطوّلة غسّان مطر:

اتّخذت أساليب تشكيل الصورة الشعريّة في الشعر العربيّ الحديث أشكالًا متعدّدة لدى الشعراء، توزّعت بين التقليد، والتجديد، والحسّ، والتّرميز، معتمدين في رسم أبعادها ودلالاتها على الثوابت البلاغيّة من تشبيه، واستعارة، وكناية، وأنواع المجازات الفنّيّة على اختلافها… وقد تأخذ الصورة الشعريّة الشكل التقليديّ في تركيبها أحيانًا، وتتخطّاه إلى الابتكار والإبداع أحيانًا أخرى. وفي كلا الحالين تبقى وظيفتها قائمة من خلال كلّيّتها أو جزئيّتها، أو من خلال ما يحمّلها المتلقّي من وظائف حال معايشته الشاعر في مسارب أحاسيسه ومشاعره.

ولم يحد الشاعر غسّان مطر في مطوّلته “عزفٌ على قبر لارا” عن مسار شعراء الحداثة في تشكيل صورته الشعريّة، فجاءت الصّورة في مطوّلته متقلّبة ومتحرّكة تبعًا لمندرجات المواقف، وتبدّل منسوب الانفعال مع مجرى عواطفه التي ألهبتها الفاجعة التي ألمّت به جرّاء فقده ابنته الوحيدة، وشريط ذكرياته معها على امتداد سني عمرها، فتجلّت الصور لديه في وسائل تشكيلها على النحو التالي:

1- التشبيه: يعدّ التشبيه من أقدم الوسائل الفنّيّة في بناء الصورة الشعريّة وتحديد أبعادها، وهو رسمٌ فنّيّ يقوم على ملاحظة التماثل بين الأشياء وتصويرها بدقّة، ويولد من ذات الشاعر بهدف التقريب بين الأشياء في مسار تعبيره عن مواقفه ورؤاه الخاصّة. والتشبيه لا يعني صهر شيئين وجعلهما ذاتًا واحدة، بل عمليّة مماثلة تحافظ على خصوصيّة كلّ طرف منهما مع التركيز على الجوانب المماثلة، وفي التشبيه يحاول الشاعر أن يتجاوز ظواهر الأشياء إلى بواطنها وربطها بما يساوره من أحاسيس وانطباعات يحاول من خلاله أن يشرك المتلقّي معه في مشاعره ورؤاه.

فعندما نزع القدر من غسّان مطر أيقونته الوحيدة التي كانت تملأ عليه حياته وتُشعره بجمال العيش، شعر أنّ عرش مُلكه سقط، وفقد تاج عرشه عليه، ولم تعد تعني له الحياة شيئًا، ولم يعد يقوى على مزاولتها، حتّى أصبح جسمًا نحيلًا لا تلحظه أشعّة الشمس، وتحوّلت الدنيا في نظره من تلك المملكة الزّاهية إلى قطعة لا يتجاوز حجمها قرصًا صغيرًا يدور حول إصبعه. كلّ ذلك جاء باعتماد التشابيه البليغة بحذف الأداة فيها في مواضع كثيرة، مشفوعة بالتشبيه الضمنيّ الاستعاريّ، وهو الذي يعيد إلى التشبيه فاعليّته في خلق الدهشة، وفي رفد الصورة بعناصر التخيّل الابتكاريّ:

 

مَلِكًا كُنْتُ، غيمُ شَعرِكِ قصرِي

ورُؤاكِ المنوّراتُ جِناني

جَرَّدتْني زلازِلُ القدرِ الجارِح

مِن سطْوَتي مِنْ صوْلَجاني

صِرْتُ شيئًا، لو مرَّ ظِلّي على الشّمسِ

تعامَتْ كأَنّها لا تراني

تأَلَّهْتُ فيكِ، فصرْتُ أرى الأرضَ

قِرْصًا يدورُ حولَ إصبعي….

الرّيحُ صوتي…[15]

وعدّ غسّان مطر أنّ الزّمن في نظره انتهى بفقد ابنته، ولكنّه أمام هذا المصاب لم يعد يملك إلاّ الصراخ، وصيحات الألم التي ناهزت صوت الرّيح، وأقفلت في وجهه سبل الحياة، وأسهب في سكبِ ألمه بصورٍ وتشابيه حسّيّة تخنقها المرارة والألم، ويعيد شريط ذاكرته مع “لارا” قبل موتها وهي تلهو وتلعب وتملأ الدنيا عليه. وكلّ ذلك جاء بتشابيه عكست حال الضياع التي حلّت به بعد فقدها، فنراه في تعبيره يعكس حال الضياع التي يعيشها، متأرجحًا من ضياع إلى ضياع، ضياع وجودي، وضياع نفسيّ، وضياع شعوريّ، وضياع فكريّ…، ويسكب ذلك كلّه في تشابيه متنوّعة تبعًا لمنسوب انفعاله وتأثّره، فتارة يسوق التشبيه التامّ، وأخرى يحذف الأداة، ما يعكس حال التّشتت والضياع التي يعيشها في مكابدة المصاب[16]:

لا اللّيلُ سوْسَنةٌ ولا قلبي ندٍ

الرّيحُ صوتي…

مِثلما ينتهي الرصيفُ

ينتهي الزّمنُ…

قدْ رحَلَتْ يا وطني كزهرةِ السّكوت،

كانَ الصِّبا غُصنًا في القلبِ مُشتعلًا

خائفًا كان مثلَ ورقةٍ

تعُودُ إلى نومِها

مثلَ ضوءٍ يعودُ إلى كوكبٍ.

كان قلبي جدولاً أخضرَ

تلهو قَدَما لارا

مثلما تلهو عصافيرُ الحصاد.

كان قلبي شاطىء الشمس…

وينبتُ الوردُ…

منوِّرًا مثلَ أحلامِ الفراشاتِ

فارسٌ مثلَ مشنقةٍ

صمتُ هذا الصَّباحْ

شاهقٌ مثلَ مئذنةٍ صمتُها

كانَ لونُ الحروفِ نبيذًا

كلونِ ابتسامتها حينَ ترقصُ.

الواضح أنّ التشبيه في هذه المطوّلة – بأنواعه كلّها – ترجم حالة الألم التي عاشها الشاعر، والتشتّت الذي كابده جرّاء ما حلّ به، فكانت تشابيهه وليدة الحزن المترامي على مجريات حياته اليوميّة، والعامل المساعد في إخراج الصورة بحدود معانيها وتشعّباتها، والمترجم العفويّ لدلالاتها البيانيّة والمعنويّة، والشريك الفعليّ في تظهير المعاني بأبعادها التصويريّة المكثّفة “وتشترك الصورة في توليد بنية المعنى بما تتوفّر عليه من دلالات مكثَّفة، وبما تثيره من أفكار وعواطف في وعي المتلقّي لكي يعثر على الدلالة الشعريّة في النص”[17].

2- الاستعارة: هذا النمط من التعبير يتمّ من خلال الانتقال بالفكرة من المفهوم الحسّيّ إلى المفهوم التجريديّ، أو من المجرّد إلى مجرّد آخر، فالشاعر في أدائه الإبداعيّ لا يسعى إلى مقاربة الواقع بما يدلّ عليه من تعبيرات، إنّه “يستعمل الصور ليعبّر عن حالات غامضة لا يستطاع بلوغها مباشرة، أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقّة لما يجده الشاعر”[18]. وتؤدّي الاستعارة دورًا أساسيًّا في ترسيم هذا النمط من الصور في النصّ الشعريّ الحديث، وخصوصًا الاستعارة الاسميّة، التي تتكوّن من مضاف ومضاف إليه، وترتفع حدّة التجريد عندما يضاف المحسوس إلى المجرّد، وتتفاعل هذه التجريدات في النصّ وتتكامل لتصبح من المؤثّرات في المتلقّي عند قراءته الوافية له، وتؤدّي دورها المقصود في نفسه.

وتُعدّ المؤثّرات الكامنة في النصّ منبّهات تستفزّ ذات المتلقّي عند تفاعله مع أحداث النصّ في قراءته الجامعة، وتكون عامل توتّرٍ دائم يشغل ذاته، فتتكوّن في محصّلة قراءته أحكام تتكامل في ما بينها لتُنتج التحليل الأسلوبيّ الوافي.

فالتوتّر في المطوّلة انطلق مع ظهور علامات الألم وانعدام أفق الأمل بفعل الفجيعه التي حلّت بالشاعر على إثر فقدانه ابنته الوحيدة. ففي ظلّ حزنه الضّاغط وانعدام الأمل، وفقدان القدرة على التحكّم بمشاعره؛ راح يرسم صورة خياليّة لابنته، بعيدة من حقيقة الموت؛ يرسمها كما يريدها أن تكون لا كما هي الحقيقة، فإذا بها نائمة، وكم للنوم من أسباب وأسرار، وهي حاضرة في حياته ولم تغب، حيّة بحبّها للحياة والإقبال عليها. ثمّ يعود في هدأة ليرى الواقع كما هو، والحقيقة ماثلة كما هي، فيعود إلى ضياعه المطبق، فتبدو له الحقيقة حلمًا لا يرغبه، ويشدّ الطلب للعودة إلى الحقيقة السابقة للفاجعة. وذلك الضياع والتّفجّع كلّه رسمه في صور استعاريّة متفاوتة تراوحت بين البَدء بالاسم تارة (النوم يسأل، والنجمة تغنّي)، والبَدء بالفعل تارة أخرى (تهاوى زمني، صلبتها الرّحلة)، وجاءت الاستعارات مقرونة بالتشخيص والتجسيد معًا، وتتمثّل هذه الخصائص في الاستعارة الدالّة على التجسيد المتحقّق، وسرعان ما يحمل الفعل الماضي ما يؤشّر إلى الحقيقة المرّة التي حصلت وانقضى أمرها[19]:

للنّومِ أسئِلةٌ ما لها أجوبهْ

كانتْ كلّما النَّجمةُ غنَّتْ

ترتدِي زَنبَقَةَ اللّيلِ

تهاوى زّمَني مَيْتًا على قارعةِ المَنفى

وألْقى فوقَ عينيَّ حجابًا…

العصافيرُ

صَلَبَتْها الرِّحلةُ فوق خشبِ الفجرِ

رملًا في حنجُرةِ الأغصان.

وبعد هدأة مع المصاب الذي ألم به؛ يسلّم الشاعر بالحقيقة التي لا مفرّ منها، لكنه لم ينسحب من غمرة الحزن والأسى، بل ظلّ غارقًا في متاهات الألم، يقلّب نفسه على مواجعها، لتستقرّ معه صوره الشعريّة على هذه الحال، فجاءت مُستهَلَّة بالفعل الذي يكرّس حقيقة الأمر، ويؤكّد انقضاءها، واستمراريّة مفاعيلها، مع تشخيص العناصر والمفردات التي تعبّر عن الموت وإشراكها في عاصفة الألم المتمادي[20]:

سقطَ التُّرابُ المرُّ فوقَ محابِري

ومشتْ حروفُ الموتِ في أوراقي…

وتشْهقُ الأجراسُ

والطرقات يخنقُها الأنينُ

مرَّتِ النارُ فلم تتركْ سوى

ثلجِ الرّمادِ

ينبتُ الوردُ سكرانًا على شفتي

مُنَوَّرًا مثلَ أحلامِ الفراشاتِ.

ولكنّ الشاعر لا يستقرّ على حال من الهدوء والتسليم بالحقيقة القائمة، فنراه بعد هدأته يعود إلى حال الضياع التي كان عليها مع بدايات مطوّلته، حيث تمثَّلت بتناوب الصورة بين الأسماء والأفعال، ما يكرّس حالة الضياع والتشتّت، وعدم الاستقرار الذي تجلّى في أبعاد الصّور الفعليّة. ثمّ يتخطّى الحزن والأسى حدوده الذاتيّة ليشمل المحيط بعناصره كلّها من إنسان وجماد، فيتجلّى ذلك في أبعاد الصورة الاسميّة. أمّا التعابير الاستعاريّة فجاءت تخييليّة تعكس واقع الشاعر ورفضه قبول الحقيقة القائمة[21].

يجمعني الشّتاتُ في الظِّلِّ

أسمعُ بئرًا تنهضُ

أسمعُ قبرًا يمشي

يقفُ القبرُ على عينيَ لكي لا أسمعْ،

مدنٌ تنحني تحتَ أحزانِها

رنّةُ القلبِ، أسوارُها غربةٌ

شجرٌ ذابلُ الرُّوحِ مستوحدٌ

شجرٌ عابثٌ

سريرُك يشكو والوسادةُ تشهقُ

صقيعُ الزّوايا مدلهمٌ ومحرِقُ

خلَعَتْ عباءتها المدينةُ

عاريًا يقفُ اندلاعُ الجرحِ

يُنشِبُ نارَه الرّقطاءَ في فرحِ السَّنابلِ،

خلَعتْ عباءتها المدينةُ

موصَدٌ دمُها.

ويستمرّ حزن الشاعر، ويتملّكه الإحباط، وتتهاوى عروش الحياة من حوله، فيسقط معها في غمرة الأسى التي خلّفها موت ابنته، وهذا السقوط دفعه إلى التسليم مرّة أخرى بحقيقة الأمر، فاستقرّ على أساه بوتيرة ثابتة مثَّلتها الصّورة التي تصدّرها الفعل الذي يؤشِّر إلى ذلك السقوط المريع (يصرخُ الصّمت، يحملُ الليل عكازه، ينطفىءُ النداء،…) معلنًا انتهاء الحياة بالنسبة إلى الشاعر[22]:

يصْرُخُ الصَّمتُ من حاجزِ القبرِ قفْ،

يحمِلُ الليلُ عكّازَه، كلَّ فجرٍ

ويأخذُني بيدي

ونسير…

ينطفىء النّداءْ

تصلُ الحروفُ إلى تُخومِ القلبِ،

يسقطُ كلُّ حرفٍ مثقلًا بأنينهِ،

ويتركُ فوق وجهِ الصّمتِ خيطَ دمٍ

ألمُّ ظِلالَه بيديَّ3- الكناية: تُعدّ الكناية من أكثر الأساليب التي تؤمِّن للكاتب إمكانيّة التعبير بالرمز والإيحاء، فهي حمّالة أوجه في صنوف القول المتنوّعة، ومن محاسنها أنّها قد تكون طريقًا من طرق الإيجاز والاختصار، فتلك هي مزيّتها على غيرها من أساليب البيان، “والصورة الحسّيّة التي نواجهها في ظاهر الكناية، أو التمثيل أكثر دلالة على المقصود من معناها الأصليّ المجرّد، وإذا لم يحدث ذلك؛ فقدت الصورة قيمتها وكانت الحقيقة أولى وأنفع منها”[23].

واقتضى واقع الحال في مطوّلة غسّان مطر تقوية خاصّيّة الدلالة المباشرة فيها، وتناسق وسائل التعبير المجازيّة والتّصويريّة مع مقتضيات الحال، بحيث لا يتّجه اهتمام القارىء إلى الشّكل التَّعبيريّ بذاته بعيدًا من تتبّع الحدث في مجرياته وتقلّباته. وبناء عليه، جاءت دراسة الصّورة في هذه المطوّلة استمرارًا للمشهد الدراميّ الذي صاغه الشاعر بأساليب متعدّدة، كان منها الكنايات التي عكست واقع حاله، وترجمت لمشاعره، فاعتمد منها كناية النّسبة، وكناية النسبة والصّفة معًا، تبعًا لما اقتضاه الموقف والسياق، حيث رافقت بدلالاتها حال الأسى والحزن التي كان عليها الشاعر، والضياع الذي تغشّاه.

وفي تصويره مشهد المأساة أقام الشاعر مفارقة بين نوم لارا وهي على قيد الحياة، فصوّرها في نومها الطبيعيّ قبل الحدث، ثمّ انتقل ليصوّر نومها المكنّى به عن الموت، في مرحلة ما قبل رجوعها، من هنا تطالعنا المشاهد المأسويّة في عرضٍ مسهب ومتواصل[24]:

رويدًا رويدًا ولا توقظيها

ولا تسْحبي قلَمَ الحبرِ مِن يدِها

واحرسي نومّها.

وجاءت رفيقاتُها فخرجْنَ،

وقبلَ الرّجوعِ إلى البيتِ نامتْ

وتحتَ وسادتِها يدُها المتعبهْ

رويدًا رويدًا ولا توقظيها

ولا تسأليها،

عنِ النّومِ في ساعةِ الوردِ،

يتابع الشاعر رسم أبعاد الصورة الثانية التي تشير إلى موت لارا، فيرسمها بفنّيّة عالية لتظهر كمشهد طبيعيّ لاستمرار النوم، وسرعان ما يحيلنا السياق إلى الحقيقة المغايرة، فالتضمين يُحيلنا إلى الإقرار والتسليم بالحقيقة، وإلى مؤشِّر يشي برفض هذا الواقع، لكنّ المشهد العامّ يكرّس الواقعة من خلال اختتام القصّة التي كانت تقرأها لارا؛ والتي تُجسّد قصّة حياتها، أمّا انهيار الكلام فيشير إلى السقوط المدوّي للارا، وبهذا يكون المشهد الذي أودى بها قد بدأت تتّضح معالمه[25]:

ليسَ مِن عادةِ لارا أن تنامْ

عندّ نصفِ الفجرِ.

ليسَ مِنْ عادةِ لارا أن تنامْ

أتراها سهِرَتْ بالأمسِ حتّى تُنهي قصّةَ الفارسِ

والوردةِ

والقصرِ

ثمَّ نامَتْ عندَ نصفِ الفجرِ

حتّى انتَهَتِ القصّةُ

وانهار الكلام؟

يرى الشاعرُ أنّ حياته انتهت بحلول الفاجعة عليه، وأنّ أحلامه سقطت وتعطّلت جرّاءها، إلاّ أنّ تفكيره لم يستطع تصوّر الحياة من دون ابنته، فبدا مصرًّا على رفض حقيقة ما حصل. فترجم ذلك في دلالاتين متعارضتين وظّف لهما كناية النسبة، وكناية الصّفة. فأسهب في استرجاع صورة الماضي، وشريط أيّام لارا معه، فبدت الصورة مفعمة بالحياة، ليقابلها بصورة ثانية سوداويّة تعرض حاضره المفجوع بالموت، فتوقّف الزمن معها، وأقفرت الدنيا أمام ناظريه، وتجنّزت، وأعرض عن رؤية الحياة وبهجتها، وتهاوى عرشُ فرحه، وانتزع القدر صولجانه[26].

أراجيحُ مِنْ ورقِ الدّمعِ

قميصٌ مِنَ النّهرِ

دفترُ شعرٍ

وقيثارةٌ مِنْ قمر،

قمرُ القلبِ جفا القلبَ وغابا

وألقى فوقَ عينيَّ حِجابا…

جرّدتْني زلازلُ القدرِ الجارحِ

مِن سطوتي ومِنْ صولجاني

ويدايَ تنتفضان

تنطفئان خلف جنازة الدّنيا،

وتابع الشاعر رسم مشهد الفاجعة التي ألمّت به معتمدًا أسلوب الكناية، الذي تجلّى في كناية النّسبة، فجاءت لافتة في سياق عرضه، حيث تمحورت حول الزمن الذي شكّل عمادها، ودلّت صورته على زمن الألم الذي ألمَّ به، فكان بمثابة انتهاء الكون في يقينه، وحلول الموت عليه ليس لتوقف قلبه، ولكن لحلول حَيْنِه لحظة وفاة ابنته، فانقلبت حياته رأسًا على عقب، وتحوّل زمن النور إلى ظلمة دامسة أغرقته في ظلامها لينعدم معها كلّ معنى للحياة[27].

قبلَ وعدِ الصّباحاتِ جاء المساءْ

وارتدى البحرُ معطفَه،

فقد رحلَتْ نجمَتي خلفَ وهمٍ،

إلى كوكبٍ

كانَ يُدعى الرّجاءْ

إنّها لحظةٌ لاحتضارِ الإلهِ

وموتِ السماءْ…

ينتهي الزّمنْ

يظلُّ الرّصيفُ واقفًا حتّى أوّلِ الغزاة

يظلُّ الزّمنُ واقفًا حتّى آخرِ القلبِ

أرْخت الفاجعة بثقلها على حياة الشاعر، فأسقطته عن عرشه الساجي ليتحوّل بحزنه إلى رافض منكرٍ لكلّ شيء، يرفض الزمن الجديد الذي أقبلَ بلياليه الحالكة، ويرفض استمرار الحياة من دون ابنته التي كانت تملأها بهجة. لكنّ هذا الزمن آتٍ بسواده القاتم لا محالة، كلّ ذلك صاغه بصورة حزينة عبّر عنها بكناية منفيّة، أعلن فيها موت الزمن وانعدام الحياة. والنفي في السياق جدّد ما أشارت إليه الدلالة السّابقة، مشفوعةً بالصّورة التي جمع فيها بين الاستعارة والكناية (وأصحو على… )[28].

ليسَ لي،

هذا الليلُ الثاني ليس لي.

مكتمِلٌ عمري قبلَ الولادة

مكتمِلٌ بعدَ الرّحيلْ.

ليسَ لي

“ليلٌ ثانٍ لا يتبنّاه أحد”

… وأصحو على زمنٍ

يتكوَّمُ تحت يدي

جثّةً هامده

أمام مشهد الحزن المترامي بثقله على نفس الشاعر، ورفضه القاطع سبّب له ما أدّى به إلى الضياع والألم، وأودى بنفسه إلى الانهيار التّامّ، يعرض واقعه النفسيّ أمام هول المصاب الذي حلَّ به، فغياب لارا كان بمثابة السهم القاتل الذي أصاب قلبه وشظّاه معها كما تشظّت مرآة حياته وتحطّمت، وتمزّق صدره ما إن فرغ من الحبّ الذي كان يشغله، ورأى في انتهاء حياة ابنته انتهاء حياة الأرض. فرسم لغيابها صورة رأى فيها انتهاء الحياة والكون، وشبّهها بالقبر الذي ضمّها. فبموتها انعدمت حياة الأرض، وغرق على إثر غيابها في عالمٍ منَ الضياع، ما استدعى لرسم صورته هذه كنايتين (النّسبة والصّفة) فجمع بهما بين الحقيقة الواقعة، وحالة الانتهاء والرّفض. وفي هذه الصّورة المتناقضة استكمال للمشاهد السابقة، أو كأنّها اللمسات الأخيرة التي أوضحت أبعاد الصورة الكاملة للمأساة، وهذا ما يشي إلى أنّ الصورة جاءت في عقدٍ متسلسل من الكنايات اكتمل بصورته الأخيرة هذه[29].

لارا … وألقيتُ مرساتي على حُلْم

فهدَّتِ العاصفاتُ السّودُ مِرساتي

كأسُ الصّدى في يدي ملأى وقدْ جمَعَتْ

أشلاء قلبي على أشلاء مرآتي…

يرتدي البحرُ على الفراشاتِ، ولا لونَ…

في فمي آيةُ الدّمعِ أقرأُها ذاهلًا

في جبيني التّجاعيدُ أقواسَ حزنٍ،

وفي القلبِ أوردةٌ مُقفلهْ…

قبرُكِ خيمتي

ودمي شتاءْ…

وأوقتِ الأرضُ دورتَها عندَ دورةِ جُرحي

نصفُ وجهي ترابٌ، وعينايَ

ملحٌ حزينْ…

وقدْ هرَبَتْ حدودُ الأرضِ،

وانطفأتْ قناديلُ السّماءْ.

 

إلى جانب خصوصيّة الصورة الشعريّة في بنيتها التكوينيّة وجماليّاتها البلاغيّة؛ فإنّ لها دلالات متعدّدة تتنوّع بتنوّع مزاج الشّاعر، وتشي إلى واقعه النّفسيّ الذي يعتريه في ظروفه المتقلّبة وخصوصًا الأليمة منها، كما أنّها تدفع إلى تتبّع هذا الواقع ودراسته لندرك خصوصيّة انطباعاته إزاء مجريات المشاهد في قصيدته، “والاتّجاه النّفسيّ في الدّراسة الأسلوبيّة يعثر على محوره الصّحيح عندما يتم من خلال عمليّة التّحليل اللغوي للصّور الأدبيّة، ودلالتها النّفسيّة، ومدى ما تقدّمه في مطوّلات الشّعر العربيّ الحديث نلحظ أنماطًا متنوّعة من الصّور، تتفاوت في طبيعة بنيتها التّركيبيّة والدّلاليّة”[30]، كما أنّه يوجد في بعض الصّور الشعريّة “الشّرارة الأولى لزلزال أرضيّ مقبل، أو لزلزال في النّفس البشريّة، وبعض الأرواح التي يصيبها هذا الزّلزال إصابة حقيقيّة تستطيع أن تنقله إلى آلاف الأرواح الأخرى، والصّورة أداة لتحرير الوعي وتحرير الجماعات”[31].

ويمكن البناء على هذا بأنّ الصّورة في النصّ الشعريّ الحديث لا بدّ من أن تأتي بوظيفة دلاليّة لها أبعادها المتعدّدة من خلال بنيتها اللغويّة، وهي تُشكّل الجزء الأكبر منه لما لها من دور أساس في ترجمة الظروف النفسيّة المتعدّدة لدى الشاعر.

ثالثًا: المؤدَّى الوظيفيّ للصّورة الشعريّة:

يقوم النصّ الشعريّ على مجموعة من الأسس والمقوّمات البنائيّة التي تعطيه أبعاده المعنويّة والجماليّة، وتعدّ الصّورة من أولى الأسس الفاعلة والمؤثِّرة في البنية الدّاخليّة للنصّ، لما تكتنزه من انزياحات في أبعادها المعنويّة، وإمكاناتها التعبيريّة، ووجوهها الجماليّة، كما أنها تتيح المجال لقراءات متنوّعة نظرًا إلى اختلاف تأثيرها بين قارىء وآخر، ويورد أحدهم أنّ الصّورة الشعريّة “ركنٌ ملازم لكلّ شعر أصيل، ليس فقط على صعيد البناء والشّكل، بل أيضًا على صعيد الرّوح أو المادّة الشعريّة، غير أنّ الصّورة ليست – فقط – طريقة تعبيريّة، بل إنّها طريقة تعبير”[32]. ولا يخفى أنّ للصّورة الشعريّة مؤدَّيات وظيفيّة مشتركة بين الشّعراء، فمن خلالها تتبلور أفكارهم، وتُترجم انطباعاتهم ورؤاهم، ومن مؤدّياتها الوظيفيّة:

  1. تقريب المعنى وتمكينه:

من خصائص الصًورة الشعريّة أنّها حمّالة أوجه، ويعدّ التّضمين أحد أهمّ عناصرها البلاغيّة، الأمر الذي يستوقف المتلقّي ويحدو به لأن يغوص خلف المعنى تأمّلًا وتدبّرًا، ووقوف المتلقّي وتأمله لتحصيل المعنى؛ مرهون بمدى قرب هذا المعنى من الأذهان، فإذا كان سهلًا وواضحًا لا يستدعي التّوقف أمامه وإعمال الفكر لِتَبَيُّن غاية الكاتب من تصويره. فستْر المعنى وتوريتُه يؤثِّران في تفاعل النّفس، ما يدفعها إلى التّامّل، والغوص، وإعمال الذّهن لإدراك دلالات الصّورة. وتمكُّن المعنى مرهون بمدى التّأثير الذي تحدثه الصّورة في ذهن المتلقّي؛ فإذا كانت الفكرة واضحة فإنّها تملي المرور عليها دون انبهار، ولا حاجة إلى العودة إلى إعمال الفكر إزاءها، لأنّها لا تترك ذلك الأثر الذي يستدعي ذلك. وتأثير المعنى على المتلقّي مرهون بما يقدّمه له، فإذا ورد “على المتلقّي عاريًا مجرّدًا، لا يحدث له لذّة، لأنّه يقرّر للمتلقّي ما هو معروف بأسلوب معروف، فلا يثير فضولًا أو شوقًا إلى تعرف على غير المعروف، أمّا إذا ورد المعنى عن طريق التمثيل، فإنّه يرد بشكل غير مباشر لا يتجلّى إلاّ بعد طلبه بالفكرة”[33].

وإنّ التّأمل والتّفكّر في مقاصد الصّورة، ومحاولة فكّ رموزها، يؤدّيان إلى فهم المعنى ووضوحه، وهذا مبنيّ على قدرات المرسِل ومدى غنى مخزونه اللغويّ، وقدرته على توظيفه توظيفًا فاعلًا ومؤثِّرًا. فعند استخدامه القدرات البلاغيّة المتنوّعة في صنع صوره الشعريّة من تّشبيه، واستعارة، وكناية… فإنّه يهدف من خلال كلّ منها إلى رسم أبعاد معيّنة من المعنى، وإلى غاية محدّدة؛ فمن خلال التّشبيه يقيم العلاقة بين طرفيه ليزيد المعنى المراد توضيحًا، وليكرّس فكرة أراد إيصالها، فتتّضح رؤيته. أمّا من خلال الاستعارة فيستعمل التجسيد أو التشخيص ليقرّب مغزاه، ويشير إليه بخفاء ويترك للمتلقّي إدراك ما توحيه صورته الذهنيّة بعد أن يرسم أبعادها، لكنّها تبقى واضحة في ملامحها. وفي الكناية ينحو الكاتب إلى أسلوب المماثلة، بإطلاق الصّفات، وتحديد الموصوفات، ما يقود المتلقّي إلى مدّ قنوات الاتّصال، ورسم خطوط العلاقات بين الأطراف، ما يؤدّي به إلى إدراك المعنى وفهمه؛ وهذا كلّه مبنيٌّ على التّأثير الذي تحدثه صناعة المعنى، وإعمال القدرات العقليّة من معرفة وتحليل، لِتوضع على ميزانها الجماليّات البلاغيّة، ومكوّنات اللغة، “ما يجعل اللغة حيّة، وكأنّها تقول الأشياء بوساطة البلاغة، لأنّ البلاغة فنُّ للكتابة، وفنٌّ للتّأليف في الوقت نفسه: إنّها فنٌّ أدبيّ وفنٌّ لغويٌّ، وهاتان سمتان قائمتان في الأسلوبيّة المعاصرة”[34]. وهذا ما يؤكّده جابر عصفور عندما أشار إلى ما تمليه جماليّات الانزياح من تأثير، “فلأجل هذا كان التعبير عن المعاني بالعبارات المجازيّة ألذّ من التعبير عنها بالألفاظ الحقيقيّة”[35].

  1. تجسيد التّجريديّ:

تتكوّن الصّورة الشعريّة – على تعدّدها وتنوّعها – من خلال استحداث تعبيرات لغويّة جديدة ينسجُ الأديب بينها علاقات وروابط غير معهودة، في سياق تعبيريّ هادف، يقود إلى خلق مضامين صوريٍّة جديدة، تأخذ الصور معها دورها الوظيفيّ في الدلالات المعنويّة والنّفسيّة على حدّ سوا، وتهيّئ لمفاهيم جديدة يفوق تأثيرها تأثير واقعها القائم، الأمر الذي ينتج عنه اتّساع في الصورة وتنامٍ في الدّلالة، والتّعبير بالدّالّ الحسّيّ عن المدلول التجريديّ، بحيث تمنح ما هو تجريديّ شكلًا حسّيًّا، وهذا ما يُمكِّنها من تعميق أدائها الوظيفيّ من النّاحية المعنويّة والنّفسيّة، وتصبح أكثر تأثيرًا في نفس المتلقّي. وذلك “لأنّ استخدام بنيةٍ ما في ظروف غير عاديّة قد يستهدف بشكل واضح إضفاء الطّابع الحركيّ على الفكر، أو خلق مواقف دراميّة”[36]، وبفعل التّصوير الجديد تتبدّل المفاهيم ليتحوّل معها الغريب معقولًا، والمرفوض مقبولًا، ويتكفّل التّعبير في أداء هذا الدّور، فيأخذ بشيء من الواقع، ويمزجه بشيء من الخيال الشعريّ. فالشاعر في عمله الإبداعيّ لا يهدف إلى مطابقة الواقع بما يدلّ عليه من حقائق، إنّه “يستعمل الصور ليعبُر حالات غامضة لا يُستطاع بلوغها مباشرة أو من أجل أن تنقل الدلالة الحقّة لما يجده الشّاعر”[37]، وهذا ما يولّد صورة حيّة تنفذ إلى الفكر والشّعور لدى المرسِل والمرسَل إليه، وربّما تكون هذه الوظيفة أساسيّة، وذلك لأنّ “البلاغة فنّ تعبير، ولا يوجد خطاب أدبيّ دون بلاغة، ولكن مجرّد الاهتمام بالجانب الشّكليّ فيها، أو تلقّيها كإجراء مصطنع، سيفقدها فاعليّتها الإدلاليّة، في حين أنّه إذا راعى المتكلّم الواقع، فعبّر عنه، وعبّر عن نفسه أيضًا، أمّن سلامة أدلاله، وأدلّته، وما يتطرّق إليها من الهدر”[38]. من هنا نلاحظ أن كثيرًا ما ينهل شعراء الحداثة من الواقع ويمزجونه بإبداعات أخيلتهم لتظهر صورهم واضحة جليّة، ما يمكّنهم من إثبات رؤيتهم، وترسيخ المعاني في ذهن المتلقّي. ذلك أنّ “الخيال حين يستعين ببعض العناصر الحسّيّة، إنّما يريد من وراء ذلك غاية أخرى هي التسامي عليها وخلق مقولة، أو عالم خياليّ ثانٍ بديل منها”[39].

  1. نقل تجربة الشّاعر:

تُعدّ الصّورة الشعريّة النّاقل الأوّل لحالات الشّاعر الانفعاليّة تجاه أيّ تجربة يخوض غمارها أو أمر يعترضه في مسيرة حياته، والفارق بينه وبين عموم الناس أنّه يملك إمكانيّة التّعبير عن مشاعره وانفعالاته بأسلوب فنّيّ جاذب، يغذّيه خيال خصب، وحسّ مرهف قوامه الصّورة، فالصورة “ابنة للخيال الشعريّ الممتاز الذي يتألّف عند الشعراء من قوى داخليّة تفرّق العناصر، وتنشر الموادّ ثمّ تعيد ترتيبها وتركيبها لتصبّها في قالب خاصّ حين تريد خلق فنّ جديد متّحد ومنسجم”[40]. فهي تنقل المعاني الداخليّة التي ترتسم في ذهن الشاعر، وهي حالة انعكاس تفاعليّ تواكب أداء الشّاعر في مقاربة تجربته، وهي التي  “تجسّد عواطفه، وأداة يعبّر من خلالها، ويقيم علاقة بينه وبين الواقع، كما أنّ اللغة الشعريّة عمادها الصّورة، وهي القوّة البانيّة بامتياز”[41]. وجماليّة اللغة تكمن في حركيّتها وتخطّيها العناصر الواقعيّة المتمثّلة بالأفكار والأحاسيس التي تجمّدها؛ لتصل إلى العناصر المثيرة؛ فتتبلور على هيئة صورة فنّيّة تتجسّد في ذهن المتلقّي واضحة المعالم، وتشركه مع الشّاعر في أحاسيسه، وتجعله يتفاعل مع تجربته، ويعايش معاناته، أو حالات فرحه. كما أنّها تبلور رؤية الشّاعر، وتحمل القارئ ليشاركه هذه الرؤية، بعد أن تكشف له انطباعات الشّاعر الخفيّة التي يؤسّس عليها ويبني. وهذا له التأثير البليغ في نفس المتلقّي، فإحساس الشّاعر مغاير لإحساس الإنسان العاديّ لجهة تفاعلاته النّفسيّة والرّوحيّة.

والواضح ممّا تقدّم من وسائل بناء الصّورة؛ أنّها جاءت لتعبّر بجلاء ووضوح عن ذات الشّاعر، وما يكابده لناحية الألم وفقدان السيطرة على انفعالاته، فقد نقلت تجربته الشّخصيّة مع الفاجعة التي ألمّت به، حيث توالت الصور بأشكالها وأبعادها لترسم المشهد العامّ للموقف. وفي المحصّلة، أنّ الصّورة تبقى رائدة في نقل الواقع والأحداث ما لم يعجز الشّاعر عن تصوير تجربته ونقلها إلينا.

  1. إيصال التّجربة إلى الآخر:

غاية الصّورة الشعريّة أن تعبُر بما يكنّه الأديب في نفسه ويُفرج عنه من خلال الأساليب التعبيريّة إلى فضاءات المتلقّين الفكريّة، فتكون مَهَمَّة التّصريح بالشّعور، أو بالفكر إيصال الانطباعات النفسيّة، أو الرّؤيويّة إلى المتلقّي. وقد وجد شعراء الحداثة أنّ عمليّة النّقل هذه تقتضي توظيف الألفاظ في سياق تعبيريّ متين وجذّاب، قادر على التّاثير في ذهن المتلقّي، وتمكين المقاصد في نفسه، لأنّ “النفس الإنسانيّة مولعة بكلّ ما هو جميل لذلك تضيق النفس بالصور التقريرية الفجّة الساذجة، أمّا المجاز فهو يكسو الصورة الشعريّة جمالًا وروعة تجذب إليه النفوس”[42]. والتّعبير تخطّى الغاية التقريريّة إلى إثارة المشاعر والذّكريات لينقل المتلقّي من عالم الواقع إلى عالم يسترجع فيه ذكرياته النّاصعة، أو تلك التي تشوبها بعض الرّواكد، وفي الأمرين انتقال من الفرد إلى الفرد، هدفه نقل التجربة بما تحمله من مشاعر وإسقاطها على الآخر بهدف إشراكه وإيقاظ شعور غائر في داخله. ولا يقتصر الخطاب على الفرد، بل يتعدّاه إلى الجماعة بهدف حثّهم على التّفاعل مع الواقع ورؤيته بهدف تغييره، أو بهدف الانقلاب عليه.

ولا تكتفي الصّورة بالتعبير عن الواقع – كما سبق وأشرنا – بل تتعدّاه إلى التّعبير عن طموحات ورؤى خياليّة، وهذا الاتّجاه، ينتقل من ذات فرديّة إلى ذات فرديّة أخرى، وهذا ما نلحظه في الشّعر الحديث، لأنّ الحداثة جاءت بخصائصها لتعالج واقع النّاس، وتتفاعل مع قضاياهم، إن على صعيد الفرد أو الجماعة، والغاية من ذلك ابتكار حالات معيّنة يفرضها المقام والمقال، “فشعور التّوتّر وغيره الذي يخلقه الأسلوب، هو جوهر العمليّة الأسلوبيّة، أو عنصر المفاجأة الأسلوبيّة، أي توليد اللامنتظر من خلال المنتظَر”[43]. والصّورة في مسارها الخياليّ نراها تجسّد التجريد وتقدّمه محسوسًا.

رابعًا: أنماط الصورة الشعريّة:

يعتمد الشاعر في تشكيل صوره الشعريّة في سياق نصّه الشعريّ على أكثر من نمط أو أسلوب. فالعمل الأدبيّ الفنّيّ هو تشكيل يتكوّن من مجموعة صور تتكامل في ما بينها لتقدّم تجربة الشاعر بإيحاءاتها إلى المتلقّي، وتتضافر هذه الصور الجزئيّة المتنوّعة في بنائها لتبنّي معماريّة البنى الصوريّة في النصّ، ولتشكّل صورة كلّيّة تمثّل في جوهرها النصّ الشعريّ ذاته.

وبما أنّ الصّورة ركنٌ أساسيّ من الأركان التي يقوم عليها النصّ الشعريّ، وأنّها تُسهمُ – بأنواعها ودلالاتها – في بلورة النصّ وإعطائه قيمته الفنّيّة، كما أنّ الشّاعر يتحكّم بمسار النصّ من خلالها، فهو يعمد إلى حشد اللغة العميقة في صورٍ متنوّعة التركيب، موحية في دلالاتها، ويجعل لها أنماطًا تجاري الواقع حينًا، وتعمد إلى الخيال حينًا آخر، لذا تنوّعت الصورة في النصوص الشعريّة الحديثة بين: صورٍ واقعيّة تقليديّة تقوم على حقيقة التصوير، وصور انزياحيّة تقوم على الحركة والحيويّة.

أ- الصورة الواقعيّة أو التقليديّة: هي من أكثر الصّورِ شيوعًا في القصيدة العربيّة، وهي أقرب إلى طبيعة النصّ الشعريّ العربيّ التقليديّ، وفيها يعمد الشاعر إلى نقل الواقع كما هو  “وقد اتّكأ الشعراء التقليديّون على شكل الشيء وعلى لونه في صورهم الفنّيّة اتّكاءً كبيرًا ولم يحاولوا النفاذ إلى باطنه”[44]. وقد اهتمّوا في تشكيل بنية الصورة الشعريّة على الأساليب البسيطة، والأقّل قدرة على الإيحاء، كالتشبيه الخارجيّ خصوصًا، إذ يقول محمّد لطفي اليوسفيّ: “والحال أنّ مطابقة الصورة للواقع أمر يحبط طاقاتها الفنّيّة ويحدّ من اندفاعاتها الدلاليّة. إذ يصبح الغرض منها كأنّه مجرّد الإخبار عمّا هو موجود في الواقع العينيّ، ملتصقًا بأصله الواقع ينزع إلى نقله نقلًا حرفيًّا مسطّحًا… حتّى لكأنّ الصورة الشعريّة لا تخفي وراءها رؤية للعالم، وموقفًا من مشكلاته وطريقة حضور فيه، بل هي مجرّد صنعة قائمة على قواعد تركيبيّة متعارفة يمكن تعلّمها”[45]؛ وهذا ما دفع أدونيس إلى القول بأنّ العرب عدّوا الشعر مجرّد صياغة شكليّة وفقًا للقواعد المتداولة بين الشعراء[46].

والشعر بكلّ أشكاله لا يقوم على المجازات اللغويّة حصرًا، فبإمكان الشّاعر أن يرسم صورة الواقع بدقّة، ويصوّر الحقيقة كما هي، وهذا ما يستدعي أسلوبًا لغويًا يصوغ لغة التركيب صياغة بلاغيّة، بعيدًا من الاستخدام المعتاد والبسيط للغة. واللافت أنّ شعراء الحداثة قد اعتنوا بجوانب حياتيّة كثيرة، فتناولوا قضايا الواقع الإنسانيّ بأبعادها كلّها، وهذه العناية قادتهم إلى سلوك أسلوب التعبير بصورة حقيقيّة، حافظت على جماليّة مؤدّاها، ولم تفقد وظيفتها البلاغيّة.

وعلى الرّغم من استقلالية كل من البلاغة والأسلوب، فإنّ الصِّلات القائمة بينهما أكدتها النظريّات الأدبيّة، إلا أنّها ميّزت الأدب من الناحية الجمالية معلّلة ذلك بتعدد الصور البلاغيّة ووظيفتها في الخطاب الأدبيّ[47].

والقصيدة هذه حملت رسالة الألم التي أراد الشاعر أن يوصلها، وجاء الخطاب فيها موجّهًا إلى ابنته التي غيّبها الموت، فضمّنها تجربته الأليمة، وصوّر نفسه المعذّبة جرّاء الفاجعة، والظروف النفسيّة القاسية التي يمرّ بها. وتوالت الصّور في مجرياتها تجسّد الوقائع والأحداث، وأبرزت مكانة ابنته في مسار حياته، فهي في منزلة الخالق، والعالَم بأكمله، والحياة إن وُجدت، ولطالما جزع عليها أن تُصاب في حياتها بمكروه. واستمرّ التّعبير عن المشاعر التي تراوده، وتتصارع في تناقضها بداخله بفعل ما كان، وما حدث، ما جعله يلجأ إلى اعتماد أساليب متعدّدة لرسم صورته، ورغم تعدّدها نراها حافظت على تمايزها الجماليّ. ففيها قدّم الاسم المؤكَّد على الخبر “قلق”، واستعمل الفعل المضارع ليشير إلى الخوف الدّائم على ابنته، والفعل الماضي المتحقّق. وفي هذه الرسالة نجد المرسِل وحيدًا لأنّ المستهدَف بالرسالة غائب لا يتلقّى ولا يجيب. وفي أساليبه المتعدّدة يبرز واقع الشاعر وما كان عليه في حياته[48]:

قلِقٌ قلبي على رجلِك

أن يجرحها الشّوكُ

إنْ دسّتِ الترابا

مَنْ سوى “بابا” يغطّي الأرضَ

بالوردِ وبالقلبِ…

هاتي القدمَ اليسرى

قبّلْناها.

هاتي الأخرى.

قبّلْناها وعبدْناها.

أتُرى غارَ اللهُ لأنّي في قدمَيْكِ عبدْتُ الله؟

وإزاء الفاجعة التي حلّت به؛ يُبدي الشّاعر انكفاء رغبته بالحياة ومباهجها، وأنّ الهناء الذي كان يعيشه تحوّل معه إلى غربة باعد المصاب بينهما، ولم يعد الفرح يعنيه مع رحيل ابنته إلى عالم آخر، حتّى أصبح يعيش في ضياع دائم، وشتاتٍ فكريّ مستمرّ، وهذا ما أبرزته أساليب التعبير المتعدّدة التي اعتمدها الشاعر، كدلالة الاسم في السياق (سفنٌ)، ودلالة الماضي المتحقّق، وإيحاء المستقبل المنفيّ (لن أبكي)[49]:

بيني وبينَ هناءات الصِّبا سُفُنٌ

قولي لبحّارها أن يحرقَ السُّفنَ

وكنتُ أقسمْتُ لن أبكيَ وأنتِ معي

ومنذُ أبْحرْتِ صارتْ دمعتي وطَنا

ومع حصول الفاجعة ومثولها حقيقةً واقعة يأتي استنكار الشّاعر ورفضه إيّاها، فينقل أفكاره الغاضبة في صورة تأخذ منحى الطّلب، فتأتي الصورة لتحاكي الواقع بين ما كان في الماضي وما حصل آنيًّا رغم اشتراك الحواسّ في تمثيلها، وحركيّة الصورة تتمثّل في ما يستعرضه الشاعر في ذاكرته لا في واقعه القائم[50]:

إنّه وقتُ غفوتِها،

واتركوني وحيدًا على بابِ غرفتِها

أستعيدُ تفاصيلَ ضحكتِها

رقصِها

شعرِها

صوتِها…

والصّورة في القصيدة تعكس واقع الشّاعر بعد أن فقد مبعث النور في حياته، ويصرّح جهرًا بتعبه واستسلامه، وانتهاء حياته بوصوله إلى الطريق المسدود بجدار الموت. فيتملّكه الذّهول هناك، وينال المصابُ من قلبه فيشظّيه. فيعود مجدّدًا إلى أسلوب الخطاب، ليتوجّه إلى نفسه تارةً، ثمّ إلى رفيقات ابنته تارة أخرى، ورغم إلحاحه في الخطاب؛ يستمرّ الصّمت بلا مجيب. وهذه الواقعيّة لحال الشاعر أكّدتها الأفعال الماضية المتحقّقة [51]:

لسْتُ أكتمُ سرًّا، تبارَكْتَ،

لكنّني تعِبٌ، أيّها الصوتُ،

ضيّعْتُ شمسي هنا،

وانتهى عند هذا الجدارِ الطَّريقُ.

لو مررْتُنّ بالمقعدِ المنحني

يا رفيقاتِها،

بالتفاتاتِها،

بالزّوايا…

اترُكْنَني ذاهلًا حولَ أشيائها.

ويعود الشاعر على بَدء، يكرّر حواره المأسويّ المتفرّد من جديد، وتتحكّم الوحدة بهذا الحوار، فنلاحظ أنّ المخاطِب واحد، والمخاطَب واحد أيضًا، ولكنّه لا يملك القدرة على الإجابة، وأنّ الله هو الملجأ الوحيد والمرتجى، وأنّه هو من يعلم حجم معاناته وحزنه، فإليه يُعلن استسلامه التّامّ، وأنّ قواه خارت أمام ثقل الفاجعة، يتجلّى ذلك في صورتين متقابلتين. جاء الاسم فيها ليؤشِّر إلى ثبات الأمر، وأكّده فعل المعرفة في السياق.[52]:

يا الله

أعرف أنّي لستُ نبيًّا

كي تعطيني سرّ  رؤاكْ

فأنا حجرٌ ملعونٌ

لكنّي أحملُ حزنَ الأرضِ

كتابًا لم يقرأْهُ سواكْ

فأجبني يا ملكَ الأسرارِ،

يا الله

أشعرُ أنَي لستُ نبيًّا

كي تعطيني سرّ رؤاكْ

لكنّي أسألُ: أين أراكْ؟

كي أعرفَ كيفَ تُفسِّرُ هذا العالم وِفقَ هواكْ

وإذا تأمّلنا أبعاد الصورة الواقعيّة في المطوّلة فإنّنا نلاحظ أنّها تنطلق من خطاب تحدّدُ إطاره، ثمّ تجول في ترسيمه لتعود إلى حيث بدأت، فتبدأ بالخطاب وتذهب بحركة دائريّة لتنتهي به، فالمتكلّم واحد، ومحور الخطاب موجّه إلى واحد، ويستمرّ تناسقها حول هذا الخطاب لتُقفل عليه، وبضمنها تتمادى حالة الضّياع والتّشتّت، وانعدام الإحساس بالحياة.

ب- الصّورة التفاعليّة أو النّشطة: يُعدّ التعبير بالصّورة الفنّيّة التفاعليّة، أو النّشطة من أبرز أساليب التعبير وأكثرها فاعليّة في عقد الصّلة بين الكاتب والمتلقّي، وبلورة الصورة بكفاءتها الجماليّة مرهون بمقدرة الشاعر على التعبير عنها بأساليب متعدّدة، أو في صياغات متنوّعة، أو مقاربة معناها من طرق متغايرة ومتعدّدة، وتتميّز بارتباطها الوثيق بالإرادة، أو ما تقدّمه من خلال الصّياغة لجهة تداخل الصلات بين الدّال والمدلول.

وكما تعدّدت  أساليب الصورة الفنّيّة عند شعراء الحداثة فإنّها  لم تكن على غير حال عند الشاعر غسّان مطر، فقد أسهب في مقاربتها بأساليب متعدّدة، فتميّزت بالحركة والثبات، وحافظت على المعنى الواحد والشامل، وهو نقل مجريات الفاجعة التي أصابته، والتداعيات التي ترتّبت عليه جرّاءها من آثار سلبيّة على مجرى حياته، حيث يبدأ برسم مشاهدها بأبعادها كلّها، فيستهلّها بمشهد حياة لارا قبل موتها، حيث كانت مفعمة بالنشاط والحيويّة من خلال جماليّة حضورها، وأثر هذا الحضور في إزالة الغمّ وإشباع النفس بالبهجة والسعادة الغامرة.

وطبيعة الصّورة النّشطة في إيحاءاتها المتحرّكة حدَت بالشاعر إلى توظيف الحواسّ مجتمعة، فتجلّت وظيفتها في دلالة الفعل الماضي في تحقّقه الفائت، الذي استعرض من خلاله ما كانت عليه الأمور قبل الفاجعة، فأبرز من خلاله معالم المشهد الأوّل لقصّته المأسويّة، وكلمة “كلّما” دلّت على التكرار الذي يفيد الاستمرار والديمومة، التي دلّت بدورها على استمرار تلك الحركة النّشطة[53]:

كانتْ كلّما النَّجمةُ غنّتْ

ترتدي زنبقةَ الليلِ

وترخي وجهها القمحيَّ

قنديلًا على وجهِ الظلامْ

ثمَّ تصحو عندَ نصفِ الفجرِ

للارا

دفترُ شعرٍ

وقيثارةٌ من قمرْ،

لتملأَ أوقاتَها بالغناءِ

وتطردَ عنها الضَّجرْ

وتتحوّل الصّورة المفعمة بالحيويّة والنّشاط مع الفاجعة إلى صورة ثابتة جامدة، تتعطّل الحياة معها، وتتجمّد الحواسّ. فالعصافير التي كانت تملأ الطبيعة وتؤنس السمع والبصر؛ سكنتْ عن حركتها وصمتت، وأقلعت عن إرسال أصوات الفرح في المدى، كلُّ ذلك حصل مع توقّف حياة لارا وحركتها. فحركة الصّورة تتجسّد في حياة العصافير، لكنّها جامدة في دلالتها، وهذا ما يؤكّده الاسم الثابت، والفعل الماضي الذي زاده ثباتًا حين تحقّق وتأكّد بالأداة “قد”، وكذلك بالمضارع المسبوق  بالأداة “لم” الدّال على الماضي[54]:

العصافيرُ

صلَبَتْها الرّحلة فوق خشبِ الفجرِ

العصافيرُ

جثثٌ تتدلّى من نافذة الله.

العصافيرُ

لم تعد تجيءُ أو تهاجرُ

فلقد اتّسع موت المسافة.

وتعود الحواسّ لتجمع شتاتها، وتستعيد بعضًا من قدراتها بعد أن أرهقها المصاب ونال من صوابيّة تركيزها، لكنّها بدأت تجمع مشاهد التّعبير عمّا يجري، وتقضّ مضجع الشاعر، وهذه المشاهد لم تَرُق له، ولم يألفْها، فبادلها بالرّفض، فالنّحيب والنّدبُ يتردّدان في مسامعه، والورد خرج عن طوعه، وفقد صفته المفطور عليها؛ من نشر الشّذى إلى الصّراخ، ولا طاقة له، ولا حيلة للتغلّب على ما هو عليه، فقد دارت به الحياة دورتها العكسيّة، وارتدّ فرحه إلى ألم وحزن. وما يشي بذلك تتابع الأسماء ذات الدلالة على الثبوت والدّيمومة[55]:

كأسي مصدَّعةٌ ودمعيَ ساقِ

والنّاحبون النّادبون رفاقي

أنّى التفتُّ: دمٌ وصرخةُ وردٍ

ويدانِ تختلجانِ في أعماقي.

ومع سطوة الآلام وثقلها، وتوارد الصّور التي تعرِض مشاهد المأساة المتتالية، يسترجع الشّاعر بعضًا من صور الماضي السعيد التي كانت ملأى بالحيويّة والنّشاط، فيبادر إلى استعمال فعل الكينونة المشفوع بضمير المتكلّم الجمع “كنّا”. فتغيب الصّورة الآنيّة، وتتنحّى مشاهد المأساة معها، وتجمد حركتها، ولكن صورة الماضي جاءت على أعتاب صور الألم القائم[56]:

وكنّا نغنّي معًا في العشيّاتِ

كنّا نغنّي ” الهوى والشّبابْ”

وتعزفُ لارا،

فنبحرُ خلفَ أصابعِها،

وكنّا… وكنّا…

فما كانت عليه صور الحركة كثير، ولا يتوقّف على ما ذُكر، وهذا يدلّ على النقاط المتتالية (…)، بعد الفعل “كنّا”، وهذا جعل حياة الشّاعر فارغة من حيويّتها؛ فالبيت يغدو سجنًا بالنّسبة إليه،  وهو يفقد القدرة على الكلام، حتّى إنّه لا يستسيغه، ويصمت كلام الزّهرة (الفتاة) التي تركت مكانها لتبحث عن آخر. ومن جديد تتوقّف الحواسُّ، وتجمد الحركة؛ حيث الصّمتُ. فالكلام المسموع يتحوّل شكلًا، وكلّ حاسّة تنقلب إلى ضدِّها، وتستمرّ الصّورة الجامدة باستخدام المضارع الدّالّ على دوامها، إضافة إلى السّياق المعتمد[57]:

ندورُ حولَ في زنزانةِ المساءْ

ويأخذُ الكلامُ شكلَ غيمةٍ

تغوصُ حتّى آخرِ الدّماءْ

فيأخذُ الكلامُ شكلَ زهرةٍ بيضاءْ

تبحثُ عنْ مكانِها

ما بين جرحِ الأرضِ والسّماءْ

كما لاحظنا أنّ جمود الصّورة  في المواقف الضّاغطة، لم يخفِ حركتها وحيويّتها في فضاءات الشّاعر الخاصّة، فتوزّعت بين خياله المُسهِب وما هيّأه له من أوهام، لتتكرّس صورة واقع قائم ثابت، وتتكامل الصّور الواقعيّة مع الصور النّشطة لإتمام المشهد العامّ، ويبقى خطاب الشّاعر يلتزم وحدة المخاطِب والمخاطَب، ويكتفي أحيانًا بخطاب نفسه، وهذا ما أبرزته الصّور السابقة.

والواضح من دلالات الصّور أن الصّورتين الواقعيّة والمتحرّكة وصّفت حال الشّاعر في مواقفه وانطباعاته المتعدّدة أكثر مما عبّرت عن المعنى، وذلك لرغبة الشاعر في نقل صورته المحزونة إثر حصول الفاجعة. فجاءت كلتا الصورتين لتتكاملا في ما بينهما، وتبلورا الصورة العامّة للمشهد، رغم ما شاب الصور النّشطة من جمود “فالحضور المزدوج لدلالة المطابقة ودلالة الإيحاء؛ هو الذي يحافظ على الالتباس الشعريّ في الصّورة[58].

  • الخاتمـة

الواضح أنّ صناعة الصّورة الشعريّة في مندرجاتها المتعدّدة هي وليدة اللّغة في صوغها اللسانيّ المخصوص، تتبلور من خلال تشكيلها المميّز، وعدولها عن مسار صوغها الإحاليّ إلى مسار صوغها الإيحائيّ، لتظهر مرئيّة ومعبّرة، وذلك من خلال ما يجري تمثيله بأساليب حديثة ومبتكّرة.

والصّورة في مطوّلة الشاعر غسّان مطر، كان لها خصوصيّتها البكائيّة، حيث تتابعت فيها الصّور حتّى غدت سلسلة متعاقبة على امتداد فصولها وأحداثها، ما أكسبها القدرة على التأثير، مضافًا إلى صيغتها الجماليّة طبيعتها البكائيّة التي طُبِعت عليها. فالصّور في المطوّلة تشابهت رغم اختلاف دلالاتها، فراوحت بين الواقعيّة والحقيقة تارة، والذّوات المخفيّة تارة أخرى، كما نلاحظ تصدّر الدّلالات في الصّورة على الاستخدام في بعضها، لكنّها بقيت تترجم لنا واقع الذّات، بلغة استغرقت أغراضها البيانيّة بشكل وافٍ.

وإنّ التّنويع في استخدام الأساليب مرفقة بالحواسّ والألوان، كان أمرًا لافتًا، تبيّن من خلاله شموليّة المعاني وتعدّدها، فتشكيل الصّورة من حيث المضمون يتمّ من خلال الوسائل المتنوّعة، وتكتمل الصّورة من خلال المؤثِّرات النّفسيّة، أو الاجتماعيّة، أو من خلال أساليب الصوغ، عندها تتداخل معطيات الحواسّ، وتمتزج الأشكال، أو تستند إلى  البُعدَيْن المكانيّ والزّمانيّ، أو تُرفد الصّورة بعنصر الحركة والنشاط.

أمّا في ما يتعلّق باللغة الخاصّة بالشّاعر، فهي ترتبط بطبيعة التّجربة التي يعيشها، فيمكن له أن يبني لغته على الصّراحة والوضوح، ويرسم صوره على أساسها، أو قد تتفاوت صوره في مجالات البلاغة. ولغة الشّاعر الخاصّة هي الوسيلة التي يعبّر الشّاعر من خلالها عن آرائه وأفكاره وخيالاته، لذلك، فإنّها تتجاوز الصّور التّقليديّة التي كانت في غالبها تقوم على الملموسات، بينما نراها في الشّعر الحديث ذلك المدى الذي يتحرّك الشّاعر في أرجائه.

وتُعدّ الصّورة أساسًا تقوم عليه اللغة الشعريّة، والوسيلة الأهمّ في التّعبير عن حالة، أو رؤية أبدعها ذهن الشّاعر، وعَبَرَت وجدانَه، ومكّنته من الإيحاء بدلالات تتفاوت ضيقًا واتّساعًا.

والواضح ممّا تقدّم، أنّ الصّورة الشعريّة شغلت حيّزًا مُهِمًّا من النّصّ، ولم تُسقط الجماليّة من أبعادها، أو من النصّ الشعريّ، حتّى في مواردها الواضحة.

بناءً على ما تقدّم، فإنّ الصّورة الشعريّة تُعدّ الرّكن الأساس في البناء الشعريّ، فهي تواكبه في ظروفه وأحواله المتعدّدة، فإذا ما تغيّرت مفاهيمه ونظريّاته، فإنّها تتغيّر، وتتغيّر معها نظريّاتها ومفاهيمها، ويظلُّ الاهتمام بها قائمًا، وتبقى خلقًا جديدًا طالما هناك شعرٌ وشعراء مبدعون، واعتماد على الخيال ومعطيات العقل.

ورغم الدّور الرّياديّ الذي تؤدّيه الصّورة الشعريّة في بناء النّصّ، وخصوصيّتها في تكريس المفاهيم المتعلّقة بحكم المقام الشعريّ ومقاله، نجد أنّ هناك عوامل أخرى مساندة في تكوين القصيدة؛ لأنّ العمل الشعريّ يقوم على مستويات عديدة كي يكتمل شكله النّهائيّ، ويصير مادّة باستطاعة المتلقّي تناولها ودراستها، أو التفاعل معها.

فهرس المصادر والمراجع

  1. الاتّجاه الوجدانيّ في الشعر العربيّ المعاصر، عبد القادر القط، دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1978 م.
  2. أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجانيّ، تحقيق : محمّد الفاضليّ، المكتبة العصريّة للطباعة والنشر، ط 3 /2001م.
  3. الأسلوبيّة، بيير جيرو، ترجمة منذر عيّاش، دار الحاسوب للطّباعة، حلب، ط 2، 1994م.
  4. البنى الأسلوبيّة، دراسة في الشعر العربيّ الحديث، كمال عبد الرزّاق العجليّ، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2012م.
  5. البيان والتبيين، الجاحظ، عمرو بن بحر، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابيّ الحلبيّ، 1948م.
  6. تطوّر الصورة الفنّيّة في الشعر العربيّ الحديث، نعيم اليافي، دمشق، اتّحاد الكتاب العرب، دمشق، د.ت، د.ط.
  7. الحيوان، الجاحظ، عمرو بن بحر، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابيّ الحلبيّ، القاهرة، 1968 م.
  8. دلائل الإعجاز، عبد القاهر الجرجانيّ: تحقيق محمّد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1978 م.
  9. الشعر والشعريّة: الفلاسفة والمفكرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه، محمد لطفي اليوسفي، الدار العربيّة للكتاب، تونس، 1992م.
  10. الصورة البيانيّة، محمد شرف حنفي، دار النهضة، مصر، القاهرة، 1965م.
  11. الصورة الشعريّة في النقد العربيّ الحديث، بشرى صالح، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، ط1، ص 10.
  12. الصورة الشعريّة: سيسل. دي لويس، ترجمة: أحمد نصيف الجنابيّ وآخرين، مؤسّسة الخليج، 1984م.
  13. الصّورة الشعريّة، وجهات نظر عربيّة وغربيّة، ساسين عسّاف، دار مارون عبّود، بيروت، ط1، 1985م.
  14. الصورة الفنّيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب، جابر عصفور، دار التنوير، بيروت، طبعة 2، 1993م.
  15. الصورة الفنّيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب، جابر عصفور، دار التنوير، بيروت، ط1، 1992م.
  16. الصورة الفنّيّة في شعر أبي تمام: عبد القادر الرباعيّ، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1978م.
  17. الصورة في الشعر العربيّ حتّى آخر القرن الثالث الهجريّ، علي البطل، دراسة في أصولها وتطوّرها، دار الأندلس، بيروت، 1981م.
  18. عزف على قبر لارا، غسّان مطر، دار فكر للأبحاث والنّشر، بيروت، ط1، 1990م.
  19. علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، صلاح فضل، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998م.
  20. عليّ أحمد سعيد، زمن الشعر أدونيس، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية، 1978م.
  21. في النقد التحليليّ للقصيدة المعاصرة، أحمد درويش، دار الشّروق، القاهرة، ط1، 1996م.
  22. القراءة النّسقيّة: سلطة البنية ووهم المحايثة: أحمد يوسف، الدار العربيّة للعلوم، بيروت، ط1، 2007م.
  23. كوهن، جون: اللغة العليا: النظريّة الشعريّة، ترجمة: أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995م.
  24. مناهج النقد الأدبيّ: السياقيّة والنسقيّة، عبد الله خضر حمد، دار القلم، بيروت، طبعة 2017م.
  25. منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجنيّ، تحقيق: محمّد الحبيب ابن الخوجه، تونس، 1966م.
  26. ناصف، مصطفى، الصورة الأدبيّة، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1981م.
  27. النّص والأسلوبيّة بين النظريّة والتّطبيق، عدنان بن ذريل، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، ط 2000.

 

المصادر الأجنبيّة:

  1. Riffaterre Michael, Essai de Stylistique structural, presentation et traduction de Daniel Delas, lammarion.

 

[1]www.Ruowaa.com/vb3/showthread//t=3641-14/2/2014.

[2] – هلال، محمّد غنيميّ: دراسات ونماذج في مذاهب الشعر ونقده، دار النهضة للطبع، مصر، القاهرة، د. ت، ص 60.

[3] – درويش، أحمد ، في النقد التحليليّ للقصيدة المعاصرة، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1996م، ص 127.

[4] – حمد، عبد الله خضر، مناهج النقد الأدبيّ: السياقيّة والنسقيّة، دار القلم، بيروت، طبعة 2017م، ص 186- والجرجانيّ، عبد القاهر: دلائل الإعجاز، تحقيق محمّد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، 1978 م، ص 196- ينظر: الجاحظ، عمرو بن بحر: البيان والتبيين، تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة مصطفى البابيّ الحلبيّ، 1948م، ج3، ص 131، 132- والحيوان: تحقيق: عبد السلام هارون، مكتبة مصطفي البابيّ الحلبيّ، القاهرة، 1968 م، ج 1 ص 206 ، ج 4 ص 5- والقرطاجنّيّ، حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمّد الحبيب ابن الخوجه، تونس، 1966 م، ص 17، 19 وص 71،90 وص 143،144.

[5] – البطل، عليّ: الصورة في الشعر العربيّ حتّى آخر القرن الثالث الهجريّ: دراسة في أصولها وتطوّرها، دار الأندلس، بيروت، 1981 م، ص 30 – وينظر: صالح، بشرى: الصورة الشعريّة في النقد العربيّ الحديث، المركز الثقافيّ العربيّ، بيروت، الطبعة الأولى، ص 10.

[6] – الرباعيّالرباعيّ، عبد القادر: الصورة الفنّيّة في النقد الشعريّ: دراسة في النظريّة والتطبيق، دار العلوم، الرياض، 1984، ص.85

[7] – القط، عبد القادر: الاتّجاه الوجدانيّ في الشعر العربيّ المعاصر، دار النهضة العربيّة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1978 م، ص 391.

[8] – لويس، سيسل. دي: الصورة الشعريّة، ترجمة: أحمد نصيف الجنابيّ وآخرين، مؤسّسة الخليج، 1984 م، ص 81.

[9] – عصفور، جابر: الصورة الفنّيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب، دار التنوير، بيروت، طبعة 2، 1993 م، ص 63.

[10] – الرباعيّ، عبد القادر: الصورة الفنّيّة في شعر أبي تمام، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1978 م، ص 391.

[11] – كوهن، جون: اللغة العليا: النظريّة الشعريّة، ترجمة: أحمد درويش، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995 م، ص 145.

[12] – فضل، صلاح، علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998م، ص 172.

[13] – درويش، أحمد، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث، ص 13.

[14] – يوسف، أحمد: القراءة النسقيّة: سلطة البنية ووهم المحايثة، الدار العربيّة للعلوم، بيروت، ط1، 2007 م، ص 95.

[15] – مطر، غسّان، عزف على قبر لارا، دار فكر للأبحاث والنّشر، بيروت، ط1، 1990م، ص 14،39.

[16] – عزف على قبر لارا، ص  18، 20، 21، 30، 31، 32، 33، 36، 37، 42، 47، 69، 75.

[17] – العجليّ، كمال عبد الرزّاق، البُنى الأسلوبيّة، دراسة في الشعر العربيّ الحديث، دار الكتب العلميّة، بيروت، 2012م، ص 256.

[18] – ناصف، مصطفى، الصورة الأدبيّة، دار الأندلس، بيروت، ط2، 1981 م، ص 217.

[19] – مطر، غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ص 9- 10- 11- 13- 15.

[20] – مطر غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ص 27، 29، 43، 47.

[21] – مطر، غسان، عزفٌ على قبر لارا، ص 48، 49، 54، 85، 87.

[22] – المصدر نفسه: ص 65، 66، 72.

عصفور، جابر، الصورة الفنّيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب، ص 332.

[23] – عصفور، جابر، الصورة الفنّيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب، دار التنوير، بيروت، ط1، 1992م، ص 332.

[24] – مطر، غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ص 8، 9.

[25] – مطر، غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ص 10، 11.

[26] – مطر، غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ، ص 12،13 ، 14، 29.

[27] – المصدر نفسه، ص 18، 21.

[28] – مطر، غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ص 23، 53.

[29] – عزفٌ على قبر لارا، ص 47، 50، 69، 73، 81، 89.

[30] – العجليّ، كمال عبد الرّزّاق، البنى الأسلوبيّة، دراسة في الشعر العربيّ الحديث، ص 259.

[31] – درويش، أحمد، في النّقد التّحليليّ للقصيدة المعاصرة، ص 129.

[32] – عسّاف، ساسين، الصّورة الشعريّة، وجهات نظر عربيّة وغربيّة، دار مارون عبّود، بيروت، ط1، 1985م، ص 116.

[33] – الجرجانيّ، عبد القاهر، أسرار البلاغة، تحقيق : محمّد الفاضليّ، المكتبة العصريّة للطباعة والنشر، ط 3 / 2001م. ص 126.

[34] – جيرو، بيير، الأسلوبيّة، ترجمة منذر عيّاش، دار الحاسوب للطّباعة، حلب، ط2، 1994م، ص 27.

[35] – عصفور، جابر – الصورة الفنّيّة في التراث النقديّ والبلاغيّ عند العرب – ص 362.

[36] – فضل، صلاح، بلاغة الخطاب وعلم النّص، ص 133.

[37] – ناصف، مصطفى، الصورة الأدبيّة، ص 217.

[38] – بن ذريل، عدنان، بلاغة الخطاب وعلم النّص، ص 133.

[39] – ناصف، مصطفى: الصورة الأدبيّة، ص 138.

[40] الرباعيّ، عبد القادر، الصورة الفنّيّة في النقد الشعريّ، ص 85.

[41] – عسّاف، ساسين، الصّورة الشعريّة، وجهات نظر عربيّة وغربيّة، ص 115.

[42] – حنفي، محمّد شرف ،الصورة البيانيّة، دار النهضة، مصر، القاهرة،  1965م، ص: 221.

[43]–  Riffaterre Michael, Essai de Stylistique structural, presentation et traduction de Daniel Delas, lammarion, 1971, p 228

[44]– اليافي، نعيم: تطوّر الصورة الفنّيّة في الشعر العربيّ الحديث، دمشق، اتّحاد الكتاب العرب، دمشق، د. ت، د. ط. ص 24

[45]– اليوسفيّ، محمّد لطفي: الشعر والشعريّة: الفلاسفة والمفكّرون العرب ما أنجزوه وما هفوا إليه، الدار العربيّة للكتاب، تونس، 1992م، ص 9.

[46] – سعيد، عليّ أحمد: زمن الشعر أدونيس، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية، 1978 م، ص 42.

[47] – بن ذريل، عدنان، النصّ  النصّ والأسلوبيّة بين النظريّة والتّطبيق، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، ط 2000، ص 48.

[48] – مطر، غسّان، عزف على قبر لارا، ص 13، 52.

[49] مطر، غسان، عزفٌ على قبر لارا، ص 32.

[50] – المصدر نفسه، ص 16.

[51] – المصدر السّابق، ص 65، 68.

[52] – المصدر نفسه، ص 78، 79 .

[53] – مطر، غسان، عزفٌ على قبر لارا، ص 10، 12.

[54] – المصدر نفسه، ص 15.

[55] – مطر، غسّان، عزفٌ على قبر لارا، ص 26، 27.

[56] – المصدر نفسه، ص 34.

[57] – المصدر نفسه، ص 59.

[58] – فضل، صلاح، علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1998م، ص 198.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website