التّحول الرّقمي في دعم الصحة النّفسيّة: دور الذّكاء الاصطناعي في التخفيف من الضغوط النفسية الناتجة عن الحروب
عنوان البحث: التّحول الرّقمي في دعم الصحة النّفسيّة: دور الذّكاء الاصطناعي في التخفيف من الضغوط النفسية الناتجة عن الحروب
اسم الكاتب: د. رضا علي الشّاب
تاريخ النشر: 16/07/2025
اسم المجلة: مجلة أوراق ثقافية
عدد المجلة: 38
تحميل البحث بصيغة PDFالتّحول الرّقمي في دعم الصحة النّفسيّة: دور الذّكاء الاصطناعي في التخفيف من الضغوط النفسية الناتجة عن الحروب
Digital Transformation in Mental Health Support: The Role of Artificial Intelligence in Alleviating Psychological Stress Resulting from Wars
Dr. Rida Chab د. رضا علي الشّاب([1])
تاريخ الإرسال:21-6-2025 تاريخ القبول:3-7-2025
ملخص
تستعرض الدّراسة دور الذّكاء الاصطناعي في التّخفيف من الضّغوط النّفسيّة الناتجة عن الحروب، مع التّركيز على تقنيات مثل العلاج المعرفي السّلوكي المدعوم بالذكاء الاصطناعي، وأنظمة الحوار الذّكيّة، وتحليل البيانات الحيويّة، وتطبيقات الهاتف المحمول الموجّهة إلى دعم الصّحة النّفسيّة. كما تناقش التّحديات التي تواجه هذه التقنيات، ولا سيّما في ما يتعلق بقدرتها على التكيّف مع الخصوصيّات الثقافيّة والاجتماعيّة، ومدى أهليتها لأن تحل محل الدّعم البشري أو أن تتكامل معه، خصوصًا في بيئات الحرّوب والنزوح.
وقد اعتُمد في الدّراسة على المنهج الوصفي والتّحليلي، من خلال مراجعة الأدبيات العلميّة والدّراسات السّابقة، وتحليل التقارير الصادرة عن منظمات صحيّة وتقنيّة دوليّة، إلى جانب دراسة نماذج واقعيّة لتطبيقات الذّكاء الاصطناعي في مجالات الدّعم النّفسي والاجتماعي. وتطرح الدّراسة تساؤلات حول إمكانيّة اعتماد الذكاء الاصطناعي كوسيلة مبتكرة لسدّ الفجوة في الدّعم النّفسي، والاجتماعي في بيئات مماثلة، ومدى فاعليته وتكيّفه مع السّياقات الاجتماعيّة والثقافيّة المحليّة؟
تمثل هذه الدّراسة مساهمة علميّة في تحليل مدى واقعية وجدوى هذا التحول، مع التركيز على دور الذّكاء الاصطناعي في التّخفيف من الضّغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الناتجة عن الحروب، بعيدًا من التّناول التّقني البحت، بل من خلال إطار اجتماعي ونفسي تحليلي. وتخلص إلى أنّ الذكاء الاصطناعي يمكن أن يسهم بفعاليّة في التّخفيف من الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الناتجة عن الحروب، غير أنّه لا يُعدّ بديلًا عن الدّعم البشري، بل أداة مساندة ينبغي توظيفها ضمن مقاربات علاجيّة شاملة تستند إلى فهم معمّق للسياقات المحليّة واحتياجات المتضررين.
الكلمات المفتاحيّة: الذّكاء الاصطناعي، الصّحة النّفسيّة، الضغوط الاجتماعيّة، الحروب، الدّعم النّفسي الرقمي، اضطراب ما بعد الصدمة، أنظمة الحوار الذّكيّة.
Abstract:
This study explores the role of artificial intelligence (AI) in alleviating psychological stress resulting from wars, with a focus on technologies such as AI-supported cognitive behavioral therapy, intelligent dialogue systems, biometric data analysis, and mobile applications aimed at promoting mental health. The study also examines the challenges facing these technologies, particularly in terms of their ability to adapt to cultural and social specificities, and the extent to which they can replace or complement human support, especially in contexts of war and displacement.
The study adopts a descriptive and analytical methodology, relying on a review of scientific literature and previous studies, in addition to analyzing reports issued by international health and technology organizations, and examining real-world models of AI applications in the fields of psychological and social support. The aim is to provide a comprehensive understanding of AI’s potential in this domain, and to assess its effectiveness and limitations, while considering the ethical and humanitarian dimensions associated with its use in fragile settings.
The study raises questions about the feasibility of adopting AI as an innovative tool to bridge gaps in psychosocial support in similar environments, and its adaptability to local social and cultural contexts. It represents a scholarly contribution to analyzing the realism and viability of this technological shift, emphasizing the role of AI in mitigating the psychological and social pressures caused by war—not from a purely technical perspective, but through a sociopsychological and analytical framework. The study concludes that while AI can play an effective role in alleviating war-related psychological and social distress, it should not be considered a substitute for human support. Rather, it is a complementary tool that must be integrated within comprehensive therapeutic approaches grounded in a deep understanding of local contexts and the needs of affected populations.
Keywords: Artificial Intelligence, Mental Health, Social Stress, Wars, Digital Psychological Support, Post-Traumatic Stress Disorder (PTSD), Intelligent Dialogue Systems
مقدمة
شهدت السّنوات العشر الأخيرة تصاعدًا ملحوظًا في الحروب المتنقلة بين الدول في العالم، ومنطقة الشّرق الأوسط وخلّفت آثارًا نفسيّة واجتماعيّة كارثيّة على الأفراد والمجتمعات، لا سيما في الدّول الهشّة سياسيًا واقتصاديًا. من أبرز هذه التأثيرات اضطرابات القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، فضلًا عن المشكلات الاجتماعيّة مثل فقدان الدّعم الأسري، ضعف تقدير الذّات، العزلة وتدهور العلاقات الاجتماعية. ويكشف الواقع فجوة كبيرة بين الاحتياجات الاجتماعيّة والنّفسيّة للسكان المتأثرين بالحروب، والموارد والخدمات المتوفرة، خصوصًا في الدّول النّامية ومنها لبنان، الذي شهد مؤخرًا في نهاية صيف العام 2024 عدوانًا اسرائيليًّا مدمرًا، وما زالت تداعياته العسكريّة والأمنيّة والاجتماعيّة والنّفسيّة تطال البلد وشعبه حتى موعد كتابة هذه السطور. في ظل هذه الأزمات، برزت الحاجة الملحة إلى ابتكار وسائل حديثة وفعالة لمواجهة تلك الضغوط، خصوصًا في البيئات التي تعاني من نقص في الموارد البشريّة، والبنى التّحتيّة للخدمات النّفسيّة والاجتماعيّة. هنا يبرز التحول الرقمي وخصوصًا الذكاء الاصطناعي كأداة جديدة تحمل وعودًا كبيرة في مجال الصّحة النّفسيّة والإرشاد الاجتماعي، عبر تطوير تطبيقات ذكية، روبوتات محادثة، أدوات تحليل سلوكيّات المستخدمين، ونظم دعم افتراضيّة يمكن أن تعمل كمكمّل أو بديل للمعالجين والمرشدين البشريين في بعض السياقات.
أهمية الدّراسة
تكتسب هذه الدّراسة أهميتها من الحاجة الملحّة إلى إيجاد حلول فعالة، ومستدامة لمعالجة الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة التي تعاني منها المجتمعات المتأثرة بالحروب، خاصة في ظل تزايد أعداد النّازحين واللاجئين وضعف البنية التّحتيّة الصّحيّة والنّفسيّة في تلك المناطق، وخصوصًا في بلدان منطقتنا ومنها لبنان إذ لا يزال يرزح تحت شبح تداعيات العدوان الاسرائيلي الأخير عليه العام 2024.
وتُعد تقنيات الذكاء الاصطناعي من الابتكارات الحديثة التي يمكن أن تقدم خدمات دعم نفسي واجتماعي بشكل متواصل ومتعدد الأشكال، ما يجعلها خيارًا واعدًا للتدخل في ظروف الأزمات، فتكون الموارد البشريّة محدودة أو غير متوفرة بشكل كافٍ. بالإضافة إلى ذلك، تسلط الدراسة الضوء على الجوانب الأخلاقيّة والإنسانيّة لاستخدام الذّكاء الاصطناعي، ما يساعد على توجيه تطبيق هذه التقنيات بطريقة تراعي خصوصيات الضحايا والبيئات المتأثرة، وتضمن تقديم الدعم المناسب بما يحفظ كرامتهم وحقوقهم.
الإشكاليّة
تواجه المجتمعات المتأثرة بالحروب تحديات نفسيّة واجتماعيّة معقدة تتطلب حلولًا فعالة وسريعة، في ظل محدوديّة الموارد والخدمات التقليديّة. ومع تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، برزت تساؤلات حول مدى قدرة هذه التّقنيات على تقديم دعم نفسي واجتماعي فعّال، خصوصًا في بيئات الحروب التي تتميز بخصوصيات ثقافيّة واجتماعيّة متعددة ومتغيرة. وتتمثل إشكاليّة البحث في التساؤل الأساسي الآتي:
إلى أي مدى يمكن للذّكاء الاصطناعي أن يساهم في التخفيف من الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الناتجة عن الحروب؟ وهل يمكن الاعتماد عليه كبديل أو مكمّل للدعم البشري التقليدي، مع مراعاة الخصوصيّات الثقافيّة والاجتماعيّة للمجتمعات المتضررة؟
وتتفرع هذه الإشكاليّة إلى عدة تساؤلات فرعيّة، منها:
- ما هي التّقنيات الذكاء الاصطناعي الأكثر فاعليّة في تقديم الدّعم النّفسي والاجتماعي في سياق الحروب؟
- كيف يمكن لهذه التقنيات التّكيف مع الاختلافات الثقافيّة والاجتماعيّة في مناطق النزاع؟
- ما هي التّحديات الأخلاقيّة والإنسانيّة المرتبطة باستخدام الذّكاء الاصطناعي في هذا المجال؟
- هل يمكن أن يشكل الذكاء الاصطناعي بديلًا كاملًا أم أداة مساندة ضمن منظومة الدّعم النّفسي والاجتماعي؟
المنهج المعتمد
تعتمد هذه الدراسة على المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى تقديم فهم شامل، ومتكامل لدور الذكاء الاصطناعي في التّخفيف من الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الناتجة عن الحروب، قد شمل المنهج عدة خطوات رئيسة: مراجعة الأدبيات العلميّة الحديثة والدّراسات السّابقة التي تناولت موضوع الذّكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الصّحة النّفسيّة والدّعم الاجتماعي، خاصة في سياقات الحروب والنزاعات، وتحليل التّقارير الصّادرة عن منظمات صحية وتقنية دولية، مثل منظمة الصّحة العالميّة، ومنظمة الأمم المتحدة، ومراكز أبحاث متخصصة في الذكاء الاصطناعي.
الفصل الأول: مفهوم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في الصّحة النّفسيّة والاجتماعيّة
- تعريف الذكاء الاصطناعي وتطوره التاريخي
الذّكاء الاصطناعي (Artificial Intelligence – AI) فرع من علوم الحاسوب يُعنى بتطوير أنظمة قادرة على أداء مهام تتطلب ذكاءً بشريًا، مثل التعلم، التخطيط، واتخاذ القرارات (Russell & Norvig, 2016)
بدأ مفهوم الذكاء الاصطناعي في خمسينيات القرن العشرين، إذ وضع علماء الحاسوب أولى الأسس النّظرية، وتطورت المفاهيم منذ ذلك الحين عبر عدة مراحل أساسيّة:
- تقنيات الذّكاء الاصطناعي في الصّحة النّفسيّة والاجتماعيّة
تستخدم مجالات الصّحة النّفسيّة والاجتماعيّة مجموعة من تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحقيق أهداف تشخيصيّة وعلاجيّة وداعمة، منها:
- العلاج المعرفي السّلوكي المدعوم بالذكاء الاصطناعي (AI-CBT)
يعتمد العلاج المعرفي السلوكي على تعديل الأفكار والسّلوكيّات السلبية لتحسين الصّحة النّفسيّة، ومع ظهور الذكاء الاصطناعي، ظهرت منصات رقميّة تقدم هذا العلاج بطرق مخصصة وذكية، إذ تقوم الخوارزميات بتحليل تفاعلات المستخدم لتقديم تدخلات علاجية مناسبة. مثال على ذلك هو تطبيق Woebot([2])الذي يستخدم المحادثة التفاعلية لتقديم جلسات علاجية، وأظهرت الدراسات فعاليته في تقليل أعراض الاكتئاب والقلق (محمد، 2023)
- أنظمة الحوار الذّكيّة (Chatbots)
تعتمد هذه الأنظمة على معالجة اللغة الطبيعيّة (Natural Language Processing – NLP) لتمكين المحادثة بين الإنسان والآلة، ما يوفر دعمًا نفسيًّا فوريًّا ومستمرًا، يمكن أن تكون هذه الأنظمة متاحة على مدار السّاعة، ما يجعلها أداة مهمة خصوصًا في المناطق التي تعاني من نقص الخدمات النّفسيّة، وقد توفر هذه التّقنية الراحة النّفسيّة للأفراد كونهم يحادثون آلات فيستطيعون الافصاح عن دواخلهم أمامهم بطريقة بأريحية أكثر من حديثهم مع الإنسان. (محمد، 2023)
- تحليل البيانات الحيويّة
تُستخدم أجهزة قابلة للارتداء وأدوات استشعار لجمع بيانات فسيولوجيّة مثل معدل ضربات القلب، نشاط الجهاز العصبي، ومستويات التوتر، وتُحلّل باستخدام خوارزميّات الذّكاء الاصطناعي لتقييم الحالة النّفسيّة بشكل مستمر ودقيق. (Banaee, Ahmed, & Loutfi, 2013)
- تطبيقات الهواتف المحمولة للصّحة النّفسيّة
تنتشر تطبيقات الهواتف التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لتقديم برامج تدريبيّة، مراقبة المزاج، وتنبيهات مخصصة تساعد المستخدم على إدارة ضغوطه النّفسيّة والاجتماعيّة.
- تحديات تطبيق الذكاء الاصطناعي في الصّحة النّفسيّة
على الرّغم من الفوائد الكبيرة لتقنيات الذّكاء الاصطناعي، تواجه هذه التطبيقات عدة تحديات، أبرزها:
- التّكيف الثقافي والاجتماعي لتقنيات الذكاء الاصطناعي
يُعد التكيف مع السياقات الثقافيّة والاجتماعيّة أحد الشروط الأساسيّة لنجاح أنظمة الذكاء الاصطناعي الموجهة للدعم النّفسي، خاصة في المجتمعات المتأثرة بالحروب. فالتقنيات الرّقميّة المصمّمة في بيئات غربيّة غالبًا ما تعكس تصورات ثقافيّة محددة حول الصّحة النّفسيّة، وهو ما قد لا يتوافق مع المنظومة القيمية والسّلوكيّة لمجتمعات أخرى. تختلف مفاهيم مثل “الضيق النّفسي”، “طلب المساعدة”، أو حتى “العلاج” بين ثقافة وأخرى، ما يجعل نقل النماذج التقنية من دون تكييف منهجي تهديدًا لفهم دقيق لحاجات الأفراد الفعليّة. (خليفة، 2017)
تشير الأدبيات إلى أنّ فعاليّة الذكاء الاصطناعي في التّدخلات النّفسيّة تعتمد بدرجة كبيرة على مدى انسجامه مع لغة المستخدم، وخلفيته الدّينيّة، ومكانته الاجتماعيّة، ومواقفه من المرض النّفسي. فمثلًا الاعتماد على روبوتات ذكيّة أو تطبيقات رقميّة قد يُقابل بالريبة، أو الرفض في المجتمعات التي تُعلي من أهمّية العلاقة الإنسانيّة المباشرة في العلاج. ما أن “وصمة المرض النّفسي” في بعض الثقافات تجعل من الصّعب على الأفراد استخدام تطبيقات، قد تكشف عن معاناتهم، حتى لو كانت مجهولة الهُوية.
من جهة أخرى، يتطلب تكييف أنظمة الذّكاء الاصطناعي ثقافيًا دمج المعالجين المحليين والمرشدين الإجتماعيين وخبراء علم النّفس من المجتمع المستهدف في مراحل التصميم والتطوير، وذلك لضمان بناء خوارزميات تتوافق مع الخصوصيات المحليّة. كما يجب أن تشمل النّماذج الذّكيّة خيار التّخصيص اللغوي والتّفاعلي، فتكون قادرة على فهم التّعبيرات النّفسيّة ضمن السّياق الاجتماعي المحلي، وهو أمر بالغ الأهمّيّة في البيئات العربيّة التي تتنوّع لهجاتها وتعبيراتها العاطفيّة بشكل كبير.
- الخصوصيّة والأمان في استخدام الذّكاء الاصطناعي للدّعم النّفسي
يشكّل موضوع الخصوصيّة وحماية البيانات أحد أبرز التّحديات الأخلاقيّة والقانونيّة في استخدام تقنيات الذّكاء الاصطناعي في الرعاية النّفّسيّة، لا سيما في السّياقات المتأثرة بالحروب والنّزاعات. فهذه الأنظمة تعتمد على جمع كميات هائلة من البيانات الشّخصية، وتحليلها والتي قد تشمل الحالة النّفسيّة، السّجل الطبي، الأنماط السّلوكيّة، وحتى التّفاعلات اليوميّة على الهواتف الذّكيّة أو الإنترنت. إنّ هذا النّوع من البيانات يُعد بالغ الحساسيّة، وقد يؤدي تسريبه أو إساءة استخدامه إلى انتهاك صارخ للخصوصيّة وكرامة الأفراد، خصوصًا في المجتمعات الهشّة أو التي تعاني من انهيار مؤسسات الحماية القانونيّة. (Lupton, 2014)
وتشير الدّراسات إلى أن تصميم هذه الأنظمة لا يضمن دائمًا مستوى كافٍ من الأمان السيبراني، إذ تعاني بعض التّطبيقات من ثغرات تقنيّة يمكن أن تُستغل للاطلاع على معلومات المستخدمين من دون علمهم. تزداد المخاوف حين تُستخدَم هذه الأنظمة في بيئات لا تمتلك بنية تشريعيّة واضحة تحكم حماية البيانات الرّقميّة. ما يطرح تساؤلات حول الجهات المسؤولة عن تخزين البيانات، ومن يملك حقّ الوصول إليها، وكيفيّة محاسبة الجهات التي قد تُسيىء استخدامها. (منظمة الصحة النّفسيّة العالميّة، 2023)
- جودة ودقّة الخوارزميّات
تعتمد فعاليّة أنظمة الذّكاء الاصطناعي على جودة البيانات المُدخلة والخوارزميّات المستخدمة، ما يعني أن أي خطأ في البيانات يمكن أن يؤثر سلبًا على نتائج التقييم في العلاج. (محمد، 2023)
الفصل الثاني: دور الذّكاء الاصطناعي في التّخفيف من الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة الناتجة عن الحروب
- طبيعة الضغوط النّفسيّة في بيئات الحروب
تشكل الحروب أزمات مركبة تؤثر بشكل عميق على الأفراد والمجتمعات، إذ تتسبب في ضغوط نفسيّة شديدة تتمثل في اضطرابات القلق، الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصّدمة(PTSD) . وإلى جانب الضغوط النّفسيّة، تظهر ضغوط اجتماعيّة مثل فقدان الدّعم الاجتماعي، تدمير البنى الاجتماعيّة، والهجرة القسريّة، ما يزيد من تعقيد المعاناة النّفسيّة. هذه الضّغوط تحتاج إلى تدخلات متعددة الأبعاد تلبي الاحتياجات النّفسيّة والاجتماعيّة للمجتمعات المتضررة.
- إمكانيّات الذّكاء الاصطناعي في مواجهة ضغوط الحروب
يقدم الذكاء الاصطناعي إمكانيات جديدة ومبتكرة لدعم الصّحة النّفسيّة والاجتماعيّة في بيئات الحروب، إذ يمكن:
- توفير دعم نفسي مستمر ومتواصل
في ظل نقص الموارد البشريّة، وغياب المعالجين المؤهلين والمرشدين الاجتماعيين في مناطق النّزاع، توفر أنظمة الذّكاء الاصطناعي مثل برامج العلاج المعرفي السّلوكي الرّقميّة (AI-CBT) وأنظمة الحوار الذّكيّة، دعمًا نفسيًا متواصلاً متاحًا على مدار الساعة. (Naslund et al., 2017)
- المراقبة المبكرة والتّشخيص
تساعد تقنيات تحليل البيانات الحيويّة، والمراقبة الذّكيّة في كشف مبكر علامات التّوتر النّفسي والاضطرابات، ما يمكّن الفرق المختصة من التدخل السريع.
- تعزيز الدّعم الاجتماعي الافتراضي
تسهم تطبيقات الهواتف الذّكيّة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في بناء شبكات دعم افتراضيّة تتيح للأفراد التّفاعل وتبادل الدّعم النّفسي، ما يقلل من شعور العزلة الاجتماعيّة. (أبو زيد، 2024)
- تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي في مناطق الحروب
على الرغم من الإمكانات، هناك تحديات جمّة تتمثل في:
- الافتقار للبنية التّحتيّة الرّقميّة: يعيق ضعف الاتصال والإنترنت نشر هذه التقنيات في المناطق المتضررة .
- التحفظ الثقافي على تقبل التكنولوجيا: تختلف المجتمعات في قبولها للتقنيات الرّقميّة، وقد يرفض البعض الاعتماد على الدّعم الآلي.
- المخاطر الأخلاقيّة: تشمل الخصوصية، حقوق المستخدمين، والتّعامل مع البيانات الحساسة.
- تعزيز الدّعم الاجتماعي عبر الذكاء الاصطناعي
تؤثر الحروب بشكل كبير على الروابط الاجتماعيّة للأفراد، ما يزيد من شعور العزلة والوحدة. يستخدم الذكاء الاصطناعي لبناء شبكات دعم اجتماعي رقمية، من خلال:
- تحليل أنماط التواصل لتحديد الأفراد الأكثر عرضة للعزلة.
- توصيل المستخدمين بمجموعات دعم متشابهة عبر منصات ذكية تعزز الانتماء الاجتماعي.
- تطوير تطبيقات تفاعليّة لتعزيز مهارات التّواصل لدى الفئات العمرية.
- الصحة النّفسيّة والاجتماعيّة في سياق الحروب
تتفاقم الاضطرابات النّفسيّة والاجتماعيّة خلال الحروب، فلا تقتصر المعاناة على التوتر والقلق فقط، بل تشمل فقدان الدّعم الاجتماعي، تفكك الأسرة، والتّهميش المجتمعي، ما يزيد من معدلات الإصابة باضطرابات مثل اضطراب ما بعد الصّدمة.
- إمكانيات الذكاء الاصطناعي في دعم الصّحة النّفسيّة والاجتماعيّة في الدّول النامية بعد الحرب
في ظل النقص الحاد في الموارد الطبية والبشريّة، يقدم الذّكاء الاصطناعي حلولًا مبتكرة يمكنها أن:
- توفر خدمات الدّعم النّفسي والاجتماعي عن بُعد عبر تطبيقات ذكيّة، ما يتجاوز الحواجز الجغرافيّة.
- تحليل بيانات السكان لتوجيه الموارد بشكل أكثر فعاليّة، خصوصًا في المجتمعات الأكثر تضررًا
- بناء شبكات دعم اجتماعي رقميّة تُعزز من التّواصل بين المتضررين تفيد في العلاج الجماعي.
- كيف يخفف الذّكاء الاصطناعي الضغوط النّفسيّة والاجتماعيّة؟
يُسهم الذّكاء الاصطناعي في التّخفيف من هذه الضغوط عبر عدة آليات وتقنيات:
- التّقييم المبكر والوقائي
تستخدم تقنيات الذّكاء الاصطناعي تحليل البيانات الضخمة لمراقبة المؤشرات النّفسيّة من خلال التطبيقات الذكية، وتساعد في الكشف المبكر لأعراض وتوجيه الدّعم المناسب.
- تقديم الدّعم النّفسي المباشر
تقوم روبوتات المحادثة الذّكيّة (chatbots) بتوفير دعم نفسي فوري من خلال المحادثات النّصيّة أو الصوتية، وتقدم استراتيجيات علاجيّة مستندة إلى العلاج المعرفي السّلوكي (CBT)، ما يخفف من التوتر والقلق.
- تعزيز التّماسك الاجتماعي
تساعد منصات الذكاء الاصطناعي في إنشاء شبكات دعم اجتماعي رقمّيّة تربط الأفراد الذين يعانون من ظروف مماثلة، ما يعزز الشعور بالانتماء ويقلل من العزلة.
- تحديات تطبيق الذّكاء الاصطناعي في سياق الحروب
على الرّغم من المزايا، تواجه تطبيقات الذكاء الاصطناعي عدة تحديات:
- الخصوصيّة والأمان: جمع البيانات الحساسة يثير مخاوف حول حماية المعلومات الشّخصيّة
- الفجوة الرّقميّة: عدم توفر التكنولوجيا أو الإنترنت في البلدان والمناطق المتضررة.
- الاعتماد على الدعم البشري: لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل بالكامل محل التفاعل البشري الضروري في بعض الحالات.
- التكيف الثقافي والاجتماعي: ضرورة تكييف الحلول التقنية مع السياقات المحليّة لضمان قبولها وفعاليتها.
الفصل الثالث: نحو نموذج تكاملي للدعم النّفسي والاجتماعي في سياق ما بعد الحروب: الذكاء الاصطناعي كأداة مساندة لا بديل
- الذكاء الاصطناعي كأداة مساندة لا بديل
أثبتت الأدلة الحديثة أنّ تقنيات الذكاء الاصطناعي، مثل “الشات بوت” وأنظمة العلاج السّلوكي المدعوم خوارزميًا، يمكن أن تقدم دعمًا نفسيًا أوليًا فعالًا، خاصة في البيئات التي تعاني من نقص في الاختصاصيين النّفسيين أو الموارد الماديّة. ومن أبرز النّماذج الناجحة في هذا المجال تطبيق Woebot الذي يستخدم تقنيات العلاج المعرفي السّلوكي (CBT) لتقديم دعم يومي بشكل مؤتمت. (محمد، 2023).
مع ذلك، فإنّ الاعتماد الحصري على هذه الأدوات الرّقميّة لا يخلو من تحديات، لا سيما في الحالات النّفسيّة المعقدة التي تتطلب فهمًا دقيقًا للعوامل الثقافيّة والاجتماعيّة، وإدراكًا عميقًا للحالة الشّعورية للمريض، وهو أمر لا تزال تقنيات الذكاء الاصطناعي غير قادرة على محاكاته بشكل كامل.
فالعلاقة العلاجيّة والإرشاديّة البشريّة تتضمن مكونات يصعب ترميزها رقميًّا مثل التّعاطف، والحدس العلاجي، والاستجابة الانفعاليّة السياقيّة. وقد أظهرت دراسة أُجريت في جامعة تورنتو أنّ المرضى الذين تلقوا علاجًا مدعومًا رقمّيًا تحسنت حالتهم النّفسيّة على المدى القصير، ولكنهم احتاجوا لاحقًا إلى تدخل بشري مباشر لضمان استمرارية التّحسن النّفسي والاجتماعي.
- شروط نجاح التكامل بين الدّعم البشري والرقمي
يتطلب بناء نموذج تكاملي فعال بين الذكاء الاصطناعي والدّعم النّفسي البشري توفر مجموعة من الشروط الأساسية:
- التكيّف الثقافي: لا بد من مواءمة أدوات الذّكاء الاصطناعي مع السياقات الثقافيّة واللغويّة الخاصة بالمجتمعات المتضررة من النزاعات، بما يشمل استخدام اللغة المحليّة، واستيعاب النّظم القيميّة والعادات الاجتماعيّة (.
- الدّمج المهني: يجب تدريب الأختصاصيين النّفسيين والاجتماعيين على كيفيّة استخدام الأنظمة الذّكيّة كجزء من تدخلاتهم، إذ تُستخدم هذه الأدوات لتعزيز التّدخل العلاجي والإرشادي وليس لاستبداله.
- ضمان الخصوصيّة: يشكل تأمين البيانات الحساسة للمستخدمين أحد أكبر التّحديات، خصوصًا في البيئات الهشة إذ تكون الأنظمة القانونيّة غير كافية لحماية المستخدم من انتهاك الخصوصيّة. (Torous & Roberts, 2017)
- الإشراف الأخلاقي: يتطلب الاستخدام المسؤول لتقنيات الذكاء الاصطناعي في الصّحة النّفسيّة وجود إطار قانوني وأخلاقي صارم يحدد حدود التّدخل، وضمان ألّا تحلّ الخوارزميّات محل العامل البشري في اتخاذ القرارات الحساسة. (Rahwan et al., 2019)
- نحو تصور عملي للنموذج التكاملي
في ضوء ما سبق، يمكن اقتراح نموذج تكاملي يرتكز على الجمع بين الذّكاء الاصطناعي والدّعم البشري وفاق مبدأ التّكامل الوظيفي. في هذا النّموذج، يتولى الذّكاء الاصطناعي المهام ذات الطابع التقني والمتكرر، مثل الرّصد الأولي، التقييم الذاتي، وتذكير المريض بالمهام اليوميّة، بينما يحتفظ الاختصاصي النّفسي والمرشد النّفس اجتماعي بدوره المركزي في التّشخيص، وبناء العلاقة العلاجيّة، وتقديم الدّعم التّخصصي.
هذا النوع من التكامل يمكن أن يزيد من فعاليّة البرامج النّفسيّة، ويخفض من تكلفة الخدمات، ويزيد من الوصول إليها في المجتمعات المتأثرة بالحروب، مع الحفاظ على البعد الإنساني كمرتكز أساسي في أي تدخل نفسي.
خاتمة
يُظهر هذا البحث أنّ الذّكاء الاصطناعي بات يشكّل أداة واعدة في مجال الرّعاية النّفسيّة والاجتماعيّة، خصوصًا في البيئات التي تضررت بفعل النّزاعات المسلحة والحروب. إذ أتاح هذا التقدم التّكنولوجي إمكانيّات جديدة في تقديم الدّعم النّفسي، من خلال منصات رقمّيّة، وأنظمة حوار ذكيّة، وتطبيقات تحليل البيانات الحيويّة التي ساعدت في التّشخيص الأولي، والمتابعة، وتخفيف مشاعر العزلة والقلق.
لكن وعلى الرّغم من هذه الإمكانات، يظل الذّكاء الاصطناعي غير قادر على تعويض الدّور الإنساني الكامل في تقديم الدّعم النّفسي، لما يتطلبه هذا المجال من تفاعلات عاطفيّة، وتعاطف إنساني، وفهم عميق للسيّاقات الثقافيّة والاجتماعيّة المعقدة. كما أنّ التّحديات الأخلاقيّة، مثل حماية الخصوصيّة، ومخاطر التّحيّز الخوارزمي، تفرض ضرورة تنظيم هذا المجال ضمن إطار قانوني وأخلاقي واضح.
وبناءً عليه، فإنّ مستقبل الدّعم النّفسي في سياقات ما بعد الحروب لا يجب أن يُبنى على الثنائية بين البشري والرّقمي، بل على نموذج تكاملي يجمع بين فعاليّة الذكاء الاصطناعي وسعة الفهم الإنساني، بما يضمن كفاءة واستدامة الخدمات المقدّمة، من دون التّفريط بالقيم الأخلاقيّة أو الثقافيّة للمجتمعات المستهدفة.
توصيات: انطلاقًا من نتائج هذا البحث، يمكن تقديم التّوصيات الآتية:
- تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي تراعي الخصوصيات الثقافيّة واللغوية للمجتمعات المتضررة، بما يعزز فعاليّة التّدخلات النّفسيّة الرقميّة.
- إدماج الذّكاء الاصطناعي ضمن منظومات الرّعايّة النّفسيّة التقليديّة، من خلال تدريب الاختصاصيين النّفسيين على استخدام الأدوات الرّقميّة كوسائل مساندة لا بدائل.
- وضع أطر تشريعيّة وأخلاقيّة واضحة لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي في المجالات النّفسيّة والاجتماعيّة، تضمن حماية الخصوصيّة وعدم التمييز.
- تعزيز البحث العلمي التّطبيقي حول فاعلية الذكاء الاصطناعي في البيئات المتأثرة بالحروب، مع التّركيز على دراسات الحالة من مناطق عربيّة ومحليّة.
- توجيه الاستثمار التكنولوجي نحو بناء بنى تحتيّة رقميّة آمنة وقابلة للوصول في المناطق الهشة، بما يسمح بتعميم الاستفادة من خدمات الصّحة النّفسيّة الرّقميّة.
- إطلاق حملات توعية وتثقيف مجتمعي لتشجيع تقبّل استخدام التكنولوجيا في الرّعاية النّفسيّة، مع مراعاة الحساسيّة الاجتماعيّة والدّينيّة في المجتمعات المحافظة.
المراجع العربيّة
- أبو زيد، إيهاب. (2024). الساعة الأخيرة للقانون البشري. مصر: عصير الكتب للنشر والتوزيع. ص 69.
- خليفة، ايهاب. (2017). تأثيرات تزايد دور التقنيات الذكية في الحياة اليومية للبشر. اتجاهات الأحداث. العدد 20. ص 63.
- محمد، لمياء. (2023). مجالات الذكاء الاصطناعي تطبيقات واخلاقيات. القاهرة: العربي للنشر والتوزيع. ص 46.
- منظمة الصحة النفسية العالمية. (2023). التقرير العاملي عن الصحة النفسية: احداث تحول في الصحة النفسية لصالح الجميع. ص 124.
المراجع الأجنبيّة
- Banaee, H., Ahmed, M. U., & Loutfi, A. (2013). Data mining for wearable sensors in health monitoring systems: A review of recent trends and challenges. Sensors, 13(12), 17472-17500. Basel, Switzerland. https://doi.org/10.3390/s131217472
- Lupton, D. (2014). Digital health and the biopolitics of the quantified self. Digital Health, 1, 2055207614563760. London, United Kingdom. https://doi.org/10.1177/2055207614563760
- Naslund, J. A., Aschbrenner, K. A., Marsch, L. A., & Bartels, S. J. (2017). The future of mental health care: peer-to-peer support and social media. Epidemiology and Psychiatric Sciences, 25(2), 113-122. Cambridge, United Kingdom. https://doi.org/10.1017/S2045796014001067
- Rahwan, I., Cebrian, M., Obradovich, N., Bongard, J., Bonnefon, J. F., Breazeal, C., … & Wellman, M. (2019). Machine behaviour. Nature, 568(7753), 477-486. London, United Kingdom. https://doi.org/10.1038/s41586-019-1138-y
– أستاذ محاضر في معهد العلوم الاجتماعيّة في الجامعة اللبنانيّة- بيروت- لبنان. [1]
Email: ridach16@gmail.com.Lecturer at the Institute of Social Sciences, Lebanese University
[2] -Woebot هو تطبيق محادثة يعمل بالذكاء الاصطناعي، يهدف إلى تقديم دعم الصحة العقلية ومساعدة المستخدمين في تحسين صحتهم النفسية. يقدم مساحة خاصة وداعمة للمستخدمين من خلال أدوات مثل تتبع الحالة المزاجية، والتأمل، ومذكرات الامتنان. يعتمد التطبيق على تقنيات العلاج السلوكي المعرفي (CBT) وبعض مفاهيم العلاج النفسي بين الأشخاص (IPT) والعلاج السلوكي الجدلي (DBT).