foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

إشكاليَّةُ الجمالِ الأنثويِّ المفقودِ في الشِّعرِ العربيِّ قديمًا

0

إشكاليَّةُ الجمالِ الأنثويِّ المفقودِ في الشِّعرِ العربيِّ قديمًا

د. جورج إبراهيم حدَّاد([1])

د. عمر رياض قزيحه([2])

ملخَّص الدِّراسة

ما تزالُ الأنثى رمزًا جماليًّا، بأشكالِهَا وألوانِهَا، وحُسْنِ تناسقِ ملامحِهَا، وكلِّ مكوِّناتِ جسدِهَا، هذا منظرٌ فريدٌ لفتَ انْتِبَاهَ الرِّجالِ قديمًا، فَعبَّرُوا عنْهُ في أشعارِهِم، بل إنَّ بناءَ القصيدةِ الجاهليَّةِ اقتضى الوقوفَ على الأطلالِ لِذكرِ المحبوبةِ الغائبةِ، والتَّعبيرِ عنْ ألمِهِم لغيابِهَا، واستمرَّ هذا التَّقليدُ مدَّةً منَ الزَّمانِ إلى عصورٍ لاحقةٍ، وربَّما لولا الحبُّ ما نشأَ تقليدُ الوقوفِ على الأطلالِ.

وفي تلكَ الأشعارِ نوَّعَ الشُّعراءُ في أسلوبِ الغزلِ بينَ الاكتفاءِ بالوصفِ المخفَّفِ، كَأنْ يتناولُوا فقط ذكرَ بعضِ ملامحِ ناظرَيْهَا أو حركةِ جسدِهَا أو كيفَ تمشي تسحبُ أذيالَ ثوبِهَا، وبينَ الوصفِ المعمَّقِ الذي يكادُ في بعضِ الأحيانِ يتخطَّى كلَّ الحدودِ، ونلمسُ ذلكَ في المعاني المعمَّقةِ في حبِّ النِّساءِ، في شعرِ امرئِ القيسِ، وتحديدًا في معلَّقتِهِ الشَّهيرةِ.

كذلك، أبدعَ أبو نواس في تقديمِ مغامراتِهِ الغزليَّةِ، وكانَ فنَّانًا في ذلكَ ما بينَ التَّصريحِ والإشاراتِ الخفيَّةِ، وقد تضمَّنَتْ أبياتُهُ الكثيرَ منَ المعاني التَّجديديَّةِ في الغزلِ، ما أعطَاهُ صدارةَ التّجديدِ في الشِّعر الغزليِّ، في رقَّةِ المعاني، وتجدِّدِ المضامينِ، وتجاوزِ بعضِ الحدودِ التي وقفَ عندَهَا الشُّعراءُ قَبْلَهُ، فَكَانَتْ بعضُ قصائدِهِ جديرةً بالدِّراسةِ والنَّقدِ والتَّحليلِ المعمَّقِ، ومحاولةِ قراءةِ ما بينَ المعاني وخلفَ السُّطورِ.

ولأبي فراسٍ الحمدانيِّ بعضُ الغزلِ الذي جاءَ بملامحَ مِنْ يائسٍ فقدَ الأملَ، إذ ذاقَ منَ الأسرِ مرارتَهُ، بعدَ أنْ كانَ أميرًا لَهُ كلمتُهُ المسموعةُ، وبِهِ النِّساءُ معجبةٌ، تتمنَّى كلُّ أنثى أن يُعجَبَ بِهَا، فَكانَ تجديدَهُ الغزلَ في جعلِهِ معاني المحبَّةِ التي يُكِنُّها في قلبِهِ مخفيَّةً مستترةً، يُخرجُ لَنَا بعضَ أطرافَهَا محمَّلةً بمعاني العنفوانِ والغضبِ، والكرامةِ والعزَّةِ، وتشوُّقِهِ إلى العودةِ إلى عالمِ الحرِّيَّةِ والإعجاب بالنِّساءِ إعجابًا متبادلًا.

وسعى بحثُنَا هنا إلى محاولةِ التَّعمُّقِ في خفايا المضامينِ، والنَّظرِ في خبايا الكلماتِ والحروفِ، بهدفِ تقديمِ جديدٍ في عالمِ تحليلِ الشِّعرِ العربيِّ القديمِ، وفقَ نظرةٍ اجتهاديَّةٍ منَّا ربَّما جاءَتْ منطقيَّةً، وقمْنَا بربطِ بعضِ تلكَ المعاني بعلمِ نفسِ الإنسانِ، المستمرِّ عبرَ الزَّمانِ على الرّغمِ من اختلافِ المكانِ، ورصدْنَا في ذلكَ النَّظرةَ الدِّينيَّةَ، لِنرى في هاتَينِ الحالتَينِ: هلْ تورياتُ شعرائِنَا لها مسوِّغاتهُا فعليًّا أو هيَ مبالغةٌ منْهُم؟ ولعلَّنا في ذلكَ نَكونُ قَدْ قدَّمْنَا بالفعلِ دراسةً جديدةً، قدْ تصلحُ للباحثِينَ من بعدِنَا مصدرًا رئيسًا، أو على الأقلِّ مرجعًا.

الكلمات – المفاتيح: الجمال الأنثويُّ – المفقود – الأنثى – قيمة جماليَّة – مظاهر حسنها – الغزل – المعاني الأخرى – أسلوب التَّلميح – الإشكاليَّة المفقودة.

La problématique de la beauté féminine manquante dans la poésie arabe ancienne

Résumé de l’étude 

La femme est toujours un symbole esthétique, avec ses formes et ses couleurs, et la bonne cohérence de ses traits, et de toutes les composantes de son corps. C’est un spectacle unique qui a attiré l’attention des hommes dans le passé, alors ils l’ont exprimé dans En effet, la construction du poème préislamique nécessitait de se tenir debout sur les ruines pour mentionner la bien-aimée absente et exprimer leur douleur pour son absence, et cette tradition continue a duré un certain temps jusqu’aux âges ultérieurs, et peut-être sans amour, la tradition de se tenir sur des ruines n’aurait pas surgi.

Dans ces poèmes, les poètes variaient dans le style de rotation entre se contenter de la description plus légère, comme s’ils ne mentionnaient que certaines des caractéristiques de ses yeux, le mouvement de son corps ou la façon dont elle marche, tirant les pans de sa robe, et entre la description approfondie qui dépasse parfois presque toutes les limites, et on le sent dans les significations profondes de l’amour pour les femmes. Dans la poésie d’Imru’ al-Qays, plus précisément dans sa célèbre Mu’allaqah.

De plus, Abu Nawas était créatif dans la présentation de ses aventures de filage, et il était un artiste dans celui entre les déclarations et les signes cachés, et ses vers comprenaient de nombreuses significations innovantes dans le filage, ce qui lui a donné la tête du renouveau dans la poésie filante, dans la délicatesse de sens, et renouveler le contenu, et transcender certaines des limites qui se dressaient Alors les poètes avant lui, certains de ses poèmes méritaient d’être étudiés, critiqués et analysés en profondeur, et une tentative de lecture entre les sens et derrière les lignes.

Abu Firas Al-Hamdani a eu des tours qui sont venus avec les traits d’une personne désespérée qui a perdu espoir, alors qu’il goûtait son amertume de captivité, après avoir été un prince qui avait entendu parler, et avec qui les femmes admiraient, chaque femme souhaitait être admiré, donc son renouvellement de la filature devait cacher les significations de l’amour qu’il avait dans son cœur. Sous couverture, certaines de ses extrémités sortent chargées de significations de pourriture et de colère, de dignité et de fierté, et de son désir de revenir à le monde de la liberté et de l’admiration mutuelle pour les femmes.

Notre recherche a cherché ici à tenter d’approfondir les mystères du contenu, et à se pencher sur les mystères des mots et des lettres, dans le but de présenter une analyse nouvelle dans le monde de la poésie arabe ancienne, selon un regard discrétionnaire de notre part. cela est peut-être devenu logique, et nous avons lié certaines de ces significations à la psychologie humaine, qui se poursuit à travers le temps malgré le lieu différent. En cela, nous avons observé le point de vue religieux, pour voir dans ces deux cas : les jeux de mots de nos poètes justifications ou sont-elles exagérées ? Peut-être y avons-nous déjà présenté une nouvelle étude, qui pourrait servir de source principale aux chercheurs après nous, ou du moins de référence.

Mots – clés: beauté féminine – manquant – féminin – valeur esthétique – manifestations de sa beauté – rotation – autres significations – style insinuant – le problème manquant.

الدِّراسة

تمثِّل الأنثى قيمةً جماليَّةً راقيةً، تلفتُ انتباهَ الرِّجالِ إليْهَا بفضلِ مظاهرِ حسنِهَا المتنوِّعةِ جسديًّا، من شعرٍ طويلٍ فاحمٍ، وعينَينِ هادئتَينِ أو غاضبتَينِ، وأشكالِ حسِّها عاطفيًّا، إذ تتقلَّبُ بين الرِّضا والغضبِ، بين القَبولِ والنُّفورِ، وجمالِ لباسِهَا وتنوُّعِ أشكالِهِ وألوانِهِ، فأنعمَ الشُّعراءُ النَّظرَ في مفاتنِهَا، وأمعَنُوا في وصفِهَا والتَّغنِّي بِهَا، معبِّرينَ عن حزنِهِم لغيابِهَا عنْهُم وشوقِهِم إليْهَا وإلى جمالِهَا الفريدِ.

بَيْدَ أنَّ هؤلاءِ الرِّجالَ المقدِّرينَ جمالَ الإناثِ، لم يسلمُوا منَ التَّناقضِ في نظرتِهِم إلى الأنثى، فالأنثى التي يحبُّونَهَا، تلكَ الجميلةُ التي تأسرُ القلوبَ، هيَ الأنثى التي يمكنُ لَهُمْ أن يمتلكُوهَا، جسدًا وروحًا، يومًا ما، أمَّا الأنثى (الابنة) فَهيَ مصدرُ الهمومِ والقلقِ، يحزنُ بعضُهُم، أو كثيرٌ منهم، إذا بَشَّرُوهُ بها، مفضِّلًا الصَّبيَّ عليْهَا، ومعَ ذلكَ فالرَّجلُ الغاضبُ هذا يبحثُ عنِ الأنثى في كلِّ مكانٍ، لِيملأِ عينَيْهِ بمناظرِ جمالِهَا العديدةِ!

وربَّما تكمنُ أهمِّيَّةُ هذا الموضوعِ في أنَّنَا نريدُ أن نكشفَ عن مظاهرَ جماليَّةٍ أنثويَّةٍ مخفيَّةٍ، في الشِّعر العربيِّ الذي طالَمَا قرأْنَاهُ، وقرأْنَا في تحليلِهِ الكثيرَ، ووجدْنَا هذا التَّحليل يكتفي بالظَّاهرِ في المعاني، ولا يتطرَّقُ إلى عمقِ التَّفاصيلِ، التي ربَّما تتكشَّفُ إذا ما دقَّقَ القارئُ أكثرَ في القراءةِ، وحاولَ ربطَ المعاني ببعْضِهَا، كأنَّمَا يقومُ بدراسةٍ وافيةٍ شاملةٍ، يدرسُ خلالَهَا نفسيَّةَ الشَّاعرِ، محاولًا أن يتوخَّى الدِّقَّةَ في ذلكَ، بقدرِ الإمكانِ.

وإذًا، تتجلَّى أهدافُ دراستِنَا هذِهِ The objectives of our study في إعادةِ النَّظرِ ببعضِ القصائدِ العربيَّةِ القديمةِ، ثمَّ تقديمِ بعضِ معانيْهَا بنظرةٍ مختلفةٍ، نحاولُ أن نتعمَّقَ من خلالِهَا في دراسةِ الشَّاعرِ وما يريدُهُ ممَّا يقولُهُ، ما لم نُسبَقْ إليْهِ من قبلُ قَطُّ، لعلَّنَا بذلكَ نقدِّمُ دراسةً جديدةً تمامًا، لا نكتفي بِهَا كمرجعٍ جديدٍ، بل تشكِّلُ مصدرًا للباحثِينَ من بعدِنَا في مجالِ الجمالِ الأنثويِّ في الشِّعرِ العربيِّ.

ولعلَّ إشكاليَّاتِ هذِهِ الدِّراسةِ The problems of this study تتلخَّصُ في الأمورِ الآتيةِ:

  • هلِ استوفى الشُّعراءُ العربُ قديمًا نظرتَهُم في الجمالِ الأنثويِّ، تعبيرًا مميَّزًا؟

ب- هل كانَ تغزُّلُهُم بالجمالِ الأنثويِّ تصريحًا ظاهرًا، من دونِ التَّلميحِ إلى مظاهرَ جماليَّةٍ مخفيَّةٍ في طيَّاتِ سطورِهِمُ الغنَّائيَّةِ؟

ج- هل تخطَّى الشُّعراءُ العربُ حدودَهُم في بعضِ الأحيانِ، بل هل للتَّحدُّثِ عنِ الجمالِ الأنثويِّ حدودٌ، ينبغي على الرَّجلِ ألَّا يتخطَّاهَا إذ يذكرُهَا؟

د- وبِمَا أنَّنَا سألْنَا هلِ استوفى الشُّعراءُ نظرتَهُم في الجمالِ الأنثويِّ، فإنَّ الإشكاليَّةَ الأكثرَ جوهريَّةً هنَا، والتي تشكِّلُ أساسَ بحثِنَا ودراستِنَا تتمثَّلُ في هذا السُّؤالِ: هلِ استوفى الباحثُونَ والدَّارسُونَ كلَّ التَّحليلِ الصَّحيحِ، فَلَمْ يتركُوا مجالًا لِمَنْ بعدَهُم لإضافةِ المزيدِ؟

ه- أوَ لَيسَ كلُّ كلماتِ الغزلِ هيَ كلماتٌ صادقةٌ، صدرَتْ من نفوسٍ قدَّسَتْ معانيَ الحبِّ الرَّاقيةِ، فَنَظَرَتْ إلى الأنثى بِعُيونِ الحبِّ والهوى، مقدِّمةً مشاعرَهَا بكلماتٍ تنطلقُ من عمقِ القلوبِ المعذَّبةِ، المشتاقةِ إلى وصالِ الأنثى؟

وتقودُنَا إشكاليَّاتُ البحثِ إلى فرضيَّاتٍ متعدِّدةٍ Multiple hypotheses، تتجلَّى لنا في ما المسائل الآتية:

أ- الرَّجلُ هوَ الرَّجلُ في كلِّ زمانٍ، لِذَا منَ الطَّبيعيِّ أن يَنْتَبِهَ الشُّعراءُ إلى كلِّ المظاهرِ الجماليَّةِ الأنثويَّةِ، ويعبِّرُوا عنْهَا.

ب- على أنَّ براعةَ الشَّاعرِ تكمنُ في التَّنويعِ البيانيِّ والبلاغيِّ، ما بَينَ تصريحٍ ينطلقُ من عمقِ الوصفِ الوجدانيِّ والصُّورِ البيانيَّةِ الماثلةِ في التَّشابيهِ والاستعاراتِ، وتلميحٍ بيانيٍّ أكثرَ تميُّزًا، يتمثَّل في التَّلميحِ، من ناحيةِ الكنايةِ، أو حتَّى إخفاءِ المعنى تمامًا، حتَّى يكادُ لا يَستَبِيْنُ في النَّظرةِ الأولى منَ القارئِ الباحثِ في شعرِ الغزلِ.

ج- لم يكنْ للتَّغزُّلِ بالنِّساءِ أيُّ حدودٍ في ما سبقَ، لذا ظهرَ لَنَا نوعانِ مختلفانِ من الحبِّ، الإباحيِّ والعذريِّ. والتَّغزُّلُ الإباحيُّ استفاضَ فِيْهِ الشَّاعرُ من دونِ قيودٍ أو حدودٍ، وإن كانَ هذا لا يمنعُهُ الأخذَ بما بيَّناهُ منْ قبلُ، الجمعَ بينَ التَّصريحِ والتَّلميحِ.

د- لَنَا أن نفترضَ، وأن نبدأَ دراستَنَا على يقينٍ تامٍّ بأنَّ الباحثِينَ مِنْ قبلِنَا لم يقدِّمُوا التَّحليلَ الكاملَ المتكاملَ، الذي لا مزيدَ عليْهِ من بعدِهِم، بل إنَّ متذوِّقَ الشِّعرِ العربيِّ، الذي يحاولُ الإحاطةَ بالعلومِ المتنوِّعةِ لغويًّا، قد يجدُ بِنوعٍ منَ التَّعليلِ المنطقيِّ، بعضَ المعاني الأخرى التي قصدَ الشُّعراءُ تقديمَهَا بأسلوبِ التَّلميحِ المميَّزِ.

ه- كثيرٌ من كلماتِ الغزلِ، ما جاءَ فقط لحاجةِ الرَّجلِ إلى التَّعبيرِ عن مشاعرِ الإعجابِ بالأنثى، من دونِ وجودِ أنثى فعليَّةٍ محدَّدةٍ يحبُّهَا، بل لا مانعَ عندَهُ في التَّغزُّلِ بكلِّ أنثى يراهَا ويلتقي بِهَا، وما الغزلُ إلَّا ليُشبِعَ عاطفتَهُ هوَ، لا عاطفةَ الأنثى!

ولعلَّ طبيعةَ دراستِنَا هذِهِ تقتضي منَّا أن نستخدمَ المناهجَ الآتيةَ:

المنهجَ الوصفيَّ التَّحليليَّ: The analytical descriptive approach: لوصفِ الظَّاهرةِ الغزليَّةِ الخفيَّةِ، ورصدِ عناصرِهَا ومكوِّناتِهَا للإحاطةِ بكلِّ مظاهرِهَا بقدرِ الإمكانِ.

المنهجَ المقارنَ: The comparative approach: إذ نقارنُ بينَ بعضِ معاني امرئِ القيس وأبي فراس الحمدانيٍّ، وبينَ بعضِ معاني امرئِ القيس وأبي نواس، وكذلكَ نحاولُ أن نقدِّمَ بعضَ المقارنةِ بينَ البحثِ عن مظاهرِ الجمالِ الأنثويِّ قديمًا بينَ الشِّعرِ والنَّثرِ، وبينَ الشِّعرِ القديمِ والتُّراثِ الحديثِ.

المنهجَ التَّاريخيَّ: The historical method: ونرصدُ من خلالِهِ تطوُّرَ الغزلِ منَ العصرِ الجاهليِّ إلى العصرِ الإسلاميِّ إلى العصرِ الأمويِّ، إلى العصرِ الحاليِّ.

المنهجَ النَّفسيَّ: The psychological approach: لرصدِ انفعالاتِ الرَّجلِ أمامَ الجمالِ الأنثويِّ، معلِّلِينَ لَهُ الاندفاعَ خلفَهُ للتَّمتُّعِ بكلِّ مناظرِهِ وأحوالِهِ، مسوِّغِينَ لَهُ ذلكَ، نفسيًّا وبفطرتِهِ التي لا مجالَ لَهُ في دفعِهَا عنْهُ.

أمَّا التَّوثيق العلميُّ: Scientific Documentation، فقدِ اخترْنَا أن يكونَ توثيقُ بحثِنَا هذا وفقَ طريقةِ هارفارد: Harvard، التي تكادُ تُعَدُّ من أكثرِ الأساليبِ التَّوثيقيَّةِ شيوعًا في البحثِ العلميِّ عمومًا.

وإذ نرصُدُ مصادرَ دراستِنَا ومراجعَهَا ونحدِّدُهَا، نشير هنا إلى أنَّ مرورَ بعضِ الصَّفحاتِ من دونِ ذِكرِ مصدرٍ ما أو مرجعٍ، لا ينفي وجودَها، فلقد بَنَيْنَا خلفيَّة دراستنا على إضافةِ الجديدِ في المصادرِ، وحدَّدْنَا في بحثِنَا مظاهرَ الجمالِ الأنثويِّ المفقودِ في الشِّعرِ العربيِّ قديمًا، من خلالِ معلَّقةِ امرئِ القيسِ، ومن بعضِ أشعارِ عمر ابن أبي ربيعةَ، وأبي فراس الحمدانيِّ، وبِمَا أنَّ الدِّراسةَ حولَ معلَّقةِ امرئِ القيسِ بما فيْهَا من مظاهرَ أنثويَّةٍ جميلةٍ مخفيَّةٍ نحاولُ إبرازَهَا، كانَتِ الأكثرَ شمولًا، وجبَ أن نبيِّنَ مصادرَ هذِهِ الدِّراسةِ، ممَّا درسنَاهُ كاملًا، لِنأخذَ الأبياتِ التي تشكِّلُ مجالَ دراستِنَا منْهَا، وكذلكَ لدراسةِ تحقيقِ المحقِّقِينَ فيْهَا وشروحاتِهِم، إذ إنَّ دراستَنَا تعتمدُ تقديمَ الجديدِ فَحسبُ، لذا كانَ لا بدَّ من بناءِ بحثِنَا حولَ هذِهِ المصادرِ بأكملِهَا، في توثيقِ الأبياتِ من جهةٍ، واطِّلاعًا على التَّفاسيرِ والشُّروحِ من جهةٍ أخرى، منعًا لأيِّ تكرارٍ قدْ يقعُ منَّا في الشَّرحِ وإبرازِ المظاهرِ الجماليَّةِ المفقودةِ.

وإذًا تشكِّلُ المصادرَ الآتيةَ أساسَ بنائِنَا دراستَنِا حولَ المعاني المستترةِ في شعرِ امرئِ القيسِ، في معلَّقتِهِ، ونذكرُ بعضَ المصادرِ في دراستِنَا الشُّعراءَ الآخرِينَ في موضعِهَا في التَّوثيقِ:

– ابن أيوب عاصم، أبو بكر (1307هـ)، شرح ديوان رئيس الشعراء أبي الحرث الشهير بامرئ القيس بن حجر الكندي، ط1، المطبعة الخيريَّة المنشأة بجماليَّة مصر المعربة.

معلَّقة امرئ القيس تقع بين الصَّفحات 16-44، مع الإشارة إلى فقدان الصَّفحة رقم 16 من هذا الشَّرح، وتحتوي على البيت الأوَّل فحسب من المعلَّقة وبعضٍ من شرحِ هذا البيت، والمعلَّقة من خمسةٍ وسبعِينَ بيتًا.

– ديوان امرئ القيس (لا.ت)، ط5، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف.

معلَّقة امرئ القيس تقع بين الصَّفحات 8-26، وتتألَّف من خمسةٍ وسبعِينَ بيتًا.

– الزوزني، الحسين بن أحمد (1983)، شرح المعلقات العشر مع تقدمة التاريخ ومكانة أصحاب المعلقات، بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة.

معلَّقة امرئ القيس تقع بين الصَّفحات 29-80، يتميَّز هذا المصدر من سواه منَ المصادر بالاستفاضة المطوَّلة في الشَّرح والتَّعليق، والمعلَّقة تتألَّف من واحدٍ وثمانِينَ بيتًا.

– السندوبي، حسن (1990)، شرح ديوان امرئ القيس، ويليه أخبار المراقشة وأشعارهم وأخبار النوابغ وآثارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، راجعها وشرحها أسامة صلاح الدين منيمنة، بيروت: دار إحياء العلوم.

المعلَّقة بين الصَّفحات 164 – 179، وهي في هذا المصدر أطول من سواها في المصادر الأخرى، إذ تبلغ اثنَينِ وتسعِينَ بيتًا.

– الشنتمري، الأعلم (1974م)، شرح ديوان امرئ القيس بن حجر الكندي، اعتنى بتصحيحِهِ ابن أبي شنب، الجزائر: الشركة الوطنيَّة للنشر والتوزيع.

المعلَّقة بين الصَّفحات 60 – 97، وتتكوَّن من سبعةٍ وسبعِينَ بيتًا. استنادًا إلى هذِهِ المصادرِ وسوَاهَا، ممَّا يتعلَّقُ بقصيدةِ امرئِ القيسِ: قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكرَى حَبِيْبٍ ومَنْزِلِ، نبدأُ محاولةَ الكشفِ عنْ غوامضِ الجمالِ الأنثويِّ المستترةِ في حروفِ الشِّعرِ العربيِّ القديمِ، انطلاقًا من قولِهِ:

كَدَأْبِـــــكَ مِـــنْ أُمِّ الحُوَيْــــــرِثِ قَبْلــــــــَهَا  
  وجَارَتِـــــــــــها أمُّ الرَّبَـــــــــــــــــــابِ بِمَأْسَــــــــــــــــلِ
إِذَا قَامَـــــتَا تَضــــــَوَّعَ المِسْـــكُ مِنْهُـــمَا  
  نَسِيْــــــــــمَ الصَّبَــــــا جَاءَتْ بِرَيَّـــا القَرَنْفُـــلِ

ترى، هل يتكلَّمُ الشَّاعرُ عن نفسِهِ هنا في صيغةِ المخاطبِ المفردِ؟ أو أنَّهُ يتابعُ نقلَ كلامِ أصحابِهِ، ولومِهِم إيَّاهُ على بكائِهِ على منزلةِ الحبيبةِ الغائبةِ ومنزلِهَا الذي فقدَ روحَ وجودِهَا؟ وإن كانَ الوقوفُ على الأطلالِ لذكرِ الحبيبةِ ومنزلِهَا الذي باتَ مهجورًا، مجرَّدَ تقليدٍ انْتهَجَهُ الشُّعراءُ في الشِّعرِ الجاهليِّ، فلماذا هذا الاستطرادُ المطوَّلُ منِ امرئِ القيسِ، وذِكرِهِ نساءً أخرياتٍ؟ والملحوظُ هنَا أنَّهُ لم يذكرِ اسمَ هاتَينِ المحبوبَتَينِ اللتينِ ظهرَتَا فجأةً، إذ يذكرُهُمَا على أنَّهُ قد بكاهُمَا من قبلُ، كَمَا يبكي الآنَ محبوبَتَهُ التي يفتقدُهَا!

“فالدَّارُ التي قضى المحبوبُ شطرًا من حياتِهِ في جنباتِهَا من أبرزِ هذِهِ الأشياءِ وأقواها على إثارةِ الحنينِ والذِّكرياتِ… ويبدو لي أنَّ هذا الحنينَ الذي يشعرُ بِهِ الإنسانُ في دارِ الحبيبِ، بعدَ أن خَلَتْ هذِهِ الدَّار منَ الحبيبِ، هو الأصلُ وهو السِّرُّ العميقُ في نشأةِ شعرِ الوقوفِ على الأطلالِ والبكاءِ عليْهَا في الشِّعرِ العربيِّ القديمِ”. (عزة، 1968، ص 6).

ربَّمَا قصدَ امرؤ القيسِ في استطرادِهِ المطوَّلِ هنا كنايةً معيَّنةً عن اسمِ كلِّ واحدةٍ منْهُمَا، إذ يشيرُ إليْهَا أنَّهَا (أمُّ…)، يعبِّر فيْهَا عن جمالٍ خفيٍّ يفتقدُهُ فيْهِمَا، بل في النِّساءِ عمومًا، لِيخالفَ بذلكَ العادةَ الجاهليَّةَ إذ يبدأُ الشَّاعرُ بذكرِ الحبيبةِ ومنازلِهَا المهجورةِ، وما يُسبِّبُهُ لَهُ ذلكَ منَ الآلامِ الوجدانيَّةِ، وإن كانَ ذلك خيالًا منْهُ ومجازًا، ويبدأُ بعدَهَا بموضوعِهِ الذي يريدُهُ مباشَرةً، لكنَّ امرئَ القيسِ هنا يستطردُ في الوقوفِ على طللِ الحبيبةِ الغائبةِ في تسعةِ أبياتٍ سابقةٍ، قبلَ أن يذكرَ لَنَا أمَّ الحويرثِ وأمَّ الرَّبابِ في هذَيْنِ البيتَينِ.

ويوضِّحُ لَنَا الشَّاعرُ سببَ تذكُّرِهِ هاتَيْنِ الأنثَيينِ تحديدًا، إنَّ ذلكَ بفضلِ ريحِ المسكِ التي تنتشرُ منْهُمَا وتفيضُ، إنَّهَا ريحٌ محمَّلةٌ بشذا القرنفلِ وروحِهِ الذَّكيَّةِ الطَّيِّبَةِ، هذِهِ من إشكاليَّاتِ الجمالِ الأنثويِّ المعهودةِ عندَ الجميعِ، والتي يطلبُهَا الرَّجلُ في الأنثى عادةً، وكانَتْ نساءُ الجاهليَّةِ لا يَجِدْنَ حرجًا في التَّطيُّبِ والخروجِ، عالماتٍ بأنَّ ذلكَ مصدرًا من مصادرِ جمالهِنَّ التي تلفتُ انتباهَ الرِّجالِ وتنالُ رضاهُمْ.

هذا، ولا عجبَ في ميلِ الإنسانِ إلى الرِّيحِ الطَّيِّبةِ، وتنافسِ شركاتِ العطورِ عبرَ الزَّمانِ في تقديمِ الأفضلِ، “فَلِلْعطرِ قوَّةٌ وخاصيَّةٌ تنفدُ وتؤثِّرُ في العواطفِ العميقةِ، كما أنَّ البخورَ والرَّوائحَ العطريَّةَ اسْتُعْمِلَت واسطةً في الطِّبِّ الوقائيِّ منذُ أقدمِ الأزمانِ… وأمَّا بالنِّسبةِ للعنايةِ [بالنِّسبةِ إلى العنايةِ] بالجمالِ، فكلُّ فتاةٍ وسيِّدةٍ ترغبُ في أن تتمتَّعَ بِصِحَّةٍ تامَّةٍ وجسمٍ رشيقٍ وجمالٍ فاتنٍ وشبابٍ دائمٍ”. (حجازي، 2000، ص 7، 8).

والعطْرُ اسمٌ جامعٌ كلَّ أنواعِ الطِّيب وألوانِهَا، وهو أمرٌ ليسَ بِمُستحدثٍ عندَ العربِ، لذا تناولَتْهُ المعجماتُ العربيَّةُ القديمةُ، ومنها – مثالًا – في التَّعريفِ الآتي: “اسمٌ جامعٌ لأشياءِ الطِّيبِ، وحرفةُ العطَّارِ عِطَارةٌ، ورجلٌ عطِرٌ وامرأةٌ عطِرَةٌ، إذا تعاهدَ نفسَهُ بالطِّيبِ. (تحقيق السامرائيِّ والمخزوميِّ، 1980 – 1983، مادة عِطْر).

بل إنَّ بعضَ المعاجمِ لا تُطلقُ على الرَّجلِ صفةَ عَطِرٍ وسوَاهَا منَ الصِّفاتِ (عاطرٌ معطيرٌ معطارٌ) ولا على المرأةِ لفظَ عَطِرةٍ وما أشبَهَهُ منَ الألفاظِ: (مِعْطِيرٌ، مُعْطَرَةٌ) لمجرَّدِ أن يتعهَّدا أنفسَهُمَا بالطِّيبِ، بل إذا كانَا يُكثرَانِ منْهُ، “فإذا كانَ ذلكَ منْ عادتِهَا فَهيِ مِعْطارٌ ومِعْطَارةٌ. (الزُّبيدي، 1306هـ، مادة عِطْر).

على أنَّ الإشكاليَّةَ المفقودةَ في الجمالِ الأنثويِّ هنا، ربَّما تكونُ ماثلةً لَنَا في مطلعِ البيتِ، في تحديدِ امرئِ القيسِ الإطارَ الزَّمانيَّ في انتشار مصدر الجمال هذا، إذ ابتدأ البيت بقوله: “إذا”، الدَّالَّة على الفجائيَّة في الحدث الزَّمانيِّ، وعلى كثرةِ وقوعِهِ أو كثرةِ احتمالِ وقوعِهِ، لكنْ “إذا” ماذا بالضَّبطِ؟ ما الفعلُ الواقعُ بعدَهَا؟ الفعلُ “قامَتَا”، ما يدفعُ بِنَا إلى التَّساؤلِ: قامَتَا لِمَن؟ بل ربَّما الأكثرُ دقَّةً أن نسألَ: قامَتَا لماذا؟ لعلَّنَا لا نختلفُ إذا قلْنَا: قامَتَا لامرئِ القيسِ إذ يمرُّ بهِمَا، أو يدخلُ عليْهِمَا.

لكنْ ما سببُ القيامِ، وأيُّ مصدرٍ جماليٍّ يشعرُ بِهِ امرؤُ القيسِ إذ يراهُمَا تقومَانِ، بل تكثرَانِ القيامَ؟ فهذا ما لم يُفصِحْ عنه امرؤُ القيسِ، وتركَهُ طَيَّ التَّلميحِ الخفيفِ فَحسبُ، وإن أفصحَ بعدَ ذلكَ عنْ أنَّ تذكُّرَه قيامَ الأنثَيينِ لَهُ، وما فاضَ منهما من ريحٍ زاكيةٍ، قد تسبَّبَ لَهُ في الكثيرِ منَ البكاءِ، حتَّى وصَلَتْ دموعُهُ إلى محملِ سيفِهِ:

فَفَاضَتْ دُمُوعُ العَيْنِ منِّي صَبَابـــَةً  
  على النَّحْرِ حتَّى بَلَّ دَمْعِــي مِحْمَلِــي

ما يكادُ يؤكِّدُ لَنَا حصولَ ملمحٍ جماليٍّ، يفتقدُهُ الشَّاعرُ في كلِّ أنثى منهما، ولا نستبعدُ أن يكونَ ملمحَ تواصلٍ جسديٍّ، في التَّقبيلِ أو العناقِ، أو كليْهِمَا معًا، وربَّما سوى ذلكَ، ومَا يدفعُ بِنَا كذلكَ إلى دراسةِ تأثيرِ العطورِ في جذبِ مشاعرِ الآخرِ حتَّى يستسلمَ لَنَا، بِنظرةٍ جادَّةٍ في ما تقدَّمَ بِهِ الطَّبريُّ منَ القولِ إنَّ “اللهَ لمَّا أهْبَطَ آدمَ إلى الأرضِ جعلَ لا يمرُّ بِشجرَةٍ من شجرِ الجنَّةِ إلَّا أخذَ غصنًا من أغصانِهَا فَهبطَ إلى الأرضِ، وتلكَ الأغصانُ معَهُ، فلمَّا يبسَ ورقُهَا تَحَاتَّ، فَكانَ ذلك أصلُ الطِّيب”. (تحقيق إبراهيم، 1978، ص 126).

ولا يُستبعَد فعلًا أن يكون أصل العطور من الجنَّة حتَّى تمتلك كلَّ هذا السِّحر، خاصَّةً إذ تضعُها الأنثى وتمرُّ بالرِّجال، ويبدو أنَّ النِّساء في عهودِ امرئِ القيسِ ومَنْ بعَدَهُ كُنَّ يبالغْنَ في استخدام العطور، ما دفع بالدِّين الإسلاميِّ إلى أن يحذِّر النِّساء من مغبَّة ذلك، بكلامٍ فيه الوعيد الشَّديد: “أيَّما امرأةٍ اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ على قَومٍ لِيَجِدُوا من ريحِهَا فَهيَ زانيةٌ”، (الألباني، 2000، 451)، ما يُبَيِّنُ لَنَا سببَ إعجابِ الشَّاعرَ بِذلكَ العطرِ عندَ المحبوبَتَينِ.

لَقدْ أخبرَ امرؤُ القيسِ في معلَّقَتِهِ أنَّهُ ذبحَ للعذارى مطيَّتَهُ التي يركبُهَا، المكتنزةَ باللحمِ، ما أثارَ عجبِهِنَّ ودهشتِهِنَّ، منِ اكتنازِهَا باللحمِ، لا من مبادرةِ امرئِ القيسِ في ذبحِ راحلتِهِ:

ويَــــــوَمَ عَقــــــَرْتُ للعَذَارَى مَطِيَّتــــــــِـي  
  فــــَيَا عَجَـــــبًا مِـــــــنْ كُوْرِهَــــــا المُتَــحَمَّلِ

وهنا لَبَّتِ البناتُ – العذارى اللواتي لم يلمسْهُنَّ أحدٌ من قبلُ قطُّ – دعوةَ امرئِ القيسِ، فالطَّعامُ طيِّبٌ شهيٌّ، ما دفعَ بهنَّ إلى الأكلِ مدَّةً طويلةً، ولا يكتفي امرؤُ القيسِ، في ذلكَ، بتكرارِ وصفِهِنَّ بالعذارى، كأنَّهُ إنسانٌ يتسامَى عن لمسِ الإناثِ بخلافِ الحقيقةِ، بل إنَّهُ يأخذُ من شحمِ النَّاقةِ الذَّبيحةِ مجالًا لإشارةٍ إلى جمالٍ أنثويٍّ جاءَ بِهِ جمالًا مفقودًا يرَاهُ ويطلبُهُ، ولا يصرِّحُ بِهِ:

فَظَـــــلَّ العَذَارَى يَرْتَمِـــــيْنَ بِلَحْمــــــِهَا  
  وشَحْــــمٍ كَهُـــــــدَّابِ الدِّمَقْـــــسِ المُفَـــــــتَّلِ

فَالهدَّابُ ما استرسلَ منَ الشَّيءِ، نحوَ ما استرسلَ من أطرافِ الأثوابِ، وليسَتْ أيَّةُ أثوابٍ كانَتْ، بلِ الأثوابُ الحريريَّةُ من دونِ سوَاهَا، أوَ ليسَ في ذلكَ مصدرًا جماليًّا بارزًا من مصادرِ الجمالِ الأنثويِّ قديمًا؟

وانجذابُ الرِّجالِ نحوَ أثوابِ النِّساءِ عمومًا، بألوانٍ محدَّدةٍ خصوصًا، أمرٌ ليسَ بمستغربٍ في عالمِ الجمالِ الأنثويِّ، وليسَ أمرًا كانَ في مفاهيمِ أهلِ الجاهليَّةِ مختصًّا بهم، بل ما تزالُ الدِّراساتُ والتَّجاربُ والأوراقُ البحثيَّةُ تتمحورُ حولَهُ، ومن ذلك دراسةٌ عرضَهَا موقعُ سيِّدتي عن تجربةٍ قامَتْ بِهَا الباحثةُ والخبيرةُ الاجتماعيَّة هايلة كوين، والمحرِّرةُ راشيل هوسي والكاتبةُ أوليفيا بيتر، إذ إنَّ كوين تقولُ إنَّهَا حينَمَا ارتدَتْ معطفًا أحمرَ اقتربَ منها الرِّجالُ لطلبِ رقمِهَا أو ملامستِهَا وعلى الأغلبِ كانَ ذلكَ بِمنزلةِ التَّحرُّشِ، بينَمَا الباحثةُ هوسي وجدَتْ أنَّ ارتداءَ المعاطفِ الحمراءِ جعلَ أعينَ الرِّجالِ تلتفتُ إليْهْا وتحدِّقُ بِهَا، وأنَّهَا تتلقَّى عباراتِ الثَّناءِ والمجاملاتِ أكثرَ من ذي قبلُ، أمَّا أوليفيا بيتر فَلمْ تجذبْ أيَّ رجلٍ على الرّغمَ من ارتدائِهَا اللونَ الأحمرَ. (موقع إلكتروني، 2017م).

أمَّا امرؤُ القيسِ، فَقدْ ألمحَ إلى جمالَ امرأتَينِ قبلَ عُنَيْزَةَ، وصرَّحَ بأنَّ كلَّ هؤلاءِ البناتِ، اللواتي سرقَ لهُنَّ ملابسهِنَّ إذ كُنَّ في البحيرةِ يَسبَحْنَ، لِيُجبرَهُنَّ على الخروجِ كاشفاتٍ كلَّ الجمالِ فيْهنَّ، كلُّهنَّ عذارى، يؤكِّدُ امرؤُ القيسِ هذِهِ عذريَّتَهُنَّ مرَّتَينِ متتاليتَينِ، لكنْ لماذا ذبح لهنَّ البعيرَ؟ كانَ ذلكَ لِيركبَ بعيرَ محبوبتِهِ عُنَيْزةَ، لكنَّهُ ما كانَ بالرُّكوبِ مكتفيًا، بل كانَ لَهُ هدفٌ آخرُ، يتمثَّلُ في مظهرٍ جماليٍّ منَ المظاهرِ الأنثويَّةِ التي لم يصرِّحْ لَنَا بِهَا:

ويَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ  
  فَقَالَتْ لَكَ الوَيْلَاتُ إنَّكَ مُرْجِلِي

لم يوضِّحْ امرؤُ القيسِ سببَ دخولِهِ خدرَهَا، وإن كانَ ذلكَ ظاهريًّا لأنَّهُ يحبُّهَا، لكنْ هلَ دخلَ لأنَّهُ قَدِ اشتاقَ إلى رؤيتِهَا، وهي التي ظلَّتْ جالسةً أمامَهُ منَ الزَّمانِ مدّةً طويلةً تتناولُ طعامَهَا من لحمِ النَّاقةِ؟ لا خلافَ في أنَّه يحبُّها، ويهوى قربَهَا، لكن ربَّما نرى ما بينَ سطورِ الأحرفِ وخفايا الكلماتِ، أنَّهُ دخلَ الخِدرَ لِينالَ منها، ولو احتضانًا وتقبيلًا، إذ إنَّهُ ظلَّ يكتمُ صبرَهُ منذُ خرجَتْ منَ الماءِ أمامَهُ حتَّى انتهى الطَّعامُ، ساعاتٍ طوالًا، وآن لَهُ أن يفجِّرَ ما كبَتَ منَ المشاعرَ، تجاهَ جمالٍ أنثويٍّ يرَاهُ أمامَهُ، وفي متناولِ عينِهِ ويدِهِ معًا.

على أنَّ هذِهِ الفتاةَ تمنَّعَتْ، بل وأبدَتْ مقاومةً وهي بَيْنَ يَدَيْهِ، أدَّتْ إلى حركةٍ عنيفةٍ في الهودجِ، كادَ يلقيْهِمَا من فوقِ ظهرِ البعيرِ، ما جعلَ الفتاةَ تصرخُ بامرئِ القيسِ غاضبةً، وقدْ نَسَتْ كرمَهُ كلَّهُ في لحظةٍ واحدةٍ، أمامَ محاولتِهِ النَّيْلَ منها:

تَقُولُ وقَدْ مَالَ بَنَا الغَبِيْطُ مَعًــا  
  عَقَرْتَ بَعِيرِي يا امْرَأ القَيْسِ فَانْزِلِ

ويبدو أنَّه استسلم، إذ يئس من أن ينال منها ما يبتغيِه ممَّا يرى أمامه من منظر جمالي، قد تتمتَّع به كلُّ أنثى، وطلبَهُ الشاعر في هذه الأنثى من دون سواها، معبِّرًا عنه بمصطلح “الجنى المُعَلَّل”، بادئًا بالتصريح بما يريده منها، من بعد طول التلميح:

فَقُلْتُ لَهَا سِيْرِي وأَرْخِي زَمَامَهُ  
  ولا تُبْعِدِينـــــــِي مِنْ جَنَـــــــــاكِ المُعَــــلَّلِ

ولَيسَ لَهَا أن تَظنَّ نفسَهَا أفضلَ منَ امرأةٍ حبلى، قد نالَتْ وطرَهَا ممَّا تحبُّ منَ الرِّجالِ، وباتَ لزامًا عليْهَا الاكتفاءُ بِمَا في بطنِهَا من روحٍ تتكوَّنُ، وما تسبِّبُهُ لَهَا من تقلُّبٍ في المشاعرِ تجعلُهَا زاهدةً في الرِّجالِ، وكذلكَ المرضعةُ التي عليْهَا أن تضعَ رضيعَهَا في صدرِهَا ليأخذَ ما يحتاجُ إليْهِ منَ الغذاءِ، هذِهِ وتلكَ على حالةِ كلٍّ منْهُمَا، منَ الاستغناءِ عنِ الرَّجلِ، لا تستغنِيانِ عنِ امرئِ القيسِ إذا ما جاءَهُمَا، فَكيفَ تستغني عنْهُ هذِهِ العذراءُ التي يحبُّهَا؟

فَمِثْلِكِ حُبْلَــــــــى قَدْ طَرَقْـــــــــــتُ ومُرْضِــــعٍ  
  فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ
إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَـــــتْ لَــــــهُ  
  بِشِقٍّ وتَحْتي شِقُّــها لَــــمْ يُحَـــوَّلِ

ويذكرُ ابنُ قتيبةُ أنَّ هذَينِ البيتَينِ ممَّا “يُعابُ من قولِهِ”، عارضًا رأيًا مختلفًا لِرأيِهِ من بعدِ أن يذكرَ البيتَينِ: “قالَ أبو محمَّد: وليسَ هذا عندِي عيبًا، لأنَّ المرضعَ والحبلى لا تريدَانِ الرِّجالَ ولا ترغبَانِ في النِّكاحَ، فإذا أصْبَاهُمَا وألهَاهُمَا كانَ لغيرِهِمَا أشدَّ إصباءً وإلهاءً”. (ج1، لا.ت، ص135).

ويذكرُ الشَّاعرُ خلافًا يبرزُ في مشهدِ خلوتِهِ بمحبوبتِهِ، هي تتدلَّلُ مثلَ بناتِ جنسِهَا، ليسَ هذا بجديدٍ، ولا فيْهِ أيُّ أمرٍ عجيبٍ، ولكنَّ العجيبَ أنَّها لا تقبلُ بِهِ، وقد صارَ قلبُهُ لَهَا خادمًا يمتثلُ لأوامرِهَا، والغريبُ أنَّهَا ترفضُ وجودَهُ، وهيَ تعلمُ حقَّ العلمِ أنَّهُ يحبُّهَا، بل بهواها يموتُ، فحبُّهَا إن لم تَجُدْ به عليه، أمر مميت له، فإذ يذكر لها هذه الحقيقة التي تعلمها وتتجاهلها، يسبق تصريحه بحبِّها الذي أفقدَهُ عقلَهُ، بإشارة إلى جمالٍ أنثوي مكنون:

أَفَاطِـــــمَ مَهْـــــلًا بَعْـــضَ هــــذا التَّــدلُّــــلِ  
  وإِنْ كُنْتِ قَدْ أَزْمَعْتِ صَرْمِي فَأَجْمِلِي

معبِّرًا عن فراقِهِمَا بِلفظِ (الصَّرْمِ)، فَهيَ لم تصمِّمْ على فراقِهِ فَحسبُ، بل على (صَرْمِهِ)، أي قطعِهِ قطعًا باترًا، فَهلْ تريدُ أن تقطعَ علاقتَهُمَا الرُّوحيَّةَ بِهِ فقط، أو أنَّ امرأَ القيسِ يدلُّ بِذلكَ على رفضِهَا ما يرَاهُ فيْهِا من جمالٍ فائقٍ، يدفعُ بِهِ إلى العلاقةِ الجسديَّةِ بِهَا، فأرادَتْ قطعَهَا قطعًا نهائيًّا لا رجوعَ فيْهِ، فَكأنَّهَا بذلكَ تقطعُ امرأَ القيسِ نفسِهِ، تقطعُ روحَهُ، بل وربَّمَا حياتَهُ! إذًا فلْتَتَرَفَّقْ بقلبٍ يتحطَّمُ، ولْتخفي ملامحَ جسدِهَا تحتَ ثيابِهَا، وتُبْقِ على المحبَّة ولو بأقلِّ صورِهَا:

وإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيْقَةٌ  
  فَسُلِّي ثِيابِي مِنْ ثِيابِكِ تَنْسُلِ

متابعًا بعدَ ذلكَ، على الرّغمَ من يأسِهِ منْهَا، وألمِهِ لما يحصلُ لَهُ بِسببِهَا، وهيَ التي ملكَتْ قلبَهُ، وتملَّكَتْ كيانَهُ، مشيرًا إلى أمرٍ أنثويٍّ، ربَّما تتمتَّعُ بِهِ الإناثُ، لا في العصرِ الجاهليِّ فَحسبُ، بل في العالمِ كلِّهِ، ألا وهو البكاءُ من ِدونِ سببٍ! إذ تنهمرُ الدُّموعُ فجأةً، بلا مقدِّماتٍ لِذلكَ، كَسلاحٍ أنثويٍّ للوصولِ إلى ما يُرِدْنَهُ منَ الرَّجلِ، وما تزالُ الدِّراساتُ الحديثةُ تدرسُ هذا الموضوعَ، مشيرةً إلى أنّ دموعَ النِّساءِ، بعضُهُم مَنْ ينظرُ إليْهَا بأنَّهَا مباغتةٌ وكاذبةٌ، ولها طابعٌ دراماتيكيٌّ، ما يقودُنَا إلى الرَّبطِ بَينَ دموعِ المرأةِ ودموعِ التَّماسيحِ.

وتعترفُ إحدى الباحثاتِ، ميسون فضل، بِذلكَ، بقولِهَا: “إنَّ بعضَ النِّساءِ يَبكيْنَ لِكَي يَستعطفْنَ مَنْ أمامهُنَّ، لكنَّ دموعَ الأنثى ليسَتْ في جميعِ حالاتِهَا كَذلكَ، وإنَّما قد تَكونُ دلالةً عنِ الحزنِ والقهرِ والضَّعفِ، حيثُ لا تجدُ ما تعبِّرُ بِهِ عن ذلكَ سوى الدُّمُوعِ”.(موقع الاتِّحاد الإلكتروني، 2010). فَكيفَ ينظرُ امرؤُ القيسِ إلى دموعِ فاطمةَ؟ أَهيَ دموعُ الحزنِ والقهرِ والضَّعفِ، أو أنَّهَا دموعٌ مباغتةٌ، تحملُ طابعَ الكذبِ؟

ومَا ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلَّا لِتَضْرِبِي  
  بِسَهْمَيْكِ في أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ

والرَّجلُ أمامَ دموعِ الأنثى ضعيفٌ، لكنَّ الشَّاعرَ لم يذكرْ دموعَ أنثَاهُ هنا تألُّمًا لحالِهَا، فهيِ دموعٌ كاذبةٌ، لا هدَفَ لها سوى مزيدٍ منَ الدَّلالِ، لِتحملَهُ على الشُّعورِ بالضَّعفِ والتَّخاذلِ، فَيحقِّقَ لَهَا ما تُريدُهُ منَ الهجرانِ والفراقِ، ولو على حسابِ قلبِهِ وحبِّهِ، لكنْ لماذا يذكرُ الدُّموعَ التَّدليليَّةَ هذِهِ؟ إنَّهُ ينظرُ إلى فتاةٍ يحبُّها، وها هما خطَّانِ يَسِيلَانِ من عينَيْها، لعلَّهُ في ذلك رأى منظرًا جماليًّا أنثويًّا، فريدًا ومميَّزًا، يزيدُ من إعجابِهِ بِهَا، ومن ألمِ قلبِهِ إذا لبَّى طلَبَها وتركَهَا!

ويشيرُ امرؤُ القيسِ إلى مصدرٍ من مصادرِ الجمالِ الأنثويِّ، لَهُ علاقةٌ باللباسِ، مصدرٍ دائمٍ متجدِّدٍ، تطلبُهُ النِّساءُ وتحبُّهُ:

إذا ما الثُّريَّا في السَّماءِ تَعَرَّضَتْ  
  تَعَرُّضَ أَثْنَاءَ الوشاحِ المُفَصَّلِ

وربَّما لا يكونُ ذكرُ الوشاحِ في الشِّعرِ العربيِّ من إشكاليَّاتِ الجمالِ الأنثويِّ المفقودةِ، سواءً بمرورِ الزَّمانِ وتغيُّرِ المكانِ، لكنْ أن يتغيَّرَ الشِّعرُ العروضيُّ، بكلِّ ما فيهِ من قواعدَ صارمةٍ يعلمُهَا الشُّعراءُ، إذ يجبُ أن يكونَ الرَّويُّ واحدًا، والقافيةُ موحَّدةً إمَّا بأساسِ التَّفعيلةِ أو بجوازِهَا، ولا غنى عن اتِّباعِ التَّفعيلاتِ العروضيَّةِ، وإلَّا فقدَ الشَّاعرُ في ما يقولُ صفةَ القصيدةِ، ثمَّ بغتةً ينشأُ شعرٌ جديدٌ في العصرِ الأندلسيِّ، يحملُ اسمَ الموشَّحاتِ، بِقواعدَ جديدةٍ وأسسٍ مختلفةٍ، تعتمدُ الجمالَ في بنائِهَا، وما ذلكَ إلَّا إعجابًا منهم بِوشاحِ الأنثى ودقَّةِ تفاصيلِهِ، وتنوُّعِ نقوشِهِ وألوانِهِ، كذلكَ ثوبِهَا المزدانِ بِأكثرَ من لونٍ يوشِّحُهُ، مكسبًا إيَّاهُ الزِّينةَ والجمالَ، فَمَا يبدو لنا ذلكَ إلَّا جمالًا أنثويًّا في شعرٍ عربيٍّ قديمٍ، اعتمدَهُ العربُ في ومضةٍ ما، ثمَّ نسُوهُ فركَّزُوا فقط على شعراءِ الموشَّحاتِ وما قامُوا بنظمِهِ، وبذلك اهتمَّ الدَّارسُونَ بعدَ ذلكَ.

“فالوشاحُ كلُّهُ حليُّ النِّساءِ، كرسانٌ من لؤلؤٍ وجوهرٍ منظومَانِ، مخالَفٌ بينَهُمَا، معطوفٌ أحدُهُمَا على الآخرِ… والوشاحُ يُنسَجُ من أديمٍ عريضٍ ويُرَصَّعُ بِالجواهرِ، وتشدُّهُ المرأة بين عاتقَيْها وكشحَيْها”. (ابن منظور، 1968، مادَّة وَشَحَ).

ويرجعُ امرؤُ القيسِ في قصيدتِهِ إلى ذكرِ ثيابِ المحبوبةِ، لقد ذكرَهَا عرضًا قبلَ ذلكَ، طالبًا منْهَا أن تنزعَهَا من ثيابِهِ إن أرادَتْ قطعَ أواصرِ قلبِهِ، لكنَّهُ الآنَ يرَاهَا، وقد نزعَتْهَا فعلًا، أو نزعَتْ أكثرَهَا عنْهَا:

فَجِئْتُ وقَدْ نَضَّتْ لِنَومٍ ثيابَهَا  
  لدى السِّتْرِ إلَّا لِبْسَةَ المُتَفَضَّلِ

مشهدٌ جديدٌ يقدِّمُهُ الشَّاعرُ الآنَ، لقد نزَعَتِ المحبوبةُ ثيابَها إلَّا ثوبًا واحدًا، وعلَّلَ ذلكَ بِحرفِ اللامِ التَّعليليَّةِ: “لِ”، السَّببُ إذًا هو “النَّومُ”، لكن أخفى الشَّاعرُ منظرًا جماليًّا، تسلَّلَ بسبِبِ توقُّعِهِ أن يرَاهُ، أو يحقِّقَهُ، إلى منزلِ المحبوبةِ، غيرَ أنَّهُ لم يخبرْنَا ما الذي كان يفعلُهُ في بيتِهَا، بل في غرفةَ نومِهَا، وهل كانَ يلمحُهَا إذ تنزعُ ثيابَهَا مستمتعًا بِجمالِ كلِّ ثوبٍ يظهرُ لَهُ، وإذ وصَلَتْ إلى الثَّوبِ الأخيرِ وتوقَّفَتْ، دخلَ عليْهَا غرفةَ نومِهَا، لعلَّهَا تنزعُهُ عنْهَا كَذلكَ!

وأيًّا كانَ مقصدُ الشَّاعرِ من ذلكَ، فإنَّهُ لم يذكرْ لَنَا خروجَهُ من غرفةِ نومِهَا، حتَّى تعيدَ ارتداءَ لباسِهَا الواسعِ الفضفاضِ، بل أخبرَنَا بأنَّهَا قد ارتدَتْهُ، إذ خرجا سويًّا من غرفتِهَا لِيمشيَا معًا، مستمتعًا بجمالِهَا الفريدِ، خصرِهَا ونظراتِهَا وخدِّها، واصفًا ثوبَهَا قبلَ ذلكَ:

خَرَجْتُ بِهَا أَمْشِي تَجَرُّ وراءَنا  
  على أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ

منظرٌ اعتياديٌّ في النِّساءِ آنذاكَ، أن تَجرَّ المرأةُ ذيلَ ثوبِهَا خلفَهَا، لكنَّ امرئَ القيسَ يلمِّحُ مرَّةً أخرى إلى المناظرِ الجماليَّةِ الأنثويَّةِ التي تحلو في عينَيِ الرِّجالِ، من غيرِ أن يصرِّحَ ذلكَ، فهو إذ يذكرُ ما اتَّسعَ منَ اللباسِ حتَّى فاضَ على الأرضِ، فأخذَتِ الفتاةُ تسحبُهُ خلفَهَا، فإنَّ ذلكَ ليسَ لهَا وحدَها، فهيَ لا تَجُرُّهُ “وراءَهَا” وحدَها، بل “وراءَنَا” معًا، الأنثى والذَّكرِ، فكأنَّهُ يؤكِّدُ بذلكَ أنَّ ثوبَهَا بِحلى منظرِهِ، وجمالِ ما يفيضُ منْهُ على الأرضِ، ليسَ لفتاتِهِ وحدَهَا، بل لَهُ كذلكَ حقٌّ فيْهِ، مثلَمَا لَهَا هي، وربَّما أكثرَ من ذلكَ، إذ إنَّ الفتاةَ لن ترتديَ ثوبًا لِتخرجَ فيه معَ محبوبِهَا، ما لم يكن يروقُ لَهُ ويجعلُهَا تحلو في عينَيْهِ.

وعادةُ جرِّ ذيولِ أثوابِ النِّساءِ، كانَتْ شائعةً عندَهُم واستمرَّتْ، حتَّى نقلَهَا إليْنَا الإسلامُ: “ما تصنعُ المرأةُ بذيلِهَا؟ تَجُرُّ ذراعًا لا أكثرَ”، ولئن ذكرَهَا امرؤ القيسِ كَمنظرٍ جماليٍّ اعتياديٍّ، فربَّما لَنَا أن نرَاهَا ضمنَ الإشكاليَّاتِ المفقودةِ في شعرِ أبي فراسٍ الحمدانيِّ، إذ كانَ يعاني قسوةَ السِّجنِ، ومرارةَ تقلُّبِ الزَّمانِ بِهِ بعدَ أن كانَ أميرًا يأمرُ فَيطاعُ، فإذ بِهِ سجينٌ ملزمٌ بارتداءِ ملابسِ الصُّوفِ المزعجةِ: (الدُّويهي، 1994، ص 265):

يا ناعِمَ الثَّوبِ كيف تُبْدِلُهُ؟  
  ثيابُنَا الصُّوفُ ما نبدِّلُهَا

ربَّما كانَتْ ثيابُ الصُّوفِ الإلزاميَّةِ أقلَّ المعاناةِ، فَكلُّ ما حولَهُ مزعجٌ لَهُ، لا يستطيعُ احتمالَهُ بأيِّ حالٍ منَ الأحوالِ، وقد أفصحَ عن ذلكَ في بدايةِ قصيدتِهِ: (ص 263):

يَا حَسْرَةً ما أكادُ أحْمِلُهَا  
  آخرُهَا مُزْعِجٌ وأوَّلُهَا

متألِّمًا لِمَا يصلُ إليْهِ من أخبارٍ لا تسرُّ أحدًا، فأمُّهُ التي ليسَ لَهَا غيرَهُ في الدُّنيا لجأَتْ إلى ابنِ عمِّه، سيفِ الدَّولةِ الحمدانيِّ، هذا الرَّجلُ الذي قاتلُ أبو فراس الأعداءَ مرارًا لأجلِهِ، ولكنَّهُ ردَّهَا خائبةً عن بابِهِ، فانزعجَ أبو فراس لِحالتِهَا أكثرَ ممَّا انزعجَ لحالِهِ، وهوَ في الأسرِ: (ص 164):

بِـــــــــأيِّ عُــــــــذْرٍ رَدَدْتَ والهَـــــــــةً  
  عَلَيْــــكَ دُونَ الــــــورى مُعوَّلُـــهَا
جَاءَتْـــــكَ تَمْتـــــَاحُ رَدَّ واحِدِهَــــــا  
  يَنْتَظِـــرُ النَّـــاسُ كَيْــفَ تُقْفِلُـــهَا

نعم، هو منزعجٌ لحالتِهَا، ولولاها لفضَّلَ البقاءَ في الأسرِ حتَّى لو كانَ موتُهُ فيه كامنًا، ويعلنُ أبو فراس هذا الأمرَ (ص375):

لَولَا العَجُوزُ بِمَنْبِــــــــجٍ  
  مـــا خِفْـــتُ أسْبَابَ المَنِيَّـــةْ
ولكَانَ لِي عمَّا سَأَلْـــــ  
  تُ مِـنَ الفِدَا نَفْــــسٌ أَبِيَّــــــةْ
لَكِــنْ أَرَدْتُ مُرَادِهَـــــــــا  
  ولَوِ انْجَذَبْتُ إلى الدَّنِيَــــــةْ
وأرَى مُحَامَاتِي عَلَيْــــ  
  هَا أَنْ تُضَامَ مِنَ الحَمِيَّـةْ

رجلٌ في هذه الحالةِ منَ القهرِ والهوانِ، يعترفُ أنَّهُ حينَ يخلو بنفسِهِ ليلًا في السِّجنِ، وتظلمُ الأنوارُ من حولِهِ، ولا يرى أحدٌ وجهَهُ، يَبْكِي ألمًا وشوقًا، ربَّما حبًّا: (ص 162):

أرَاكَ عَصِيَّ الدَّمْعِ شِيْمَتُكَ الصّــــــــــَبْرُ  
  أَمَـــا للهـــــــــوى نَهْيٌ عَلَيْكَ ولا أَمْــــــــــــرُ
بَلى أنا مُشْـــــتَاقٌ وعِنْــــــــــدِي لَوعَـــــــــــةٌ  
  ولكـــــنَّ مثلِـــــــي لا يُذَاعُ لَهُ سِـــــــــــــــــــرُّ
إذا الليلُ أَضْوَانِي بَسَطْتُ يَدَ الهوى  
  وأَذْلَلْتُ دَمْعًا من خلائقِهِ الكِــــــــــــبْرُ

لقد كانَ رجلًا صادقًا في مشاعِرهِ، وفيًّا في محبَّتِهِ، أحبَّ فتاةً فَوَهَبَها قلبَهُ، ترَكَ ديارَ أهلِهِ في سبيلِ القربِ منها، بل عادى المقرَّبِينَ منه، لِيُثبتَ لَهَا محبَّتَهُ إيَّاهَا: (ص 163):

بَدَوتُ وأهْلِي حاضِرُونَ لِأنَّنِــــــــــي  
  أرى أنَّ دارًا لَسْــتِ مِــنْ أهلِــهَا قَفْـــــرُ
وحَارَبْتُ قَومِي في هَواكِ وإنَّهُــــــمْ  
  وإيَّــــايَ لولا حبُّــــكِ المــــاءُ والخَمْــــــــــرُ

غَيْرَ أنَّ مكافأتَهُ على هذِهِ المحبَّةِ كانَتْ قاسيةً جدًّا، تمثَّلَتْ لَهُ إنكارًا وبِهِ غدرًا، ما أشعرَهُ بالمذلَّةِ لوفائِهِ لهذا الحبِّ العقيمِ:

وَفَيْـــتُ وفِي بَعْــــــــضِ الوَفَاءِ مَذَلَّــــــةٌ  
  لآنسَةٍ في الحَـــــيِّ شِيْمَتُــــــــــها الغَــــــــــدْرُ
تُسائِلُنِـــــــي مَنْ أَنْتَ وهـــــــيَ عَليْمَــــةٌ  
  وهَلْ بِفتًى مِثْلِي على حالِــــــــهِ نُكْــــــــــــرُ
فَقَالَتْ لَقَدْ أَزْرَى بِكَ الدَّهْرُ بَعْدَنَــــــا  
  فَقُلْتُ مَعَاذَ اللهِ بَـــــلْ أَنْــــتِ لا الدَّهْــــــــرُ

وما أردْنَا بِهذا الاستطرادِ إلَّا الإحاطةَ التَّامَّةَ بِأحوالِ الشَّاعرِ النَّفسيَّةِ والعاطفيَّةِ، سواءً من ناحية آلامِهِ لفقدانِهِ مكانتَهُ الاجتماعيَّةَ المرموقةَ، حتَّى باتَ أسيرًا يطيعُ أوامرَ آسرِيْهِ، وآلامِهِ لناحيِةِ غدرِ المحبوبةِ، لعلَّنَا نصلُ بعدَ ذلكَ إلى بعضٍ منَ الجمالِ الأنثويِّ الذي نمرُّ عليْهِ مرورَ المتأثِّرِيْنَ على حالةِ الشَّاعرِ، أكثرَ ممَّا يتبدَّى لنا ذلكَ الجمالَ، وهذا في قولِهِ (ص 164):

وحَيٍّ رَدَدْتُ الخَيْلَ حتَّى مَلَكْتُـــهُ  
  هزيمًا وردَّتْنِي البَراقِعُ والخُمـــرُ
وسَاحبَةِ الأذيَالِ نحوي لقيْتُـــهَا  
  فَلَمْ يَلْقَهَا جافِي اللقاءِ ولا وَعْرُ

تُرَى، أَأرادَ الشَّاعرُ هنا وصفَ شهامتِهِ فَحسبُ؟ ها هوَ يعرِّضُ نفسَهُ للخطرِ، للموتِ، يقاتلُ الأعداءَ ويتوغَّلُ في ديارِهِم، وكم منْ حيٍّ من أحياءِ مدنِهِم سقطَ في يَدِهِ، وكان في إمكانِهِ أن يضيفَهُ إلى مملكتِهِ، ولكن مَنْ ردَّهُ عن ذَلكَ، وجعلَهُ يتركُ الحيَّ لأهلِهِ ويرجعُ منْ حيثُ أتى، ليسَ النِّساءَ، بل ملابسهَنَّ، ولمزيدٍ منَ الدِّقَّةِ، جزءًا من ملابسهِنَّ لا كلَّها!

ثمَّ إنَّ لديْهِ بعضَ الأسرى، وها هيَ الفتاةُ الرُّوميَّةِ تجري نحوَهُ لِتستعطفَهُ لِيُعِيدَ إليْهَا مَنْ أَسَرَ مِنْ عائلتِهَا، فإذ بِهَا ترى نفسَهَا مكرَّمةً معزَّزةً، تنالُ طلبَهَا، كَذلكَ تنالُ ما لم تطلبْ، وما لم تحلمْ بأن تنالَ في مسعاهَا لِتحريرِ أسرَاهَا: (ص 164):

وَهَبْتُ لَهَا مَا حَازَهُ الجَيْشُ كُلَّهُ  
  ورُحْتُ ولَمْ يُكْشَفْ لأبْيَاتِهَا سِتْرُ

لكنَّ الإشكاليَّةَ الحاضرةَ الغائبةَ هنا، أن كيفَ جاءَتْهُ هذِهِ الفتياتُ الرُّوميَّاتُ؟ وهلِ الأنثى الملهوفةُ لِتحريرِ زوجِهَا أوِ ابنِهَا، أو أبيْهَا أو أخيْهَا، تضيِّعُ وقتَهَا في ارتداءِ الأثوابِ، واحدًا فوقَ الآخرِ، وهي تدركُ أنَّ أيَّ تأخيرٍ منْهَا في توسُّلِهَا، قد يذهبُ بِحياةِ مَنْ تُحِبُّ، أو على أقلِّ تقديرٍ للأمورِ، سَينسحبُ الجيشُ العدوُّ بأسراهُ، فَتخسرَ أحبابَهَا إلى الأبدِ؟

لكنَّ أبا فراسٍ يؤكِّدُ قدومَهُنَّ، ساحباتٍ أذيالَ أثوابِهِنَّ خلفَهُنَّ، إشارةً إلى جمالٍ أنثويٍّ فريدٍ، والإشكاليَّةُ هنا كَذلكَ، هل يدلُّنَا هذا على أنَّ أبا فراس، في أسرِهِ هذا، بكلِّ الآلامِ والقهرِ والهوانِ، يَستعيدُ في ذهنِهِ مشهدَ الفتياتِ الجميلاتِ، ذواتِ الأثوابِ السَّابغةِ، وربَّما رآهُنَّ إذ يسحبُهُ جنودُ الأعداءِ نحوَ الأسرِ، فَظَلَّ مشهدُ جمالِهِنَّ حاضرًا في ذهنِهِ، يمثِّلُ ألمًا من آلامِ سجنِهِ، إذ يفتقدُ أمَّهُ وحرِّيَّتَهُ وقومَهُ الذينَ يأتمرُونَ بأمرِهِ، وابنةَ عمِّهِ التي غدرَتْ بحبِّهِ، والبنتَ الرُّوميَّةَ الحسناءَ التي تمشي ساحبةً ذيولَ ثوبِهَا خلفَهَا على الأرضِ؟

هذا، ولا ينفي ما يسبِّبُهُ الجمالُ الأنثويُّ للشَّاعرِ من آلامِ الرُّوحِ،، ممَّا لا يصرِّحُ الشَّاعرُ بِهِ، مدى شهامةِ هذا الرَّجلِ، وفضلَهُ وشجاعتَهُ، وربَّما تكونُ هذِهِ الشَّهادةُ من أبي عبد الله بنِ الحسينِ بن خالويَه، دليلًا ثابتًا على ذلك: “من حلَّ مِنَ الشَّرف السَّامي والحسبِ النَّامي، والفضلِ الرَّائعِ و[الكرمِ الذَّائعِ] والأدبِ البارعِ، والشَّجاعةِ المشهورةِ والسَّماحةِ المأثورةِ، محلَّ الأميرِ أبي فراس الحارثِ بن سعيدٍ بن حمدانَ بن الحارثِ العدويِّ [رحمَهُ الله تعالى]”. (تحقيق الدَّهَّان، 1944، ج2 ص1، 2. التُّوتنجي، 1987، ص 11).

ومنَ الثَّابتِ أنَّ العواملَ المحيطةَ بالشَّاعرِ، قد أثَّرَتْ كثيرًا في بلورةِ أشعارِهِ، وتوجيهِهَا وجهةَ الحزنِ والأسى، وبالأخصِّ ما نستشهدُ بِهِ هنا من افتقادِهِ الجمالَ في الأنثى التي يحبُّها، إذ أنكَرَتْه المحبوبةُ التي ظنَّ فيها الوفاءَ، فَكانَ الذُّلُّ حاضرًا بدلًا ممَّا كانَ ينتظرُ ويتوقَّع حصولَهُ، فَهلْ سَيتذكَّرُ من وجهِهَا ملامحَ الطِّيبةِ والجمالِ؟ وفي المقابلِ إنَّهُ قد رأى الجمالَ الرُّوميَّ في إناثٍ التقاهُنَّ لحظاتٍ قليلةً، لكنَّهُ لم يشهدْ فيْهنَّ غدرًا ولا خيانةً، فظلَّتْ ملامحُ جمالِهِنَّ في ذهنِهِ حاضرةً، وفي قلبِهِ.

وفي كلِّ الأحوالِ، لم تكنِ العواملُ المؤثِّرةُ في شعرِهِ بِمَا حملَ من ملامحِ الحزنِ والأسى، الدُّموعِ والبكاءِ، عواملَ هيِّنةً أو خفيفةً على النَّفسِ، بالأخصِّ في ذلكَ ما ذكرَهُ الدُّكتورُ مارون: “تجربةُ الأسرِ، وما لقِيَهُ خلالَ السَّنواتِ المُرَّةِ من ألمٍ وعذابٍ في سجنِهِ، كتحمُّلِهِ الأشغالَ الشَّاقَّةَ والقيودَ، وارتداءَ الثِّيابِ الصُّوفيَّةِ الخشنةِ، ومهانةِ الأعداءِ”. (2019، ص 16).

قبلَ هذا الأسرِ، صَرَّحَ أبو فراس كثيرًا بالنِّساءِ في شعرِهِ، المتيَّماتِ في حبِّهِ، الحزيناتِ إذا لم يُعِرْهُنَّ اهتمامًا، الفخوراتِ بشجاعتِهِ في قتالِ الأعداءِ، غيرَ أنَّهُ في الأسرِ يتحدَّثُ عن ذكرى النِّساءِ في معرضِ الجمالِ الذي يحبُّهُ ويفتقدُهُ، يذكرُ البراقعَ والخُمُرَ والأثوابَ السَّابغةَ بذيولِهَا، ويبتعدُ منِ الحوارِ، حتَّى كأنَّهُ لم يَعُدْ لَهُ من دورٍ يُذْكَرُ في تلمُّسِ مظاهرِ الجمالِ الأنثويِّ إلَّا الذِّكرياتِ فَحسبُ، ولن تقدِّمَ لَهُ الذِّكرى لجراحِهِ بلسمًا.

أمَّا حوارُهُ في القصيدةِ معَ ابنةِ عمِّهِ، فقد خلا من مظاهرِ الجمالِ إلَّا مظهرًا بعيدًا، يخبرُنَا فيْهِ سببَ حبِّهِ إيَّاها: (الدُّويهي، ص 163):

وَقُورٌ ورَيْعَانُ الصِّبَا يَسْتَفِزُّهَا  
  فَتَأْرَنُ أحْيَانًا كَمَا أَرِنَ المُهْرُ

قبلَ أن تغدرَ بِهِ وتُنْكِرَ ذكرَاهُ ووجودَهُ، وهذا بالطَّبعِ ليسَ مظهرًا جماليًّا، بل هو باعثٌ على التَّحدِّي: (ص 164):

فَلَا تُنْكِرِيْنِي يَا ابْنَةَ العَمِّ إنَّـــهُ  
  لَيَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتِهِ البَدْوُ والحَضَــــــرُ
ولا تُنْكِرِيْنِي إنَّنِي غَيْرُ مُنْكِــرٍ  
  إِذَا زَلَّتِ الأقْدَامُ واسْتُنْزِلَ النَّصْــــــــــــرُ
وإنِّــــــــــي لَجَــــــرَّارٌ لِكُلِّ كَتِيْبَـــــــــــةٍ  
  مُعَوَّدَةٍ أَنْ لا يُخِلَّ بِهَا النَّصْــــــــــــــــــــــرُ

يبدو هذا الشُّعورُ صعبًا، أن تتقلَّبَ الأمورُ منَ التَّصريحِ بجمالِ الإناثِ، بِعرضِ نجواهُنَّ وحوارهِنَّ حول هذا الشَّابِّ الشَّهمِ الشُّجاعِ، إلى التَّخلِّي عنِ الحوارِ في تبيانِ الجمالِ الأنثويِّ، وتوجيهِهِ وجهةَ الدِّفاعِ عن نفسِهِ ضدَّ غدرِهِنَّ بِهِ ومكرِهِنَّ، فلا يبقى لَهُ بعدَ ذلكَ من مظاهرِ الجمالِ المفقودةِ في شعرِهِ، المضطربةِ بينَ ثنايا مشاعرِهِ، سوى تلميحاتٍ إلى ملابسَ نسائيَّةٍ كانَتْ سببًا في شهامةٍ نادرةٍ منه، وربَّما أفضلُ ما نختمُ ما نستدلُّ به على معرضِ الحوارِ في شعرِ أبي فراس في العمقِ الأنثويِّ:

ويمكنُ القولُ إنَّ أبا فراس أدركَ أهمِّيَّةَ الحوارَ في تحريكِ مكامنِ النَّفسَ والتَّأثيرِ فيها، فَلَمْ يتركْ مناسبةً إلَّا وتحدَّثَ عن شخصيَّتِهِ، في مقاطعَ حواريَّةٍ معَ النِّساءِ، مبرزًا الصَّوتَ الأنثويَّ الذي جعلَ شعرَهُ سائغًا ومشوِّقًا، فقد ضربَ على الوترَ الحسَّاسَ، محدِّثًا الرَّجلَ والمرأةَ، بما يدورُ في نفسَيْهِمَا، أو بما يفكِّرانِ بِهِ، أو يكتِّمانِهِ. (مارون، ص 61).

وإذا ما عُدنَا إلى امرئِ القيسِ، لِنستبينَ شيئًا من ملامحِ الجمالِ الأنثويِّ المفقودةِ في تحليلِ الدَّارسِينَ ممَّن سبقُونَا، نقرأ لَهُ في وصفِ فاطمةَ، في معلَّقتِهِ، ما يأتي:

إِلَى مِثْلِهَا يَرْنُو الحَلِيْمُ صَبَابَةً  
  إذا ما اسْبَكَرَّتٍ بَيْنَ دِرْعٍ ومِجْوَلِ
تَسَلَّتْ عَمَايَاتُ الرِّجَالِ عَنِ الصِّبَا  
  ولَيْسَ فُؤادِي عَنْ هَوَاهَا بِمُنْسَلِي

إنَّهُ يديمُ النَّظرَ إليْهَا معَ سكونِ الطَّرْفِ، وذلكَ لحسنِهَا (لسان العرب، 1968م، مادة رَنَا)،  وذلكَ حينَ تتهادى بِنوعَيْنِ منَ اللباسِ، ثوبٍ صغيرٍ تلبسُهُ الصَّبيَّةُ، وثوبٍ آخرَ تلبسُهُ المرأةُ، وها هي حبيبتُهُ تسبِّبُ لَهُ الجهالةَ إذ يرَاهَا بِهذا الثَّوبِ وذاكَ، ثوبِ الصَّبيَّةِ وثوبِ المرأةِ، فَهلْ هيَ بِذلكَ تتغاوى فَحسبُ، مؤكدةً جمالَهَا إذا ادَّعَتِ الصِّبا أوِ ادَّعَتْ بلوغَها مبلغَ النِّساءِ؟

لعلَّ الشاعرَ هوَ الذي يؤكِّدُ لَنَا بِذلكَ أنَّ تقلَّبَ مشاعرَهَا وعواطفَهَا، في تناقضٍ عجيبٍ، تجلسُ لِتأكلَ ممَّا نحرَ لَهَا ولِرفيقاتِهَا، تتضايقُ من وجودِهِ في هودجِهَا، تسمحُ لَهُ بِدخولِ بيتِهَا وتنزعجُ لرؤيتِهِ في غرفةِ نومِهَا ومعَ ذلكَ تخرجُ معَهُ في نزهةٍ، ثمَّ ترمقُهُ بِنظراتٍ غاضبةٍ، فَهلْ هيَ مجرَّدُ أنثى ترتدي لباسَ الطِّفلةِ ولباسَ البالغةِ مظهرةً أنَّها جميلةٌ، أيًّا كانَ لباسُهَا، أو في الأمرِ إشكاليَّةٌ جماليَّةٌ مفقودةٌ ألمحَ إليها امرؤُ القيسِ، أنَّهَا بِتقلُّبِ عواطفِهَا وتناقضِ أحاسيسِهَا، تمرُّ بمرحلةِ تغيُّرِ الانفعالاتِ وتبدُّلِهَا عندَ كلِّ أنثى، ما يعني أنَّهَا الآنَ في مرحلةِ حيضِهَا؟

وإذا نظرَنْا في شعرِ عمرِ بن أبي ربيعةٍ، فربَّما نجدُ لِذلكَ شبيهًا بكلامِهِ، في بعضِ أشعارِهِ، إذ يصفُ محبوبَتَهُ وصديقاتِهَا بقولِهِ: (تحقيق أحمد، 1996، ص 165):

وَرِياحُ الصَّيْفِ قَدْ أَزْرَتْ بهَـا  
  تَنْسِـــجُ التُّــــرْبَ فُنُونًــا والمَطَرْ
ظِلْــــتُ فيـــــهَا ذاتَ يَـــــومٍ واقِفًا  
  أسْألُ المَنْزِلَ هَلْ فِيْهِ خَبَرْ؟
للَّتـــــــي قَالَــــــتْ لأتْــــــرَابٍ لَهَــــــــــا  
  قُطُـــــفٍ فَيْـــــهِنَّ أُنْــــسٌ وخَفــــــَرْ

كأنَّمَا الرِّيحُ في نظرِ عمرِ بن أبي ربيعةٍ تمسكُ بالعودِ لِتَلُفَّ عليه الخيطانَ، كأنَّها تخيطُ الأثوابَ الملوَّنةَ، وفي هذا إشارةٌ أولى، أمَّا الإشارةُ الثَّانيةُ فأوردَهَا صريحةً في قولِهِ: “فِيْهِنَّ أُنْسٌ”، أي أنَّهُنَّ يمتلكْنَ حديثَ النِّساء الخاصَّ بهنَّ، الذي ربَّما لا يمكنُ للرِّجالِ إدراكُ معظمِ كلماتِهِ ومعانيْهَا، فإذا جمعْنَا الإشارتَيْنِ معًا، الألوانَ المتعدِّدةَ في ملابسِ النِّساءِ (منظرٌ جماليٌّ ظاهرٌ) وحديثَ النِّساء الخاصِّ بهنَّ (منظرٌ جماليٌّ ظاهرٌ)، أَيقودُنَا هذا إلى تلميحٍ خفيٍّ من عمرِ بن أبي ربيعةٍ، إلى توريةٍ نادرةٍ من هذا الشَّاعرِ في الشِّعرِ العربيِّ، بأنَّ محبوباتِهِ الثلاثَ قَدْ بلَغْنَ مبلغَ النِّساءِ (باتَتْ تأتيْهُنَّ الدَّورةَ الشَّهريَّةَ)، وألوانُ الملابسِ التي تخيطُهَا الرِّياحُ، هيَ مظاهرُ التَّقلُّباتِ النفسيَّةِ المتعدِّدةِ التي تمرُّ بها النِّساءُ في هذِهِ الدَّورةِ الشَّهريَّةِ (أي أنَّهنَّ فيها الآنَ، إذ تقعُ أحداثُ القصَّةِ، وينقلُ إلينا حوارَهُنَّ فيها)؟

يبدو أنَّ الغزلَ كانَ أساسَ نَظْمِ الشِّعرِ الجاهليِّ تمامًا، وما عدا ذلكَ منَ الموضوعاتِ يتعلَّقُ بالغزلِ، “إذ كانَتْ روحُ الحبِّ وعواطفُ الهوى هي التي تَبْتَعِثُهَا وهي التي تكمنُ وراءَهَا، وبِتعبيرٍ آخرَ، كانَتْ هذِهِ الأغراضُ تتَّصلُ بالغزلِ بهذا السَّببِ أو بذاكَ، بالسَّببِ الواضحِ أو بالسَّببِ الغامضِ، ولكنَّها كانَتْ في أحيانٍ كثيرةٍ قريبةً منه”. (فيصل، 1959، ص 4).

وإنَّما السَّببُ في ذلك، فهو “لأنَّ التَّشبيبَ قريبٌ منَ النُّفوسِ لائطٌ بالقلوبِ لِمَا قد جعلَ الله في تركيبِ العبادِ من محبَّةِ الغزلِ وإِلْفِ النِّساءِ، فَلا يكادُ أحدٌ يخلو من أن يكونَ متعلِّقًا بِهِ بسببٍ وضاربًا فيه بسهمٍ حلالٍ أو حرامٍ”. (تحقيق شاكر، ج1، ص 75، ج2 ص 417، 418).

لقد تطوَّرَ الفكرُ العربيُّ، ورقَّتْ معاني الشِّعرِ الغزليَّةِ بمرورِ الزَّمانِ، حتَّى رأيْنَا في العصرِ الأمويِّ شعراءَ مثلَ عمرِ بن أبي ربيعةٍ، يركِّزُونَ في قصائدِهِم على المغامراتِ الغزليَّةِ، يقدِّمُونَهَا في إطارٍ قصصيٍّ حواريٍّ، ومن ذلكَ قصيدةُ ابن أبي ربيعةٍ: “أمِنْ آلِ نُعْمٍ”، يصفُ فيها تسلَّلَهُ ليلًا إلى منزلِ محبوبتِهِ، وسهرَهُ معَهَا حتَّى كادَ الفجرُ ينبلجُ، فَعرضَ الشَّاعرُ أن يواجهَ قومَهَا، فإمَّا أن ينجوَ منْهُم وإمَّا أن يثأرُوا منْهُ: (تحقيق أحمد، ص 126):

فَقُلْتُ أُبَادِيْهِم فَإِمّا أَفُوتُهُم  
  وَإِمَّا يَنالُ السَّيْفُ ثَأرًا فَيَثأَرُ

يريدُ ابنُ أبي ربيعةَ في ذلكَ أن يُظهرَ لها شجاعتَهُ في القتالِ وبطولتَهُ، غيرَ أنَّ في ذلكَ إهانةً لكرامتِهَا، لأنَّهُ سَيوثِّقُ كلامَ مَنْ تكلَّمَ في حقِّهَا ناشرًا الشَّائعاتِ في حقِّها: (ص 126، 127):

فَقَالَتْ أَتَحْقِيْقًا لِمَا قَالَ كَاشِحٌ  
  عَلَيْنَا وتَصْدِيقًا لِمَا كَانَ يُؤثَرُ؟
فَإِنْ كَانَ لا بُدَّ مِنْهُ فَغَيْرُهُ  
  مِنَ الأَمْرِ أدْنَى للخَفَاءِ وأَسْتَرُ

وما الذي تقصدُهُ بكلمةِ “غيرُهُ” هذِهِ سوى التَّجديدِ في القوالبِ الشِّعريَّة الغزليَّةِ التي يصبُّهَا عمرُ ابن أبي ربيعةٍ في الشِّعرِ الأمويِّ الغزليِّ الحديث؟ إنَّهَا تستعينُ بأختَيْهَا، واثقةً بأنَّهُمَا سَتفهمَانِهَا وسَتجدَانِ المخرجَ لِخروجِ هذا الرَّجلِ من بيتِهَا، وهنا نلمسُ جمالًا مزدوجًا، ظاهرًا وخفيًّا: (ص 127):

فَقَامَـــتْ إِلَيْـــهَا حُرَّتَــــانِ عَلَيْهِـــــمَا  
  كِسَاءَانِ مِنْ خَزٍّ دِمَقْسٌ وأخْضَرُ
فَقَالَتْ لأُخْتَيْهَا أَعِيْنَا على فتًـى  
  أَتَـــــى زائِــــرًا والأَمْــــرُ للأَمْـــرِ يُقْــــدَرُ
فَأَقْبَلَـــــتَا فَارْتَاعَــــــــــتَا ثُـــــــمَّ قَالَــــــــــتَا  
  أَقِلِّــي عَلَيْكِ اللومَ فالخَطْبُ أَيْسَـــرُ

المفترض أنَّهُمَا في الليل يسهرَانِ، وقد بدأَ نورُ الفجرِ ينبلجُ، لقد فاتَهُمَا الوقتُ، وأهلُهَا سَيدركُونَ وجودَهُ، سَيقتلونَهُ، فَذهبَتْ تستعِينُ بأختَيْهَا، فَهلْ كانَتَا تنامَانِ بمثلِ هذِهِ الأثوابِ الفاخرةِ؟ لِنَقُلْ إنَّ ذلك يحدثُ، لأنَّ عمرَ بن أبي ربيعةٍ لا يمكنُ أن يصفَ أنثى إلَّا بِتبيانِ جمالِهَا، لكنَّ المشهدَ الأنثويَّ الآخرَ يبرزُ في هذِهِ الحركةِ الأنثويَّةِ الخالصةِ، البنتُ تقولُ لأختَيْهَا عندَنَا فتًى زائر، ومعَ هذا حينما تَرَيَانِهِ (ارْتَاعَتَا)! فما السَّببُ في هذا التَّرويع، وقد علمَتَا بوجودِهِ عندَهُمَا؟ ما لم يكن في ذلك دلالٌ أنثويٌّ يبدو أنَّهُ يميِّزُ كلَّ الإناثِ في العالمِ، على اختلافِ الأزمنةِ والأمكنةِ.

وها هما تعترفَانِ أنَّ الأمرَ هيِّنٌ، داعيتَانِ أختَهُمَا إلى أن تهدأَ نفسًا وتكفَّ عنِ اللومِ والمعاتبةِ الذَّاتيَّةِ، فالحلُّ متيسِّرٌ، وفي متناولِ اليدِ، بَيْدَ أنَّه حلٌّ لم يُسبَقْ من قبلُ قطُّ في الشِّعرِ العربيِّ: (ص 127):

فَقَالَتْ لَهَا الصُّغْرَى سَأُعْطِيْهِ مِطرَفــــــــــــــي  
  وَدَرْعِــــي وَهَذا البُـــــرْدُ إِنْ كَانَ يَحذَرُ
يَقُــــــــــــــــومُ فَيَمشِـــــــــــــي بَيْنَــــــــــــنَا مُتَنَكِّـــــــــــــــــــــرًا  
  فَلا سِــــــــــرُّنا يَفْشُـــــــــــو وَلا هُوَ يَظْهَــــرُ
فَكانَ مِجَنِّي دُونَ مَـــــن كُنْــــــتُ أَتَّقِــــــــــــــــــي  
  ثَــــلاثُ شُخُــــوصٍ كَاعِبَـانِ وَمُعصِرُ

ألا يرتدي الشَّاعرُ لباسَهُ الخاصَّ به؟ فلماذا تعرضُ الصُّغرى، بل تقرِّرُ أنَّهَا سَتعطِيْهِ أثوابَهَا الثَّلاثةَ جميعًا؟ يكفِيْهِ ثوبٌ أنثويٌّ واحدٌ فوقَ ملابسِهِ هذِهِ، ليحقِّقَ المرادَ الذي تبتغِيْهِ الأنثى الصُّغرى: “يمشي بينَنَا متنكِّرًا”، فلماذا يرتدي إذًا كلَّ هذِهِ الملابسَ النِّسائيَّةَ؟ قد كانَ شجاعًا مستعدًّا للقتالِ حتَّى لو أدَّى ذلكَ إلى موتِهِ، لكنَّهُ في لحظةٍ واحدةٍ يوافقُ ما قالَتْهُ البنتُ الصُّغرى، فما كادَتْ تُنهِي مقترحَهَا حتَّى عقَّبَ بالتَّنفيذِ: “فَكَانَ مِجَنِّي”، والإشكاليَّةُ المفقودةُ في الجمالِ الأنثويِّ هنا، ربَّما تكونُ أنَّ شهوةَ هذا الرَّجلِ تجاهَ عالمِ النِّساءِ واكتشافِ كلِّ ما فيه، دفعَتْ بِهِ إلى التَّماهي في عالمِ اللباسِ الأنثويِّ، فها هو يرتدي اللباسَ الأنثويَّ كاملًا بأثوابِهِ الثَّلاثةِ، ويمشي معَ نساءٍ ثلاثٍ، وإذ بِهِ، بذلكَ، يكتشفُ تفاصيلَ أجسادِهِنَّ!

فالمحبوبةُ وإحدى أختَيْهَا نواهدُ، أثداؤُهُنَّ تدلُّ على شبابِهِنَّ ونضارتِهِنَّ، لم تتهدَّلْ كما يحدثُ للعجائزِ، وبالتَّالي لا شكَّ في أنَّهُمَا بالغاتٌ، فلماذا يختصُّ، في هذا المقامِ، بالإشارةِ إلى الأختِ الصُّغرى وحدَهَا أنَّهَا فتاةٌ قد عَهِدَت عَهْدَ البلوغِ “الدَّورةَ الشهريَّةَ”، ترى هل بلغَ بِهِ العشقُ في معرفةِ كلِّ ما يخصُّ الأنثى، شكلًا وجسدًا وتفصيلًا، حدَّ تخيُّلِ أنَّهُ أنثى شابَّةٌ، تخرجُ في كاملِ زينتِهَا ولباسِهَا، وقد بلغَتْ مبلغَ الإناثِ الواعياتِ، ويطمحُ – في شكلِهِ الأنثويِّ الافتراضيِّ – إلى تخيُّلِ متى يزدادُ جمالًا، ويستحقُّ صفةَ “كاعبٍ”؟

وانجذابُ الرِّجالِ نحوَ ملابسِ النِّساءِ، والنَّظرُ إليْهَا في إعجابٍ، أمرٌ قد يكونُ فطريًّا، ودلَلْنَا عليْهِ في معرضِ شرحِ بعضِ إشكاليَّاتِ الجمالِ عندَ امرئِ القيسِ، لكنَّ انجذابَهُم نحوَ ارتداءِ هذِهِ الملابسِ ليسَ بمغامرةٍ خياليَّةٍ عندَ عمرِ بن أبي ربيعة، ولو كانَتْ خيالًا لم تحدثْ في عالمِ الواقعِ، إلَّا أنَّ هذا الانجذابَ أمرٌ موجودٌ، لا يمكنُ إنكارُهُ، لكنَّهُ يصنَّفُ ضمنَ الأمراضِ النَّفسيَّةِ التي تحتاجُ إلى مساعدةِ المريضِ على التَّخلُّصِ منْهَا.

ومن ذلكَ ما يعرضُهُ موقعُ أدلَّةِ Msd حولَ هذا الموضوعِ، بِعنوانِ: لبسةُ الجنسِ الآخرِ: Transverstism، مصنِّفًا إيَّاهُ بأنَّهُ “اضطرابُ” لبسةِ الجنسِ الآخرِ: Transvestic Diorder (1440هـ)، ـوحتَّى لو أنَّ معظمَ المصابِينَ بهذِهِ المشكلةِ ليسَ لديْهِم هذا الاضطرابُ، لكنَّ العلاجَ النفسيَّ يركِّزُ، عندَ الحاجةِ، على مساعدةِ المرضى على قبولِ أنفسِهِمْ، والتَّحكُّمِ في السُّلوكيَّاتِ التي يمكنُ أن تُسبِّبَ لَهُمُ المشاكلَ في حياتِهِم، فيما بدا لنا عمرُ بن أبي ربيعة بذلكَ سعيدًا، بل ولَهُ متحمِّسًا، ما قد يؤكِّدُ عمقَ الإشارةِ إلى الجمالِ الأنثويِّ المفقودِ في شعرِهِ، ممَّا نحاولُ إبرازَهُ في بحثِنَا هنا.

إنَّ إشكاليَّةَ الجمالِ الأنثويِّ إشكاليَّةٌ لا تنقطعُ بمرورِ السِّنينَ، مهما تطوَّرَتِ الحياةُ من حولِنَا، ودخلَتْ بنا عوالمَ جديدةً لم يعهَدْهَا مَنْ قبلَنَا، وقد أكَّد الله تعالى في القرآنِ الكريمِ لَنَا ذلكَ الأمرَ: ﴿زُيِّنَ للنَّاسِ حبُّ الشَّهواتِ منَ النِّساء﴾، مبيِّنًا أنَّ إعجابَ الرِّجالِ بجمالِهِنَّ أمرٌ طبيعيٌّ، يستوي في ذلك الأنبياءُ وسواهُم، إذ يخاطبُ الله تعالى نبيَّه محمَّدًا: ﴿لا يحلُّ لكَ النِّساء من بَعْدُ ولا أن تَبَدَّل بهنَّ من أزواجٍ ولو أعجبَكَ حسنهنَّ﴾ (القرآن الكريم، الأحزاب، 52)، مبرزًا أنَّ الجمالَ في النِّساءِ أمرٌ طبيعيٌّ فطريٌّ: ﴿أَوَ مَنْ يُنَشَّأ في الحِلْيَةِ وهُوَ في الخِصامِ غَيْرُ مُبِين﴾ (القرآن الكريم، الزخرف، 18)، وكذلك اللباسُ الأنثويُّ الذي تسحبُهُ الأنثى خلفَهَا أمرٌ يُقِرُّهُ الدِّينُ، إذ سُئِلَ النَّبيُّ: “كم تَجُرُّ المرأةُ من ذيلِهَا؟ قالَ: شبرًا. قلْتُ: إذًا ينكشفُ عنها! قال: ذراعٌ لا تزيدُ عليْهِ”، محدِّدًا بذلكَ المدى المسموحِ بِهِ في الدِّينِ الإسلاميِّ للمرأةِ أن تجرَّ ثوبَهَا خلفَهَا.

وجمال النِّساءِ أمرٌ ينتظرُ المؤمنِينَ في الجنَّةِ، ذكرَهُ اللهُ مخبرًا إيَّانَا عنِ النِّساءِ “الحورِ” مرَّتَينِ في القرآنِ، ومن صفاتِهِنَّ: ﴿وكواعبَ أترابًا﴾ (القرآن الكريم، النبأ، 32)، ولهنَّ غناءٌ عذبٌ ﴿ادخلوا الجنَّةَ أنتم وأزواجكم تُحبَرون﴾ (القرآن الكريم، الزخرف، 70)، أي تستمتِعُونَ بغنائهنَّ الرَّائعِ، وثيابُهُنَّ من أجملِ ما ترى الأعينُ وأبهى: “ولكلِّ واحدٍ منْهُم زوجتَانِ، كلُّ واحدةٍ منْهُمَا يُرى مخُّ سُوقِهَا من وراءِ لحمِهَا منَ الحسن”. (البخاري، 2002، ص 802، رقم 3245، 3246).

و”الحورُ التي يحارُ فيْهَا الطَّرفُ يُبانُ مخُّ سوقِهِنَّ من وراءِ ثيابِهِنَّ، ويرى النَّاظرُ وجهَهُ في كبدِ إحداهنَّ كالمرآةِ من رقَّةِ الجلدِ وصفاءِ اللونِ”. (العسقلاني، 2013، 8/570):

وما نعرضُ هذا إلَّا لِنُبَيِّنَ أنَّ إعجابَ الرِّجالِ بالنِّساءِ والتَّغزُّلِ بِهِنَّ أمرٌ فطريٌّ اعتياديٌّ، تحملُهُ فطرةُ الرِّجالِ معَهُم، سواءً أكانُوا بدائيينَ أم متحضِّرِينَ، فهذا امرؤُ القيسِ جاءَنَا بِبعضِ الأوصافِ التَّلميحيَّةِ، كذلكَ التَّصريحيَّةِ، ما أشارَ الدِّينُ الإسلاميُّ إليْهِ بعدَ ذلكَ، وما يزالُ مستمرًّا في نفوسِ الرِّجالِ يطلبُونَهُ في النِّساءِ في كلِّ أوانٍ. ونعرضُ لذلكَ مثالَينِ اثنَينِ، أوَّلَهُمَا منَ التُّراثِ العراقيِّ الشَّعبيِّ، في أغنيةِ “يا أمّ العيون السُّود”، يبدأُهَا الشَّاعرُ قائلًا:

يا أم العيون السود ما جوزن أنا  
  خدِّك القيمر وأنا اتريَّق مِنَهْ

بدأَ بِوصفِ عيونِهَا السَّوداءِ الجميلةِ، التي تدفعُ بِهِ إلى أن لا يرعويَ (ما جوزن أنا) عن تقبيلِ خدِّها في عمليَّةٍ لا تستغرقُ وقتًا قصيرًا، فَخدُّهَا هو كريمةُ الحليبِ المغليِّ (القشطة)، وهو يُفْطِرُ عليْهِ، ولن يتوقَّفَ حتَّى يشبعَ، وينتقلُ بعدَ ذلكَ إلى وصفِ مشيْتِهَا، لكن في فستانِهَا، ما يدفعُ بِهِ إلى الإتيانِ بأعمالٍ تهوريَّةٍ:

لابسة الفستان وقالت لي أنـــــا  
  حلوة مشيتها دَ تِمشي برَهْدَنَــــــــه
لو تحب خادم خادمها أنــــــــا  
  ولَعُوف الدولة وعوف السلطنه

إنَّهَا إشكاليَّاتُ الحلى الذي لا يمتلكُهُ سوى الإناثِ في عالمِنَا، فهذِهِ الفتاةُ، ذاتُ العيونِ السُّودِ، تخبرُهُ أنَّهَا تلبسُ الفستانَ، ينظرُ إليْهَا إذ بِهِ تمشي مغناجًا، ويا لَهُ من مشهدٍ جماليٍّ مثيرٍ لاهتمامِ الرِّجالِ، لعيونِهِم وقلوبِهِم، ما أجملَهَا إذ تتدلَّلُ في مشيَتِهَا، وهي في فستانِهَا، إلى حدِّ أن يدفعَ بالرَّجلِ إلى تقديمِ نفسِهِ كخادمٍ لَهَا، هذا إذا كانَتْ تقبلُ بِهِ خادمًا، وعندئذٍ هوَ مستعدٌّ أن يتركَ سلطتَهُ ومناصبَهُ، بالتَّالي مكانتَهُ الاجتماعيَّةَ، ليجعلَ نفسَهُ خادمًا لذاتِ الفستانِ الجميلِ التي تتهادى به!

والأنثى تحبُّ الرَّجلَ الذي يحبُّهَا، هو يمنحُهَا كلماتِ الغزلِ، وهي تمنحُهُ عطفَهَا وتحنو عليه، تخشى عليه أن تؤذيَهُ نُسيَماتُ الهواءِ الخفيفةِ حتَّى، مدركةً كلَّ الإدراكِ كم يهوى فيها مظاهرَ حسنِهَا جميعًا، ومن ذلكَ شعرُهَا الطَّويلُ، ونستدلُّ على ذلكَ منَ التُّراثِ المصريِّ “قطر النَّدى”، في الأغنيةِ الشَّعبيَّةِ الشَّهيرةِ:

وأفرش له ضفايري يا عيني على شطِّ الهوى  
  وأخبِّيك في عيني يا عيني من نسمة هوا

ومثلَمَا الرَّجلُ يطلبُ قربَهَا الجسديَّ، تطلبُ هي قربَهُ هذا، وتنتظرُهُ في لهفةٍ وشوقٍ، كيفَ لا يكونُ الأمرُ كذلكَ، وهذِهِ سنَّةُ استمرارِ الحياةِ وامتدادِ الكونِ؟

أسْتَنَّى واسْتَنَّى  
  لمَّا تفوت على بستانَّا
وتصبَّح وتمسِّي  
  تطلب مفتاح الجنَّة

لكنَّ الرِّجالَ في مشاعرِهِم يكذبُونَ، من حيثُ هم فيها صادقُونَ! فمنْهُم مَنْ يغازلُ الأنثى التي أحبَّها صِدْقَ الحبِّ، يغازلُهَا لأنَّهَا حسناءُ جميلةٌ ولأنَّهَا هيَ من دونِ سوَاهَا، ومنْهُم مَنْ ينسَاهَا فورَ مماتِهَا، ويرى أنَّ منَ العبثِ بمكانٍ الحزنَ على أنثى، وقد باتَتْ جسدًا هامدًا تحتَ التُّرابِ (تحقيق فاعور، 1987، ص 364):

يَقُولُونَ زُرْ حَدْرَاءَ والتَّرْبُ دونَـهَا  
  وكَيْفَ بِشَـــــــــيْءٍ وصْلُـــــــهُ قَدْ تَقَطَّعَــــــــــا
وأَهْــــــوَن مَفْقُودٍ إذا المَـــــوْتُ نَالَـــــهُ  
  على المَرْءِ مِنْ أصحابِــــهِ مَنْ تَقَنَّعَـــــــا
وأهْوَنُ رُزْءٍ لامرئٍ غَيْرِ عاجِــــــــزٍ  
  رَزِيَّـــــــــــــــــــةُ مُرْتَــــــــــــجِّ الرَّوادِفِ أفْرَعَـــــــــــــا

ولَئنْ كانَ هذا رأيَ الفرزدقِ، إلَّا أنَّهُ لا يبدو لنا رأيًا ذاتيًّا به، بل إنَّمَا هو رأيٌ عامٌّ، تفرضُهُ طبيعةُ حياةِ الرِّجالِ في العصرِ الأمويِّ، أنْ أحِبَّ وتغزَّلَ، فإذا ماتَتْ انتهى جمالُهَا والنِّساءُ من بعدِهَا كثيراتٌ، والأرقُّ عاطفةً فيهم يخشى أن يبكيَ على امرأتِهِ إذا ماتَتْ كي لا يُتَّهَمَ بخدشِ الحياءِ، وحتَّى زيارةُ قبرِهَا لا طائلَ منها يُرْجَى وتخالفُ أعرافَ المجتمعِ وتقاليدِهِ: (تحقيق ناصر الدِّين، 1987، ص 862).

لَوْلَا الحَيَاءُ لَهَاجَنِي اسْتِعْبَــارُ  
  وَلَزُرْتُ قَبْرَكِ والحَبِيْبُ يُـــــــــــزَارُ
ولقد نظرْتُ وما تَمَتُّعُ نَظْـــرَةٍ  
  في اللحدِ حيثُ تَمَكَّنَ الحفَّـــارُ

بناءً على كلِّ ما تقدَّمَ، يَتَبَيَّنُ لَنَا أنَّ الطَّبيعةَ الفطريَّة في الرِّجالِ لا تختلفُ إذا ما اختلفَتْ بِهِمُ الأطُرُ المكانيَّةُ والحدودُ الزَّمانيَّةُ، وأنَّ انجذابَهُم نحوَ الإناثِ انجذابٌ طبيعيٌّ لا تستقيمُ حياتُهُم من دونِهِ، ثمَّ إنَّهُم لا يكتفُونَ بالانجذابِ، بل يعبِّرُونَ عنْهُ بكلماتِ الحبِّ والهيامِ، سواءً الصَّادقُ فيْهَا والكاذبُ، إلَّا أنَّها ترتكزُ على مظاهرِ الجمالِ التي تشتركُ فيْها كلُّ الإناثِ، ما يجعلُ منْ أيَّةِ قصيدةٍ تتغزَّلُ بِمفاتنِ الأنثى تصلحُ لأنْ ترَاهَا كلُّ أنثى لائقةً بِهَا، معبِّرةً عن حالِهَا.

والرَّجلُ الشَّاعرُ ربَّمَا يتميَّزُ منَ الرَّجلِ المحبِّ العاديِّ، بمقدرتِهِ على تبيانِ عمقِ مشاعرِهِ وقوَّةِ بلاغتِهِ في التَّأثيرِ منْ خلالِ تناولِهِ مظاهرِ الجمالِ الأنثويِّ في القارئِ، وذلكَ من خلالِ ممازجتِهِ ما بينَ التَّصريحِ والتَّلميحِ، ما بينَ الحقيقةِ والمجازِ العقليِّ، وصورِ التَّشابيهِ والكناياتِ المتنوِّعةِ، ما قد يُصعِّبُ على القارئِ إدراكَ كلِّ المغزى المطروحِ ضمنَ الكلماتِ التَّغزُّليَّةِ من القراءةِ الأولى، أو منَ القراءةِ العاديَّةِ التي لا تنطلقُ بالعقلِ في عالمِ المجازِ كَمَا فعلَ الشَّاعر.

ثمَّ إنَّ التَّغزُّلَ بالنِّساءِ لمْ يعهدِ الحدودَ قبلَ الإسلامِ، ثمَّ حجَّمَهُ الإسلامُ ليحافظَ على مكانةِ الأنثى وكرامتِهَا من ذكرِ أوصافِ جسدِهَا، لكنَّهُ انطلقَ بعدَ ذلك من دونِ حدودٍ، في العصرِ الأمويِّ وما بعدَهُ، لِيَتَنَوَّعَ الغزلُ ما بينَ حضريٍّ وعذريٍّ، ما بينَ إباحيٍّ وعفيفٍ، وربَّما لو أردْنَا التَّوقُّفَ عندَ مضامينِ كلِّ مفرداتِ الغزلِ في شعرِ شعرائِنَا الأقدمِينَ، سواءً الظَّاهرةُ والمخفيَّةُ، لقدَّمْنَا توصيةً إلى بعضِ الباحثِينَ من بعدِنَا بدراسةِ ذلكَ دراسةً مفصَّلةً تستحقُّ أن تشكِّلَ أطروحةَ دكتوراه معمَّقةَ المعاني.

بلْ ربَّما نلفتُ انتباهَهُم إلى أنَّ إشكاليَّةَ الجمالِ الأنثويِّ المفقودِ عندَ العربِ لمْ تكنْ حِكرًا على الشِّعرِ والشُّعراءِ، بلْ إنَّ لَهَا نظيرَهَا في النَّثرِ العربيِّ، وندلِّلُ على ذلكَ بِنموذجٍ واحدٍ، حينَ هربَ الأميرُ عبدُ الرَّحمنِ الدَّاخلِ خوفًا على نفسِهِ أن يُقْتَلَ، رافقَهُ “وانوس”، وهو رجلٌ منَ البربرِ، وأدخلَهُ بيتَهُ لِيَحْمِيَهُ، لكنَّ الجنودَ لحقُوا بهِ، فلمْ يكنْ هناكَ مهربٌ سوى أن تُخَبِّئَهُ امرأةُ وانوس “تكفاتُ” بأن رفعَتْ ثوبَهَا لِيدخلَ تحتَهُ، فَلمْ يَرَهُ الجنودُ ونجا بنفسِهِ، لكنْ ما الذي كان يملأُ عليْهِ مشاعرَهُ آنذاكَ؟ أَنْ يَنْتَبِهَ إليْه الجنودُ ويقتلُوهُ؟ لا، وهوَ نفسُهُ يقولُ ذلكَ لتكفاتَ، وقدْ جاءَتْهُ معَ زوجِهَا بعدَ استقرارِهِ في الأندلسِ: لقدْ عَذَّبْتِنِي بِرِيحِ إِبْطَيْكِ يا تَكَفَاتُ على ما كانَ بِي منَ الخوفِ، وسَعَّطْتِنِي بِأنْتنَ من ريحِ الجِيَفِ، فقَالَتْ: بَلْ ذلكَ كانَ واللهِ، يا سَيِّدِي، منْكَ خرجَ، ولم تشعرْ بِهِ من فرطِ فزعِكَ”! ويذكرُ المقريُّ، مصدرُ هذه الرِّوايةِ، أنَّ الأميرَ “اسْتَظْرَفَ جوابَها وأغضى من مواجهتِهَا بِمثلِ ذلكَ، وهذا من آفاتِ المزاحِ”. (1968، ج1، ص 333، 334).

وما يدعونَا إلى التَّساؤلِ هنا، هل هذا فعلًا منَ المزاحِ؟ أَلَيْسَ الرَّجلُ في هذا الكلامِ يعبِّرُ عنِ النَّقيضِ تمامًا؟ هل حينَ دخلَ تحتَ ثوبِهَا فوجئَ بهذا القبحِ الشَّديدِ، بِغَضِّ النَّظرِ عن سُيوفِ القتلِ التي لا تَبعُدُ منْهُ سوى خطواتٍ، وهو الذي نَسِيَ كلَّ الخطرِ، واحتمالَ تمزيقِ جسدِهِ بالسُّيوفِ، بحثًا عن جمالٍ ما؟ وإذ وجدَ النَّقِيضَ خبَّأَ ذلكَ في قلبِهِ حتَّى سَنَحَتْ لَهُ فرصةٌ للتَّعبيرِ عن خيبةِ أملِهِ من جمالٍ أنثويٍّ مفقودٍ.

ربَّما آنَ للدَّارسِينَ الآنَ أنْ يتحرَّرُوا قليلًا من حكمِ الدِّراساتِ السَّابقةِ، وذلكَ بأنْ يأخذُوا بِهَا مُقَدِّرِيْنَ جهدَ القائمِينَ بِهَا، مقدِّمِيْنَ جهودَهُم هُم كِذلكَ، بإعادةِ القراءةِ بحثًا عنِ المعاني الجديدةِ التي لم يذكرُهَا الشُّعراءُ آنذاكَ صراحةً، بلْ ألمحُوا إليْهَا ربَّما، في توريةٍ ما، ولْيحاولِ الدَّارسُونَ الآنَ أنْ ينظرُوا نظراتٍ جديدةً مبنيَّةً على التَّعليلِ المنطقيِّ بربطِهِم كلَّ معاني القصيدةِ ببعضِها، لعلَّهُمُ يجدُونَ الجديدَ فعلًا، فإنْ لمْ يكنْ ذلكَ، فلَهُمُ جُهدُ الباحثِ وأصالتُهُ العلميَّةُ في دراستِهِ.

غَيْرَ أنَّ الرَّجلَ العربيَّ لم يكنْ في حبِّهِ صادقًا في كلِّ أحوالِهِ، إذ امتزجَ الحبُّ والإعجابُ بالأنثى بالكذبِ في المشاعرِ، فالهدفُ هو الأنثى، جسدًا وروحًا، يحبُّ الرَّجلُ هذِهِ الأنثى أو تلكَ، ويتسلَّى ربَّما معَها في بعضِ مغامراتِهِ ثمَّ يتركُهَا باحثًا عن أنثى جديدةٍ، وقد لحظْنَا في ما أورَدْنَاهُ من معلَّقةِ امرئِ القيسِ أنَّهُ ذكرَ فتاتَيْنِ سوى عُنَيْزَةَ، ثمَّ ذكرَ نساءً ممَّن مارسَ مشاعرَ حبِّهِ معهنَّ، لا على تعيينِ العدد،ِ وعمرُ بن أبي ربيعةَ ذكرَ عددًا منَ النِّساءِ في قصائِدِهِ، منْهنَّ من ذكَرَ اسمَهَا، ومنهنَّ مَنِ اكتفى بِذكرِ مغامرتِهِ معَهَا، ملمِّحًا لها بالصُّغرى، والوسطى، والكُبرى، بل إنَّه لم يتردَّدْ في التَّعرُّضِ للنِّساءِ الذَّاهباتِ إلى الحجِّ، بالتَّغزُّلِ بِهنَّ، فَمَنْ هذِهِ المحبوبةُ بينهنَّ التي حصلَتْ فعلًا على حبِّهِ الصَّادقِ؟

وأمَّا الابنةُ، فَبَعْضُ الرِّجالِ والقبائلِ، أو لعلَّنَا نقولُ: كثيرٌ من هؤلاءِ، مَا يَزالُونَ يحملُونَ لمساتِ الجاهليَّةِ التي وصفَهَا اللهُ تعالى في القرآنِ الكريمِ مرَّتَيْنِ بقولِهِ: ﴿وإذا بُشِّرَ أحدُهُم بالأنثى ظلَّ وجهُهُ مسوَّدًا وهو كظيم﴾، (القرآن الكريم، النَّحل، 58. الزُّخرف، 18)، مُبَيِّنًا لنا، في إحداهِمَا، مدى الغيظِ الذي يصلُ إليْهِ الرَّجلُ، إذ يعلمُ أنَّ امرأتَه الأنثى التي أحبَّهَا وجرى خلفَ مفاتنِهَا الجسديَّةَ، قد ولدَتْ لَهُ أنثى: ﴿يتوارى منَ القومِ من سوءِ ما بشِّرَ بِهِ أيمسكُهُ على هُونٍ أم يدسُّهُ في الترابِ ألا ساءَ ما يحكمُونَ﴾. (القرآن الكريم، النَّحل، 59).

الخاتمة

أتُرَاه يفعلُ ذلكَ، يكرهُ ابنتَهُ ويتعالى على أختِهِ، يضربُهَا ولو أنَّهَا أكبرُ منْهُ سنًّا، لأنَّهُ يعلمُ أنَّ الأنثى أمرٌ منَ اثنَيْنِ، جمالٌ للحبيبِ وخدمةٌ في المنزلِ، وجمالُهَا ليسَ لَهُ هو، فَيَنْقِمُ على أنوثتِهَا ويكرهُ وجودَها في حياتِهِ ابنةً له؟ إنَّهُ يعلمُ أنَّ جمالَهَا في كلِّ الأحوالِ، وخدمتَهَا يومًا ما، لِرجلٍ آخرَ، فلماذا لا يزيدُ في استغلالِهَا في الخدمةِ المنزليَّةِ الآنَ ويقسو عليْهَا ويدمِّرُ مشاعرَهَا، ثمَّ يتقاضى مهرَهَا إذ تبلغُ مبلغَ النِّكاحِ، ويرسلُ بِهَا إلى بيتِ زوجِهَا؟ والأنثى مشاعرُ فيَّاضةٌ، إذ تجدُ نفسَهَا محرومةً حنانًا لا تتردَّدُ في منحِهِ غيرَهَا، تذهبُ بها مشاعرَهَا نحوَ النَّقيضِ تمامًا، فَتصبحُ مستعدَّةً لِتصديقِ كلِّ كلماتِ الغزلِ التي تسمعُهَا من أيِّ شابٍّ كانَ، والرَّجلُ يعلمُ ذلكَ، فلا يتردَّدُ في بذلِ كلماتِ الغزلِ في مسامعِ كلِّ الإناثِ، ما يجعلُ من الحبِّ الصَّادقِ أمرًا قليلَ التَّحقُّقِ، وربَّما تبدو هذه الإشكاليَّة أمرًا جديرًا بأن نوصيَ به، كذلكَ، الباحثِينَ بدراستِهِ تربويًّا ونفسيَّا، وانعكاسًا اجتماعيًّا.

المصادر والمراجع

1- ابن أبي ربيعة، عمر (1996)، الديوان. تقديم الدكتور فايز محمد، ط2، بيروت: دار الكتاب العربي.

2- ابن أيوب عاصم، أبو بكر (1307هـ)، شرح ديوان رئيس الشعراء أبي الحرث الشهير بامرئ القيس بن حجر الكندي، ط1، مصر: المطبعة الخيرية المنشأة بجمالية مصر المعربة.

3- ابن قتيبة (لا.ت)، الشعر والشعراء، ط2، ج2. تحقيق أحمد شاكر. القاهرة: دار المعارف.

4- ابن منظور (1968)، لسان العرب، بيروت: دار صادر ودار بيروت.

5- الألباني، محمد ناصر الدين (2000)، صحيح الترغيب والترهيب، الرياض: مكتبة المعارف للنشر والتوزيع.

6- امرئ القيس (لا.ت)، الدِّيوان، ط5. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف.

7- البخاري، ابن إسماعيل (2002)، صحيح البخاري. دمشق-بيروت: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع.

8- التوتنجي، محمود (1987)، ديوان الأمير أبي فراس الحمداني على رواية ابن خالويه. دمشق: المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية.

9- جرير (1987)، الديوان، ط1، تحقيق وتصنيف مهدي محمد ناصر الدين. بيروت: دار الكتب العلمية.

10- الجنابي، قيس كاظم (2015)، العطر عند العرب دراسة تاريخية فكرية، بيروت: الانتشار العربي.

11- حجازي، أحمد توفيق (2000)، موسوعة العطور والعناية بالجمال، عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع.

12- حسن، عزة (1968)، شعر الوقوف على الأطلال من الجاهلية إلى نهاية القرن الثالث دراسة تحليلية، دمشق.

13- الحمداني، أبو فراس (1994)، الديوان،ج2، تحقيق سامي الدهان. دمشق: المعهد الإفرنسي.

14- الحمداني، أبو فراس (1994)، الدِّيوان، ط2، شرح الدُّكتور خليل الدويهي، بيروت: دار الكتاب العربي.

15- الزبيدي، محمد مرتضى (1306ه)، تاج العروس، القاهرة: طبعة الخيرية.

16- الزوزني، الحسين بن أحمد (1983)، شرح المعلقات العشر مع تقدمة التاريخ ومكانة أصحاب المعلقات، بيروت: منشورات دار مكتبة الحياة.

17- السندوبي، حسن (1990)، شرح ديوان امرئ القيس، ويليه أخبار المراقشة وأشعارهم وأخبار النوابغ وآثارهم في الجاهلية وصدر الإسلام، راجعها وشرحها أسامة صلاح الدين منيمنة، بيروت: دار إحياء العلوم.

18- الشنتمري، الأعلم (1974م)، شرح ديوان امرئ القيس بن حجر الكندي، اعتنى بتصحيحِهِ.

19- ابن أبي شنب، الجزائر: الشركة الوطنيَّة للنشر والتوزيع.

20- الطبري، ابن جرير (1968م)، تاريخ الرسل والملوك (ط2)، ج1. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة: دار المعارف.

21- عبد الحميد، محمد محيي الدين (1952)، شرح ديوان عمر بن أبي ربيعة المخزومي. مصر: المكتبة التجارية الكبرى، مطبعة السَّعادة.

22- العسقلاني، ابن حجر (2013م)، فتح الباري، ط1، دمشق: دار الرِّسالة العالميَّة.

23- الفراهيدي، الخليل بن أحمد (1980-1983)، العين، تحقيق إبراهيم السامرائي ومهدي المخزومي، بغداد: دار ومكتبة الهلال.

24- الفرزدق (1987)، الديوان، ط1، شرحه وضبطه وقدَّم له: الأستاذ علي فاعور، بيروت: المكتبة العلميَّة.

25- الفيروز آبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب، (لا.ت)، القاموس المحيط، بيروت: دار إحياء التراث العربي.

26- فيصل، شكري (1959)، تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام من امرئ القيس إلى ابن أبي ربيعة، دمشق: مطبعة جامعة دمشق.

27- مارون، جورج خليل (2019)، أبو فراس الحمداني في شعره (دراسة في بنيّة اللغة)، طرابلس: المؤسَّسة الحديثة للكتاب.

28- المقري، أحمد التلمساني (1968)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق إحسان عباس، بيروت: دار صادر.

المواقع الإلكترونيَّة

29- دليل MSD الإرشادي إصدار المستخدم (ذو الحجة 1440هـلبسةُ الجنس الآخر Transvestism – اضطرابات الصحَّة النفسيَّة – دليل MSD الإرشادي إصدار المُستخدِم (msdmanuals.com)، [تاريخ الزِّيارة 24/8/2022].

30- سيِّدتي (9 ديسمبر 2017)، هل اللون الأحمر يجذب الرجال إلى النساء؟ | مجلة سيدتي (sayidaty.net)، [تاريخ الزٍّيارة 24/8/2022].

31- صحيفة الاتِّحاد (11 أكتوبر 2010 – 21:14)، دموع المرأة.. سلاح بيولوجي ضد الأحزان والرجال – صحيفة الاتحاد (alittihad.ae)، [تاريخ الزِّيارة 24/8/2022].

[1] – الجامعة اللبنانيَّة والجامعة الأميركيَّة للثَّقافة والتَّعليم وجامعة الجنان.                    dr.georgeshaddad@hotmail.com 0096103144055

[2] – جامعة الجنان. omar-kouzayha@hotmail.com  0096181031740

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website