foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

المنطق التجاوزيّ وأهمّيّته المعرفيّة

0

المنطق التجاوزيّ وأهمّيّته المعرفيّة

دراسة تحليليّة

روبير مطانيوس معوّض*

مقدّمة

يعدّ المنطق من أهمّ العلوم التي شغلت الفلاسفة منذ العصور الأولى للإنسانيّة على وجه الأرض. فما إن وطأت قدما الإنسان المميّز بعقله هذه البسيطة، حتّى بدأ يطرح الأسئلة المتعدّدة التي لم يجد إجابة عنها. فبعث الله الأنبياء مبشريّن ليوصلهم إلى الإجابة عن هذه الأسئلة بصورة حقيقيّة ومنهجيّة. ولكنّ ابتعاد البشر عن هذا الأمر بدأ بالإجابة بنفسه عن تلك الأسئلة المتعدّدة التي ترتبط بالوجود، والمتعلّقة بالخالق، والنفس، والكون والطبيعة. وبما أنَّ الفكر يخطئ ويصيب، فقد بدأ المفكّرون في وضع القوالب الفكريّة التي تصونه عن الأخطاء، وسمّيت هذه القوالب الفكريّة بعلم المنطق الذي يسعى لكي تكون النظريّات، والأفكار البشريّة مطابقة للواقع الموضوعيّ والحقيقيّ.

فالقوالب الفكريّة التي وضعها أرسطو، مرورًا بالأشكال القياسيّة لليونانيّين، وانتهاءً بنظريّات لوك، وكانط، وهيغل في المنطق التجريبيّ، والحدسيّ، والتشكيكيّ، لم تكن تهدف إلّا إلى وضع أسس للتفكير السليم، لأنّ هدف أيّ نظريّة في المعرفة هو البحث في أسس التفكير المنطقيّ.

ومع مكتسبات عصر التنوير، وبفضل إسهامات فولتير، وفرانسيس بيكون، وسبينوزا، وكوندورسي، وغيرهم من رجالات ذاك العصر، أدّت إلى سيادة العقل العمليّ، والثقة العمياء بالقوّة الكامنة بالعلم، والمنطق في حلّ كلّ ما يواجه العالم من المشاكل، والتدرّج بالإنسان بفضل هذه الآليّات العقليّة نحو الكمال المطلق. هذه الثقة التي تأسّست على حاكميّة العقل المطلقة في الحكم، وتقرير ما يجب عمله تجاه الظواهر، قد تأجّلت على ما يبدو إلى حين ظهور كانط ليوقظ العالم الأوروبيّ، ويهزّه في بدهياته المنطقيّة، والعقليّة بفضل معطيات كتابه المشهور “نقد العقل الخالص”، الذي أدّى بفلاسفة مشهورين، أمثال نيتشه، وهيغل، وشوبنهور الذين كانوا قد سلّموا بمطلقيّة العقل النظريّ وسيادة أحكامه، إلى تغيير آرائهم بصورة تامّة بعد قراءته، والتعرّف إلى منطقه التجاوزيّ، حيث تمخّض عن هذه الفوضى الفكريّة منطق آخر يُدعى بالمنطق الديالكتيكيّ، وذلك استجابة لضرورة السؤال الذي يفرض نفسه في ظروف الفوضى، وتعدّد الآراء وتضاربها: كيف نجد الصحيح؟ وكيف نتجنّب الخطأ؟ أَمَّا الإشكاليّة التي يُمكن طرحها فهي على النحو الآتي:

هل يعقل أن يكون تقدّم الإنسان مرتبطًا بسرعة انكشاف الأسرار، وزيادة الإيمان العصريّ بفكره، وازدرائه للقديم البعيد عن معطيات عصره، ولم يستطع أن يتطوّر، ويتغلّب على الجهل إلاَّ بعد أن تخلّص من المنطق الأرسطيّ، والاستفادة من المنطق التجريبيّ القائل بضرورة التجربة للوصول إلى الحقيقة، وهو الأساس الأوّل لبناء أيّ معرفة؟ ولكن مع كلّ هذه المحاولات، هل نجح المنطق التجريبيّ، والمنطق التجاوزيّ في أن يتجاوزا الخطأ؟ طبعًا لا، وإلاَّ لماذا كلّ هذه الانتقادات التي وجّهت لهما، فهل هناك من منطق خاصّ يصون الفكر عن الوقوع في الخطأ؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبانيّة- كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، الفرع الأوّل.

وهل استطاع كانط أن يكتشف منطقًا جديدًا يُفسّر فيه كيفيّة نموّ المعرفة الإنسانيّة وتوالدها، كما هي الحال في المنطق العامّ لو أضيف إلى المنطق الذاتيّ الذي يُحدّد المصدر الأساسيّ للمعرفة ويُفسّر نموّها؟

تجدر الإشارة إلى القول بأنّ الإبستمولوجيا، والميتودولوجيا بوسعهما أن يحلاّ مكان المنطق. فهذا القول مردود، لأنّ التجربة الفلسفيّة قدّمت من العناصر، والشروط، والإضافات الصريحة، والمضمرة، أو المباشرة وغير المباشرة، بما فيه الكفاية على نحو ملهم لا نظير له، مهما كان حقل العلم الذي تعمل فيه، لأنَّ التفكير في مناهج التفكير خطوة في الاتّجاه الصحيح، وهو برسم كلّ العلوم لاكتساب أدوات معرفيّة للتدقيق فيها، ونقدها في معناها وقيمتها، والإسهام في تطويرها، فإن كان مدار الإبستمولوجيا هو التفكير في العلوم، وأصولها، ومناهجها، ومدار الميتودولوجيا هو عمل علميّ، وتَقنيّ تغربل فيه الأدوات في مجال التطبيق، إلاَّ أنّ مدار علم المنطق هو التفكير السليم، وهو الأصل في كلّ عمل فلسفيّ بامتياز، بل هو اختصاص فلسفيّ كامل يجمع: الإبستمولوجيا أي فلسفة العلوم، إلى الميتودولوجيا أي فلسفة المناهج. ثمّ إنَّ الفلسفة تتناول ميدانين أساسيّين من ميادين الفلسفة هما:

ميدان الميتافيزيقا، وميدان المعرفة، تبحث الميتافيزيقا في ما وراء الطبيعة، بينما يدرس ميدان المعرفة مصادر وأساليب هذه المعرفة وحدودها. وبما أنَّ المعرفة تنقسم إلى قسمين: قسم يتناول الإدراك، وقسم آخر يتناول التفكير. وبما أنَّ هذا التفكير هو أساس كلّ معرفة، إذ بالعقل يستطيع أن يُحدّد مصادر المعرفة، وأسسها، ومناهجها، وطرائقها، وأساليبها، وحدودها. وكما أنَّ لكلّ تفكير منطقه في تحديد المفاهيم، والقضايا، والأقيسة، ونتائجها، والحكم عليها بالصح، أو الخطأ، فإن كانت هذه النتائج صحيحة، وسليمة، ويذعن، ويقتنع، ويصدّق العقل بها، وإن كانت تلك النتائج خطأ، وفاسدة يرفضها، ولا يتقبّلها ويكذّبها. وبما أنَّ الفلاسفة قد اختلفوا في ما بينهم حول مصادر، وأسس المعرفة فانقسموا إلى فئتين: تجريبيّين وعقلانيّين.

ارتأى كانط صاحب كتاب “نقد العقل المحض” أو “نقد العقل النظريّ” أن يُوحّد بين هذين المذهبين فانتقدهما مُتّخذًا مسارًا وسطيًّا، وكان له منطقه الترانسندنتاليّ الذي أراد من خلاله أن يحدّد المصدر الأساسيّ للمعرفة. فالتجريبيّون يؤمنون بأنَّ التجربة والخبرة الحسّيّة، هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أي معرفة قَبْلِيّة بصورة قَبْلِيّة، ومستقلّة عن الحسّ، والتجربة. والعقلانيّون يؤمنون بوجود قضايا، ومعارف يدركها عقل الإنسان بصورة قَبْلِيّة، ومستقلّة عن الحسّ، والتجربة، وأنَّ هذه القضايا تشكّل الأساس للمعرفة الإنسانيّة، والقاعدة التي يقوم على أساسها البناء الفوقيّ للمعرفة كلّها.

لذلك، كان من المناسب أن نتعرّف إلى ملامح الابتكار التي جاء بها كانط في كتابه “نقد العقل المحض”، وذلك من أجل بيان كيفيّة تبلور فكرة المنطق الترانسندنتاليّ، وبيان مضمونه. ومن ثَمَّ التطرّق إلى جدوى هذا المنطق على صعيد المعرفة عمومًا، نظرًا إلى أهمّيّة تأسيسه لمعرفة جديدة تناولت الميتافيزيقا، ومن ثَمَّ المعرفة في أسسها، إضافةً إلى تأثيره على فلاسفة الفينومنولوجيا، وعلى رأسهم هوسرل.

وعلى الرغم من أسلوب كانط المعقّد في الكتابة، إلاّ أنّه كان يتمتّع بعقلٍ منظّم جدًّا، انعكس ذلك في تقسيمه لفصول كتابه “نقد العقل المحض”، فإنّنا رأيناه يقسّم كتابه إلى قسمين أساسين: القسم الأوّل، وهو الأكبر والأشهر، تحت عنوان “تعليم العناصر الترسندالي” تناول فيه جزءين، الجزء الأوّل بعنوان “الإستطيقا الترسنداليّة”، والجزء الثاني بعنوان “المنطق الترسنداليّ” الذي قسّمه بالتالي إلى قسمين، عنون القسم الأوّل: “بالتحليلات الترسنداليّة”، وعنون القسم الثاني: “بالديالكتيك الترسنداليّ”، ومن ثَمَّ قسّم القسم الأوّل “التحليلات التراسنداليّة” إلى كتابين سمّى الكتاب الأوّل “تحليلات الأفاهيم” وسمّى الكتاب الثاني “تحليلات المبادئ”.

والكتاب الأوّل، أي “تحليلات الأفاهيم”، له بابان: الباب الأوّل: “الخيط الهادي إلى اكتشاف كلّ الأفاهيم الفاهميّة المحضة”، والباب الثاني: “في تسويغ الأفاهيم الفاهميّة المحضة”. والكتاب الثاني، أي “تحليلات المبادئ”، وله أيضًا بابان: الباب الأوّل: “في شيامة الأفاهيم الفاهميّة المحضة”، والباب الثاني: “سستام كلّ مبادئ الفاهميّة المحضة”.

وأمَّا القسم الثاني من الجزء الثاني “المنطق الترسنداليّ” والمسمّى “بالديالكتيك الترسنداليّ”، فقد قسّمه إلى كتابين: سمّى الكتاب الأوّل “في أفاهيم العقل المحض” وسمّى الكتاب الثاني “في استدلالات الديالكتيكيّة للعقل المحض”. والكتاب الأوّل فيه ثلاثة فصول.

أمّا الكتاب الثاني، أي “في استدلالات الديالكتيكيّة للعقل المحض” وله ثلاثة أبواب: الباب الأوّل: “في مغالطات العقل المحض“، والباب الثاني: “نقيضة العقل المحض” وفيه تسعة فصول. والباب الثالث: “أمثلة العقل المحض” وفيه سبعة فصول. وسمّى كانط القسم الثاني من كتابه “نقد العقل المحض” تحت عنوان: “تعليم المنهج الترسنداليّ”.

وانطلاقًا من ذلك، فقد حلّل كانط القسم الأوّل من هذا الكتاب كلّ المعطيات المتعلّقة بنظريّة المعرفة، وعدّ أنَّ للمعرفة عمودين هما: الإدراك الحسّيّ والتفكير. ومن ثَمَّ القسم الثاني الذي أعطى فيه وصفه لميتافيزيقا جديدة خالية من أمراض الميتافيزيقا الموجودة في زمانه، مقدّمًا أوّل كتاب حقيقيّ في الميتافيزيقا في التاريخ من وجهة نظره.

وبما أنَّ كانط عدّ في كتابه “نقد العقل المحض”، أنَّ المنطق العامّ علمًا صوريّا صرفًا لا يبالي بمضمون التصوّرات، والفكرة الصادقة هي التي لا تتضمّن تناقضًا، وضع إلى جانب المنطق الصوريّ منطقًا آخر بعنوان” المنطق الترانسندنتاليّ”، حيث أثبت فيه وجود تصوّرات، أو مقولات للفهم بإمكانها أن ترتبط قَبْلِيّا وأن تتعلّق بموضوعات المعرفة قَبْلِيّا، فهو بذلك يكون قد عمل على تحديد أصل المعرفة الخالصة، وتحديد مداها، وقيمتها.

ولكن تعّرض هذا المنطق إلى انتقادات شديدة نظرًا إلى صعوبة مفرداته، وانغلاق جمله، إضافةً إلى أنّه من الصعوبة بمكان الإحاطة بتفاصيله لكثرة التعريبات المتعدّدة لمصطلحاته، فإنّني سأتناول هذه المصطلحات كما هو شائع، بإزاء المصطلحات التي ولّدها المترجم يوسف وهبة، وذلك من أجل التبسيط، ورفع الغموض، فعلى سبيل المثال لا الحصر سأستخدم لفظة “مفهوم” كما هو شائع بدلًا من لفظة “أفهوم” ولفظة “محمول” بدلًا من لفظة “حامل”، ولفظة “أوتعاء” بدلًا من “الوعي الذاتيّ”، وهكذا حسبما تقتضيه الحاجة.

لذلك، فإنّني سأقتصر في هذا البحث على أهمّ المصطلحات الأساسيّة التي تتماثل مع المنطق الصوريّ عمومًا، وذلك من أجل التبسيط ورفع الغموض. وسأحاول تقسيم هذا البحث، متّبعًا في ذلك التقسيم الذي اتّخذه كانط، إلى مقدّمة، وإلى قسمين رئيسين: التفكير الترانسندنتاليّ أي المنطق الترانسندنتاليّ، والاستنباط الترانسندنتاليّ. وأمَّا الجدل الترانسندنتاليّ، فلن أتطرّق إليه إلاَّ بإيجاز في نهاية البحث.

في المقدّمة سأتطرّق إلى كيفيّة تبلور المنطق الترانسندنتاليّ عمومًا. ومن ثَمَّ القسم الأوّل من البحث تحت عنوان المنطق الترانسندنتاليّ، الذي أتناول فيه التحليلات الترانسندنتاليّة بشقّيها تحليلات الأفاهيم، وتحليلات المبادئ، حيث سأبيّن كيف ربط كانط المفاهيم، أو المقولات، وأسقط الأحكام على هذه المفاهيم. وفي القسم الثاني من البحث سأتناول الاستنباط الترانسندنتاليّ متطرّقًا فيه إلى الاستنباط الترانسندنتاليّ للمقولات، والذي وصف فيه كانط أفعال التركيب الثلاثة التي يجب أن تتوافر بالضرورة في كلّ معرفة، أي الإدراك الباطنيّ للتمثّلات باحتسابها تكيّفات للذهن في الحدس، وإعادة إنتاجها في المخيّلة، وإعادة التعرّف إليها في تصوّر الديالكتيك الترانسندنتاليّ، أي الجدل الترانسندنتاليّ، الذي يعدّ زبدة هذا المنطق، حيث تبيّن فيه كيف توصّل كانط إلى ربط كلّ المفاهيم ببعضها البعض مع أحكامها ليتوصّل في النهاية إلى رفض القياس المنطقيّ.

أمَّا في الخاتمة فسأركّز على أنَّ المفاهيم، والأحكام الترانسندنتاليّة ما هي إلاَّ صورة طبق الأصل عن المنطق الصوريّ، وأنّه ينبغي العودة إلى المنطق الذاتيّ الذي يحدّد المصدر الأساسيّ للمعرفة، ويفسّر نموّها، وتطوّرها.

أوّلًا: أساس المنطق التجاوزيّ

تهدف نظريّة المعرفة إلى البحث في أسس التفكير المنطقيّ. ويُعرّف المنطق بأنّه: “آلةٌ قانونيّةٌ تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ في الفكر”(1). كما يُعرّف أيضًا حسب التعريف الأرسطيّ بأنّه العلم الذي يدرس قواعد التفكير السليم. وقد ظهر هذا المنطق باحتسابه علمًا على يد أرسطو، بعد أن وضع أسس هذا العلم وتفاصيله بأصوله وفروعه. ولم يخترع أرسطو طريقة في التفكير السليم أطلق عليها المنطق، بل بحث عن القواعد العامّة والكلّيّة التي تحكم الفكر، أيّ فكر بغضّ النظر عن مضمونه، ولهذا السبب سُمّي المنطق الأرسطيّ بالمنطق الصوريّ. ويتضمّن التفكير السليم، والحكم الصحيح على الأشياء، وتسميتها، أو تعريفها، ووصفها بالوصف المناسب، وكذلك يتضمّن الطرق التي تؤدّي إلى نتائج ملزمة من خلال مقدّمات مُسلّم بها، أي من أحكام أولى إلى أحكام تالية تتّصف بالصدق. وعن تسمية الأشياء، وتعريفها التعريف المناسب، وضع أرسطو مبحث التعريفات الذي يتضمّن ترتيب، وتصنيف الأشياء حسب الأنماط الكلّيّة التي تنتمي إليها وهي الكلّيّات الخمس: الجنس، والنوع، والفصل، والخاصّة، والعرض العامّ. وعن الحكم وضع أرسطو مبحث القضيّة، أو العبارة، وما تتفرّع عنه من أنواع، مثل القضيّة التي تثبت شيئًا عن موضوعها كلّه، وهي الكلّيّة الموجبة، والتي تنفي شيئًا عن موضوعها كلّه، وهي الكلّيّة السالبة، والتي تثبت شيئًا عن جزء من موضوعها، وهي الجزئيّة الموجبة، والتي تنفي شيئًا عن جزء من موضوعها، وهي الجزئيّة السالبة. وعن طرق تَوَصُّلنا من قضايا إلى قضايا أخرى تلزم عنها في صورة نتائج وضع أرسطو مبحث القياس.(2)

ولكن القياس، أو مبحث الاستدلال، أو ما يطلق عليه مبحث الحجّة وهيئة تأليفها، له مادّة وصورة، ويقع البحث عنه من كلتا الجهتين، فإن كان البحث عنه من جهة صورته، أي هيئة تأليفه، على وجه لو تأليف القياس حسب الشروط التي للهيئة، وكانت مقدّماته مسلّمة وصادقة، كان هذا القياس منتجًا لا محالة، أي كانت نتيجته صادقة تبعًا لصدق مقدّماتها. وبتعبير آخر، إذا احتفظ القياس بشروط الهيئة فإنّ مقدّماته لو فرض صدقها فإنَّ صدقها يستلزم صدق النتيجة. ولم يبحث في ذاك المبحث عمّا إذا كانت المقدمّات صادقة في نفسها أم لا، وحسب اختلاف المقدّمات من حيث إنّها يقينيّة، أو غير يقينيّة، وحسبما تؤدّي إليه من نتائج، وحسب أغراض تأليفها، ينقسم القياس إلى البرهان، والجدل، والخطابة، والشعر، والمغالطة.(3)

وهكذا يمكن عدّ علم المنطق بأنَّه قانون التفكير الصحيح، وعلم يبحث فيه عن القواعد العامّة للتفكير الصحيح والمتعلّقة بجميع حقول التفكير الإنسانيّ في مجالات الحياة العديدة، ولا يختصّ بنوع معيَّن من العلوم، فهو يُراقب مدى صحّة هذه العلوم، أو سقمها، ووسيلة العقل للتخلّص من الخطأ.

ولم يشهد المنطق أيّ تطوّر كما يحدث في العلوم الأخرى، ولم تزد جهود المفكّرين عبر ألفي عام عن التنقيح، والتهذيب، وتغيير طرق العرض، والتفصيل، والشرح، وتفريع المسائل. وإن قال أحدهم بأنَّ المنطق الصوريّ قد شهد تطوّرًا كبيرًا، ابتداءً من القرن التاسع عشر نتج عنه المنطق الرياضيّ، فهذا القول مردود، لأنّ المنطق الرياضيّ ما هو إلاَّ صورة أخرى جديدة للمنطق الصوريّ، والتجديد الذي أتى به ما هو إلاَّ مزيد من الصوريّة، جعلته يقترب أكثر فأكثر من الرياضيّات. وبالرغم من براعة أرسطو في وضع المنطق الصوريّ، إلاَّ أنّه لم يكن واضحًا في تفسير الأسس التي استند إليها هذا المنطق، والتي تجعل التفكير يسير بهذه الطريقة المسمّاة بالمنطق، فقد اكتفى أرسطو في مباحث المنطق بالوضوح الذاتيّ للقوانين المنطقيّة وحسبما يقتضيه الطبع، إذ أرى أنّها بَدَهِيَّة، وهي ليست بحاجة إلى مزيد من التفسير. وإن كان أرسطو يعدّ من أشهر الفلاسفة الباحثين عن العلل الأولى للأشياء، إلاَّ أنّه لم يتوسّع عند علّة التفكير المنطقيّ. وهذا ما جعل المفكّرين بعد أرسطو يبحثون عن مثل هذا الأساس. مع العلم بأنَّ أرسطو عالج المقولات مرّتين: مرّة في مباحث المنطق، أي كتب الأورغانون، ومرّة أخرى في كتاب الميتافيزيقا. ففي المرّة الأولى عالج المقولات على أنّها وظيفة التفكير، وفي المرّة الثانية عالجها على أساس أنَّها الهيئة التي تترتّب عليها الأشياء في العالم، والأنماط التي توجد عليها الموجودات. وهذا ما دفع الكثيرين إلى القول بالأصل الأنطولوجيّ للمنطق. وما يؤكّد هذا القول هو فلسفة أرسطو التي كانت تنظر إلى الفكر على أنّه نمط من أنماط الوجود، وإلى المنطق والأنطولوجيا على أنّهما وجهان لعملة واحدة، وإلى الفكر على أنّه يتلقّى حقيقة الوجود مباشرة في صورة مقولات ذات طبيعة مزدوجة، فكريّة وأنطولوجيّة. وظلّ الأصل الميتافيزيقيّ للمنطق اعتقادًا راسخًا لدى المناطقة، والفلاسفة المدرسيّين، والإسلاميّين على حدٍّ سواء.(4)

ونظرًا للاهتمام المتزايد بالمعرفة في العصر الحديث توجّهت اهتمامات الفلاسفة نحو موضوعات ابتعدت عن مجال المنطق مثل الأسس التجريبيّة، والعقليّة للمعرفة، وانصرفوا عن البحث في أسس المنطق نحو نزاعات مذهبيّة حول مصدر المعرفة: الحسّ أم العقل، وحول طبيعة المعرفة: تجريبيّة أم عقليّة أم مثاليّة. ومع سيطرة المذاهب التجريبيّة، والعقليّة الديكارتيّة، والمثاليّة انعزلت نظريّة المعرفة عن المنطق، في حين أنَّ هدف أيّ نظريّة في المعرفة كان يجب أن يكون البحث في أسس التفكير المنطقيّ. أدرك كانط أنَّ نظريّة المعرفة لا يمكن تأسيسها بمعزل عن “المنطق العامّ”، وهو الاسم الذي عرف به المنطق الصوريّ في عصره. بل إنَّ من أهمّ مَهَمّات تلك النظريّة أن تكون أساسًا للمنطق العامّ، وأن تكون مفسّرة لكيفيّة اشتغال التفكير المنطقيّ. ولم يبحث عن أساس أنطولوجيّ – ميتافيزيقيّ للمنطق. بل بحث عن أساس إبستيمولوجيّ، وأنّ أيّ تبرير فلسفيّ للمنطق يجب أن يردّ إلى وظائف العقل البشريّ، وملكاته المعرفيّة. وقد توصّل إلى أنَّ مقولات المنطق وأحكامه تعبّر عن الطريقة التي يشتغل بها العقل، ويدرك العالم.(5)

وبما أنَّ المنطق العامّ منطق صوريّ يهتمّ بشكل الفكر، وليس بمضمونه، ويتضّمن أحكامًا حول الكمّ، والكيف، والسبب، والإثبات، والنفي، والشرط، ويبحث في البناء الصوريّ للأحكام، والاستدلالات، لا بالمعلومات، والموضوعات التي تترتّب فيها، وبما أنَّ كانط كان مقتنعًا بالبحث عن أسس المنطق بعدّه طريقة للتفكير، وأن يكون بحثًا في مضمون التفكير لا في مجرّد شكله المنطقيّ، أي بحث في الخبرة البشريّة، رأى أنَّ البحث يجب أن يكون بحثًا في كيفيّة حصول الفكر الإنسانيّ على تلك التصوّرات في خبرته المعرفيّة قبل أن يرتّب المنطق تلك الخبرة في الأشكال المنطقيّة المعروفة.(6)

وهكذا فإنَّ أساس المنطق عند كانط لا يمكن أن يكون سوى منطق آخر سابق على المنطق الصوريّ، أي منطق قَبْبليّ يكون هو المؤسّس للمنطق العامّ نفسه، ويتجاوزه حتّى يصل إلى أساسه، وقد أطلق عليه كانط “المنطق الترانسندنتاليّ”.

-1- معنى المنطق التجاوزيّ

ماذا يعني كانط بالمنطق الترانسندنتاليّ؟ المنطق الترانسندنتاليّ هو منطق صوريّ نوعًا ما من حيث أنه يدرس المقولات القَبْلِيّة في مقابل مادة المعرفة المتكونة من العناصر التجريبيّة، وبالتالي تشير كلمة الترانسندنتاليّ إلى المعرفة من حيث صلتها القَبْلِيّة بالموضوع. وهكذا يشبه المنطق الترانسندنتاليّ المنطق الصوريّ من حيث اهتمامه بشروط المعرفة وقوانينها الصوريّة، لكنّه يختلف عنه من جهة الاهتمام بمضمون المعرفة، وإنّما بمعزل عن هذا المضمون، أي قَبْلِيّا.

وتعني كلمة “ترانسندنتاليّ” القَبْلِيّ السابق على التفكير المنطقيّ والمؤسّس له، ويقصد من “المنطق الترانسندنتاليّ” أن يكون أورغانونًا وقانونًا للمعرفة في الوقت نفسه. أن يكون أورغانونًا يعني أن يكون أداة للتقنين، ومعيارًا لميتودولوجيا المعرفة، بحيث يضع حدودًا مشروعة للمعرفة لا يُمكن لها تجاوزها، وإن تجاوزتها فتكون غير مشروعة. وأن يكون قانونًا يعني أن يكون ضابطًا، ورابطًا للفكر ضمن حدوده بمجال الخبرة التجريبيّة وعدم استخدام مبادئ المعرفة البشريّة في البحث في ما وراء الطبيعة بالمعنى التقليديّ. وكما أنَّ المنطق العامّ يضبط الفكر في ما يتعلّق بإجراءاته الصوريّة، فكذلك الأمر بالنسبة إلى المنطق الترانسندنتاليّ فإنّه يتعهّد بوظيفة الضبط، والحماية من الغلط، أو الخطأ في مضمون المعرفة ذاتها، لا في مجرّد شكلها المنطقيّ – الصوريّ. ولا يتحقّق ذلك إلاَّ بتوضيح كيفيّة ربط مبادئ المعرفة البشريّة بمجال الخبرة التجريبيّة. أمّا توسيع مجال تطبيق هذه المبادئ للبحث في الأشياء في ذاتها، أو في الموضوعات الميتافيزيقية فهو توسيع غير مشروع.(7)

2– اكتشاف المنطق التجاوزيّ

ولكن كيف اكتشف كانط المنطق الترانسندنتاليّ؟ اشتغل كانط في تدريس المنطق منذ عام 1755م، أي قبل تأليف “نقد العقل المحض” بمدّة طويلة. ولمَّا أراد البحث عن طريقة يؤسّس بها نقدًا للميتافيزيقا، وجد أنً هذا النقد لا يمكن أن يكون إلاّ أورغانونًا للمعرفة على شاكلة المنطق، أي منطقًا ضابطًا لمضمون الفكر لا لمجرّد شكله، ذلك لأنّه نظرَ إلى الميتافيزيقا على أنّها شكل من أشكال التفكير يستخدم مبادئ التفكير العامّة نفسها للبحث في ما وراء الطبيعة. وكي يُوجّه نقدًا لهذا النوع من التفكير كان عليه أن يقيم منطقًا لمضمون التفكير ذاته. ومن خلال تدريسه للمنطق العامّ اكتشف أنَّ هذا المنطق غير صالح كما هو للقيام بمَهَمَّة نقد الميتافيزيقا التي تستخدم أحكامًا، وتصوّرات تركيبيّة لا يمكن الوصول إلى دقّتها ووضوحها من مجرّد تحليلها، بل ينبغي اللجوء إلى تحليل ما تحتوي عليه من مضمون، في حين أنَّ المنطق الصوريّ خالٍ من المضمون، وبما أنّه ينبغي في الوقت نفسه أن يكون نقد الميتافيزيقا في صورة منطق، رأى كانط من الضرورة تجاوز المنطق الصوريّ نحو منطق آخر لمضمون التفكير. لأنّه منطق “يتجاوز” المنطق الصوريّ فقد أطلق عليه “المنطق الترانسندنتاليّ”.

وبما أنَّ المنطق العامّ يهتمّ بشكل الفكر فقط لا بمضمونه، لاحظ كانط أنّه لا يمكن الاعتماد عليه في الحكم على معرفتنا بالأشياء، وبالتالي ينبغي تجاوزه نحو منطق أكثر عينيّة، أي نحو منطق للمضمون، لأنّه مهما كان شكل المعرفة مجرّدًا، ومهما كان متفّقًا مع القوانين المنطقيّة، فهو يبقى بعيدًا عن أن يكون كافيًا لتحديد الصدق المادّيّ للمعرفة، ولا أحد يستطيع المغامرة بالاعتماد على المنطق العامّ وحده للحكم في الموضوعات. لذلك ينبغي، بشكل مستقلّ عن المنطق العامّ، الحصول على معلومات يعتمد عليها حول مضمون التفكير، ومن ثَمَّ يسمح بالبحث في استخدام هذه المعلومات، ووضعها في كلّ متكامل انطلاقًا من تلك القوانين المنطقيّة.

وهكذا اكتشف كانط أنَّ المنطق الحاكم لمضمون التفكير هذا، لا يمكن أن يكون إلاَّ منطقًا لأفعال التفكير، وذلك لأنَّ انضباط الفكر لا يتأتى من ضبط موضوع الفكر، لأنّه شيء مادّيّ واقع في الخارج، وهذه ليست مَهَمَّة نظريّة المعرفة، بل مَهَمَّة علوم الطبيعة، بل يتأتى انضباط الفكر من انضباط أفعال التفكير التي تتجلّى في الحكم، وبالتالي أصبح المنطق الترانسندنتاليّ لديه منطقًا ترانسندنتاليًّا للأحكام وما تحتويه من مقولات، أي موضحًا نشأتها انطلاقًا من أفعال التفكير. وبالتالي حدّد مَهَمَّة البحث عن الأسس القَبْلِيّة للمنطق في البحث عن قَبْلِيّة الأحكام والمقولات، حيث تؤسّس قَبْلِيّة هذه الأحكام، والمقولات في ربطها بأفعال التفكير التي تعمل على ظهورها.

ثانيًا: إرجاع الأحكام والأقيسة إلى حكمي الهُويّة والتناقض

-1- ردّ المنطق إلى أحكام ومقولات

         كيف اختزل كانط المنطق إلى أحكام ومقولات؟ رأى كانط من خلال تحليله للمنطق العامّ أنَّ هذا المنطق يمكن ردّه إلى أحكام ومقولات، عادًا أنَّ أقسام المنطق العامّ من تصوّرات (أو مقولات)، وأحكام، واستدلالات تختزل بطبيعتها إلى الأحكام(8). فقد درجت عادة المناطقة على تقسيم التصوّرات إلى تصوّرات واضحة، وتصوّرات غامضة، وتصوّرات متمايزة وتصوّرات مختلطة، ولا يمكن التمييز بين هذه الأنواع من التصوّرات إلاَّ من خلال حكم حسب المنطق العامّ لنفسه، وذلك من أجل التمييز بين الحكم التحليليّ، والحكم التركيبيّ، فالتصوّرات الواضحة، والمتمايزة هي التي تتضمّن حكمًا تحليليّا، وأمَّا الأخرى الغامضة، والمختلطة تكون في سياق حكم تركيبيّ. كذلك الأمر يميّز المناطقة بين المفهوم والماصدق، فالمفهوم هو المتضمّن في التصوّر، وأمَّا الماصدق فهو الامتداد، أو التحقّق العينيّ له في صورة أفراد أو أمثلة، وبالتالي فالمفهوم مؤسّس على حكم تحليليّ بما أنَّ معناه متضمّن فيه، ومستخرج بالتحليل، والماصدق مؤسّس على حكم تركيبيّ بما أنَّ معناه يعتمد على موضوعات وأمثلة من خارجه،(9) وإن كان هذا يدلّ على شيء، فإنّما يدّل على أنّ مبحث التصوّرات غير مستقلّ بذاته ومرتبط بمبحث الأحكام.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى مبحث الاستدلال، فما هو إلاّ بحث في الطرق التي توصلنا من أحكام إلى أخرى، وهدفه النهائيّ الوصول إلى الحكم الصحيح، وبالتالي فهو تابع لمبحث الأحكام. علاوةً على أنَّ مبحث التصوّرات ليس إلاَّ تحليلًا نظريًّا لمكوّنات الحكم. ويمكن توضيح ذلك بالعودة إلى تناول نوعي التصوّرات المفهوم والماصدق. ويرتبط المفهوم بالحكم التحليليّ من حيث إنَّ هذا الحكم يستخرج صفة موجودة بالفعل في التصوّر، ولا يضيف شيئًا جديدًا إليه، وبالتالي فهو مجرّد تعريف تحليليّ، وأمَّا ارتباط الماصدق بالحكم التركيبيّ فمردّه إلى أنَّ الماصدق يضيف شيئًا جديدًا على المعنى التحليليّ للصور. ويمكن أن يستدلّ على أنَّ المفهوم يتضمّن حكمًا تحليليّا من خلال الحكم في المثال الآتي: “الإنسان حيوان ناطق”، فالحكم هنا هو حكم تحليليّ وفي الوقت نفسه يعبّر عن مفهوم “الإنسان” في صورة تعريف، لأنَّ ماهيّة الإنسان هي أن يكون حيوانًا ناطقًا، وإذا لم يكن يتّصف بالنطق، أو بالحيوانيّة فلن يكون إنسانًا. أمَّا الماصدق فهو “تحقيق التصوّر وإمكانيّة انطباقه على كثرة من الموجودات في الخارج”(10)، لذلك فهو يتضمّن الحكم التركيبيّ الذي يضيف شيئًا جديدًا إلى التصوّر من الخبرة. ولكي نحدّد المفهوم فليس علينا سوى التفكير في معناه، واستخراجه منه على سبيل التعريف، ولذلك فالمفهوم ليس إلاَّ حكمًا تحليليًّا، أمَّا الماصدق فلكي نعرّفه يجب أن نخرج عن معنى التصوّر لنبحث في المشاهدات التجريبيّة، وبذلك نضيف جديدًا إلى مفهومه، أي مجالًا تطبيقيًّا له، وبذلك يكون الماصدق متضمّنًا الحكم التركيبيّ.

يُعرّف كانط المنطق العامّ بأنّه علم قَبْلِيّ بالقوانين الضروريّة للفكر، وهذا العلم ليس ذاتيًّا، أي لا يبحث في التفكير وفق مبادئ تجريبيّة سيكولوجيّة عن كيفيّة تفكير الفهم، بل هو موضوعيّ حسب مبادئ قَبْلِيّة. يتضمّن هذا التعريف تمييزًا بين الدراسة المنطقيّة للتفكير، أي كيفيّة كون التفكير ممكنًا قَبْلِيّا، أي قبل اشتغاله على المادّة التجريبيّة، وبين الدراسة السيكولوجيّة للتفكير، أي دراسة كيفيّة عمله مع المادّة التجريبيّة. تبدأ الدراسة الأولى ببحث التفكير من منطلق استعداده للقيام بعمله، والدراسة الثانية تبحثه، وهو يمارس عمله بطريقة سيكولوجيّة. وهذا التمييز الكانطيّ يستبق التمييز الحديث في علم النفس المعرفيّ بين الاستعدادات والوظائف. ويتّضح هذا التمييز عندما يُوجّه نقده إلى الطابع الصوريّ للمنطق العامّ. فهو يذهب إلى أنَّ المنطق العامّ يدرس قوانين الفكر من خلال تصوّرات جاهزة يأخذها كما هي، ولا يبحث عن أصل التفكير بها، مثل الكلّ والجزء، والتضمّن، واللزوم، والجوهر، والماهيّة… الخ. فهذه التصوّرات ليست جاهزة في حقيقتها، بل هي نتيجة فعل عقليّ سابق على التقنين المنطقيّ. صحيح أنَّ المنطق يأخذها كما هي بعدّها واضحة بذاتها وتتمتّع ببَداهَة، إلاَّ أنَّ بَداهَتَها هذه، وطابعها الجاهز الذي تتّخذه أمام التفكير المنطقيّ مصنوع من قبل وعي سابق على الوعي المنطقيّ. ويذهب كانط إلى أنَّ تصوّرات المنطق ما هي إلاَّ التعبير المنطقيّ عن تمثّلات تظهر في مجال الخبرة التجريبيّة السابقة على المنطق.(11)

فهذه الخبرة تعرف تلقائيًّا مفاهيم الكلّ، والجزء، والشيء، والصفة، واللزوم قبل ظهور المنطق. والبحث عن أسس المنطق يأتي من البحث عن أصل حصول الذات العارفة على هذه المفاهيم في تعاملها مع الخبرة. فهل يستطيع المنطق العامّ دراسة هذه الأسس؟

 

ينفي كانط إمكانيّة المنطق العامّ دراسة هذه الأسس، لأنَّ المنطق عمومًا لا يستطيع أن يتعامل مع التمثّلات، أو إمكانها القَبْلِيّ، وهذا ما يتركه للميتافيزيقا. والميتافيزيقا هنا ميتافيزيقا الخبرة المعرفيّة لا ميتافيزيقا الوجود. فهي ميتافيزيقا للخبرة، لأنّها تتجاوز الطابع الجاهز، والمكتمل الذي تظهر به مبادئ المنطق نحو البحث في إمكان تفكير الذات العارفة بهذه المبادئ قَبْلِيًّا. ميتافيزيقا الخبرة هذه يجب أن تكون منطقًا هي الأخرى، منطقًا للخبرة المعرفيّة السابقة على التقنين المنطقيّ. ولأنّ هذا المنطق الميتافيزيقيّ لا يبحث في أصل الوجود، بل في أصل المعرفة، فقد سمّاه كانط المنطق الترانسندنتاليّ. ويتّضح كون هذا المنطق منطقًا ميتافيزيقيًّا من تحليل كلمتي “ميتافيزيقيّ” و”ترانسندنتاليّ”، إذ هما يعنيان معًا ما يتجاوز، أو ما يأتي وراء، ما يتجاوز الطبيعة، أو المعرفة، وما يأتي قَبْلَهما، وهذا ما يتّضح من الشقّين الأوّلين في كلّ مصطلح منهما. ونستطيع تحديد مَهَمَّة المنطق الترانسندنتاليّ لدى كانط من خلال الإشارة السابقة على أنّه يتضمّن توضيح كيفيّة استناد التصوّرات على التمثّلات، وليس هذا وحسب، فكانط في نقد العقل المحض يكتشف أنَّ التمثّلات ذاتها قائمة على حدوس حسّيّة. وهذا هو السبب في أنّ المنطق الترانسندنتاليّ مسبوق يبحث في الاستطيقا الترانسندنتاليّة التي تدرس ملكة الحسّ القَبْلِيّة، ونرى هنا كيف أنّ محاولة كانط البحث عن أسس التفكير المنطقيّ قادته إلى وضع نظريّة جديدة في المعرفة. ومن ثَمَّ وضعَ مَهَمَّة المنطق الترانسندنتاليّ في البحث عن أصل الحكم التركيبيّ القَبْلِيّ، بناءً على أنَّ هذا الحكم هو المستخدم في كلّ العلوم الطبيعيّة والميتافيزيقيّة معًا، إذ هو يضيف جديدًا إلى معرفتنا، ولذلك فهو تركيب، وليس مجرّد تحليل لمفاهيم. وهو في الوقت نفسه قَبْلِيّ، لأنّه يتضمّن الضرورة، ويحتوي على قانون يخصّ الظواهر، قانون قَبْلِيّ غير حاضر في المشاهدات الحسّيّة مثل قانون السببيّة. والصورة الأساسيّة للحكم التركيبيّ القَبْلِيّ هي الحمل، وبالتالي يتعامل معه كانط على أنّه حكم حمليّ، وتكون مَهَمَّة المنطق الترانسندنتاليّ بذلك البحث عن أصل الحكم الحمليّ، أي عن الشروط القَبْلِيّة التي تجعلنا نحمل شيئًا على شيء.(12)

-2- مبحث الاستدلال وأشكال القياس الأربعة في المنطق الترانسندنتاليّ

ذهب كانط إلى أنَّ أشكال القياس الأربعة ما هي إلاّ تنويعات على الشكل الأوّل، فالأشكال الثلاثة الأخرى تعود إلى الشكل الأوّل، لأنّه هو الشكل الأساسيّ منها، وهذا الشكل الأوّل ما هو في الحقيقة سوى حكم حمليّ. وهكذا يردّ مبحث الاستدلال كلّه إلى الحكم الحمليّ. فكيف فعل ذلك؟ ذهب كانط إلى أنَّ التفكير يسير بطريقة حمليّة، بينما يسير القياس بطريقة تحليليّة. فالتفكير يدرك أنَّ الجسم الممتدّ منقسم، ويعبّر عن ذلك في حكم يقول: “هذا الجسم، باعتباره شيئًا ممتدًّا، منقسم”. إذًا يحمل التفكير الانقسام على الجسم الممتدّ. أمَّا الحكم المنطقيّ فهو مصطنع، لأنّه يحلّل ما يدركه الفكر بطريقة صوريّة مجرّدة. فالحكم المنطقيّ يقسم ذلك الحكم المعرفيّ المباشر إلى ثلاثة عناصر، أو لحظات، أو أحكام: “كلّ ماهو ممتدّ منقسم”، “هذا الجسم ممتدّ”، إذًا هذا الجسم منقسم: “لا يسير التفكير بهذه الطريقة المصطنعة، بل يسير كما الحكم الأوّل. إنَّ التفكير يدرك الجسم الممتدّ المنقسم مباشرةً، لكن يقسم الحكم المنطقيّ هذا الحكم المعرفيّ المباشر إلى لحظات جزئيّة، ويرتّبها في قياس، في حين أنَّ الخبرة المعرفيّة لا تسير كما يسير القياس. يوحي القياس بأنَّ التفكير يسير مثله حسب لحظات ثلاث، لكنّ التفكير لا يسير تحليليًّا كما توحي أشكال القياس، بل يسير حمليًّا كما يدّل على ذلك الحكم الأوّل. ولذلك ذهب كانط إلى ضرورة التخلّي عن أشكال القياس الأربعة في البحث في المعرفة.

ويتضّح من التحليل السابق ما يأتي:

أ-  أنَّ الحكم الحمليّ، والمثال عليه الحكم الأوّل، هو الحكم الأصليّ والأساسيّ، إنّه حكم تفكير لا حكم قياس. وإذا كنّا نريد البحث في التفكير فعلينا الانطلاق إلى تناول الحكم الحمليّ لا إلى القياس، أو مبحث الاستدلال.

ب- الحكم الحمليّ هو ما يعبّر عن الإدراك، والفعل المعرفيّ لكونه أكثر اقترابًا من الخبرة التجريبيّة، لا أشكال القياس التي ليست إلاَّ تعقيدًا منطقيًّا للحكم الحمليّ.

ج-  الحكم الحمليّ عند كانط هو الكاشف عن حركة الفكر لا الاستدلال كما يذهب المنطق العامّ.

د- الحكم الحمليّ هو الذي تظهر فيه التصوّرات (الجسم، المادّة، الامتداد، الانقسام).

و- أشكال القياس الأربعة ليست إلاَّ تعبيرًا منطقيًّا صوريًّا عمَّا تمَّ التحصّل عليه مسبقًا في الحكم الحمليّ، وبالتالي فالحكم الحمليّ هو الذي يُعبّر عن الفعل المعرفيّ، وهو ما له الأولويّة في المنطق الخبرة. وبما أنَّ كانط يبحث في مضمون الحكم الذي هو الفعل المعرفيّ، فقد انتهى على أنَّ هذا الفعل إمَّا أن يُثبت صفة لشيء، أو ينفيها عنه.

وبالتالي نظرَ كانط إلى أنَّ كلّ الأحكام هي إمّا موجبة أو سالبة، وردّ الإيجاب والسلب إلى الهُويّة، والتناقض كما يظهر في التقسيم الآتي:

أ- تندرج الأحكام الموجبة تحت صيغة عامّة هي قانون الاتّفاق الذي هو قانون الهُويّة.

ب- تندرج الأحكام السالبة تحت قانون التناقض.

ج- تنتج الأقيسة الموجبة أحكامًا مُوجبة عن طريق قانون الهُويّة.

د- تنتج الأقيسة السالبة أحكامًا سالبة عن طريق قانون التناقض.

وبذلك يكون كانط قد أرجع كلّ الأحكام، والأقيسة إلى حكمي الهُويّة والتناقض، وقانونا الهُويّة والتناقض لا يمكن الاستدلال عليهما بمزيد من التحليل لأنّهما مسلّمتان، وهما لا يعتمدان على أحكام أوّليّة. فحكم الهُويّة (أ هي أ) حكم بَدَهِي، وكذلك حكم التناقض (أليست لاأ). فمن داخل المنطق الصوريّ لا يمكننا معرفة أساس الهُويّة والتناقض، لأنّهما ذاتهما هما الأساس الذي يعتمد عليه المنطق الصوريّ، ولا يبرهن عليهما، بل يأخذهما كمسلّمة بَدَهِيّة، ولا يقدّم لهما سوى شرحًا، أو تعريفًا. لذلك، يحاول كانط العثور على طريقة لبحث أساس الهُويّة والتناقض، ويذهب إلى أنّنا إذا أردنا معرفة سبب هُويّة الموضوع، والمحمول رجعنا إلى الخبرة المباشرة التي تعطينا إيّاها معًا في حدسٍ واحد، أي إلى علاقة دالّة وسيطة يدركها المرء مباشرةً في الشيء قبل أن يقسمه الفكر المنطقيّ إلى موضوع ومحمول، وتكون هذه العلاقة الوسيطة هي أساس الهُويّة إذا كانت موجودة، وأساس التناقض إذا كانت غير موجودة. هنا يتجاوز كانط المنطق الصوريّ نحو أساسه في الخبرة، موضحًا أنَّ للهُويّة والتناقض أساسًا معرفيًّا على الرغم من أنّهما بَدَهِيّان منطقيًّا، وأنَّ الحكم الحمليّ البسيط هو الحكم الأوّليّ، والأساسيّ الذي لا يمكن ردّه إلى حكم أسبق منه، وأنَّ هذا الحكم يتطلّب منّا العودة إلى الفعل الإدراكيّ الذي يدرك صفة الشيء الأساسيّة في حدسٍ مباشر.(13)

يرى كانط أنَّ الصدق يتمثّل في اتّفاق المعرفة مع موضوعها، ولكن ليس هذا الاتّفاق هو كلّ معيار الصدق، فقبل أن تتّفق المعرفة مع موضوعها ينبغي أن تتّفق مع ذاتها. وبما أنّه ينبغي أن يتّسق التفكير مع ذاته، ولا يناقض نفسه، وكانت قوانين الهُويّة، وعدم التناقض هي أُولى المعايير المطلوبة للاتّساق الداخليّ للصدق، ولأنّ البحث عن الاتّساق الداخليّ للتفكير يأتي من تحليل هذا التفكير ذاته، وتطبيق معياري الهُويّة، وعدم التناقض عليه، سُمّي ذلك الجزء من المنطق العامّ والمتولّي لهذه المَهَمَّة بالتحليلات. فالمنطق العامّ يحاول انطلاقًا ممّا تحصّل عليه من القوانين الصوريّة للفكر في التحليلات أن يضبط مضمون الفكر ذاته إزاء موضوعات تفكيره. ولكنّ الخطر الذي يواجه الفكر هو أن يكون غير مُتّسق، ومتناقض مع ذاته، وتصحيح هذا الخطأ هو ما تتولاّه التحليلات، وكذلك هناك خطر آخر، وهو أن يكون الفكر غير مُتّفق مع موضوعه حتّى ولو كان مُتّسقًا مع نفسه. هنا يقع الفكر لا في التناقض، أو عدم الاتّساق، بل في الوهم. ولذلك ظهر مبحث منطقيّ آخر يحاول تطبيق قوانين الفكر الصوريّة لمنعه من الوقوع في الأوهام في التعامل مع مضمونه، وهو الجدل. وبذلك انقسم المنطق العامّ إلى تحليلات وجدل.

وكذلك يرى كانط أنَّ المنطق الترانسندنتاليّ ينبغي أن يتبع التقسيم نفسه إلى تحليلات ترانسندنتاليّة، وجدل ترانسندنتاليّ، وإذا كانت التحليلات في المنطق العامّ تأخذ التصوّرات كما هي تقدّم نفسها جاهزة في الخبرة، وتبيّن عليها اتّساق الفكر ذاته، فإنَّ التحليلات الترانسندنتاليّة ينبغي أن تبحث عن أصل هذه التصوّرات، أي في كيفيّة تحصل الذات العارفة عليها. ويتطلّب ذلك البحث في ملكة الفهم التي بها تتحوّل التمثّلات إلى تصوّرات. وإذا كان الجدل في المنطق العامّ يحاول ضبط الفكر إزاء موضوعه باستخدام القوانين الصوريّة للفكر التي توصّل إليها في التحليلات، فإنَّ الجدل الترانسندنتاليّ بالمثل ينبغي أن يضبط الفكر إزاء موضوعه، لكن لا باستخدام قوانين الفكر الصوريّة، بل باستخدام معيار اتّفاق التصوّرات مع الخبرة التي تكشف عنها التحليلات الترانسندنتاليّة التي توضح أنَّ التصوّرات ذاتها عن طريق نشاط الفهم الذي يحوّل تمثّلات الخبرة إلى تصوّرات للفكر. والجدل الترانسندنتاليّ بناءً على ذلك يأخذ التصوّرات على أنّها مشروعة في مجال الخبرة التجريبيّة فقط، وأمَّا استخدام التصوّرات في دراسة الأشياء في ذاتها، أي موضوعات الميتافيزيقا المتجاوزة لمجال الخبرة التجريبيّة فهو استخدام غير مشروع، ويوقع العقل في الأوهام. وتكون مَهَمَّة الجدل الترانسندنتاليّ بناءً على ذلك هي البحث في التوسيع اللامشروع لاستخدام التصوّرات في البحث في الأمور غير الخاضعة للحدوس الحسّيّة، أي للخبرة التجريبيّة. فإذا كان هدف الجدل في المنطق العامّ هو ضبط مضمون الفكر بناءً على قوانينه الصوريّة، أي اتّفاقه مع ذاته، فإنَّ معيار الجدل الترانسندنتاليّ هو ضبط مضمون الفكر بناءً على اتّساقه مع الخبرة التجريبيّة. ولذلك يحكم كانط على علوم الميتافيزيقا بأنّها غير مشروعة نظرًا إلى أنّها تطبّق تصوّرات الفهم ذات المنشأ، والوظيفة التجريبيّة على موضوعات الميتافيزيقا المتجاوزة نطاق الحدس الحسّيّ.

وكما قسّم كانط المنطق العامّ إلى تحليلات وجدل. فكذلك قسّم المنطق المدرسيّ إلى منطق تطبيقيّ. والنقد إلى تعليمين: للعناصر والمناهج، وقسّم التعليم الأوّل: من حيث صفته الترانسندنتاليّة، أي بالنظر إلى صلته بالموضوع، إلى الاستطيقا، أي منطق الحساسيّة، قسّم هذا بدوره إلى منطق الحقيقة ومنطق الغلط، وعدّ أنَّ البحث في الحساسيّة يكشف عن عنصريها المحضين والوحيدين: الزمان والمكان، ومن ثَمَّ بيّن أنَّ صلة المعرفة بموضوع المعرفة لا تتمّ إلاَّ عبر هذين الحدسين الذاتيّين، بالإضافة إلى أنَّ البحث في الحساسيّة يسوّغ إظهار واقية هذين الحدسين الذاتيّين الأمبيريّة، أي إمكان صلة الموضوع المعطى مع هذين الحدسين، أي إنّهما قادران على تلقّي المعطى وفقًا لقوامهما الذاتيّ مع أنّهما من اللا-كون، ومن ثَمَّ يُظهر أنّ أيّ فرض آخر لهما يعجز عن شرح إمكان المعرفة الموضوعيّة القائمة بفضلهما، على سبيل المثال القضايا الرياضيّة المحضة.(14)

وبما أنَّ المنطق الصوريّ خالٍ من المضمون، ونقد الميتافيزيقا ينبغي أن يكون في صورة منطقيّة، رأى كانط أنّه من الضرورة بمكان تجاوز هذا المنطق نحو منطق آخر لمضمون التفكير أسماه المنطق الترانسندنتاليّ.

وبالتالي لاحظ كانط أنَّ المنطق العامّ يهتمّ بشكل الفكر فقط لا بمضمونه، ولا يمكن الاعتماد عليه في الحكم على معرفتنا بالأشياء، وبالتالي يجب تجاوزه إلى منطق في المضمون. إذ يرى كانط أنَّ الشكل المجرّد للمعرفة مهما كان متّفقًا مع القوانين المنطقيّة، لا يمكن الاعتماد عليه في الحكم، بل يجب الحصول على معلومات يعتمد عليها في مضمون التفكير، ومن ثَمَّ ننظر في القوانين المنطقيّة لنضع تلك المعلومات في كلّ متكامل. وهو بذلك يصرف النظر عن المنطق العامّ، وعن أيّ مضمون للمعرفة، بل سينظر إلى الصورة المنطقيّة من حيث علاقة بعضها ببعض أي إلى صورة الفكر بشكلٍ عامّ.(15)

ولأنَّ هناك فرقًا بين الحدوس المحضة، والحدوس الأمبيريّة، يوجد فرق بين الفكر المحض، والفكر الأمبيريّ في الموضوعات. ففي ذلك يعدّ كانط أنَّ المنطق الذي يتضمّن فقط قواعد التفكير المحض يستبعد من الموضوع كلّ المعارف ذات المضمون الأمبيريّ. بينما المنطق المحض هو الذي سيهتمّ بأصل معارفنا بالموضوعات من حيث إنّه يمتنع نسب هذا الأصل إلى الموضوعات في ما بينها، لأنَّ المنطق العامّ لا يكون له أيّ عمل مع هذا الأصل فهو ينظر إلى التصوّرات، سواء كانت فينا قَبْلِيًّا في الأصل، أم كانت معطاة فقط بموجب قوانين استعمال الفاهمة للتصوّرات عندما نفكر بها بعضًا بعلاقة مع بعض وحسب. فهو لا يعالج إلاَّ الصورة الفاهميّة التي نضيفها على التصوّرات أيًّا كان أصلها. وبالتالي يكون المنطق الترانسندنتاليّ هو العلم الذي سيعيّن أصل معارفنا، ونطاقها، ومصداقيّتها الموضوعيّة، لأنَّ عمله فقط مع قوانين الفاهمة والعقل، وفقط من حيث هو متعلّق بالموضوعات قَبْلِيًّا، لا كما يتعلّق المنطق العامّ بالمعارف العقليّة الأمبيريّة، أو المحضة دونما تمييز.(16)

وهكذا اكتشف كانط أنَّ المنطق الحاكم لمضمون التفكير لا يمكن أن يكون إلاَّ منطقًا لأفعال التفكير، لأنَّ انضباط الفكر لا يتأتّى من ضبط موضوع الفكر لأنّه شيء مادّيّ واقع في الخارج، بل يتأتى انضباط الفكر من انضباط أفعال التفكير التي تتجلّى في الحكم، وبالتالي أصبح المنطق الترانسندنتاليّ لديه منطقًا ترانسندنتاليًّا للأحكام، وما تحتويه من مقولات، أي موضحًا نشأتها انطلاقًا من أفعال التفكير.(17) وعلى هذا الأساس عدّ كانط أنَّ هذا المنطق عليه أن يبيّن عناصر المعرفة الموضوعيّة ويسوّغها.

وهذا التبيّن سيكون تشريحًا وظيفيًّا لملكة المعرفة الموضوعيّة أي الفاهمة، من حيث إنّها قدرة على التفكير والحكم. فتُكتشف لوحة المقولات (الأفاهيم المحضة) ويدلّل على قَبْلِيّتها وتماميّتها، ومن خلال إحصاء جميع أوجه التفكير القَبْلِيّ بموضوع معرفة، وإظهار أنَّ كلاًّ من هذه المقولات يمثّل وظيفة مستقلّة، وأنّها، أي هذه المقولات، تمثّل بمجموعها وظائف التفكير كلّها، وتشكّل لوحة كاملة ووحيدة. تسوّغ هذه الأفاهيم المحضة أدوات الأوتعاء المحض الذي يضمن كلّيّة المعرفة وضرورتها. من ثَمَّ الشروط القَبْلِيّة لإمكان التجربة، أي الشروط الصوريّة لمعرفة الموضوع المُعطى التي من خلالها نكتشف لاحقًا لوحة المبادئ القَبْلِيّة لإدراج الأمبيريّة تحت الأفهوم، وذلك بتوسّط الشيم الترانسندنتاليّ، والذي يدلّل على مبادئ المعرفة التجريبيّة بالرغم من قَبْلِيّتها.(18)

ويبيّن كانط أنَّ مضمون المعرفة هو مادّتها. ولا يوجد علاقة كلّيّة لحقيقة المعرفة من حيث المادّة. أمَّا في ما يخصّ المعرفة من حيث مجرّد الصورة، وبصرف النظر عن أيّ مضمون، فالمنطق في تقديمه لقواعد الفاهمة العامّة، والضروريّة يجب أن يعرض في هذه القواعد معايير الحقيقة. وما يناقضها سيكون خطأ. هذه المعايير تتعلّق فقط بصورة الحقيقة، أي بصورة التفكير بعامّة. وهي صحيحة على هذا الصعيد إلاَّ أنّها غير كافية، لأنّ المعرفة قد تكون مطابقة تمامًا للصورة المنطقيّة، أي لا تتناقض ذاتيًّا، ويبقى مع ذلك في تناقض مع الموضوع. فالمعيار المنطقيّ للحقيقة وحده، أي تطابق المعرفة مع قوانين الفاهمة، والعقل العامّة، والصورة، هو إذًا الشرط الذي لا بدَّ منه. وبالتالي الشرط السلبيّ لكلّ حقيقة، إلاَّ أنَّ المنطق أن يذهب أكثر من ذلك، وليس ثمّة من محكّ يسمح له بأن يكشف الخطأ الذي مضمونه لا صورته.(19)

ويتابع كانط شرحه فيرى أنَّ المنطق العامّ يحلّل العمل الصوريّ كلّه للفاهمة، والعقل إلى عناصره، ويقدّم هذه العناصر بوصفها مبادئ لكلّ محاكمة منطقيّة لمعرفتنا. ويُسمّى هذا القسم من المنطق تحليلات. وهنا يتمّ فحص كلّ معرفة، مقتضاها من حيث صورتها قبل البحث من حيث مضمونها. ومهما بلغ تطابقها مع القوانين المنطقيّة تبقى قاصرة عن تقرير الحقيقة المادّيّة الموضوعيّة للمعرفة، ولا أحد يمكنه أن يجازف استنادًا إلى المنطق وحده بالحكم على الموضوعات. ومع ذلك، فإنَّ هذا الفنّ الموهم بإخفاء الصورة الفاهمة على جميع معارفنا، ومهما كان فقيرًا، وفارغًا تُغري باستعمال المنطق العامّ الذي هو مجرّد “قانون” للمحاكمة بما يشبه أورغانون لإنتاج متحقّق، أو التوهّم بأنّه موضوعيّ، وباستعماله استعمالًا فاسدًا. وهذا المنطق المحسوب أورغانونًا يُسمّى الديالكتيك.

وبما أنَّ هذا المنطق ليس سوى منطق للترائيّ، وسفسطائيّ، ويُستعمل لتزيين الدعاوى الفارغة. وعليه يبقى المنطق العامّ منظورًا إليه كأورغانون هو منطق للترائيّ، أي هو ديالكتيك. وبالتالي لا يعلّمنا المنطق العامّ شيئًا حول مضمون المعرفة، بل يعلّمنا فقط الشروط الصوريّة للتوافق مع الفاهمة، وهي شروط حياديّة تمامًا بالنسبة إلى الموضوعات.

 

لذلك يعدّ كانط، أنَّ مطلب استعماله كأداء (أورغانون) حسبما يدّعي على الأقل لا يُمكن أن يوصل إلى أكثر من لغو نزعم به على وجه الظاهر، أو نفكّر به حسب مزاجنا كلّ ما لا نريد.(20)

خاتمة

في ختام هذا البحث، لا بدَّ من القول إنَّ كانط يكون بذلك قد افتتح حقلًا جديدًا في النقد، وذلك باعتماده على منهج خاصّ يقوم على افتراض أن تكون موضوعات المعرفة هي التي تنتظم وفقًا لمعرفتنا، لا أن يكون العقل هو الذي ينتظم وفقًا للموضوع. ولكن حدود العقل ترسمها المشكلة العامّة، فكيف نفهم أن يكون بإمكاننا إصدار أحكام تقول عن الموضوع قولًا كلّيًّا وضروريًّا؟ ومن ثَمَّ غير مستمدّ من الموضوع؟ وبالتالي، ما حدود ذاك القول وشروط صدقه؟ بل ينبغي أن يُطرح هذا السؤال على جميع الأحكام التأليفيّة القَبْلِيّة، أي تبعًا لكلّ أنواع الصلة القائمة، أو المفترضة بين تصوّر الذهن للموضوع، والموضوع نفسه.

وظنَّ كانط أنَّ هناك نوعين من الصلة: صلة بين التصوّر والموضوع لجهة المطابقة، وفيها يكون الذهن ملكة معرفيّة فيسمّى عقلًا نظريًّا، وصلة بين التصوّر كعلّة والموضوع كمعلول، وفيها يكون الذهن ملكة رغبة فيُسّمى عقلًا عمليًّا. وعلى هذا الأساس يقول الحكم النظريّ ما هو الموضوع، والموضوع يُعطى بانفعال الحساسيّة ويفكّر بتَلقائيّة الفاهمة، وتعقّل معرفته بشمول العقل.

لذلك يفترض أن يدور الكلام على شروط الحكم التأليفيّ القَبْلِيّ، وذلك باتّباع الفرض المنهجيّ، ووفقًا لقدرات الذهن المعرفيّة. ويبيّن النقد شروط إمكان تلقّي المعرفة أي شروط الذاتيّة لقوام الحساسيّة، وشروط تعقّل المعرفة التي تبيّن شروط الإمكان، وحدود الاستعمال المشروع في طريقة التفكير. والبحث الذي يشبه المنطق من حيث اهتمامه بشروط المعرفة وقوانينها، ولكنّه يختلف عنه لجهة اهتمامه بمضمون المعرفة، وإنّما بمعزل عن هذا المضمون، أي قَبْلِيًّا.

ويؤكّد كانط في المنطق الترانسندنتاليّ على عزل الفاهمة، وأن نبرز فقط ذلك الجزء من الفكر في معرفتنا الذي أصله في الفاهمة حصرًا. وإنَّ استعمال هذه المعرفة المحضة يستند إلى شرطها هذا: أن تكون الموضوعات التي يمكن أن تطبّق عليها معطاة لنا في الحدس. وبأنّ قسم المنطق الذي يعالج عناصر معرفة الفاهمة المحضة المبادئ التي من دونها لا يمكن لأيّ موضوع أن يفكّر فيه. هو ما يطلق عليه التحليلات الترانسندنتاليّة التي هي في الوقت نفسه منطق للحقيقة، ولا يمكن لأيّ معرفة أن تناقضها من دون أن تفقد على الفور كلّ مضمون. ويتابع بقوله إنّه لمَّا كان المنطق لا يسعه أن يكون حقًّا سوى “قانون” للحكم على الاستعمال الأمبيريّ، فإنّنا نسيء الاستعمال عندما نعطيه قيمة أورغانون ذا استعمال عامّ، وغير محدّد، ويجازف بواسطة الفاهمة المحضة وحدها بالحكم، والزعم، والتقرير تأليفًا حول الموضوعات بعامّة. وسيكون استعمال الفاهمة المحضة في هذه الحال ديالكتيكيًّا. وانطلاقًا من هنا سيكون القسم الثاني من المنطق الترانسندنتاليّ نقدًا لهذا التراث الديالكتيكيّ، ويسمّيه الديالكتيك الترانسندنتاليّ. لا من حيث هو فنّ توليد مثل هذا الترائيّ الدوغمائيّ، والعديد من الشعوذات الميتافيزيقيّة، بل بوصفه نقدًا للفاهمة، ونقدًا للعقل من حيث استعماله المفارق، نقدًا عليه لفضح خداع الظاهر من مزاعمه الواهية إلى الكشف والتوسيع. وأن يقتصر على محاكمة الفاهمة، وتحصينها ضدَّ التعميمات السفسطائيّة. فماذا يقصد كانط من التحليلات الترانسندنتاليّة؟

الهوامش

  • المظفّر، محمّد باقر، المنطق، بيروت، دار التعارف، 1402ه، 1982م، ص 10.
  • منصور، أشرف حسن، “نظريّة المعرفة عند كانط باعتبارها فلسفة في المنطق(1)”، في (ahewar.org)
  • المظفّر، محمّد باقر، المرجع السابق، ص 277.
  • منصور، أشرف حسن، المرجع السابق.
  • المرجع نفسه.
  • المرجع نفسه.
  • منصور، أشرف حسن، المرجع السابق.
  • المرجع نفسه.
  • النشّار، عليّ سامي، المنطق الصوريّ منذ أرسطو وحتَّى عصورنا الحاضرة، دار المعارف، مصر، 1971م، ص 153.
  • المرجع نفسه، ص 154.
  • منصور، أشرف حسن، المرجع السابق.
  • المرجع نفسه.
  • المرجع نفسه.
  • كنط، عمّانوئيل، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، بيروت، مركز الإنماء القوميّ، ص 8.
  • المرجع نفسه، ص 78.
  • المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
  • منصور، أشرف حسن، المرجع السابق.
  • كنط، عمّانؤئيل، نقد العقل المحض، المرجع السابق، ص 8.
  • المرجع نفسه، ص 79.
  • المرجع نفسه، ص 80.
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website