النيابا والبوذيّة
د.ديمه بو ملحم*
كلمة “نيابا” معناها تدليل، أو طريقة لهداية العقل حتّى ينتهي إلى نتيجة، وأهمّ نصوصه هو النصّ المسمّى “سوترانيايا”، وأهمّ أعلامه “جوتاما” الذي عاش على أغلب الظنّ بين القرن الثالث قبل المسيح، والقرن الأوّل بعده. يقول “جوتاما” إنّه توخّى من مؤلّفه هذا تحقيق الـ”نرفانا”، أو الخلاص من الشهوات، وذلك عن طريق التدليل العقليّ الذي يقوم على القياس([i]). و”تراه – كأنّما هو أرسطو آخر – يلتمس بناء التدليل العقليّ في طريقة القياس، ويجد عقدة كلّ تدليل في الحدّ الأوسط من حدود القياس، وكذلك تراه – كأنّما هو جيمس آخر أو ديوي آخر، يعدّ المعرفة، والفكر أداتين عمليّتين، ووسيلتين فاعلتين يستخدمهما الإنسان في إشباع حاجاته، وقضاء إرادته”([ii]). أمّا مقياس صحّة المعرفة فهو الفعل الناجح، وهنا تظهر الواقعيّة بوضوح تامّ.
في فلسفة “النايابا”، يتمّ تحليل المعرفة من زاوية الذات العارفة، والموضوع المراد معرفته، والموضوع كما هو معروف، والوسائل التي من خلالها سيغدو الموضوع معروفاً.
إذا تأمّلنا مليًّا كيفيّة الكشف عن موضوع ما، ألفينا وسائل أساسية عدّة للمعرفة: الإدراك الحسّيّ، الاستدلال، القياس، البرهان.
- المعرفة الحسّيّة
تقتضي المعرفة الحسّيّة تماشي الحواشي بموضوعاتها المناسبة، ومن أجل تمييز الإدراكات الأصليّة من الأخطاء الحسّيّة ميّزت “النايابا” بين نوعين من الإدراك. توجب المعرفة الحسّيّة إدراكًا محددًا، يتمّ فيه الكشف عن التجربة الحسّيّة الأساسيّة للإدراك غير المحدّد، باحتسابها شيئاً من نوع ما، له خصائص وعلاقات متعدّدة، قابل، من حيث المبدأ، للتسمية. وهكذا فإنّ هناك تمييزًا بين تجربة حسّيّة مباشرة والإدراك، أو بمعنى آخر بين الجهل والخطأ. والمعرفة الإدراكيّة الحقّة هي إدراك ما هو مدرك على ما هو كائن عليه بالفعل، والخطأ هو إدراك شيء بخلاف ما هو عليه بالفعل. وبهذه الطريقة حدّد فلاسفة “النايابا” الإدراك الصحيح، من خلال التطابق مع الواقع، ولكنّهم يدعون إلى الممارسة باحتسابها الأداة التي تشهد هذا التطابق.
أمّا النوع السادس من المعرفة الحسّيّة، وهي معرفة داخليّة، فهو أمر يتعلّق بالشعور بالتجارب الحسّيّة وإدراكها.
وتصنيف”النايابا” وجود إدراك غير مألوف، وهو إدراك طبائع الأشياء. ولما كان إدراك طبيعة الفرد الذي من خلاله يمكن تعريف الفرد بحسبانه عضوًا في فئة (هي فئة “الرجل”).
أمّا النوع الثاني من الإدراك الذي يجاوز الإدراك المألوف فهو يوضح أنّ ما هو مناسب لأحد أعضاء الحواسّ، يمكن أن يصبح موضوعًا لحاسّة آخرى. فعلى سبيل المثال: غالبًا ما يقال إنّ الثلج يبدو باردًا. ويشير النوع الثالث من الإدراك الذي يجاوز الإدراك المألوف إلى إدراك الأشياء في الماضي، أو المستقبل، أو هي خبيئة، أو هي صغيرة على نحو لامتناه، في حجمها من قِبل شخص يتمتّع بقدرات غير عاديّة يولّدها تأمّل ضبط النفس، أو اليوجا.
الاستدلال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة، قسم الفلسفة، الفرع الخامس.
هو نتاج لمعرفة تأتي بعد معرفة آخرى، فالاستدلال ينطلق ممّا تمّ إدراكه بالفعل إلى شيء لم يتمّ إدراكه بعد. وذلك عن طريق “شيء ما” هو طرف ثالث يدعى سببًا، ويؤدّي وظيفة الحدّ الأوسط في التفكير القياسيّ.
ويضرب على النحو التالي مثل يستخدم بصورة شائعة للاستدلال في صورته القياسيّة العاديّة:
- ناك نار على التلّ البعيد.
- لأنّ التلّ ينبعث منه الدخان.
- وكلّ ما ينبعث منه الدخان يوجد به نار، كالموقد مثلاً.
- ومن التلّ البعيد ينبعث دخان كالذي يصاحب النار باستمرار.
- إذًا توجد نار على التلّ البعيد.
تميّز فلسفة “النايابا” بين التفكير لكي يقنع المرء نفسه، والتفكير لإقناع شخص آخر. ولدى التفكير لإقناع المرء لنفسه، فليس من الضروريّ قطع الخطوات على نحو تفصيليّ على نحو ما هو موضح في ما سبق، إذ يمكن إمّا استبعاد الخطوتين الأوليين، أو الخطوتين الأخيرتين، ولكن عندما يطرح الاستدلال، من الناحية الصوريّة ليتأمّله شخص آخر، فلا بدّ من الإصرار على الخطوات الخمس كلّها. والجزء الجوهريّ في الاستدلال في المثال السابق هو الوصول إلى معرفة وجود نار على التلّ على أساس:
- الدخان المدرك.
- السبب الذي يشكّله الارتباط الدائم بين الدخان والنار.
وينظر فلاسفة “النايابا” إلى عدد الموضوعات، أو الأحداث الفرديّة. كحجز مهمّ من إقرار الارتباطات الكلّيّة بين الأحداث، أو الموضوعات، كمثل مشاهدة غربان سوداء، واحتمال وجود غراب أبيض.
كما تجدر الإشارة إلى أنّ هناك ارتباطًا وثيقاً ومطلقًا، أي ارتباطًا سببييًّ، وفي حالات آخرى هناك مصادفة فقط.
وقد قام فلاسفة: “النايابا” للمساعدة في تجنّب أخطاء معيّنة شائعة، بإعداد قائمة بعدد من المغالطات، أو الأخطاء الشائعة التي ينبغي تجنّبها. وتعرف المغالطة بأنّها ما يبدو مبرّرا مشروعًا لاستدلال معيّن، ولكنّه في الواقع، ليس مبرّرا مشروعًا، ففي الاستدلال “هناك نار على التلّ، وجدت النار”. فإنّ النتيجة المستدلّ عليها هي أنّ هناك نارًا على التلّ. والقول: “هناك نار” إنّما يقال عن التلّ. واصطلاح “النار” يسمّى “ساديا”، أمّا اصطلاح “التلّ” فيسمّى “باكشا” ومبرّر القول “هناك دخان” يسمّى “هيتو”. ما لم يكن ما ينظر إليه على أنّه مبرّر للربط بين الساديا “النار” بـ”الباكشا” (التلّ) هو مبرّر الاستدلال، أو “هيتو”، فإنّ الاستدلال سيكون غير مشروع. ولكي نتأكّد من أنّ الـ”هيتو” المقدّم، أو المبرّر، سيكون مبرّرًا بالفعل لا بدّ من مراعاة قواعد عدّة:
- إنّ المبرّر، أو الـ”هيتو”، لا بدّ من أن يكون ماثلاً في الـ”باكشا” (التلّ) وفي كلّ الموضوعات الآخرى التي تحتوي على النار الساديا.
- لا بدّ للمبرّر، أو اـ”لهيتو” من أن يكون غالبًا من الموضوعات التي لا يوجد بها (النار) الساديا.
- ينبغي ألا يتناقض الافتراض المستدلّ عليه مع الإدراك الحسّيّ السليم.
- ينبغي ألاّ يجعل المبرّر أو الـ”هيتو” من الأمور الممكنة خلاصة تتناقض مع الافتراض المستدلّ عليه.
- المقارنة
تقوم المقارنة على أساس التشابه. فعلى سبيل المثال إذا شاهد المرء غزالة للمرّة الأولى. وقيل له: “تلك غزالة” فإنّ المعرفة، ستكون راجعة للشهادة، وليس للمقارنة. والمعرفة عن طريق المقارنة تتحقّق عندما يتمّ ربط الاسم بموضوع مجهول على يد العارف على أساس من تشابه الموضوع المجهول مع موضوع معلوم. وقد اعتقد مفكرو “النايابا” أنّ ألوان التشابه موضوعيّة وقابلة للإدراك.
- الشهادة
“شابدا” “Shabda” أو الشهادة تعني حرفيًّا كلمة يقولها شخص، وتشير إلى المعرفة التي يتمّ تحقيقها كنتيجة لقيام شخص يمكن الاعتماد عليه بقولها. والرأي ليس كالمعرفة سواء بسواء، ذلك أنّ الرأي قد يكون خطأ، لكن المعرفة لا يمكن أن تكون كذلك. والمعايير الثلاثة للمعرفة التي تقوم على أساس شهادة شخص آخر هي:
- ينبغي أن يكون الشخص المتحدّث أمينًا، ويعتمد عليه بصوور مطلقة.
- يتعيّن أن يعرف الشخص المتحدّث بالفعل ما يقوم بإيصاله.
- لا بدّ من أن يتفهّم السامع على وجه الدقّة ما يسمعه.
- موضوعات المعرفة.
بعد أن تمّ تحليل الطرق المشروعة للمعرفة، فأنّ الخطوة التالية هي تمحيص موضوعات المعرفة المشروعة. وتدرج فلسفة: “النايابا” كموضوعات للمعرفة: النفس، الجسم، الحواسّ وموضوعاتها، المعرفة، الذهن، الفعل، الاختلالات العقلية، اللذّة، الألم، المعاناة، التحرّر من المعاناة. وتعتمد موضوعات المعرفة هذه كافّة على العلاقة بين ذات عارفة، وعالم من الموضوعات، كما ينبغي أن تكون المعرفة على صلة بأعمال وانطباعات ذات ما.
واذا تمعّن المرء في موضوعات المعرفة من منظور وجودها المستقلّ، فإنّها ستشمل مقولات مذهب الــ”فيشيشكا”. وهذه المقولات هي:
- الجوهر.
- الكيف.
- الحركة.
- العموميّة.
- الجزئيّة.
- المحايثة.
- العدم.
هذه المقولات هي أنواع الموضوعات التي تقابل الأنواع المتعدّدة من الأنواع المدركة.
النوع الأوّل من الشيء الموجود هو الجوهر. ولمّا كان الجوهر حقيقة في حدّ ذاتها، فإنّما يمكن النظر إليه على أنّه الحامل للكيفيّات والأفعال. وتشمل مقولة الجوهر:
- – التراب.
- – الماء.
- – النور.
- – الهواء.
- – الأثير.
- – الزمان.
- – المكان.
- – النفس.
- – الذهن.
وينظر إلى التراب، والماء، والنور، والهواء، والأثير باحتسابها عناصر مادّيّة.
ويمكن النظر إلى هذه الجواهر بطريقيتين. فمن الممكن أوّلاً الاعتقاد بأنّها ذرّيّة، أزليّة، لا تنقسم وهي ثانيًّا نتاج تجميعات للذرّات، وهي في هذه الحالة زمنيّة مؤقّتة، مركّبة، قابلة للفناء، من حيث إنّها نتاج لتجميع من الذرّات. ولكن إذا كانت الأشياء المركّبة موجودة، فإنّ من الضروريّ أن تكون مكوّناتها النهائيّة بسيطة، وإلاّ فإنّ الأشياء المركّبة، بحسب الـ”فيشيشكا” لن يتمّ إنتاجها. ومن هنا، فإنّ المكوّنات النهائيّة للجواهر الجامدة ينبغي أن تكون ذرّيّة، ويستدلّ على جوهر المكان على أساس أنّ الصوت يدرك حسّيّا، ولا بدّ من وجود ذلك الذي ينداح فيه الصوت. أو ذلك الذي ينتمي الصوت إليه. أي المكان.
لا بدّ من وجود المعرفة “كيف” في جوهر يعرف على أنّه الذات، وهو أساس الوعي. ويستدلّ على الذهن على أساس أنّنا نعرف الشعور والإرادة.
والفئة الثانية من الموضوعات المعروفة هي الكيف، وهي تشير إلى الكيفيّات المتعدّدة للجواهر، التي تشمل اللون، الرائحة، الاتّصال، الصوت، العدد، القياس، الاختلاف، الارتباط، الانفصال، الطول أو القصر، البعد أو القرب، المعرفة، السعادة، الحزن، الإرادة، الكراهيّة، الجهد، الثقل، السيولة، والقدرة، الجدارة، النقص.
والنوع الثالث من أنواع الواقع الأساسيّ غير القابل للردّ يتمثّل في الحركة. وأنواع الحركة المتعدّدة هي:
- إلى أعلى.
- إلى أسفل.
- التقلّص.
- التمدّد.
- النقلة.
وأنواع الحركة هي أنواع الواقع التي تفسّر التغيّرات التي تطرأ على الجوهر.
والفئة الرابعة فئة الماهيّات الكلّيّة، وهي تفسّر التشابه الموجود بين الجواهر، أو الكيفيّات، أو الأفعال، فأربع بقرات وأربعة أشياء حمراء، وأربع حركات علويّة يظلّ كلّ منها هو نفسه، أو على حاله من حيث إنّها بقرات، أو أشياء حمراء، أو حركات علويّة.
تدرك الأشياء الجزئيّة في مجال متّصل للحسّ، والنشاط الذهنيّ.
وبما أنّها يتمّ إدراكها على أنّها متعدّدة، فلا بدّ من أنّ هناك أساسًا لهذا التعدّد في الواقع، من هنا فإنّ الجزئيّة لا بدّ من أن توجد في الواقع.
تعكس مقولة المحايثة الحقيقيّة القائلة إنّ الأشياء المختلفة كالجوهر، أو الكيف، أو الفعل… إلخ تبدو ككلّ واحد. وهكذا فإنّ الكلّ يتضمّن أجزاءه، فالقدح متضمّن في الصلصال، والقلم متضمّن في الخشب.
في رأي الـ”فيشيشكا”، إذا وضع وجود العدم موضوع التساؤل فهذا يعني أنّه ليس موجودًا، وهو تأكيد لفئة العدم.
- العارف
أكدت “النايابا” وجود الذات كجوهر عارف غير مادّيّ، وهذا الجوهر يتّسم بالمعرفة، والشعور، والإرادة، وفيه كيفيّات عديدة كالرغبة، والمقت، واللذّة والألم، وتلك الكيفيّات غير مادّيّة وهي موجودة في جوهر غير مادّيّ.
انطلاقًا من “النايابا”، لا يمكن أن تكون الذات موضوعًا؟ أي ولن تتطابق مع أيّ شيء يصبح موضوعًا. وعلى الرغم من أنّ الوعي خاصّة الذات، لكنّها لا تعتمد في وجودها عليه.
وينبغي أن يكون هناك تحرّر من الوعي، لأنّ الوعي يفترض ثنائيّة بين الذات والموضوع. وعندما تكون هناك ثنائيّة. فإنّ هناك معاناة محتملة، أو عبوديّة. ذلك أنّ الذات يمكن أن يقيّدها الموضوع، وأن تتعرّض للمعاناة. وللقضاء على المعاناة والعبوديّة لا بدّ من القضاء على الثنائيّة. ويمكن القيام بهذا لدى القضاء على الوعي.
حياة بوذا([iii])
اسمه سيد هارتا، ويدعى والده سود هودانا، أما عائلته غوتاما فتنتمي إلى قبيلة ساكيا الهندية التي كانت تقطن في القرن السادس قبل الميلاد ناحية من جبال الهملايا تدعى اليوم اود، ولقّب بالبوذا أي الحكيم المستنير.
كان والده ملكاً على تلك الناحية، تزوج امرأة جميلة حكيمة طاهرة تدعى مايا فحملت منه، ولما شعرت بدنو الولادة خرجت إلى غابة مجاورة، وجلست تحت شجرة، فأرسل لها الإله براهما العظيم أربعة ملائكة حاكوا لها شبكة من الذهب لتضع عليها طفلها الذي خرج من جنبها الأيمن مشعًا كالشمس، فهلّل له الملائكة فرحًا، وبشّروا أمّه متنبّئين بعظمة ابنها في المستقبل.
وعند مولده عمّ السلام الأرض، وطفحت القلوب بالمحبّة، وخلت السماء من الغيوم، وغمرت الأنوار الكون، وتحوّلت المياه القذرة عذبة، وصدحت الموسيقى السماويّة، وأبصر العميان، وسمع الصمّ، وتكلّم البكم، وانتصب الحدب، ومشى العرج، وأطلق السجناء وأخمدت نارهم.
وماتت الأمّ بعد أسبوع من وضعها، فربّته خالته برادها باتي التي تزوّجها الملك، وراح المولود يكبر شيئًا فشيئًا، وقلبه مفعم بالمحبّة والحقيقة، متمّمًا واجباته الدينيّة، بما فيها الاغتسال بمياه نهر الغانج المقدّسة، متنعّمًا في قصر والده بعيدًا عن التعاسة والألم والشرّ.
وعندما غدا شابًّا دعا الملك أهل مدينة كابيلا فستو ليحكموا على ابنه فألفوه كاملاً جسدًا، وأجاب عن أسئلة الحكماء، واختار ابنة عمّه باشودهادا زوجة له، وأنجب منها طفلاً سمّاه راهولا.
وشعر يومًا برغبته في الخروج من أسر القصر، ومشاهدة الناس، فركب عربة مزيّنة بالأحجار الكريمة، وراح يتجوّل في طرقات المدينة التي فرشت بالسجاد، وقد اصطف الناس لاستقباله بصفته وارث العرش.
وصادف على جانب الطريق شيخًا طاعنًا في السنّ محدودب الظهر يتوكّأ على عصاه، يبدو الألم والعجز على وجهه. فسأل الحوذيّ عنه، فأخبره أنّه رجل أدركته الشيخوخة، وكان من قبل طفلاً فشابًّا قويًّا يستمتع بملذّات الحياة. فحزن سيدهارتا وقال في نفسه، أيّ لذّة يتذوّقها المرء عندما يعلم أنّه سيغدو عاجلاً هرمًا يدنو بسرعة نحو الفناء.
ثمّ مرّ في طريق آخر برجل مريض ناحل الجسم، يئن من ألم فسأل الحوذيّ عنه، فأخبره أنّه رجل ألمّ به الداء الذي عمل على تحلّل جسمه وتآكله. وأنّ جميع الناس معرضون للأمراض المتعدّدة سواء كانوا فقراء أم أغنياء، جاهلين أم حكماء.
فتأثّر سيد هارتا وقال في نفسه: ما نفع الملذّات لمن ينتظره مثل هذا المصير؟
وتابع الحوذيّ سيره، ولم يلبث أن التقى أناسًا يشيّعون شيخًا فسأله سيد هارتا عن شأن هؤلاء الناس الذين يبكون ويولولون. فأجابه بأنّهم يحملون جثة رجل فارق الحياة، وهم في طريقهم إلى المقبرة ليواروه الثرى. هذه هي نهاية كلّ إنسان.
فارتعش مذعوراً وقال: عجبًا لهؤلاء الناس كيف يستسيغون الحياة، ويتعلّقون بالدنيا وهم يعلمون أنّ الموت ينتظرهم في كلّ لحظة. وعندما عاد إلى البيت لاحظت زوجته الكآبة على وجهه فسألته عن سبب حزنه رغم توافر أسباب السعادة له من ملك وزوجة وولد فأجابها: إنّ السعيد هو من وجد طريق الخلاص. والسعادة لا توجد إلاّ في الـ”نيرفانا”. فسألته كيف السبيل إلى الـ”نيرفانا”؟ فأجابها بعد تأمّل عندما ينطفئ في قلوبنا الميل إلى الشرّ، والكراهية، والرغبة في الملذّات الحسّيّة. وعندما نفكّر جيّدًا. إنّني حزين لأنّي أرى كلّ شيء يتغيّر وأرى الناس يهرمون, ويمرضون, ويموتون. وهذا كافٍ لهدم كلّ رغبة في الحياة.
ثمّ إنّه خرج إلى الحديقة وراح يفكّر في أمر هذا العالم، يبكي الحياة تارة، ويتأمّل فيها طوراً ثمّ تراءى له شبح فسأله عن نفسه فأجاب إنّني أبحث عن طريق الخلاص، أرى كلّ شيء يتغيّر ويفسد، وأفتّش عن حياة لا تعرف البداية والنهاية، لقد انسحبت من العالم، واعتزلت الناس أتسوّل طعامي، وأفتّش عن الحقيقة.
فقال سيد هارتا في نفسه: أجل لقد نبّهني هذا الناسك إلى الحقيقة. سأحطّم القيود التي تبقيني في العالم. وسأترك بيتي بحثًا عن طريق الخلاص.
ثمّ إنّه رجع إلى غرفة زوجته، وابنه الحبيب فوجدهما نائمين، فلم يشأ أن يوقظهما ليودّعهما. وبكى، ولكنّه كفكف دمعه، وتغلّب على عاطفته، وانسحب من الغرفة، فهتف به الشيطان، لا تذهب يا سيّدي، سيعهد إليك بحكم المملكة في غضون أسبوع، وستصبح سيّد العالم. فلم يسمع كلامه، ورفض السلطة، وملذّات الحياة، واختار حياة التيه، وقصّ شعره المسترسل على كتفيه، وارتدى ثوبًا خشنًا، وحمل بيده قصعة الشحاذة، وراح يتنقّل من بلدة إلى آخرى يبشّر بديانة جديدة نسبت إليه. وتبعه تلامذة كثر كان يلقي عليهم مواعظه.
وعندما ناهز الرابعة والثمانين انتابه المرض وشعر بألم فأعلن أنّه سيغادر الدنيا، فرجاه تلميذه آنندا ثلاث مرات أن يبقى مع تلامذته من أجل خير البشريّة فأجابه: “ألم أعلن لك في بعض الأحيان أنّ طبيعة كلّ الأجسام تقضي بتفكّكها، وتفتّتها من جديد؟ كيف يمكنني إذًا يا آنندا أن استمرّ رغم أنّ كلّ جسد ولد، أو يولد، أو سيولد يحتوي بنفسه على ضرورة انحلاله”([iv])… “جسدي سيفنى، ولكن شريعتي ستبقى([v]) سيموت غوتا سيدهارتا، لكنّ البوذا سيعيش لأنّ البوذا هو الحقيقة. والحقيقة لا يمكن أن تموت أبدًا… ستنتشر الحقيقة، وستمتدّ مملكتها حوالي خمسة آلاف سنة. وتحجب في بعض الأوقات ولفترة من الزمن غيومُ الضلال النورَ. وعندما يأتي الوقت المحدّد يرتفع بوذا آخر، ويرفع الحقيقة الخالدة نفسها التي علمتكم إيّاها”([vi]).
وعندما مات البوذا مادت الأرض، وقصفت الرعود، وانطفأت الشمس، وفاضت الأنهار، وانهمرت الأمطار، ونثرت الأزهار. وبكاه الرهبان، وأقام له الشعب مأتمًا مهيبًا صدحت فيه الموسيقى، وقدّمت أكاليل الزهور، وألقيت المراثي، ثمّ أشعلت الجثة، وجمع رمادها، وقسّم ثماني حصص، وضعت كلّ حصّة في ناووس، وبنيت قرب كلّ ناووس مدينة([vii]).
- II. العقيدة البوذيّة
بشّر بوذا بعقيدة بسيطة تتمثّل بأربع حقائق هي التالية:
- الحقيقة الأولى هي وجود الألم: فنحن نتألّم عندما نولد، وعندما نهرم، وعندما نمرض، وعندما نموت، ونتألّم عندما نجتمع بمن لا نحبّ، وعندما نفترق عمن نحبّ، ونتألّم أخيرًا عندما نرغب فيما لا نستطيع الحصول عليه.
- الحقيقة الثانية هي سبب الألم: إنّ سبب الألم هو ميل المرء إلى الشرّ، وإلى الملذّات الحسّيّة. أو هي الشهوة الجامحة، شهوة إشباع الأهواء النفسيّة الفاسدة([viii]).
- الحقيقة الثالثة هي توقيت الألم: يتم ذلك باخضاع الأنا وبالتخلص من الميل إلى الشر والملذات الحسّيّة. كما يتم باطفاء العطش المتجه لأهواء النفس وشهواتها([ix]).
- الحقيقة الرابعة هي الطريق ذات الشعب الثماني التي تقود إلى توقيف الالم: وهي النظر الصائب، والأمل الصائب، والكلمة الصائبة، والسلوك الصائب، وطريق الحياة الصائبة، والجهد الصائب، والفكر الصائب، والرؤية الصائبة.
- هذه هي الشريعة، وبمعرفتها نهتدي إلى طريق النيرفانا، أو إطفاء نار الأنا، أو التحرّر من الأنانيّة، والألم، والجهل، أو الوصول إلى الحكمة والرأفة”([x]).
III. البوذيّة والهندوسيّة
أحدث بوذا ثورة في الديانة الهندوسيّة التي وجدها تعمّ بلاد الهند، تمثّلت في نظرته إلى الله، والنفس، والمادّة، والتناسخ، والطقوس.
- الله
نجد في إنجيل بوذا موقفًا متردّدًا، أو غير واضح من الإله براهما، فهو يخبرنا أنّ براهما كلّفه التبشير به وحمل الرسالة إلى الناس: “نزل عندئذٍ براهما ساهمباتي من السموات بعد أن شغف بالمغبوط وقال له: يا حسرتي سيفنى العالم إذا لم يقرّر التاثا غاتا القديس التبشير بالشريعة”([xi]).
ثمّ يقول في مكان آخر أنّ الإله ايشفارا لم يخلق العالم. والأدلّة على ذلك عديدة: فإذا كانت الكائنات الحيّة من صنع الإله وجب أن تخضع له خضوعًا تامًا، وهذا لا يتّفق مع الواقع الخُلقيّ للناس، كما يجب أن تكون خالية من الألم، والعذاب، والخطيئة لأنّ الإله لا يصنع الشرّ والألم. وإاذا كان المطلق سبب وجودنا، لأنّه لا بدّ لكلّ شيء من سبب، وجب التساؤل عن سبب هذا المطلق.
وإذا قلنا أنّ المطلق سبب وجود الأشياء، وأنّه موجود في الأشياء وقعنا في التناقض، إذ كيف يكون المطلق خالقًا للأشياء، وموجودًا في الوقت ذاته([xii]).
وفي هذا يخالف بوذا البراهمة الذين يعتقدون أنّ براهما هو الإله الخالق للعالم، والحال فيه ويقول: “لنرفض إذًا البدع، والهرطقات، والآراء الخطأ في عبادتنا للإله ايشفارا وفي صلاتنا له. كما يجب ألاّ نضيع في دروس وأبحاث باطلة عن أمور دقيقة ليس فيها أيّ نفع([xiii]).
ب. النفس
ثار بوذا على مقولة النفس، أو الاتمان البراهميّة، وقال إنّها مقولة زائفة لا حقيقة لها. لقد تصوّر البراهمة النفس جوهرًا متميّزًا عن الجسد يفكّر، ويحسّ، ويرى، ويسمع، ويشم، ويذوق، ويحرّك، ويستعمل العين، والأذن، والأنف، واللسان، والجلد، والأعصاب أدوات له. واعتقدوا أنّ النفس تذهب بعد الموت لتحلّ في جسد ملك، أو قديس، أو إله إذا كانت خيّرة، أو في جسد حيوان منحط، أو تصير إلى الجسم إذا كانت شريرة.
أمّا بوذا فينكر وجود نفس، أو أنا متميّزة عن الجسد، كما ينكر نظريّة التقمّص، وبقاء النفس، ويذهب إلى أنّ الإنسان مكوّن من جوهر واحد هو الجسد، وهذا الجسد عبارة عن جهاز عضويّ مركّب من عناصر عدّة متلاصقة هي المادّة، والإحساس، والفكر. هذه العناصر تتفكّك عند الموت وينتهي وجود الإنسان بتفكّك الجسد.
ولا يوجد بنظر بوذا برهان على أنا مستقرّة مشابهة لذاتها تنتقل من جسد إلى آخر، ولا يوجد تناسخ للأنا.([xiv])
ثمّ إنّ الاعتقاد باستمرار الأنا بعد الموت يحرمها من الخلاص، يقول معبّرًا عن هذه الفكرة: “إذا كان مقرّرًا للأنا أن تولد ثانية في أحد العوالم الثلاثة أكان في جهنم، أو على الأرض، أو في السماء، سنجد أنفسنا دائمًا ومن دون رحمة محكومين بالحزن، وسنبقى مكبّلين في دولاب الذاتيّة، ومربوطين بالأنانيّة والشرّ”([xv]). ويقول في مكان آخر “توجد ولادة بدون تناسخ الأنا… هذه الأنا وهم. إذا كانت الأنا حقيقيّة، كيف يمكن التهرّب منها؟ سيكون رعب الجحيم من دون حدود، ولا يمكن الاعتماد على أيّ خلاص”([xvi]).
بالإضافة إلى ذلك يعني القول بخلود النفس نفي الولادة والموت، كما يعني أن الإنسان يكون كاملاً وغير قابل للتحسّيّن والكمال بواسطة الاعمال، ولا يعود هناك من فائدة للعمل توصلاً للكمال([xvii]).
ان ما يبقى من الإنسان بعد موته شيئان هما اعماله وأفكاره، والإنسان الذي ينشد الخلود لن يلفيه في أن يستمر بعد الموت، وانما في الاعمال التي ينجزها، ذلك أن هذه الأعمال هي التي تبقى بعد الموت([xviii]).
وثمة شيء آخر يكتب الخلود للإنسان عدا الأعمال هو الأفكار التي يتمخض عنها عقله، يقر بوذا بوجود حيوية عقلية في الإنسان، هذا العقل ينتج أفكاراً وهذه الأفكار لا تموت بموت صاحبها بل تبقى على مر الدهور وتكتب الخلود لصاحبها. ” أن الحيوية العقلية تتوقف بالتأكيد، لكن الحكمة تستمر”([xix]). ويميز بوذا بهذا الصدد بين الادراك الحسّيّ والحكمة العقلية، ” بين هذا الذي ندركه بحواسنا وهذا الذي هو عقلاني ” ويعترف بالمسحة الروحانية للفكر أو لما هو عقلي، وبشيء من الروحانية لما هو ادراك حسّيّ. ويشدد مراراً على أن الحكمة خالدة ([xx]).
ج. التناسخ
وإذا كان بوذا يرفض نظريّة التناسخ الهندوسيّة، أي وجود نفس، أو أنا مستقرّة، ومشابهة لذاتها تنتقل من جسد إلى آخر، فإنّه يقرّ بوجود ولادات جديدة عقليّة تحصل باستنارة العقل والقلب، وتؤدّي إلى إشراق نور الفهم الخلقيّ منبع كلّ حقيقة([xxi]).
كما أنّنا نعثر في إنجيل بوذا على آثار لعقيدة التقمّص الهندوسيّة. فهو مثلاً يذكر قِصّة ذلك الخيّاط الغشّاش الذي مرّ بهيئة طير يدعى مالكًا الحزين الذي خدع الأسماك فخوّفه السرطان. يقول في ذلك: “ليس هذا حادثًا مفرحًا بذاته في مصير هذا الخياط الغشّاش الطمّاع. ففي تقمّصاته الآخرى أصابته كوارث شبيهة بكارثته هذه لأنّه حاول خداع الآخرين فخدعوه، وخسر في النهاية ماله كما خسر نفسه. هذا الشخص النهم الحزين الذي لا يشبع عاش حيوات عدّة مثل حياته هذه بهيئة طير يدعى مالكًا الحزين الذي اختار مأوى له قرب إحدى البحيرات، فخدع أسماكها وأكلها، ولكنّه في النهاية خدعه السرطان وأكله([xxii]).
كما يذكر قِصّة الفيل الصالح، والقرود الشريرة التي كانت تؤذيه، فتقمّص فيلاً شرّيرًا فتك بالقرود([xxiii]).
ونجد في الإنجيل أيضًا ملامح من عقيدة الحياة الثانية بعد الموت فنسمع بوذا يقول معلقاً على قِصّة ذلك الشيخ البراهميّ الذي مات طفله فطلب من ملك الموت أن يسمح له برؤيته في الجنّة. فلمّا التقاه طلب إليه الرجوع معه إلى الحياة الدنيا فلم يأبه به، ولم يفهم كلامه. قال له بوذا: “حقًّا، أنت أوهمت نفسك، عندما يموت الإنسان يتحلّل جسمه إلى عناصره، لكن الروح لا تحبس في قبر. يوجد نوع من الحياة أرقى من حياتنا هذه لا توجد فيه أبداً العبارات المتعلّقة بأب وابن وأمّ”([xxiv]). وأظنّ أنّ هذه إضافات أقحمت على تعاليم بوذا من قبل بعض أتباعه في عصور لاحقة.
د. الطقوس الدينيّة
شنّ بوذا حملة عنيفة على الطقوس الدينيّة الهندوسيّة، وقال إنّها تخلو من أيّ فائدة، فالصلوات ليست سوى ترديدات باطلة لمراسم العبادة. وتقديم الذبائح عمل ينمّ عن قساوة القلب، والجهل لأنّ دم الحيوان الذي يراق تقرّبًا من الآلهة لا يغسل أعمالاً سيّئة اقترفها الخاطئ. أمّا إماتة الجسد بالصوم، والحرمان فلا تكفي للاستنارة، ومن الخطأ إهمال حاجات الجسد، والإغراق في الملذّات، والاعتدال هو الفضيلة.([xxv]) ومع ذلك حافظ بوذا على تقليد الشحاذة الهندوسيّ، فكان يأخذ كلّ صباح قصعته، ويخرج ليستعطي طعامه. ولمّا انتقده والده على ذلك عادًّا عمله هذا إهانة له ولأجداده العظام، أجاب البوذا: “أيّها الملك أنت، وذرّيتك تستطيعون استرجاع أصلكم الملكيّ، أمّا أنا فأتحدّر من البوذاوات الذين يشحذون طعامهم ويعيشون على الصدقات([xxvi])“.
ونرى بوذا يحذّر من العجائب، والسحر، والرقية ويقول: “أنا أمنعكم أيّها الرهبان من استعمال الرقيات، والسحر، والصلوات لأنّها أشياء غير نافعة، لأنّ قانون الكارما يحكم كلّ الأشياء. ومن يجرّب منكم صنع العجائب لا يكون قد فهم عقيدة التاثا غاتا([xxvii]). ويقول في مكان آخر “إنّ أعمال الرقاة، والسحرة، والخاطبين، وتجار العجائب هي خداع، وغشّ، وغدر، ومين([xxviii]).
وكذلك ينتقد بوذا الدعاء، والتسبيح، والمدائح الدينيّة التي يدّعي البراهمة أنّها توصلهم إلى براهما والاتّحاد به. إنّ أعمالهم هذه ليست سوى عبث وضلال. إنّ انكباب هؤلاء على دراسة الفيداوات الثلاث وترتيلها لا تقود إلى نعمة الاتّحاد بالإله براهما الذي لا يعرفونه ولم يروه أبدًا”([xxix]).
وعلى الرغم من هذا النقد للطقوس الدينيّة، والعجائب لم يخلص إنجيل بوذا من بعضها. فنسمع مثلاً بوليمة ذلك الشابّ بمناسبة زفافه وقد دعا إليها البوذا ورهبانه. لقد أكل الجميع من ذلك الطعام القليل، ولكنّ الطعام زاد بدل أن ينقص([xxx]).
كما نلفي في مقدّمة الكتاب، وفي قِصّة حياته، عند الولادة والموت، عجائب عديدة تحدث، وأعتقد أنّها من وضع بعض أتباعه الذين لم يتخلّصوا من تأثير الهندوسيّة.
هـ. الإنسان
إنّ جميع الأشياء الموجودة في العالم تتألّف من مادّة واحدة، أو جوهر واحد. هذه المادّة تتشكّل بصور متعدّدة بفعل تأثيرات عديدة لتكوّن الأجسام المتنوّعة التي نجدها في الطبيعة. ويضرب على ذلك مثل الأدوات الفخّاريّة من قدور، وصحون، وملاعق، وقصاع، وأباريق، وجرار إلخ… فهي متنوّعة الأشكال، ولكنّها جميعها مصنوعة من مادّة واحدة هي الفخّار([xxxi]).
والإنسان بنظر بوذا مؤلّف من الاسم والشكل. الاسم هو العقل، والشكل هو الجسم. ويتألّف الجسم من العناصر الأربعة وهي: التراب، والماء، والنار، والهواء. هذه العناصر تمتزج لتشكل جهازًا آليًّا يتحرّك كلعبة أطفال هو الجسد، كما ينتج عنها جهاز يفكّر هو العقل، أو الذكاء([xxxii]).
والحياة هي العقل. وما دام العقل حاصلاً استمرّت الحياة، وإذا توقّف العقل حلّ الموت.
والعلاقة بين العقل والجسد كالعلاقة بين رجل أعمى وآخر مشلول. كلاهما يريدان قطع الطريق، ولا يستطيع كلّ منهما بمفرده فعل ذلك، ولكن بتعاونهما يقدران عليه، وذلك بأن يحمل الأعمى المشلول على كتفيه ويسير به مستعينًا ببصر المشلول الذي يوجّهه، ويرشده في سيره.
إنّ الجسم عبارة عن آلة يحرّكها العقل، والعناصر الهوائيّة([xxxiii])، وهو مؤلّف من أعضاء معرضة للمرض، والهرم، والهلاك، وعند الموت المحتّم يتحلّل الجسد، ولا يبقى من الإنسان سوى أعماله وأفكاره([xxxiv]).
وكما أنّ العربة هي الشكل الناتج عن تركيب المحور، والدواليب، والهيكل إلخ.. كذلك الكائن الحيّ هو المظهر الناتج عن تركيب المجموعات المتعدّدة للعناصر الأربعة، أي الماء، والتراب، والهواء، والنار([xxxv]).
يبدو تأثّر بوذا واضحًا بالمذهب المادّيّ (لوكايانا) من خلال هذه الآراء، ويمكن تلخيص ذلك المذهب الذي قوي في القرن السادس قبل الميلاد إلى جانب المذهب البوذيّ، ومذهب ماها فيرا المعروف بالجاينسيّة بما يلي: “أنّ هذا العالم (لوكا) يوجد وحده ولا يوجد شيء غيره، ولا توجد حياة مقبلة، التصوّر وحده مصدر المعرفة الوحيد… المادّة التي لا تعرف إلاّ بالحواسّ هي الحقيقة الوحيدة… المبادئ المطلقة هي بمعزل عنه… فرضيّات الدين: الله والحرّيّة، والخلود أوهام…”([xxxvi])
- IV. البوذيّة والمسيحيّة
عاش بوذا قبل المسيح بنحو ستّة قرون، ولكن بعض تعاليمه، وسيرته انعكس في الكتاب المقدس.
إنّ إنجيل بوذا، وإنجيل المسيح متشابهان في الأسلوب، وعرض التعاليم. كلّ منهما عبارة عن قِصّة تحكي سيرة رجل منذ ولادته حتّى وفاته، تشمل الأعمال التي قام بها، والكلمات التي تفوّه بها. كلّ منهما جاء إلى العالم ليخلّصه من الخطايا، والشرور، والآلام ليهديه إلى الحقيقة، يقول بوذا: “أنتم أولادي وأنا أبوكم، وفيّ أنا قد تخلّصتم من آلامكم… أنا ولدت في العالم كملك للحقيقة وفي سبيل العالم”([xxxvii]).
كلّ منهما أحاط نفسه بتلامذة يتبعونه في حلّه، وترحاله، وتنقّله المستمرّ بين المدن، والقرى، والمغاور، والغابات، ويستمعون إلى مواعظه وتعاليمه، ويسألونه عن شؤون الحياة فيجيبهم بلهجة المعلّ،م والمربّي والأب.
وكلّ منهما طبّق نظام الرهبنة الذي يقوم على اتّخاذ رجال الدين منازل، أو أديرة منعزلة يعيشون فيها جماعات منصرفين إلى العبادة والتأمّل. ويخضعون لقواعد صارمة. يقول بوذا مخاطباً الرهبان “أيّها الرهبان اجعلوا نوركم يسطع، وبما أنّكم رفضتم العالم، وكرّستم حياتكم للدين، وللنظام الدينييّ بحيث تستطيعون معه مشاهدة قواعد الأدب فتصبحون محترمين، ومضيافين، ومحبّين لمعلّميكم، ورؤسائكم، أو للذين عندهم رتبة المعلّمين والرؤساء”([xxxviii]).
ونجد طقس الاعتراف في الديانتين واضحًا. وهو يقضي بأنّ المرء إذا اقترف ذنبًا يجب أن يبوح به لرجل الدين، فيتطهّر منه، ذلك أنّ الذنب المعترف به يغدو خفيفًا بعد الإقرار به.([xxxix])
ويشدّد كلّ من بوذا، والمسيح على الدعوة إلى المحبّة واللطف. يقول بوذا في إحدى عظاته: “لا تشتموا، لا تهينوا، لا تحقدوا، كونوا كالأمّ التي تخاطر بحياتها من أجل ابنها، وتسهر عليه. حبّنا للجميع يجب أن يكون بدون حدود وملآنًا بالرقّة، واللطف، والطيبة، والجودة، والرفق، والتساهل، والإكرام، والتسامح… إنّ قاعدة الحياة التي هي دائمًا الأحسن والأفضل هي الامتلاء بالمحبة”([xl]). وفي عظة المحبّة يذكر بوذا حسناتها فيقول: “إنّ الإنسان المحبّ يجد طريق الخلاص أي النيرفانا… بالمحبّة، والرحمة نصلح أنفسنا، ونجعلها تصل إلى الكمال”([xli]).
ويدعو بوذا كالمسيح إلى التسامح. وهو يعني المغفرة لمن أساء إلينا، وعدم الانتقام منه. يقول في ذلك: “يجب ألاّ تبادلوا الشرّ بالشرّ، ولا الكراهية بالكراهية. لا تعتقدوا أنّكم لا تستطيعون تحطيم الشرّ عندما تبادلون الشرّ بالشرّ. فهذا لا يعمل إلاّ على نموّ الشرّ وازدهاره([xlii]). ويقول في مكان آخر: “إذا حصل لي ضرر من قِبل شخص أزيد صنع الخير تجاهه…”([xliii])
وحضّ بوذا كالمسيح على الزواج الذي يوفّر للمرأة والرجل السعادة الكبرى، ويجمع بين قلبين متحابّين. وحثّ كلّ منهما على وحدة الزواج، والخلاص فيه والأمانة يقول بوذا: “يجب ألا يبقى أيّ إنسان وحده. على كلّ منكم أن يتزوّج بالحقيقة في حبّ مقدّس… الزوج الذي يحبّ زوجته، ويرجو نوال وحدة تكون خالدة يجب أن يكون أمينًا لزوجته لدرجة تكون مشابهة للحقيقة نفسها فترتاح عندئذٍ زوجته إليه، وتحترمه، وتخدمه. والمرأة التي تحبّ زوجها وترجو نوال وحدة تكون أبديّة يجب أن تكون أمينة لزوجها…”([xliv]). وسمح بوذا للمرأة بدخول الرهبنة كالرجل، ومنعها مثله من الزواج، كما أمرهما بالعفّة يقول مخاطبًا الرهبان: “إذا رأيتم امرأة تصرّفوا كأنّكم لا ترونها ،ولا تتحادثوا معها”([xlv]).
وقال كلّ منهما بوصايا عشر. وقسّمها بوذا فئات ثلاثًا. ثلاث منها راجعة إلى الجسد، هي: القتل، والسرقة، والزنا. وأربع ترجع إلى اللسان، هي: الكذب، والافتراء، والشتم، والكلام الباطل. وثلاث ترجع إلى الفكر، وهي: الطمع، والبغض، والضلال.([xlvi])
خاتمة
من الواضح أنّ للفكر الهنديّ أثراً كبيراً على ثقافات أخرى، إذ استطاعت كتب “اليوبانيشاد” أن تحرّك الفكر الغربيّ بإعادة نشرها، أو بترجمتها، فما كان من “فخته” إلاّ أن تصوّر المذهب المثاليّ المماثل لمثاليّة “شانكارا”. أمّا “شوبنهاور” فقد تأثر بمذاهب البوذيّة، واليوبانيشاد، والفيدانتا، وقد عدّ “شلنج” أنّ “اليوبانيشاد” تجسّد أرقى حكمة، أمّا “نيتشه” فقد لازمته فكرة دورة الحياة دورة أبديّة تظلّ فيها تعيد ما مضى من مراحل – وما تلك الفكرة إلاّ صورة من مذهب عودة الروح إلى التقمّص في أجساد كثيرة([1]). وبذلك يمكن أن نقول إنّ تدفّق فلسفات الشرق وعقائده إلى الغرب، وثورة الشرق على الغرب ثورة متزايدة قد تساهمان في جعل الغرب غنيمة سهلة لديانة جديدة تجعل الناس يعقدون رجاءهم في السماء، ويفقدون الأمل في الأرض.
([1] ) قصة الحضارة، ديوارنت، الهند وجيرانها، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، بيروت، تونس، دار الجيل ، ج3، ص 280 .
(i) قوام القياس في “نيابا” خمس قضايا: النظريّة، والعلّة، والمقدّمة الكبرى، والمقدّمة الصغرى، والنتيجة، مثال ذلك:
- سقراط فانٍ 2- لأنّه إنسان 3- وكلّ إنسان فانٍ 4- وسقراط فانٍ 5- وإذن سقراط فانٍ.
([ii]) ديوارنت، قِصّة الحضارة، الهند وجيرانها، ترجمة الدكتور زكي نجيب محمود، بيروت، تونس، دار الجيل، ج3 ص 250.
([iii]) راجع إنجيل بوذا، ترجمة سامي شيا، دار الحداثة، بيروت، 1991، الطبعة الأولى.
([iv]) راجع إنجيل بوذا، ص 205.
([v]) راجع إنجيل بوذا، ص، 211.
([viii]) راجع إنجيل بوذا، ص 43، 51.
([ix]) راجع إنجيل بوذا، ص 43، 51.
([x]) رادكر شناومور، الفكر الفلسفيّ الهنديّ، (ترجمة ندره اليازجيّ، دار اليقظة العربيّة، بيروت 1967) ص 354.
([xi]) راجع إنجيل بوذا، ص45 – 46.
([xii]) راجع إنجيل بوذا، ص 68، 76.
([xiii]) راجع إنجيل بوذا، ص 68.
([xiv]) راجع إنجيل بوذا، ص 37.
([xvi]) راجع إنجيل بوذا، ص 37 – 38.
([xvii]) راجع إنجيل بوذا، ص 61.
([xviii]) راجع إنجيل بوذا، ص 107.
([xix]) راجع إنجيل بوذا، ص139.
([xx]) راجع إنجيل بوذا، ص 135 – 136.
([xxi]) راجع إنجيل بوذا، ص 108.
([xxii]) راجع إنجيل بوذا، ص 164.
([xxiii]) راجع إنجيل بوذا، ص188 – 189.
([xxiv]) راجع إنجيل بوذا، ص 182.
([xxv]) راجع إنجيل بوذا، ص 38 – 39، 101.
([xxvi]) راجع إنجيل بوذا، ص 72، 73.
([xxvii]) راجع إنجيل بوذا، ص 110.
([xxviii]) راجع إنجيل بوذا، ص 153.
([xxix]) راجع إنجيل بوذا، ص 126.
([xxx]) راجع إنجيل بوذا، ص 179.
([xxxi]) راجع إنجيل بوذا، ص 145.
([xxxii]) انظر الفكر الفلسفيّ الهنديّ…، ص 303، 308.
([xxxiii]) راجع إنجيل بوذا، ص 103، 105.
([xxxiv]) راجع إنجيل بوذا، ص 144.
[xxxv])) انظر أيضًا “الفكر الفلسفيّ الهنديّ، ص 367.
([xxxvi]) انظر أيضًا المرجع نفسه، ص 300.
([xxxvii]) راجع إنجيل بوذا، ص 144.
([xxxviii]) راجع إنجيل بوذا، ص 100.
([xxxix]) راجع إنجيل بوذا، ص 91.
([xli]) راجع إنجيل بوذا، ص 70.
([xlii]) راجع إنجيل بوذا، ص 190.
([xliii]) راجع إنجيل بوذا، ص 148.
([xliv]) راجع إنجيل بوذا، ص 180.