اغتيال
د. محمّد أمين الضنّاويّ*
صدّقتُ أمّي، وتعلّمتُ إلى أن وصلت إلى أعلى درجات السُّلَّم الأكاديميّ التعليميّ، ونلت شهادات عالية ونلت درجة الدكتوراه.
صدّقتُ أمّي وسعدت بتحقيق حلمها، وحلمي في الوصول إلى “داء النقطة” عفواً أقصد “د. (اختصار للفظ الدكتور)”، لكن بعد ذلك بدأت الحياة والرزق معها في إغلاق الأبواب التي أخبرتني أمّي عنها.
واحد من المشتّتين أنا. منذ الصغر أخبرتني أمّي أنّ العلم سلاح، وأنّ المتعلّم تُفتح له أبواب الرزق والحياة، وأنّه المَخرج الوحيد للفقراء ليُخرجهم من فَقرهم.
عربيٌّ أنا من بلاد المعاناة والألم، من بلاد “حاميها حراميها” فالسياسيّ فيها لصٌّ من الطراز الأوّل، لا لا لا لست واهمًا، أنا من لبنان فقط، لبنان ذلك الكِيان العجيب.
لبنان الكِيان الذي تغنّى به الشعراء، وكتب عنه الأدباء، من كِيان كلّ من زاره أحبّه، وأحبّ نساءه الجميلات البيضاوات، من بلد يرى فيه زوّاره مرتعًا للمتعة، والسهر، والمجون.
لبنان الكِيان هذا الذي يحبّون، شرّد أهله، وفرّقهم، وشتّتهم في بقاع الأرض شتّى، حروب، تهجير، وسرقة لكلّ مقدّرات العيش الكريم فيه بالحدود الدنيا للعيش.
أنا المعلّم صاحب الخبرة، ومهندس نجاحات كلّ من علّمتهم، المثقّف الذي كان تلامذتي ينتظرون فسحة من حصصهم ليزدادوا معرفة، وثقافة ممّا أعلّمهم.
بتّ اليوم ذلك المعلّم غير المسموح له تثقيف متعلّميه، لأنّهم لا يهتمّون، بل لا يريدون ذلك، ويعدّون ما أقدّمه لهم من معلومات ثقافيّة فكريّة تدور في فلك منهجهم، لكنّها غير مذكورة في كتبهم فهم باتوا يسمّونها “سولفة”، وتضييعاً للوقت. ويجاهرون بقولهم: “دكتور إحنا نحبّك، لكن إحنا ما نريد نتثقّف، إحنا نريد علامات ناجحة”.
بتُّ أخشى انبلاج فجر يوم جديد، فكلّ يوم تشرق شمسه أجدني وجهاً لوجه أمام اغتيال فكرة، أومبدأ، أو قيمة إنسانيّة، حتّى وصل الأمر إلى درجة اغتيال المعلّم المربّي فيَّ، وتحويلي إلى موظّف لا يهتمّ سوى لراتبه الشهريّ المنتظر، أو بمعى آخر تحويل المربّي فيّ إلى آلة تحصيل للمال فقط لا غير.
بدأت الحياة تغتالني يوميًّا، فلا مدرسة ولا مؤسّسة تربويّة تقدّر خبرتي الطويلة في التعليم لسنوات تفوق العشرين سنة، كلّهم يقرّشون الأمر مالاً، ويغضّون الطرْف عن الخبرة، والعلم، والمعرفة تحت تعبير آلمني ولا يزال “خبرتك ودرجتك العلميّة تفوق المطلوب” وبالتعبير الإنكليزيّ الذي قيل لي: “Over qualified” نعم، للأسف.
الاغتيال اليوميّ هذا أينما كان، ما يدفع بالمرء إلى الحزن، ليس ذلك الاغتيال إلا قتلاً ممنهجًا للقيم والمبادئ التي حملتها، وتربّيت عليها منذ الصغر، وأنا فخور بها، لكنّني اليوم أراني فيها حامل عبء ثقيل، فالقيم اندثرت، والمبادئ أصبحت وهمًا وضربًا من الخيال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ مدرسة سابق كان يُعلّم اللغة العربيّة وآدبها، وأستاذ جامعيّ سابق، حائز على درجة الدكتوراه في الدراسات الإسلاميّة، وأحد رئيسي تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة، مجلّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، له العديد من المؤلَّفات.
إنّهم يغتالون روحي، وقيمي، ومبادئي. لا سلام ولا كلام ما لم يكن منك استفادة، وتحديداً ماليّة. بئس الحياة تلك التي أحياها.
وا أسفي على نفسي، إنّ العمليّة المنظّمة لاغتيالي اليوميّ تجعلني حزيناً، متألّماً، فأنا مَيْتٌ يسير على قدمين، إنّ هذا الاغتيال أصعب بكثير من اغتيال الجسد.
حزينٌ، مُحبطٌ، بائسٌ أنا.
الخميس 12/ 4/ 2018 – الخوير ـــــ مسقط ــــ عُمان