foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

الفلسفة العلميّة وإشكاليّاتها

0

الفلسفة العلميّة وإشكاليّاتها

د. علي رشيد مشيك

المقدّمة

نتناول في هذا البحث موضوع الفلسفة العلميّة وإشكاليّاتها فقط؛ إذ إنّنا لا نتطرّق للإشكاليّات القائمة بين الفلسفة العلميّة من جهة والميتافيزيقا، أو الماورائيّة من جهة أخرى، بل إنّنا نحصر دراستنا داخل الفلسفة العلميّة، فندرس مدى درجة العلميّة في المناهج المعتمدة، كمناهج علميّة مقبولة في عصرنا الحاضر.

تعود أسباب معالجتي لهذا الموضوع، لما رأيته من حاجة هذه المناهج إلى اللدراسة والتحليل، وكذلك للمساهمة في توضيح المعرفة، من وجهة نظر فلسفيّة، وعلميّة، وواقعيّة. إذ لا تزال هذه الإشكاليّة قائمة منذ بداية التباين بين الاتّجاهين الفلسفيّ والعلميّ منذ العهد اليونانيّ قديمًا حتّى عصرنا الحالي.

لقد حرصت في هذا البحث على اعتماد المنهج الموضوعيّ بشكل أساسيّ، أي أن نكون واقعيّين، وخصوصًا أنّني أعالج بحثًا في العلوم الإنسانيّة، فليس هناك من تجارب ميدانيّة، كما يحصل في العلوم الطبيعيّة، إنّما نستفيد من الواقع، بما نشاهده من سلوك الإنسان، وبما نعرفه من مفاهيم اجتماعيّة، وعادات، وقوانين معتمدة، وكذلك بما نشاهده من التطوّر التاريخيّ، بالإضافة إلى حرصنا على الوضوح، وعدم تناقض الأفكار، وقد نحتاج كذلك إلى التحليل، والاستعانة بكلّ المناهج المتاحة لنا.

تتمثّل أهمّيّة هذا البحث في ضرورة معالجة الإشكاليّة القائمة بين المعرفة الفلسفيّة، والمعرفة العلميّة. وهذا ما يساهم في تقريب وجهات النظر بين المفكّرين، كما يساهم في زيادة القدرة لدى القرّاء على الفهم والاستيعاب، وخصوصًا في المجالات التي تتداخل فيها الاتّجاهات الفلسفيّة والعلميّة.

تتباين آراء المفكريّن حول تحديد مفهوم العلم أو المعرفة. فهناك من المفكريّن من يعدّها مجرّد “تقرير وقائع أو أنّ المعرفة معرفة بقضايا”(1). وهناك من يعدّ المعرفة مجرّد القدرة على الاستيعاب والفهم، وقدرة على تفهّم وشرح ما هو صعب.

كان أرسطو أوّل من أعطى تعريفًا للعلم وعدّه كناية عن “معرفة العلل والمبادئ والأصول”(2). كما أنّه يقسّم العلم إلى قسمين: نظريّ وعمليّ.

أمّا العلم النظريّ فهو “ينتهي إلى مجرّد المعرفة، ويقع على الوجود فينظر فيه من ثلاث وجهات: من حيث هو متحرّك ومحسوس، وهذا هو العلم الطبيعيّ، ومن حيث هو مقدار وعدد، وهذا هو العلم الرياضيّ؛ ومن حيث هو وجود بالإطلاق، وهذا هو ما بعد الطبيعة. أمّا العلم العمليّ فالمعرفة فيه ترمي إلى غاية متمايزة منها، وهذه الغاية هي تدبير الأفعال الإنسانيّة، وذلك أمّا في نفسها، وهذا هو العلم العمليّ بمعناه المحدود؛ وأمّا بالنسبة إلى موضوع يُؤلّف ويُصنع، وهذا هو الفنّ”(3).

ويرى بريثويت على سبيل المثال أنّ مفهوم العلم “يشمل العلوم الطبيعيّة الفيزيقيّة والبيولوجيّة، وبعض أجزاء علم النفس، والعلوم الاجتماعيّة مثل الإنتربولوجيا، والاجتماع، والاقتصاد وهي معنيّة بدراسة موضوعات ذات طبيعة إمبريقيّة. ويستبعد من هذا المفهوم الفلسفة بأسرها على أنّها ليست من العلوم المشار إليها، والتاريخ بأكمله لأنّه يعنى بدراسة الحادثات التاريخيّة المخصوصة، وموضوعات الرياضيّات البحتة، والمنطق الرياضيّ باعتبارها لا تدور حول وقائع إمبريقيّة”(4).

أمّا هوبس فهو يحدّد العلم بمعرفة العلّة “أو معرفة المعلولات بعللها، والعلل بمعلولاتها”(5). يوضح الجابريّ المعرفة العلميّة بقوله: “يقصد بالنزعة العلمويّة النزعة التي ترى أنّ المعرفة العلميّة، الفيزيائيّة، والكيميائيّة هي وحدها المعرفة الحقّة، فهي من هذه الناحية وضعيّة الاتّجاه. غير أنّه يمكن التمييز بين العلمويّة الميتافيزيقيّة التي تعتقد أنّ العلم سيحلّ جميع المشاكل التي كانت من اختصاص الميتافيزيقا، وبين العلمويّة المنهجيّة التي ترى أنّ المنهاج المتّبع في الفيزياء، والكيمياء هو وحده الصالح، ولذلك يجب تطبيقه في العلوم الإنسانيّة”(6).

ويضع جيمس كونانت تعريفين للعلم: التعريف الاستاتيكيّ والتعريف الدينامي. أما التعريف الاستاتيكيّ “فهو الذي يضع موضع الصدارة الطائفة الراهنة المتشابكة من المبادئ والقوانين والنظريّات، وكذلك االمجموعة الهائلة من المعلومات المنسّقة، وكأنّ العلم بذلك عرض شارح للكون الذي نحيا فيه، أو لبعض جوانبه”(7).

أما التعريف الديناميّ للعلم، فهو أنّه “سلسلة متشابكة الحلقات من المفهومات والإطارات النظريّة التي تطوّرت ونمت نتيجة للملاحظة والتجريب، وهي سلسلة مفضية إلى المزيد من الملاحظة والتجريب”(8).

ويرى صلاح قنصوة أنّ جوهر العلم “المجموع الكلّيّ المفترض للنتائج والكشوف “الكامنة والممكنة” التي تنتظر “البحث والكشف على يد العاملين في المعامل ومجالات البحث، وهي كما يقول “كونانت” خططهم، وأمّالهم وتطلّعاتهم أثناء عمليّة التحقيق والإنجاز، أسبوعًا إثر أسبوع، وعامّا بعد عام”(9).

وفي هذا السياق يمكن القول إنّ كلّ تفكير في العلم، أو في أيّ جانب من جوانبه، في مبادئه، وفروضه، وقوانينه في نتائجه الفلسفيّة، أو قيمته المنطقيّة، والأخلاقيّة، هو بشكل أو بآخر فلسفة علم. ويرى الآن أنّ قيمة المعرفة تظهر “للفيلسوف على قدر اقترانّها بالحكمة”(10).

إنّ الفلسفة العلميّة هي التي تدرس المعرفة الواقعيّة والموضوعيّة والمنطقيّة القائمة، أو كلّ تلك المعرفة التي يقرّ العقل بإمكانيّة تحقيقها من وجهة نظر فلسفيّة ومنطقيّة.

نشأت الفلسفة العلميّة حديثًا مع وجود المدارس الفلسفيّة الحديثة التي ابتعدت عن الميتافيزيقا، وانصرفت إلى دراسة المشكلات الفكريّة القائمة في المجتمع الحديث. فقد تطرّقت للميادين كافّة، وتباينت أراؤها حول المناهج ونظريّة المعرفة والابستمولوجيا، بالإضافة إلى تباين مواقفها حول الاقتصاد، والسياسة، والقيم بشكل عامّ.

ويبيّن هانز ريشنباخ بعض ما تتميّز به الفلسفة العلميّة من خصائص. فهي حسب رأيه تختلف عن الفلسفة التقليديّة في مقاربتها للقضايا العلميّة. إذ إنّها لا تقرّ بحقائق مطلقة وبحلولٍ، أو نظريّات متكاملة؛ فالفلسفة العلميّة “تترك للعالم مَهَمَّة تفسير الكون بأسره، وتبني نظريّة المعرفة عن طريق تحليل نتائج العلم، وتدرك عن وعي أنّ من المستحيل فهم فيزياء الكون، أو فيزياء الذرّة من خلال تصوّرات مستمدّة من الحياة اليوميّة”(11).

تعتمد الفلسفة العلميّة مناهج، لا تقلّ أهمّيّة عن مناهج العلوم الطبيعيّة. وقد أثبت التّاريخ البشريّ تراكم معارف فلسفيّة صحيحة. وقد تحوّلت تلك المعارف، بعد التأكّد من صدقيّتها من خانة الفلسفة إلى خانة العلوم المستقلّة، وهي التحليل المنطقيّ لكلّ أشكال الفكر البشريّ.

يرى ريشنباخ أنّ الفلسفة العلميّة إن كانت لا تزال تنطوي على مشكلة لم تحلّ “ما زالت تثير الجدل، فهناك أمل حقيقيّ في أن تحلّ في المستقبل بالطرق نفسها التي أدّت، في حالة مشكلات أخرى، إلى حلول يشبع قبولها اليوم”(12).

لقد تباينت المدارس الفلسفيّة، حول تعريف الفلسفة العلميّة، فهناك من يعرّفها انطلاقًا من وجهة نظر فلسفيّة، وهناك من يعرّفها من وجهة نظر علميّة بحتة. وقد تتباين المعرفة الفلسفيّة مع المعرفة العلميّة، فإذا كانت المعرفة العلميّة تستند بشكل أساسيّ إلى دراسة الظواهر المادّيّة، فإنّ المعرفة الفلسفيّة تتطرّق لأبعد من ذلك إذ إنّها تتحرّى عن طبيعة المادّة؛ وأسبابها، وطبيعة المكان، والزمان، والطاقة، والحياة، والعقل، والإنسان.

هي معرفة معياريّة نقديّة وشموليّة، فتشمل موضوعاتها الوجود، أسبابه وغاياته. فالأجوبة الفلسفيّة لا تكون بالقول نعم أو كلاّ، إنّما تستوجب رأيًا فلسفيًّا، مَهَمَّتها تقويميّة، تبحث في ما يجب أن يكون. إنّها تهتمّ بنقد الفكر والسلوك، تدرس النظريّات الفلسفيّة، كما تدرس المناهج، وتقيّم النتائج، والاستنتاجات، وتأتي أجوبتها على شكل فرضيّات. تدرس الفلسفة العلميّة الموضوعات، من وجهة نظر فلسفيّة، فهي تختلف في طبيعتها عن المعرفة العلميّة، التي تتميّز بها العلوم كافّة، حيث تدرس الموضوعات بهدف الوصول إلى نتائج دقيقة وصحيحة.

في هذا السياق يحسب بعض العلماء أنّ العالم الذي يتناولونه، ويضعون قوانينه ليس العالم المادّيّ في حقيقته، وإنّما هو العالم كما يبدو لعقولنا. وقد يكون لنا دور في صنعه وصياغته. أمّا العالم الحقيقيّ، فلا علم لنا به. ويرى سير آرثر إدنجتون أنّ “العقل أوّل شيء مباشر في خبرتنا، وكلّ ما عداه استدلال، ووجود المادّة استدلال، لا أنّ المادّة من طبيعة عقليّة، وإنّما هنالك علاقة وثيقة بين ما هو مادّيّ وما هو عقليّ”(13).

ويرى كانط أنّ العقل ليس مجرّد مستقبل لما هو موجود في الواقع “وإنّما يقوم بدور في تأليف إدراكنا، أو معرفتنا، فيخرج إدراكنا لأيّ شيء تركيبًا عقليًّا من عنصري الانطباعات التّجريبيّة، والتصوّرات العقليّة، ويصبح الشيء المدرك هو الشيء كما يبدو لنا لا كما هو في حقيقته”(14).

ويرى شرودنجر ما خلاصته “أنّنا لا نستطيع إقامة قضايا عن الواقع أو أيّ نسق فيزيائيّ ما لم نره ونلمسه، لكن لكي نراه، ونلمسه يجب أن نوجّه إليه أشعّة ضوئيّة تنعكس على أبصارنا فنلاحظه. وهذا يعني أنّ الجسم يتأثّر بملاحظتنا، ولا يمكننا الوصول إلى معرفة عن الشيء منعزلاً عنا، ويؤدّي هذا التدخّل منّا إلى أن نعرف بعض خواصه، وتغيب عنّا خواصه الأخرى. ولذلك لن نعرف العالم كما هو في واقعه الموضوعيّ”(15).

ويطابق الجابريّ ما بين مصطلح “العلميّة” و”الوضعيّة” فتصبح الفلسفة العلميّة عنده مطابقة للفلسفة الوضعيّة. وهو يقرّ موقف أوغيست كونت الواثق في العلم، وقد حسبه أرقى درجات تطوّر الفكر البشريّ. ويرى الجابريّ أنّه على أساس العلم النيوتونيّ، والفلسفة الوضعيّة التي أسّسها أوغيست كونت، “قامت نزعة علمويّة، انتشرت في النّصف الثّاني من القرن التّاسع عشر خاصّة، وكان زعماؤها في الغالب فلاسفة لا علماء”(16). وقد أيّد هذا الرأي كلّ من أرنست رينان وأرنست هيكل. هكذا تباينت المواقف من المعرفة الفلسفيّة العلميّة، فهل هي معرفة ثابتة وصحيحة، كما هي عليه المعرفة العلميّة؟ أم أنّ نظرتنا إليها، هي التي تتغيّر مع تبدّل مفاهيمنا؟

إذًا؛ مع تعدّد المذاهب الفلسفيّة، تباينت المواقف من معايير المعرفة العلميّة، فما هو المعيار الواجب اعتماده لتحقيق المعرفة العلميّة؟ هل هو معيار صدق التجربة أم اعتماد المنهج التجريبيّ؟ أم اعتماد أسلوب التحليل المنطقيّ الرياضيّ؟ وهل هناك من حدّ فاصل ما بين المعرفة الفلسفيّة والمعرفة العلميّة؟

1- تطوّر المعرفة العلميّةّ

تطوّرت المعرفة العلميّة إلى جانب تطوّر الفلسفة، وقد عُدّت هذه الأخيرة، سابقًا، أمّ العلوم. ولم تكن وهي متميّزة، ومحدّدة في عهد فلاسفة اليونان، كما تميّزت وتحدّدت به، فيما بعد.

تتضمّن نظريّات الفلاسفة اليونان معارف متنوّعة، تدور حول الكون والوجود، والمادّة والنفس، فركّزت الفيثاغوريّة على الأعداد، ودورها، وأهمّيّتها. فكانت مدرسة علميّة اهتمّت بالرياضة، والموسيقى، والفلك، والطبّ. وكان لها آراء جديدة في تفسيرها للكون، وتوصّلت إلى حسبان أنّ الشمس هي مركز الكون، وليس الأرض، كما كانت الفكرة سابقًا، وذهبوا إلى القول “إنّ مركز العالم يجب أن يكون مضيئًا بذاته، لأنّ الضوء خير من الظلمة، ويجب أن يكون ساكنًا، لأنّ السكون خير من الحركة: فليست الأرض مركز العالم، وهي مظلمة، وفيها نقائص كثيرة، ولكنّه نار مركزيّة غير منظورة”(17).

اختلطت في تلك الحقبة المعرفة العلميّة مع المعرفة الميتافيزيقيّة. وحسب أرسطو أنّ الميتافيزيقا، أو علوم ما بعد الطبيعة، هي أشرف العلوم “لأنّه كمال العقل أسمى قوى الإنسان، ولأنّ العلم للعلم، لا لغرض آخر يرتّب عليه ويتبعه. وأشرف العلوم النظريّة ما بعد الطبيعة، لسموّ موضوعه، وبعده من التغيّر”(18).

وتكلّم ديموقريطس كذلك عن الذرّة فهو يرى أنّ من تصادمها، في ما بينها، تنشأ الأكوان فهو “يفترض حدوث تطوّر عن طريق الجمع بين الذرّات في تركيبات معقّدة، ففي الأصل لم تكن هناك إلّا ذرّات مفردة تنطلق في كلّ الاتّجاهات خلال المكان، وعن طريق المصادمات العارضة، تكوّنت مجموعات أدّت بمضي الوقت إلى تكوين أجسام من شتّى الأنواع والأشكال”( 19).

هكذا حملت تلك النظريّات بعض المعارف العلميّة الصحيحة، وقد تحقّق صدقها، فيما بعد. فكانت رياضيّات أقليدس، واستنتاجات أرخميدس عن مساحة الكرة وحجمها. وبرع هيروفيلوس في ميدان البيولوجيّا، فشرح جسم الحيوان، وكان أوّل من فرّق بين الشّرايين والأوردة. وقال: “إنّ المخّ هو مركز الجهاز العصبيّ ومستقرّ العقل”. وقد تطوّر المنهج العلميّ مع أبو قراط إلاّ أنّ خطواته بقيت محدودة. “ولم يتقدّم العلم بصورة سريعة إلّا عندما طبّق منهجه على الظواهر الميكانيكيّة، والطبيعيّة حيث غدا في وسعه أن يتقدّم حثيثًا بنتائج شاملة”(20).

واستمرّ المزج بين الفلسفة، والمعرفة العلميّة في العصور الوسطى، ولم يفرّق بين الفيلسوف والأديب، وبين العالم والطبيب، وكان هناك جمع بين الفلسفة، والعلم، والطبّ، والأدب. “فالفارابيّ كان فيلسوفًا وموسيقيًّا، وابن سينا كان فيلسوفًا وطبيبًا، والجاحظ كان أديبًا وعالمًا في الحيوان”(21).

وكان لبعض علماء العرب في تلك الحِقبة أهمّيّة بالغة، أمثال جابر بن حيان التوحيديّ، والحسن بن الهيثم، وقد برع جابر بالكيمياء، كما برع الحسن بالرياضيّات والفيزياء، وحرصا على اعتماد منهج علميّ يعتمد التجربة. وحدّد الحسن الشّرط الأساسيّ للبحث العلميّ، وهو اعتماد االموضوعيّة والابتعاد عن الميول والعاطفة، كما أنّه قدّم الاستقراء على القياس.

هكذا تنامت المعارف العلميّة، وتطوّرت مناهجها، وتحسّن أداؤها. ففي العصور الحديثة، ظهرت نظريّات علميّة أكثر أهمّيّة من سابقاتها فكانت أراء كوبرنيكس، وغاليليه عن مركزيّة الشّمس، ودوران الأرض حولها. ثمّ جاء كبلر، معتمدًا على نظريّة كوبرنيكس، فوضع قوانين تتعلّق بحركة الكواكب حيث تجري في مدارات بيضاويّة كما أنّه توصّل إلى تحديد مدى السرعة المتفاوتة، ثمّ تحديد العلاقة بين حركة الكواكب.

وقد ساهم كلّ من نيوتن، وبيكون في إظهار المعرفة العلميّة الحديثة المعتمدة بشكل أساسيّ على المنهج التجريبيّ. وكان لآراء هذين العالمين أثر كبير في تطوّر العلوم الحديثة، وكذلك في الثورة الصناعيّة الغربيّة. وتطوّرت المعارف العلميّة وتوالت الاكتشافات، والنظريّات، فشهد القرن العشرون نظريّات جديدة، أمثال نظريّة الكوانتم على يد بلانك التي “أدّت إلى فهم تركيب الذرات والجزئيّات وسلوكها، ما أدّى إلى وحدة كاملة بين الفيزياء والكيمياء”(22).

وكانت كذلك نظريّات أخرى لها أهمّيّتها أيضًا، كنظريّة التفكّك الإشعاعيّ، عند رذرفورد وسودي، ونظريّة النسبيّة عند آينشتين، ثمّ الابتكارات العصريّة في مجال الكيمياء الحيويّة، وقد أدّت إلى اكتشاف الأساس المادّيّ للوراثة في الكروموزومات، لقد ساهم هذا التطوّر في دراسة السلوك الحيوانيّ، والإنسانيّ في القضاء “على آخر معاقل الميتافيزيقيّات القديمة التي تفصل بين الجسم والعقل”( 23).

ومع تقدّم العلوم وتطوّرها تقهقر السّحر، وحلّ علم الفلك محلّ علم التنجيم، وحلّت الكيمياء محلّ علم الصنعة، والسيمياء القديمة، واعتمد العلماء المنهج العلميّ في أبحاثهم ودراساتهم. وقد حدّد كلّ من كبلر ونيوتن منهجهما بخطوات ثلاث، وهي الأولى: جمع المعلومات، والمعطيات، وتمثّلت بالمشاهدات الفلكيّة. والثانية: فهي “اللمسة الإبداعيّة التي عن طريقها وجد كبلر نظامًا في المعطيات عند كشفه للتماثل فيها”( 24). أمّا الخطوة الثالثة، فقد تمثّلت في ضرورة إبداع هذا التصوّر، وقد اتّخذها نيوتن عندما وضع في مركز علم الفلك فاعليّة منفردة للكون، هي مفهوم الجاذبيّة.

ويؤكّد هانز ريشنباخ على التفاعل الإيجابيّ ما بين الفلسفة والعلوم. فهو يرى أنّ تطوّر العلوم في بداية العصور الحديثة، ابتداء من اكتشاف الآلة البخاريّة، إلى اكتشاف التّيّار الكهربائيّ، واختراع السّكك الحديديّة، وجود المذياع والطائرات، ووسائل المواصلات، واستغلال الطاقة الذريّة، قد استفاد من تطوّر الوعي البشريّ، والتفكير العقلانيّ المتحرّر. فهو يرى أنّ هذه الحِقبة “ليست مجرّد مسيرة ظافرة لكشوف صناعيّة، وإنّما هي تمثّل في الوقت ذاته اتّجاهًا في التقدّم السريع في القدرة على التفكير المجرّد. وأدّت إلى بناء نظريّة بحتة تتّسم بأعلى درجة من الكمال، مثل نظريّة التطوّر عند دارون ونظريّة النسبيّة عند آينشتين، ودرّبت العقل البشريّ على فهم العلاقات المنطقيّة التي كانت تبدو مستغلقة على فهم الإنسان المثقّف في القرون السابقة”( 25).

هكذا تستفيد العلوم من تراكم المعرفة ومن ثوريّة العلماء، وفضولهم العلميّ، ومحاولاتهم المستمرّة للتغيير، نحو الأفضل، بهدف تحقيق التطوّر، والتقدّم العلميّ، فتتطوّر المعارف العلميّة، ويتحسّن أداؤها. لقد تطوّرت مناهج البحث العلميّ، إذ تحوّلت من مجرّد نظرة وملاحظة عاديّة، إلى نظرة نقديّة تحليليّة.

لقد جاءت الفلسفة الحديثة بمفاهيم جديدة، تختلف عن المفاهيم التي تميّزت بها الفلسفة التقليديّة، فظهرت مذاهب فلسفيّة متعدّدة، كالمذهب العقلانيّ، والتجريبيّ، والحدسيّ، والرياضيّ، والوجوديّ وغير ذلك. وقد تداخلت تلك المذاهب في ما بينها. وأصبح من الضروريّ الوقوف على إشكاليّاتها. وظهرت التباينات بين تلك المذاهب، وخصوصًا في ما يتعلّق بالمفهوم العلميّ، أو المعرفة العلميّة. فهناك من يرى أنّ المذهب العقليّ وحده يؤدّي إلى المعرفة العلميّة، وغيرهم يرى أنّ المذهب التجريبيّذ هو الذي يؤدّي إلى ذلك، وآخرون يروا عكس ذلك.

فالمذهب العقليّ مع ديكارت، لا يسلّم شيئًا إلاّ أن يعلم أنّه حقّ، أي أن يعقله هو: ويركّبه بأفكار واضحة هي في الواقع أفكار سهلة، وإذا استعصى عليه شيء أنكره. لقد تغيّر تصوّر العلم، ما بين الفلسفة التقليديّة، والفلسفة الحديثة، “كان العلم القديم يرمي إلى ترتيب الموجودات في أنواع وأجناس، فكان نظريًّا بحتًا، أمّا العلم الجديد فيرمي إلى أن يتبيّن في الظواهر المعقّدة عناصرها البسيطة، وقوانين تركيبها بغية أن يوجدها بالإرادة، أي أن يؤلّف فنونًا عمليّة”(26). اعتمد العلم الحديث على التّجربة، وركّز على مبدأ الاستقراء، وكانت الملاحظة هي بداية كلّ معرفة علميّة.

في العلوم الطبيعيّة يتبيّن معيار الصدق بمدى مطابقة الفكرة للواقع الخارجيّ. وعلى الرغم من ذلك يعدّ معظم العلماء أنّ القوانين العلميّة هي احتماليّة بدرجة عالية.

وهنا يرى روجر بيكون أنّ الاستدلال لوحده، يبقى عاجزًا عن تقديم معارف علميّة صحيحة “إلاّ إذا أيّدت التّجربة نتائجه، فهي التي تظهره للعيان”(27). وهو يرى كذلك أنّ للتجربة وظيفتين هما: “تحقيق النتائج التي تصل إليها العلوم بالاستدلال، واستكشاف حقائق جديدة، فتنتهي إلى تكوين علم قائم برأسه، لا يرجع لعلم من العلوم المعروفة، هو العلم التّجريبيّ”(28).

اعتمد المنهج الاستقرائيّ عند فرنسيس بيكون على دراسة الجزئيّات وملاحظتها بشكل دقيق، وإقامة التّجربة، وتنويعها، وتكرارها، ومعرفة نتائجها، والاحتفاظ بها. ولكن بيكون “لم يفهم الاستقراء الفهم الحديث، أي على أنّه منهج القانون الطبيعيّ، أو تعلّق ظاهرة بأخرى، بل على أنّه منهج يبيّن صور الكيفيّات”(29).

أمّا العلوم الرياضيّة والمنطقيّة، فمعيار الصدقيّة فيها يعود إلى مدى تناسقها الدّاخليّ، والمنطقيّ. وهي قضايا يصدق عليها إمّا الصواب، وإمّا الخطأ، كما أنّها مجرّد فرضيّات واستنتاجات. وأمّا العلوم الإنسانيّة فتؤدّي العوامل النفسيّة والاجتماعيّة، دورًا في مدى صدقيّتها. فهي تدرس إنسانًا يفكّر ويحلّل، يعدّل مواقفه وسلوكه من وقت إلى آخر.

ويتوضّح مفهوم العلم أكثر فأكثر مع الفلسفة الواقعيّة، حيث يصبح بمقدور العقل إدراك امتناع الحصول على معارف مطلقة “فيقصر اهتمامه على تعرّف الظواهر، واستكشاف قوانينها، وترتيب القوانين من الخاصّ إلى العامّ”(30).

لقد أصبح معيار العلميّة، بحسب الفلسفة الواقعيّة، الملاحظة، والفرضيّة، والاختبار، وجواب العلم يصبح عن سؤال كيف، لا عن سؤال لِمَ. ومن خصائص الموضوعات العلميّة، أن تكون ضمن مجال الممكن أي إنّها ضمن المجال الحقيقيّ للعقل. وأصبح شعار العلم الواقعيّ “العلم لأجل التوقّع، وبقصد التدبير”. أمّا بالنسبة إلى الميتافيزيقا فالفلسفة الواقعيّة “تعترف باستحالة التدليل على عدم وجود الروحيّات كما تقرّر استحالة التدليل على وجودها”(31).

ويذكر كونت ستّة علوم مكتسبة بالاستقراء، وهي: “الرياضيّات، علم الفلك، علم الطبيعة، علم الكيمياء، علم الحياة، علم الاجتماع”(32). وخطت المنهجيّة العلميّة خطوات إلى الإمّام مع فلاسفة العلم الحديث، أمثال: باشلار، وبرونشفيك، وبوانكاريه، وغيرهم. وتباينت الآراء حول تلك المنهجيّة. وقد أكّدوا على قدرة العقل الإبداعيّة فهو لم يعد محدّدًا بقوالب فكريّة تصبّ فيها المعرفة، كما كان يفكّر به كانط، بل إنّ أطر العقل قادرة على التوسع بلا حدود. ثمّ جاءت النسبيّة عند آينشتين لتؤكّد نسبيّة الزمان والمكان، ولتضع مزيدًا من علإمات الشّكّ، والاستفهام، حول مذهب القوالب الذّهنيّة المسبقة. وقد أكّدت إبداعيّة العقل غير المحدودة، حيث يمكنه الافتراض، والاختبار، والاستنتاج معًا.

كان لتلك النظريّات العلميّة أهمّيّتها في تحفيز المنهج الاختباريّ، بالإضافة إلى ما قدّمه المنهج الرياضيّ من دعم. وتمكّن العلماء بفضل ذلك، من التحرّر من الرقابة الدينيّة، فظهرت الهندسة الوراثيّة في العصر الحاضر، ونتج عنها عمليّات استنساخ.

وتتميّز المعرفة العلميّة في العصر الحاليّ بخصائص عديدة، أهمّها: الدقّة، الوضوح، عدم التناقض، موضوعيّتها وواقعيّتها، الثبات عامة وشاملة، صدقيّة نتائجها، نقديّة وتحليليّة.

يرى فرنسيس بيكون أنّ المعرفة العلميّة هي تلك المتحرّرة من سيطرة الأوهام التي قد تأتي من القبيلة، أو السوق، أو الكهف، أو المسرح “فالعالم في رأي بيكون لا بدّ له من أن يدرس الطّبيعة ويفهمها وفقًا لما هي عليه، وليس وفقًا لآراء ونظريّات السابقين”(33). ويرى ديكارت كذلك أنّه لا يقبل شيئًا ما على أنّه حقّ، ما لم يتيقّن منه، فيقول: “بمعنى أن أتّجنب بعناية التّهوّر والسّبق إلى الحكم قبل النّظر، وإلاّ أدخل في أحكامي إلا ما يتمثّل أمام عقليّ في جلاء وتميّز، بحيث لا يكون لدي أيّ مجال لوضعه موضع الشكّ”(34). ويعتمد العلماء والمفكّرون اليوم ثلاثة مناهج أساسيّة وهي: منهج العلوم الرياضيّة، منهج العلوم الطبيعيّة، ومنهج العلوم الإنسانيّة.

2 – مناهج الفلسفة العلميّة

تعدّدت المدارس الفلسفيّة، وتباينت آراؤها حول المعرفة العلميّة. وتعدّدت بذلك المناهج المعرفيّة بتعدّد الاتّجاهات الفلسفيّة في العصر الحديث.

فهناك من حاول الفصل ما بين المعرفة الفلسفيّة بشكل عامّ، وبين المعرفة العلميّة الصحيحة. وهناك من يخلط بين المعرفتين الفلسفيّة والعلميّة.

المعرفة العلميّة الصحيحة هي تلك القائمة على التّجربة بشكل أساسيّ. فهي تنطلق من اعتبار أنّ المحسوسات، أو التّجربة هي المصدر الوحيد للمعرفة الصحيحة. أمّا المعرفة الفلسفيّة، فهي مجرّد نظريّات، وافتراضات قد تحمل في طيّاتها بعض المعارف الصّحيحة، إلى جانب معارف أخرى لا تعدو كونها مجرّد افتراضات وهميّة.

تباينت آراء الفلاسفة، منذ القدم، حول المنهج الصحيح الواجب اعتماده لتحقيق المعرفة العلميّة، وقد رفض سقراط قديمًا، شكوك السفسطائيّين في قدرة العقل البشريّ، فعمل على توضيح المفاهيم العقليّة المجرّدة وتحديدها، وقد كان لها الأثر الكبير في تطوّر المعرفة الفلسفيّة. أمّا أرسطو فقد التزم بمنهج واقعيّ، وردّ الاعتبار للحواس حيث يرى أنّ المعرفة تبدأ بالحواس، وتستكمل بالعقل. كما أنّه اهتم بالعلوم الطبيعيّة إلى جانب اهتمام أفلاطون بالرياضيّات.

لقد بدأت مسيرة الفكر العلميّ، منذ العهد اليونانيّ، وخصوصًا مع أقليدس، وجالينوس، وارخميدس، وبطليموس. وكذلك ظهر لدى العرب، في ما بعد، علماء كبار أمثال: البيرونيّ، والخازنيّ، والخوارزميّ، والرازيّ، وابن سينا وابن الهيثم.

ومع بداية العصر الحديث، تزايد الاهتمام بالمعرفة العلميّة الصحيحة، وقد تكشّفت معالمها، بالإقبال المتزايد على اعتماد التجارب في العلوم الطبيعيّة. واعتمد علماء الكيمياء، والفيزياء في معارفهم، المنهج التّجريبيّ. ويقول كوندياك في هذا الصدد: “يبدو لي أنّ المنهج الذي يقود إلى حقيقة يمكنه أن يقود إلى أخرى، وأنّ أفضل هذه الحقائق تتمتّع بهذه الأفضليّة بالنسبة إلى كلّ العلوم، لذا فإنّه يكفي التفكير في الاكتشافات التي تمّت بالفعل للوصول إلى اكتشافات جديدة”(35).

يحدّد كوندياك هدفه من كتابة المقال بقوله: “إنّ هدفنا الأوّل الذي لا ينبغي أن يغيب عن أعيننا هو دراسة العقل الإنسانيّ لا لاكتشاف طبيعته، ولكن لمعرفة عمليّاته، وملاحظة الفنّ الذي تتمّ به هذه العمليّات وتتشابك، وكذلك لمعرفة كيفيّة التّحكّم فيها للوصول إلى أقصى ما نستطيع بلوغه من الكمال”(36).

وأوصى كوندياك أيضًا باعتماد منهج التحليل والتّركيب “وأشار إلى أهمّيّة ترابط الأفكار (المعاني)”، كما درس نتائج الفكر والّلغة بدقة، وطبّق منهجه في مجالات متعدّدة، مثل: دراسة التاريخ، والاقتصاد السياسيّ، وقواعد اللغة، كما حاول تطبيقه في مجال علم النفس، وترتيب الظواهر”(37).

ويؤكّد ديكارت أهمّيّة المنهج في سبيل الكشف عن الحقيقة. وهو يرى أنّ أوّل ما يجب على الفيلسوف، هو اتّباع التّرتيب، والتّنسيق، والنظام في النظر، والعمل. وهو يصف تلك الطريقة، فيعدّها “قواعد مؤكّدة بسيطة، إذا راعاها الإنسان مراعاة دقيقة، كان في مأمن من أن يحسب صوابًا ما هو خطأ، واستطاع من دون أن يستنفد قواه في جهود ضائعة أن يصل بذهنه إلى اليقين في جميع ما يستطيع معرفته”(38).

أ – منهج العلوم الطبيعيّة

يرى علماء المنهج أنّ المنهج العلميّ يتعاطى بمعطيات تجريبيّة ذات شكل ومضمون، إذ إنّ “من أدقّ أهداف العلوم الطبيعيّة وصف الظواهر الطبيعيّة وتفسيرها، والكشف عن القانون العلميّ الذي تخضع له، والتنبؤ بما سيقع من حوادث مستقبليّة في مجال هذه الظواهر بناء على المعطيات التي بين أيدينا”(39).

أمّا المنهجيّة الاختباريّة فقد ظهرت ملامحها في القرن الثالث عشر، مع روجر بيكون، حيث يلوم أهل زمانه لاقتصارهم على دراسة اللاهوت من دون الاهتمام بالطرق الاختباريّة.

أيّد كلّ من بيكون، والحسيّين، والواقعيّين المنهج العلميّ، القائم على التجربة والاختبار. وهو عبارة عن مراحل ثلاث، وهي: الملاحظة العلميّة المتخصّصة، والفرضيّة، والتّجربة، أو لحظة التّحقّق من الفرضيّة. ومن شروط الفرضيّة الجيّدة، أن تكون وضعيّة طبيعيّة، وتتضمّن إجابة عن متغيّرٍ واحدٍ، وتصاغ رياضيًّا، بأقلّ عدد من الكلمات، وأن تكون غير متناقضة. أمّا البحث من دون فرضيّة، فهو أشبه بفوضى انتقائيّة، والفرضيّة بهذا الشّكل تتّصف بالوضعيّة، وبقابليّة التّحقّق بالتّجربة.

اعتمد بيكون على مبدأ الاستقراء، حاسبًا أنّه “لا سبيل إلى استكشاف الصّور سوى التجربة، أي التوجه إلى الطّبيعة نفسها، إذ لا يتسنى التّحكّم في الطبيعة واستخدامها في منافعنا إلاّ بالخضوع لها أوّلاً“(40). كما أنّه يرى أنّ “الملاحظة تعرض علينا الكيفيّة التي نبحث عن صورتها مختلطة بكيفيّات أخرى، فمَهَمَّة الاستقراء استخلاصها باستبعاد أو إسقاط كلّ ما عداها”(41).

اعتمد بيكون التجربة وتكرارها لمرّات عدّة، كما أنّه لجأ إلى تغيير الموادّ وكميّاتها، كما أنّه اختبر تأثير تغيّر درجة الحرارة خلال التجربة. ثمّ كرّر تجاربه بأوساط متنوّعة، للتأكّد من صحّة نتائجها. وعمد في ملاحظاته العلميّة إلى توزيع معلوماته في ثلاثة جداول: جدول الحضور، وجدول الغياب، وجدول الدرجات.

ففي جدول الحضور تسجّل التجارب التي تبدو فيها الكيفيّة مطلوبة، وفي جدول الغياب تسجّل التجارب التي لا تبدو فيها الكيفيّة، وفي جدول الدرجات أو المقارنة، تسجّل التجارب التي تتغيّر فيها الكيفيّة.

أمّا هوبس فقد قسم العلم إلى قسمين: العلم الطبيعيّ، والعلم المدنيّ. يشمل العلم الطبيعيّ: المنطق، والمبادئ الأولى، والرياضيّات، والطبيعيّات. أمّا العلم المدنيّ، فهو يشمل الأخلاق والسياسة. والعلم هو تجريبيّ، وموضوعه الأجسام والظواهر، وعلّته الحركة فقط. “فالهندسة تفحص القوانين الرياضيّة للحركة، وتفحص الميكانيكا عن مفاعيل حركة جسم في آخر، ويفحص علم الطبيعة عن مفاعيل الحركات الحادثة في ذرّات الأجسام، ويفحص علم الإنسان والسياسة عن الحركات الحادثة في نفوس النّاس والباعثة على أفعالهم”(42).

هكذا يرى أصحاب المذهب الواقعيّ “أنّ الفكر الإنسانيّ لا يدرك سوى الظاهرة الواقعة المحسوسة، وما بينها من علاقات، أو قوانين، وأنّ المثل الأعلى لليقين يتحقّق في العلوم التّجريبيّة، وأنّه يجب العدول عن كلّ بحث في العلل، والغايات، وما يسمّى بالأشياء بالذات”(43).

ب- منهج العلوم الرياضيّة

يعتمد هذا المنهج البرهان الرياضيّ، والتفكير الرياضيّ، هو برهانيّ كالتفكير القياسيّ المنطقيّ. ونتيجته دائمًا ضروريّة، ولكنّه بخلاف التفكير القياسيّ، لا يقتصر على عمليّات التّضمين وحدها.

التفكير يكون برهانيًّا عندما تكون نتيجته ضروريّة، أي عندما تكون نتيجته مماثلة للمقدّمات المعلومة. والقياس المنطقيّ يقوم على المماثلة والتضمين. والتضمين يعني أنّ الأكبر يتضمّن الأصغر. وهكذا يكون القياس المنطقيّ برهانيًّا استنتاجيًّا، أو استنباطيًّا. والاستنتاج ينطلق من العامّ إلى الخاصّ. والخاصّ ينتمي إلى العامّ ويماثله. وهذا يعني أنّ المقدّمات تتضمّن النتيجة.

أمّا العلوم الهندسيّة فقد شهدت تطوّرا جديدًا؛ وهي لم تكن قبل اليونان سوى مجموعة من الحقائق المتفرّقة، والخبرات النّافعة “ولكنّها كانت تفتقد الأساس المنطقيّ الذي يجعل منها علمًا بالمعنى الحصريّ. ولم يبدأ تنسيق الهندسة إلاّ مع فيثاغوراس، وتطوّر من بعده، حتّى بلغ كماله في أصول إقليدس… لكن، مع ظهور الهندسة اللاإقليديّة، والفروع الرياضيّة الجديدة، أصبح من العبث فرض الوضوح على القضايا التي تتصدّر النسق، إذ إنّ هذه الفروع ضمّت بين المسلّمات، قضايا تبدو بعيدة عن الوضوح المزعوم، إن لم تكن مخالفة له”(44).

وقد حدث تطوّر كذلك في مجال علوم المنطق. حيث يعترض علماء المنطق الرياضيّ على القياس الأرسطيّ، عادّين أنّ مجرّد التّحقق الاختباري من فرضيّة ما، لا يعني بالضّرورة أنّ هذه النظريّة صحيحة، فأحيانًا كثيرة تكون النظريّة خطأ وغير علميّة، وتأتي نتائجها صحيحة. ويبرّرون قولهم بأمثلة من القياس المنطقيّ. وهو:

كلّ الأسماك فقريّة

الكلاب هي أسماك

الكلاب هي فقريّة

هذا البرهان المنطقيّ يؤدّي إلى صحّة النتيجة، على الرغم من خطأ المقدّمة الصغرى، وهي: “الكلاب هي أسماك”. والكلاب في الحقيقة، ليست هي الأسماك، كما نعرف.

وبناء عليه يستنتج علماء المنطق الحديث، أنّ الاختبار قد يكون قادرًا على أن يؤكّد خطأ الفرضيّة، ولكنّه غير قادر على أن يؤكّد صحّة الفرضيّة.

إذًا؛ البرهان المنطقيّ الرياضيّ بخلاف التفكير القياسيّ. فهو لا يقتصر على عمليّات التضمين وحدها، بل يتعدّاها إلى مختلف علاقات الكمّ. ويمكننا أن نشبّه الرياضيّات بالقياس، على هذا النحو:

إذا كانت  أ = ب ( مقدّمة كبرى)

وإذا كانت ب = ج (مقدّمة صغرى)

إذًا أ = ج (نتيجة).

النتيجة في الرياضيّات، كما في القياس ضروريّة، وبرهانيّة، أي إنّها مماثلة للمقدّمات. وهنا يمكن القول إنّ البرهان الرياضيّ يقوم على ردّ المجهول الحاضر إلى معلوم مسبق. إذ إنّنا نبرهن في الرياضيّات قضيّة مجهولة بردّها إلى قضيّة معلومة. وهي تنطلق من البديهيّات، أو المسلّمات، وقد حسبها الأقدمون حقائق عامّة، ومطلقة، وأبديّة، وأزليّة. أمّا علماء الرياضيّات المحدثين فقد اكتشفوا أنظمة هندسيّة جديدة، لا تنطلق من مسلّمات أقليدس، بل هي بخلاف ذلك.

الرياضيّات هي علوم فرضيّة – استنباطيّة، أي إنّها تنطلق من مسلّمة هي مجرّد فرضيّة. وهي ليست حقيقة مطلقة. وتكون النتيجة صحيحة إذا كانت مستنبطة بشكل صحيح من هذه المسلّمة الفرضيّة. فإذا غيّرنا الفرضيّة فإنّنا نكون ملزمين بتغيير النتيجة.

يصف كارل بوبر المنهج الرياضيّ، بقوله “يضع العالم سواء أكان نظريًّا أم تجريبيًّا قضايا، أو أنساقًا من القضايا، ثمّ يختبرها تدريجيًّا في ميدان العلوم الإمبريقيّة، وبصفة خاصّة يكون فروضًا، أو أنساقًا من نظريّات، ويجري عليها اختبارًا في مواجهة الخبرة عن طريق الملاحظة والتجربة”(45).

وينتقد هنري بوانكاريه المذهب الواقعيّ وخصوصًا ادّعاءه للنظريّات العلميّة بأنّ لها قيمة مطلقة. فهو يرى بخلاف ذلك، حيث إنّ هناك دائمًا إمكانيّة التغيّر “ويوجد أحيانًا كثيرة ضرب من عدم المطابقة قد يسمح بتصوّر تفسير آخر، فالنظريّة العلميّة قائمة دائمًا على قدر من الفرض، وما النظريّات التي يقال إنّها حقيقيّة، إلاّ أنفع النظريّات أي التي تبسّط للعالم عمله وتعطيه أجمل صورة من الكون”(46).

لقد اكتشف الرياضيّ الفرنسيّ هنري بوانكاريه، كذلك، أنّ في التفكير الرياضيّ نوعًا من الاستقراء، سمّاه: “التفكير بالشمول”، لأنّه يقوم على تعميم نتيجة برهان خاصّ، وجعله يشمل كلّ الحالات المشابهة من غير أن يكون قد برهن على  هذه الحالات كلّها، بل على بعضها فقط. وهذه طريقة استقرائيّة لا استنتاجيّة، لأنّها تنطلق من الخاصّ إلى العامّ. وهي شبيهة بالطّريقة التي يستخدمها الفيزيائيّ الذي يستخلص من مراقبة عدد من الحوادث قانونًا عامًّا عن الطّبيعة.

يرى بوانكاريه أنّ هذه العمليّات المتلاحقة تتمّ “بشلاّل من القياسات” المتلاحقة. والقياس كما هو معروف، هو استنتاج لاستقراء.

وعلى الرغم من التّسليم بأهمّيّة المنهج العلميّ، فهناك العديد من المفكّريّن، يرون أنّ ما من اكتشاف ولد كاملاً، بل إنّه وُجد على دفعات، وربّما لم يُعترف به إلاّ بعد موت صاحبه. كما أنّ العديد من الاكتشافات قد حصلت خارج المختبر، أو بطريقة تشبه الصدفة، وليس بإمكان المكتشف أن يقدّم تفسيرًا منطقيًّا لما حصل. ويرى وذرل عالم الصيدلة في جامعة لندن، أنّ هناك شكلًا من التنظيم يقف خلف ما ينجز، والبحث الأكثر أهمّيّة هو في الغالب غير منهجيّ. وكذلك يرى سير بيتر مدور أنّه يجب الكفّ عن حسبان المنهجيّة أمر يهدف إلى توجيه العلماء، بل إنّه يوجّه غير العلماء نحو المنهجيّة والتّنظيم. كما يحسب أنّ العالم أثناء الاكتشاف هو أكثر تعقيدًا من أن يتّبع منهجًا معيّنًا. أمّا آينشتين فيرى أنّه من الأفضل ألاّ نستمع إلى أقوال العلماء، بل نركز على أعمالهم.

ج- منهج العلوم الإنسانيّة

في العلوم الإنسانيّة من غير الممكن إجراء تجارب، أو إعادة مشاهدة، أو مراقبة كما نراقب موضوعات الكيمياء، أو الفيزياء، أو البيولوجيا. موضوعات العلوم الإنسانيّة قد لا تكون ظواهر مادّيّة محسوسة.

لقد حاول علماء الاجتماع أمثال: أوغيست كونت، وإميل دوركايم، اعتماد المنهج العلميّ في الدّراسات الاجتماعيّة والإنسانيّة على أساس أنّ الظاهرة الاجتماعيّة مستقلّة عن الأفراد، وهناك إمكانيّة لدراستها بالمنهج نفسه الذي بموجبه ندرس الظاهرة الطبيعيّة.

يرى أوغيست كونت امتناع الحصول على معارف مطلقة. ويهتمّ باكتشاف طبيعة العلاقات القائمة بين الظواهر الاجتماعيّة، وذلك باستخدامه للمنهج العلميّ القائم على الملاحظة والاستقراء. “فكلّما أمكن معالجة مسألة بالملاحظة، والاختبار انتقلت هذه المسألة من الفلسفة إلى العلم، واعتبر حلّها نهائيًّا”(47).

فالفلسفة الواقعيّة، برأي كونت هي تلك القوانين المكتسبة بالتجربة. وهي التي تعتمد المنهج الواقعيّ الذي يحقّق الوحدة في عقل الفرد وعقول الأفراد. ويصبح شعار العلم الواقعيّ “العلم لأجل التوقّع وبقصد التدبير”.

أمّا إميل دوركايم فقد عمل على “استكشاف القوانين التي تربط ظواهر اجتماعيّة معيّنة بظواهر أخرى معيّنة، كما يرتبط الانتحار مثلاً، أو تقسيم العمل بازدياد عدد السكان، وذلك باستخدام المناهج المألوفة في العلوم الطبيعيّة التي ترجع إلى الملاحظة، والاستقراء مع ما يقتضيه علم الاجتماع من تعديل طفيف يضيف إلى ملاحظة الحاضر ملاحظة الماضي، أو التاريخ المقارن، ويجعل الاستقراء إحصاء، إذ إنّ المذهب الواقعيّ لا يعترف بوسيلة أخرى لدراسة الإنسان”(48).

تتباين المواقف من العلوم الإنسانيّة، فهناك من يعطيها قيمة إنسانيّة، وهناك من يعطيها قيمة نفعيّة برغماتيّة، بالإضافة إلىىمياء هنالك من إشباع حبّ الاستطلاع، والرغبة في المعرفة. “وهذا ما جعل كوبى يتّفق مع أينشتاين في تأكيده على أنّ العلم غاية في ذاته، ومن ثَمَّ فهو معرفة نظريّة”(49).

وكذلك فالمراقبة قد لا تكون حيادية، والمفكّر الذي يحلل وينتقد، فهو ينطلق في ذلك من معطيات ثقافيّة مسبقة لديه. والباحث في الوثائق التاريخيّة، قد يسقط أراءه وميوله فيها. والفرضيّة المقترحة قد تكون غير حيادية.

تُعتمد في العلوم الإنسانيّة المراقبة غير المباشرة، كدراسة الآثار والوثائق، ولكن يجب إخضاعها للنقد، الذي ينقسم إلى قسمين: النقد الخارجيّ، والنقد الداخليّ. أمّا النقد الخارجيّ: فهو يدرس مادّة الوثائق، كنوع الورق، والحبر المستخدم. أمّا النقد الداخليّ: فهو يدرس المضمون، ومدى تناسق الأفكار والوقائع، ومدى توافقها مع قوانين المنطق يدرس النصّ والمضمون، ويخضعه للمقارنة مع وثائق أخرى.

وبدلاً من إجراء اختبارات تجرى دراسات مقارنة، كما فعل المؤرّخ بلوخ، عندما قارن ما بين الأنظمة الإقطاعيّة، والأنظمة الاجتماعيّة، والاقتصاديّة في فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، وايطاليا، واليابان، فاستخلص قانونًا يؤكّد على أنّ النظام الزراعيّ هو قاعدة النظام الإقطاعيّ.

وتتعدّد مناهج العلوم الإنسانيّة، وذلك تبعًا لتباين الموضوعات والميادين، وتبعًا لتباين المدارس والاتّجاهات. فهناك المنهج الموضوعيّ، والمنهج التاريخيّ، والمنهج الديالكتيكيّ والمنهج المقارن، وغيره .

يرى فيبر أنّ المنهج الجبريّ الذي يعتمد الأرقام والإحصاءات، كغيره من المناهج “ليس باستطاعته كشف الحقيقة، إذ هو وجهة نظر. وكما نرى، ففكرة استحالة المعرفة يطرحها فيبر من جديد، إذ لا وجود لمنهج علميّ، فكلّ المناهج عبارة عن وجهات نظر”(50).

وهناك من المفكريّن من يرى أنّ العالم حين يعمل في مختبره لا يعتمد منهجًا معيّنًا. ويرى ألان ألاّ حجّة، أو برهان يقنعه بالفكرة الغامضة التي لا يمكنه أن يفهمها. بل هو يرى أنّ البرهان قرين الجهل.

(51 )“la prevue est la campagne de l,ignorance“

تتعامل العلوم الإنسانيّة مع كائن حيّ فعّال ومنفعل، وبناءعلى ذلك تكون الاستجابة. وما دام موضوع الدراسة هو الإنسان، فإنّنا نتوقّع اختلاف الاستجابة من فرد لآخر. إذًا فمن غير الممكن وضع قوانين علميّة واحدة، تنطبق على كلّ الأفراد. قد تختلف الظروف وتتعدّد الموضوعات، والأهداف. فمثلاً: التفاعل بين الأفراد في وقت الحرب، قد يختلف عنه وقت السلم. وقد تختلف ثقافة الفرد من المجتمع الرأسماليّ إلى المجتمع الاشتراكيّ. وقد يختلف سلوك المثقّف عن سلوك الجاهل والأمّيّ.

3- إشكاليّات المعرفة العلميّة

تباينت آراء فلاسفة العصر الحديث حول المعرفة العلميّة؛ هل هي المعرفة المنطقيّة، أو المعرفة التجريبيّة، أو المعرفة النقديّة، أو المعرفة الرياضيّة. وتعدّدت المذاهب بتعدّد المناهج.

أمّا عند أوغيست كونت، فهو ينظر إلى العلوم نظرة موحّدة ومنسّقة. كما أنّه يرى أنّ فلسفة العلوم تهدف إلى تحديد قوانينها، والكشف عن مناهجها، ومعرفة الغايات التي تهدف لتحقيقها.

هذه الفلسفة ترى أنّ الفكر البشريّ، غير قادر على معرفة جوهر الأشياء على حقيقتها، بل إنّه يقتصر على وصف ما يشاهده مشاهدة عينيّة محسوسة للأوصاف الخارجيّة فقط . كما أنّ هدف تلك الفلسفة هو الكشف عن المعرفة الثابتة والصحيحة، من خلال ربط ما بين تلك الظواهر من علاقات متبادلة وثابتة.

هكذا أكّد علماء الطبيعة على أنّ معيار المعرفة العلميّة، هو مدى تطابقها مع الواقع الخارجيّ لتلك الظواهر التي نشاهدها. أمّا هذا النمط من التفكير فتواجهه إشكاليّة، كشف عنها هيوم، عندما تساءل عن الضمان الذي نمتلكه حتّى “نتوقّع أنّ المستقبل سوف يكون على غرار الحاضر والماضي؟”(52).

أمّا المعرفة المنطقيّة والرياضيّة فمعيار علميّتها، يتمثّل بتناسقها المنطقيّ، وعدم تناقضها. ومعيار صدقيّتها يعود إلى نسقها الداخليّ. وهو يتباين عن معيار المعرفة الطبيعيّة.

أمّا المعارف الإنسانيّة، فالحكم فيها يعود إلى معايير ذاتيّة. ولذلك فدرجة الموضوعيّة في العلوم الإنسانيّة هي أقلّ ممّا هي عليه في العلوم الطبيعيّة. يؤدي البحث في العلوم الإنسانيّة ذاته دورًا محوريًّا فهي التي تحدّد التساؤلات. فمادّة العلوم الإنسانيّة، منفعلة حيّة وفاعلة.

ويؤكّد بعض العلماء المعاصرين على تدخّل الذات في إقامة المعرفة العلميّة. فمثلاً بالنسبة إلى معرفتنا حول الذرّة، فحين تدور الإلكترونات حول النواة فهي “لا تقبل الإدراك الحسّيّ المباشر، لكن يمكننا الاستدلال على وجودها حين نثير الإلكترون إثارة إراديّة، مثل إخضاع الذرة لطاقة حراريّة من خارج، أو قذفها بإلكترونات تتحرّك بسرعة هائلة، وفي تلك الحالات تمتصّ الذرّة هذه الطاقة فتزيد طاقتها، فيتّسع مدار الإلكترونات حول النواة، ويبدو لنا ذلك في صورة انطلاق موجة ضوئيّة، أو إشعاع يمكننا مشاهدته وقياسه”(53). وانطلاقًا من هذه المعطيات يعدّ بعض العلماء أنّه “لا سبيل لنا إذًا إلى إقامة معرفة موضوعيّة عن الذرّات، وإنّما معرفة ناقصة، أو كاملة عمّا يبدو لنا من الذرّات حين نلاحظها ونثيرها”(54).

ويقول أدنجتون في هذا الصدد إنّ الحديث عن جزيئات الذرة هو “حديث عن رموز إلى شيء مجهول، أو مظاهر كمّيّة مجرّدة، أو واقع نجهله ولا نعلم عنه شيئًا”(55).

وقد يذهب البعض الآخر إلى أنّ المعرفة العلميّة هي تركيب عقليّ لا مطابقة للواقع. فهم يؤكّدون على تدخّل العقل في صياغة المعرفة العلميّة. وتؤيّد هذا الرأي كلّ من نظريّة كانط، ونظريّة المعطيات الحسّيّة.

أمّا نظريّة كانط فهي تقوم على الانطباعات الحسّيّة، وعلى عنصر التصوّرات القبليّة غير التّجريبيّة وهي جزء من طبيعة العقل. ودور العقل يظهر في كونه ليس مجرّد مستقبل لما هو موجود في الواقع “وإنّما يقوم بدور في تأليف إدراكنا، أو معرفتنا، فيخرج إدراكنا لأيّ شيء تركيبًا عقليّا من عنصري الانطباعات التّجريبيّة، والتصوّرات العقليّة. ويصبح الشيء المدرك هو الشيء كما يبدو لنا، لا كما هو في حقيقته، وحقيقته مجهولة لنا”(56).

أمّا نظريّة المعطيات الحسّيّة، فهي ترى “أنّنا لا ندرك شيئًا ما إلاّ عن طريق إدراك صفاته الحسّيّة، ونصل إلى هذه الصفات بطريق الحواسّ. ندرك هذه الصفات إدراكًا مباشرًا، ويقول: إنّ الشيء المدرك ليس إلاّ مجموعة هذه الصفات، أو نقول: إنّ وجود الشيء تأليف عقليّ من تلك الصفات، ويرفض بعض أصحاب نظريّة المعطيات الحسّيّة ما سمّاه كانط التصوّرات القبليّة، بينما يقبل البعض الآخر تلك التصوّرات في صورة متطوّرة”( 57).

وهناك من العلماء من يرى أنّ المعرفة العلميّة هي مجرّد صياغات رياضيّة، وتصوّرات عقليّة. وتأتي موضوعيّة المعرفة العلميّة من جهتين: “صياغة رياضيّة محكمة لما نصف، واستخدام تصوّرات عامّة يقبلها كلّ العلماء. واللغة الرياضيّة نموذج اليقين، كما أنّ كانط لقّنهم درسًا مُهِمَّا هو أنّ الانطباعات الحسّيّة طابعها ذاتيّ، لكن إذا صغنا هذه الانطباعات في تصوّرات عامّة اكتسبت هذه الانطباعات يقينًا، وموضوعيّة”(58).

هكذا تتباين المواقف، وتتعدّد الإشكاليّات. وتتباين الإجابة والحلول بحسب الاتّجاهات الفلسفيّة. وهي متعدّدة منها: العقليّ، والواقعيّ الموضوعيّ، والحدسيّ، والظواهريّ، وغيرها من المذاهب الفلسفيّة.

أمّا العلوم الطبيعيّة، فيقتصر دور الإنسان فيها على الملاحظة فقط. فهو يكتشف تلك العلاقات القائمة بين الظواهر الطبيعيّة. فمن خلال تلك المراقبة المتكرّرة يكتشف الإنسان ذلك الترابط القائم على قانون السببيّة. كما أنّه يستفيد من تلك المعلومات فيستخدمها كمخزون ثقافيّ لديه، لأجل اكتشاف خصائص الأشياء، أو طبيعة الموادّ. ويصبح بمقدور العالم الطبيعيّ، أن يجري التّجارب، ويمزج الموادّ في ما بينها، بهدف إيجاد موادّ جديدة مصنّعة لم تكن موجودة سابقًا.

أمّا عن طبيعة المعرفة العلميّة في العلوم الطبيعيّة من حيث إنّها طبيعيّة أم عقليّة فهي معرفة طبيعيّة، لأنّ العقل يقتصر دوره على المراقبة العلميّة فقط، وذلك بهدف اكتشاف تلك العلاقات المترابطة بين الظواهر الطبيعيّة أو المادّيّة. والعالم قد يستخدم كلّ قدراته العقليّه، وكلّ معلوماته التي يختزنها في سبيل تحقيق المعرفة الصحيحة. وهو إمّا يصيب أو يخطئ.

وهو عندما يصيب تلك المعرفة، فهو ليس بالضرورة أن يصيبها بأكملها، بل إنّه يتمكّن من الحصول على جزء معيّن من تلك المعارف المطلوبة، وذلك بحسب قدراته العقليّة وخبراته. وهذا يعني أنّ المعرفة المتحققة، هي في جزء منها صحيحة وواقعيّة. والظواهر الطبيعيّة والمادّيّة هي ظواهر لها وجودها المادّيّ والمحسوس، خارجًا عن ذات المراقب. وهذه الظواهر ترتبط في ما بينها، بعلاقات ثابتة لا تتغيّر، أو تتبدّل بتبدّل الأشخاص وتبدّل الإمّاكن. تلك الظواهر المادّيّة تبقى خصائصها ثابتة، يمكن صياغتها بمعادلات رياضيّة.  لذلك فاتّهام العقل بتدخّله بالمعرفة المادّيّة والطبيعيّة، وتحويرها من معرفة واقعيّة صحيحة إلى معرفة مثاليّة غريبة عن الواقع، لهو اتّهام باطل لا ينطبق على جوانب المعرفة الطبيعيّة كلّها.

أمّا عندما نؤكّد على صحّة العلوم الطبيعيّة، فهو يرتبط بصحّة ذلك الجزء المتوفّر من تلك المعرفة. وقد تباينت الآراء في ذلك، فذهب بعض العلماء ليعدّوها احتماليّة. إذ يبقى هناك غموض في جوانب أخرى. فهي ليست معرفة كافية كاملة حتميّة في جوانبها كلّها.

أمّا العلوم الرياضيّة، فهي تقوم على مقدّمات نحسبها مسلّمات صحيحة. فإذ هي مجرّد فرضيّات يتصوّرها العقل البشريّ. وهي قد تكون صحيحة، وقد تكون غير ذلك. وإن صحّت قد تصحّ في ظروف معيّنة، ولا تصحّ في ظروف أخرى. ومعيار صدقها متمثّل في داخلها، من حيث تناسقها المنطقيّ الذي يربط المقدّمات بالنتائج، مثلها مثل القضايا المنطقيّة.

أمّا العلوم الإنسانيّة، فهي في جزء منها يعود لتدخل العقل، والآراء، والمعتقدات والميول، وهي برأينا تتضمّن نوعين من المعارف: معارف ثابتة لا تتغيّر، ومعارف غير ثابتة تتبدّل بتبدّل الذات الإنسانيّة. هذه العلوم تصاغ الأجزاء الثابتة منها في قوانين علميّة ثابتة وعامّة. تنطبق على الأفراد والمجتمعات جميعها، وتعتمدها البشريّة في مسيرتها العلميّة، كما هو حاصل اليوم من تعدّد الاختصاصات. فهناك كلّيّات العلوم السياسيّة، وكلّيّات العلوم الاقتصاديّة، وكلّيّات العلوم الاجتماعيّة.

فالعلوم الاجتماعيّة في اعتمادها على الدراسات الإحصائيّة تبتعد عن الذاتيّة. وهي بذلك قد تكون مجرّدة عن الذاتيّة. والإحصاءات قد تنقل آراء الآخرين من دون أيّ تدخّل للباحث في تلك الآراء.

خاتمة البحث

بناء على كلّ ما تقدّم، نستنتج أنّ هناك معارف ثابتة وصحيحة، تتضمّنها العلوم الطبيعيّة، والعلوم الرياضيّة، والعلوم الإنسانيّة. فهي في العلوم الطبيعيّة تكون درجة صدقها أعلى ممّا هي عليه في العلوم الإنسانيّة. لذلك فمن الضروريّ التمسّك بتلك الأجزاء الثابتة لتلك المعارف، ومحاولة تطويرها، والبناء عليها في سبيل إكمال مسيرة التطوّر العلميّ.

أمّا بالنسبة إلى قول البعض عن تدخّل العقل في معطيات المعرفة الموضوعيّة، حيث معرفتنا للعالم الخارجيّ تستوجب تدخّل العقل، وأنّ بتدخّله لم نعد نحصل على صورة مطابقة للعالم الخارجيّ، وعدّه ذلك معرفة مثاليّة. هناك من يرى هذا القول تحصيل حاصل، لأنّ أيّ معرفة تتطلّب ذاتًا وموضوعًا. ذاتًا عارفة واعية بموضوع المعرفة، ولا معرفة من دون ذات. والعقل كما هو معروف مجرّد آلة تصوير تستقبل ما هو موجود في الخارج، ولكن للعقل فاعليّته ودوره في عمليّات التّفكير، والتّحليل، وتجميع المعلومات، ومقارنتها، والتحقّق منها. “إلى هذا الحدّ لا نسمّي هذا الموقف موقفًا مثاليًّا لأنّه يشترك في اتّخاذه القرار أيّ فيلسوف من أيّ اتّجاه”(59).

إنّ تدخّل العقل في توضيح المعطيات الحسّيّة، هو مفيد من حيث الشرح، والتوضيح، والتيقّن من المعلومة، وذلك بما يستخدمه العقل من مخزون معرفيّ، وتجربة مسبقة وقدرة على التحليل. فتدخّل العقل من هذه الزاوية، لهو تدخّل إيجابيّ، وواقعيّ، وضروريّ.

أمّا عن حسبان المعرفة العلميّة بأنّها معرفة احتماليّة أي إنّها غير مطلقة. فهذا الرأي يستند إلى أمور معيّنة، ويتجاهل أمورًا أخرى، فمثلاً في مشاهدتنا للظواهر المادّيّة نتمكّن من تحديد أشكالها، وألوأنّها، وأعدادها بشكل محدّد، وثابت، ومطلق. فهذه معرفة علميّة صحيحة تتطابق مع الواقع الخارجيّ، وليس هنالك خلاف حولها.

أمّا معطياتنا مثلاً عن طبيعة الذرّة وكيفيّة تركيبها، فعدم إحاطتنا بكلّ معطياتها وطبيعتها، فهو يعود إلى نقص في معلوماتنا عنها، من حيث تركيبها المادّيّ، ومن حيث الآلات المستخدمة في ذلك. نعم، يبقى هناك جزء من معارفنا غير ثابت، وغير يقينيّ وغير مطلق.

وجملة القول أنّه لا يجوز احتساب العلوم الطبيعيّة بكلّ معطياتها معارف احتماليّة. فإذا لم يكن لدينا قدرة على الإحاطة بكلّ أجزاء المعرفة، فهذا لا يعني احتساب كللّ المعرفة الطبيعيّة هي احتماليّة.

أمّا العلماء الذين يحسبون أنّ كلّ معطياتنا عن الواقع تخالف طبيعة الواقع، فهم بالتأكيد يتأثّرون بالمذاهب المثاليّة، وخصوصًا مثاليّة كانط. لذلك يمكن القول إنّ “ما نعرفه عن عالم المادّة معرفة دقيقة تصوّر جانبًا من وجودها، لكنّها لا تصوّر كلّ جوانب وجودها. نقول هنا إنّنا نعرف الحقيقة عن عالم المادّة، لكن ليست كلّ الحقيقة”(60).

يحلّل العلماء طبيعة المعرفة العلميّة، على أساس أنّ تلك المعرفة تبدأ بانطباعات حسّيّة، ثمّ يتدخّل العقل فيصبغ عليها تصوّراته الذّهنّيّة العامّة، وهذه التصوّرات مبتكرة، ومفيدة من أجل فهمنا للعالم، وهي مجرّد معان عقليّة كمعنى الجاذبيّة، والقوّة، والمجال وغير ذلك. والفرق القائم بين تصوّرنا للعالم، وطبيعته الحقيقيّة، قد يكون فيها بعض التباين. وهذا لا يعني أن تكون كلّ تصوّراتنا عن الواقع تتباين مع معطيات الواقع القائم، وذلك فنحن نرى الظواهر، ونحسّ ببعض جوانبها، كما يمكننا تلمُّس بعض أجزائها فهي ظواهر موجودة في الحقيقة، أمّا معطياتنا عنها فقد تكون ناقصة، وهذا لا يعني أنّ هناك تباينًا كلّيًّا بين معطياتنا وواقعها الفعليّ.

يمكننا القول “إنّ العالم ليس من صنعنا، وإنّما ما نعرفه عن العالم أحد جوانب العالم الحقيقيّ لا كلّ جوانبه”(61). وإنّ تطوّر العلوم وتقدّمها المتلاحق لهو أكبر دليل على أنّ هناك جوانب ثابتة من المعلومات، يبني عليها العلماء حتّى يتمكّنوا من إكمال المسيرة العلميّة. وترتفع درجات العلم، وتعلو بوساطة التعاون، وتراكم المعارف، والخبرات “ولا بدّ من أن تتكافل جهود العلماء في نطاق فريق. وهذا هو ما عبّر عنه نيوتن في قوله أنّه لم يستطع أن يرى أبعد من الآخرين إلا لأنّه استطاع أن يصعد على أكتاف سابقيه”(62).

يرى آينشتين أنّ العلم يسلك طريق فهم الرابطة واستيعابها بين الخبرات الحسّيّة في شمولها وكلّيّتها. فالعلم يتعلّق “في المرتبة الأولى من نسقه، بشمول المفهومات والعلاقات الأوليّة للمرتبة الأولى من حيث هي مفهومات وعلاقات مستمدّة من الخبرة. ولكن على أن تكون له وحدته المنطقيّة بما له من مفهومات من المرتبة الثانية التي لا تتّصل مباشرة بتعقيدات الخبرة الحسّيّة. وللسعي إلى الوحدة المنطقيّة يبرز نسق ثالث لا يزال يصقل حتّى نصل به إلى المرتبة، أو النسق الخالي من أيّ صلة بالخبرة الحسّيّة”(63).

ويحدّد باشلار حالات ثلاث للروح العلميّة وهي: “الحالة العينيّة المحسوسة”، والحالة “العينيّة – المجرّدة”، ثمّ “الحالة “المجرّدة”.

الحالة الأولى: يعنى العقل بالصور الأوّليّة للظواهر. أمّا الحالة الثانية: فيضيف العقل التصميم الهندسيّ. أمّا الحالة الثالثة: فتفسّر مادّة المعرفة بمعزل عن التّجربة، أو الخبرة المباشرة. صحيح أن هناك موضوعات قد لا يمكن للعقل البشريّ أن يدركها على حقيقتها، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّه يجوز تعميم ذلك على كلّ أجزاء المعرفة، فنقع في غموض مطبق، وتشوّش المفاهيم، وتضيع الحقائق. والحقيقة أنّه من واجب العالم أن يحدّد لكلّ موضوع معيّن معارف تخصّه. فمثلاً في المجال المادّيّ، والطبيعيّ نرى أنّ المعارف المكتسبة أكثر ثباتًا وأكثر صدقًا من العلوم الإنسانيّة. فلكلّ مجال من الموضوعات معارفه.

لقد ميّز برتراند رسل بين نوعين من المعرفة: المعرفة بالإدراك المباشر، والمعرفة بالوصف. موضوعات النّوع الأوّل هو المعطيات الحسّيّة، ومعطيات الذاكرة، وبديهيّات المنطق والرياضيّات. أمّا موضوعات النّوع الثاني، فهي الأشخاص والأشياء المادّيّة. “المعرفة بالإدراك المباشر معرفة حدسيّة لا يجوز فيها الخطأ، ولا تسبقها مقدّمات، بينما المعرفة بالوصف تسبقها مقدّمات، ويجوز فيها الخطأ”(64).

وهو يقسّم الفلاسفة إلى اتّجاهين من حيث رأيهم في المعرفة “فرقة هيجليّة ترى أنّ العالم يؤلّف كلاًّ واحدًا وأنّ الأشياء مترابطة بالذّات بحيث لا يدرك شيء في ذاته مستقلّاً عن غيره؛ وفرقة تقبل المعرفة كما تبدو في الوجدان، وتقول إنّ الأشياء مستقلّة، وإنّ العلاقات متخارجة بما فيها علاقة المعرفة بالمعروف، وإنّ هذه العلاقات لا تغيّر طبائع الأشياء، وإنّ موضوع المعرفة يمكن لذلك أن يكون لا ذهنيًّا إذ إنّ المعرفة حضور الشيء للحدس حضورًا مباشرًا”(65).

يرى باشلار أنّ على العالم أن يعمل على تحرير عقله من العقبات الإبستمولوجيّة وهي خمس: التجربة أو الملاحظة، فمن واجبنا أن نتفهّمها مبينين أنّ هناك انفصالاً بين الملاحظة والتجريب. أمّا العقبة الثانية فهي التعميم، حيث من واجب الفهم أن ينأى عن النّزعة التّجريبيّة المباشرة، ثمّ العقبة الثالثة وهي العقبة اللفظيّة أي تجنّب التّفسير الزائف. أمّا الرابعة فهي عقبة الفلسفة السّهلة التي تعتمد على تفسيرات فلسفيّة عن طريق الجوهر، وهو لا يحلّ إلاّ مشكلات لفظيّة زائفة. أمّا العقبة الخامسة “فهي عقبة إضفاء النزعة الحيويّة المشبّهة على العلوم الفيزيائيّة”(66).

وتبدو الفكرة العلميّة في رأي باشلار “كصعوبة قد قهرت، وعقبة قد ذلّلت. ولا بد إذًا من قيام نظرة معياريّة إذا ما أراد المرء أن يحكم على كفاءة فكرة معيّنة”(67).

والحقيقة كما نراها، هي أنّ العقل هو محور كلّ تفكير، وكلّ اكتشاف، وما دور المناهج إلا كدور الخبرة ليس إلاّ. والعلماء في أبحاثهم، وداخل مشاغلهم لا يفكّرون، ولا يتقيّدون بأيّ منهج، بل إنّ فكرهم المتحرّر هو وحده القادر على الإبداع والابتكار. وكلّما ترقّى العقل وازدادت خبراته، وتراكمت معارفه كلّما أصبح أنضج، وأقدر على الابتكار والاكتشاف.

أمّا إعطاء الأبحاث صفة العلميّة، فهي لاعتمادها منهجًا متّفقًا عليه بين المفكّرين، والباحثين على أنّه المنهج المعتمد والمقبول في كتابة الأبحاث. وهذا لا يعني أنّ نتائج تلك الأبحاث ستكون صادقة، ومتوافقة مع الواقع القائم.

نخلص إلى القول، إنّ لكلّ موضوع، ولكلّ نوع من الأبحاث طريقة تناسبه في الدراسة؛ ففي دراسة الظواهر الطبيعيّة مثلاً من الضروريّ اعتماد المنهج العلميّ والتّجريبيّ، وذلك لأنّ الظواهر الطبيعيّة تبقى بالنسبة إلينا ثابتة، ولا دخل للإنسان في إيجادها أو تغييرها، بل يقتصر دوره على اكتشاف تلك الروابط القائمة في ما بينها عن طريق المشاهدة، والملاحظة المتعمّقة.

أمّا في دراسة الظواهر الإنسانيّة، فهناك حاجة إلى التّحليل، والنقد، والتفكير المنطقيّ على ضوء معطيات العلم المعاصر. والعلوم الإنسانيّة في جزء منها اصطلاحيّة. والمعارف التي تحقّق للمجتمع فائدة وخيرًا، يعدّها مفيدة وصحيحة. فقواعد اللغات هي اصطلاحيّة، حيث علماء النحو والصرف يتّفقون على أمور محدّدة، وتدرج بالتالي تحت خانة العلوم اللغويّة. ففي دراسة تاريخ العلوم على سبيل المثال من الأفضل اعتماد المنهجيّة “التي تقول بأنّ هناك علاقة جدليّة بين العلم، وبين العوامل الاجتماعيّة التي تسمح له بالظهور. فالعوامل الاجتماعيّة هي التي تدعم نشوء العلم، وأنّ العلم بحدّ ذاته يخلق مُناخًا اجتماعيّا معيّنًا يتجلّى بمعطيات تغيّر بدورها العلاقات الاجتماعيّة التي تسمح بحصول هذا دون ذاك”(68).

المعارف العلميّة تتميّز بالدرجة الأولى بمدى صدقيّتها وصحّتها، أي بمدى ما يحسبه العلماء المعاصرون، من صدقيّة وموضوعيّة تنسجم مع ما هو واقع قائم. والمعارف العلميّة مطلوبة من حيث مشاركتها في مسيرة التطوّر العلميّ، ومن حيث خصائصها المنطقيّة التي تشتمل عليها.

الفلسفة العلميّة تبتعد عن النزعات التّأمليّة والتاريخيّة فهي تعمل على “الوصول عن طريق التحليل المنطقيّ إلى نتائج تبلغ من الدقّة، والإحكام، والوثوق، ما تبلغه نتائج العلم في عصرنا هذا. وهي تؤكّد أنّ من الضروريّ إثارة مشكلة الحقيقة في الفلسفة بالمعنى نفسه الذي تثار به في العلوم، وهي لا تزعم أنّها تملك حقيقة مطلقة إذ إنّها تنكر أن تكون للمعرفة التّجريبيّة حقيقة من هذا النوع”(69).

هكذا تتعدّد وتتنوّع معايير العلميّة، وذلك بتنوّع الميادين، وتنوّع المفاهيم. فمثلاً العلوم الدّينيّة تختلف من مجتمع إلى آخر. وكذلك المفاهيم الفلسفيّة، فهي تتباين من فرد لآخر، ما عدا علوم المنطق حيث تجمع البشريّة على صحّة تلك القوانين.

أمّا العلوم الاجتماعيّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة، فهي في جانب منها تتعلّق بظواهر اجتماعيّة قائمة، وليس بإمكان الفرد أن يغيّر بطبيعتها فهي علميّة بهذا الجانب إذ إن علميّتها تتبين من خلال مطابقتها لتلك الظواهر القائمة.

هكذا نكون قد ساهمنا في معالجة هذه الإشكاليّات، ونحن لا ندّعي أنّنا توصّلنا إلى أجوبة نهائيّة وكاملة، لكلّ تلك التساؤلات، إنّما حاولنا تسليط الضوء على هذه المسائل، بهدف توجيه أنظار الباحثين حول المعرفة العلميّة، وأهمّيّة البناء عليها، في سبيل تقدم علومنا وتطوّرها.

الحواشي

1- زيدان، محمود. نظريّة المعرفة، دار النهضة العربيّة، ط1، بيروت 1989، ص 12.

2- كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة اليونانيّة، مراجعة هلا أمّون، دار القلم، ص 155.

3- المصدر نفسه، ص139.

4- محمّد، ماهر عبد القادر. فلسفة العلوم، دار النهضة العربيّة، ج2، ط1، بيروت 1979، ص 32.

5- كرم، يوسف. تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط6، القاهرة 1979، ص 52.

6- الجابريّ، محمّد عابد. المنهاج التجريبيّ وتطوّر الفكر العلميّ، ج2، دار الطليعة، بيروت 1982، ص82.

7 – قنصوة، صلاح، فلسفة العلم، دار التنوير للطباعة والنشر، ط2، بيروت 1983، ص47.

8- المصدر نفسه، ص 48.

9 – المصدر نفسه، ص 48.

alain, charpentier , elements de philosophie, paul Hartman , paris 1941 , p 11-10

  • 11- ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلميّة، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1979، ص264
  • 12- المصدر نفسه، ص 268

eddington , the nature of the physical world , Collins , London 1928 , p 230.13-

14- زيدان، محمود فهمي، من نظريّات العلم المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت 1982، ص 87

15- المصدر نفسه، ص 83.

16- الجابريّ، محمد عابد، المنهاج التجريبي وتطوّر الفكر العلميّ، مصدر سابق، ص 51.

17- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانية، مرجع مذكور سابقا، ص 36

ا18- المصدر نفسه، ص 139

19- ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلميّة، مرجع مذكور سابقا ، ص 77.

20- قنصوة، صلاح، فلسفة العلم، مصدر سابق، ص 106.

21- المصدر نفسه، ص 112.

22- المصدر نفسه، ص 129.

23- المصدر نفسه، ص 129.

24- المصدر نفسه، ص 54.

25- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، ص 48.

26- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط، مراجعة هلا امون، دار القلم،  ص127.

27 – المصدر نفسه، ص 127.

28- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، مرجع مذكور سابقا، ص 50.

29- المصدر نفسه، ص 318.

30- المصدر نفسه، ص 320.

31 المصدر نفسه، ص 320

32- محمد، ماهر عبد القادر، فلسفة العلوم، مصدر سابق، ص 98.

33- المصدر نفسه، ص 98.

34 – المصدر نفسه، ص 98.

– condillac , Etienne , bonot , de l,art de penser , amesterdam, leibzig 1742 , p 650.35-

– condillac ,Etienne, bonot, essai sur, l,origine des connaissances humaines, edition ,galilee1973 , p1336-.

37- عباس، راوية عبد المنعم، المذهب الحسي عند كوندياك، دار النهضة العربية، بيروت 1996، ص 84.

  • 38- ديكارت، رينه، مقالة الطريقة، ترجمة جميل صليبا، اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع، ط2، بيروت 1970، ص21

39- محمد علي، ماهر عبد القادر، فلسفة العلوم، ج2، مرجع مذكور سابقا، ص 33.

40- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، مرجع مذكور سابقا، ص 49.

41 المصدر نفسه، ص 49.

42- المصدر نفسه ص 52.

43- المصدر نفسه، ص 317.

  • 44- فاخوري، عادل، المنطق الرياضيّ، دار العلم للملايين، ط2، بيروت 1979، ص 84

45- بوبر، كارل، منطق الكشف العلميّ، ترجمة وتقديم ماهر عبد القادر محمد، دار النهضة العربية، بيروت 1986، ص 63.

46- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، مرجع مذكور سابقا، ص 437.

47- المصدر نفسه ص 319.

  • 48- المصدر نفسه ص 432.

49- محمّد، ماهر عبد القادر، فلسفة العلوم، مرجع مذكور سابقًا، ص 36.

50- سالم، علي، منهجيات في علم الاجتماع المعاصر، دار الحمراء، بيروت 1992، ص 107.

– alain , charpentier , vigles de l,esprit , paris gallimard 1942 , p 80. 51-

52- محمّد، ماهر عبد القادر، فلسفة العلوم، مرجع مذكور سابقًا، ص 101.

53- زيدان، محمود، من نظريّات العلم المعاصر، مرجع مذكور سابقًا، ص 84.

54- المصدر نفسه، ص 86.

-55 – eddington , sir arther the nature of the physical world, comet books ,Collins ,London 1928 ,pp 252

56- زيدان، محمود، من نظريّات العلم المعاصر، مرجع مذكور سابقًا، ص 87.

57- المصدر نفسه، ص 87.

58- المصدر نفسه، ص 90.

59- المصدر نفسه، ص 97.

60- المصدر نفسه، ص 98.

61- المصدر نفسه، ص 100.

62- قنصوة، صلاح، فلسفة العلم، مرجع مذكور سابقًا، ص 58.

63- المصدر نفسه، ص 56.

64- – زيدان، محمود، نظريّة المعرفة، مرجع مذكور سابقًا، ص 12.

65- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، مرجع مذكور سابقًا، ص 431.

66- قنصوة، صلاح، فلسفة العلم، مرجع مذكور سابقًا، ص 62.

67- المصدر نفسه، ص 63.

68-  صليبا، جورج، الفكر العلميّ العربيّ، مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة، بيروت 1998، ص 20.

69- ريشنباخ، هانز. نشأة الفلسفة العلميّة، مرجع مذكور سابقًا، ص 282.

فهرس المصادر والمراجع العربيّة

1- بوبر، كارل، منطق الكشف العلميّ، ترجمة وتقديم ماهر عبد القادر محمّد، دار النهضة العربيّة، بيروت 1986.

2- الجابريّ، محمّد عابد، المنهاج التجريبيّ وتطوّر الفكر العلميّ، ج2، دار الطليعة، بيروت 1982.

3- ديكارت، رينه، مقالة الطريقة، ترجمة جميل صليبا، ط2، بيروت 1970.

4- ريشنباخ، هانز، نشأة الفلسفة العلميّة، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، ط2، 1979.

5- زيدان، محمود فهمي، من نظريّات العلم المعاصر، دار النهضة العربيّة، بيروت 1982.

6- سالم، عليّ، منهجيّات في علم الاجتماع المعاصر، دار الحمراء، بيروت 1992.

7- صليبا، جورج، الفكر العلميّ العربيّ، مركز الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة، بيروت 1998.

8- عبّاس، راوية عبد المنعم، المذهب الحسّيّ عند كوندياك، دار النهضة العربيّة، بيروت 1996.

9- فاخوري، عادل، المنطق الرياضيّ، دار العلم للملايين، ط2، بيروت 1979.

10- قنصوة، صلاح، فلسفة العلم، دار التنوير للطباعة والنشر، ط2، بيروت 1983.

11- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة اليونانيّة، مراجعة هلا أمون، دار القلم.

12- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف، ط6، القاهرة 1979.

13- كرم، يوسف، تاريخ الفلسفة الأوروبيّة في العصر الوسيط، مراجعة هلا أمون، دار القلم.

14- محمّد، ماهر عبد القادر، فلسفة العلوم، دار النهضة العربيّة، ج2، ط 1، بيروت 1979.

المراجع الأجنبيّة

  • Alain, charpentier: vigles de l,esprit, paris gallimard 1942.

2- Alain, charpentier, elements de philosophie ,paul Hartman, paris 1941.

3- Eddington, sir arther, the nature of the physical world, comet books, Collins, London 1928.

4- Condillac, Etienne, bonot, de l, art de penser, amesterdam, leibzig 1742.

5- Condillac, Etienne, bonot, essai sur, l, origine des connaissances humaines, edition, galilee 1973.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website