foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

«الوضع» في نظر الأصوليين، بيانٌ وتحليل

0

«الوضع» في نظر الأصوليين، بيانٌ وتحليل

د. عليّ منتش([1])

1ـ الوضع عند علماء الأصول، ونظريّاتهم فيه

تحدّث أهل الأصول عن «الوضع» وتبّحروا فيه، وسجَّلوا نقاطاً كثيرة على اللّغويّين، فقد أشبعوا هذا الباب بحثاً وتدقيقاً وتنقيباً، وأظهروا براعةً لم يستطع أهل اللّغة أن يجاروهم فيها، مع أنّها فنُّهم وصنعتهم، وحرفتهم التي إليها ينسبون. وما كان هذا التفوّق أن يكتب للأصوليّين لولا حاجتهم الملحّة التي يتوقّف عليها استخراج الحكم الشرعيّ، المبنيّ على الدقّة؛ لأنه يُنسب إلى الله، وإلَّا كان قولاً بغير علمٍ، أو تقوُّلاً عليه من دون دليلٍ، أو ظنّاً منهياً عنه، وذلك كما في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا…﴾([2])، حيث يبحث أهل اللّغة في الوصف وما يستفاد منه، ويبحثون عن وزنه، وعن (ال) هل هي موصوليّة أم هي (ال) التّعريف، المخرجة للاسم عن حيِّز النكرة إلى دائرة التعريف؟ هذا هو شأنهم وجلُّ بحثهم، ولكنّ أهل الأصول لا يتوقّفون في مجال اللّغة عند المعنى الظاهر من اللّفظ، بل يتعدّونه إلى تحديد الدّلالة من خلال القرائن التي تحيط باللفظ، سواء أكانت لفظيّة أم مقاميّة أم حاليّة أم سياقيّة أم غير ذلك.

فالأصوليّون يبحثون في كلمة «السّارق»، وعلى أيّ معنىً يمكن أن تطلق؟ وما هو المراد منها؟ وأيّ أنواع السّارقين هو المقصود؟ وكذلك في لفظ الأيدي في قوله تعالى: ﴿ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى المَرَافِقِ…﴾([3])، فما هو المراد بالأيدي هنا؟ فإنَّ الأيدي لها مصاديق كثيرة. وهذا التشدُّد لا نراه في البيئة اللّغويّة، ولعلَّ مردَّه إلى البيئة العمليّة عند الأصوليّين، بوصف الغاية من هذه الدراسة، وهي استخراج الأحكام الشرعيّة، المتوقِّفة على دقّة التعامل مع الألفاظ الواردة في لسان الدّليل.

ممّا لا شكّ فيه أنّ هناك ترابطاً بين اللّفظ والمعنى في عالم الوجود الذهني، أيْ في ذهن الإنسان العالم بالوضع، فوجود اللّفظ في الذّهن كافٍ لوجود المعنى وجوداً حقيقيّاً في الذّهن، فالملازمة الحقيقيّة قائمةٌ وواضحة بين اللّفظ والمعنى في عالم الذّهن، فلو سمع إنسانٌ ما لفظةً معيّنة، ككلمة كتاب مثلاً، وكان عالماً بالوضع، فهنا تنتقش في ذهنه صورة الكتاب، وهذه العلاقة بين اللّفظ والمعنى ليست على نحو الملازمة الذاتيّة، بمعنى أن هناك خصوصيّة في ذات اللّفظ اقتضَتْ دلالته على معناه، من دون أن يكون هناك وضعٌ وجعلٌ من أحدٍ؛ وذلك لعدّة أمور:

1ـ ما ذكره السيّد الهاشمي وهو «عدم صلاحيّة هذا القول في تفسير ما نعيشه من دلالاتٍ لغويّة ثبت عدم كونها ذاتيّةً؛ لعدم وجود أيّ ميلٍ سابق على الاكتساب والتعلُّم للانتقال من لفظٍ مخصوص إلى معنىً مخصوص»([4]).

2ـ ما ذكره السيّد الخوئي من أنّ «لازم ذلك تمكّن كلّ شخصٍ من الإحاطة بتمام اللغات، فضلاً عن لغةٍ واحدة»([5]).

3ـ لو كانت الدّلالة ذاتيّةً لما اختلفت باختلاف النّواحي والأمم.

4ـ يلزم من ذلك عدم صحّة الوضع للضّدّين، كـ «جون» للأبيض والأسود، و«قرء» للطّهر والحيض.

5ـ إنّ الناس نقلوا ألفاظاً من معانيها إلى معانٍ جديدة، وكذلك فعل الشّارع المقدَّس، فلو كانت نظريّة «العلاقة الذاتيّة» بين اللّفظ والمعنى صحيحة لما صحّ هذا التّصرُّف والنّقل.

لذا لا بُدَّ لنا من أخذ الاتّجاه القائل بأنّ دلالة الألفاظ على معانيها إنما تكون بوضع واضعٍ أوجد هذا الارتباط بين اللّفظ والمعنى. وقد قسَّم السّيد الهاشميّ علماء الأصول في تفسيرهم لهذا الارتباط بين اللّفظ والمعنى إلى مذهبين، وهما:

المذهب الأوّل: «مذهب الجعل الواقعي للسّببيّة، القائل بأن الواضع يجعل السّببيّة مباشرةً بين طبيعي اللّفظ والمعنى، فتكون الملازمة والاستتباع بينهما أمراً واقعيّاً على حدّ واقعيّة الملازمات والسببيّات الثابتة في لوح الواقع، ولكنّ تحقُّقها ببركة الوضع…

المذهب الثّاني: المذهب القائل بأن الجاعل يقوم بعمليّةٍ يرتّب عليها قيام السّببيّة بين اللّفظ والمعنى، أي يحدث في اللّفظ صفةً خاصة، فيصبح اللّفظ بعد اكتسابه تلك الصفة سبباً لإخطار المعنى»([6]).

وقد اعترض السيّد الهاشمي على المذهب الأوّل بأنه «لا يمكن إيجاد السّببيّة الواقعيّة بين شيئين بمجرّد الوضع والجعل؛ فإن السّببيّة صفةٌ ذاتيّة للسّبب الحقيقي، فلا يمكن جعلها تكويناً لما ليس بسببٍ، فضلاً عن وضعها تشريعاً اعتباراً»([7]).

وأورد السيد الخوئي اعتراضاً آخر على هذا المذهب، مفاده: «إن القائل بالمذهب الأوّل إنْ أراد بوجود الملازمة بين طبيعي اللّفظ والمعنى الموضوع له وجودها مطلقاً، حتّى للجاهل بالوضع، فبطلانه من الواضحات التي لا تخفى على أحدٍ؛ فإن هذا يستلزم أن يكون سماع اللّفظ وتصوّره علّةً تامّة لانتقال الذّهن إلى معناه، ولازمه استحالة الجهل باللغات، مع أن إمكانه ووقوعه من أوضح البديهيات؛ وإنْ أراد ثبوتها للعالم بالوضع، دون غيره، فهذه الملازمة ليست بحقيقة الوضع، بل متفرّعة عليه، ومتأخّرة عنه رتبةً»([8]).

فالصّحيح هو المذهب الثّاني، الذي يفترض بأن الواضع صانع اللّغة يقوم بعملٍ تمهيديّ يرتّب عليه قيام السّببيّة بين اللّفظ والمعنى. ولكنْ ما هي هذه العمليّة التمهيديّة التي قام بها الواضع، فأوجد السّببيّة بين اللّفظ والمعنى؟ انقسم أنصار هذا المذهب في علاج هذه النقطة إلى ثلاثة آراء، وهي:

1ـ نظريّة الاعتبار؛ 2ـ نظريّة التعهُّد؛ 3ـ نظريّة القرن الأكيد.

1ـ نظريّة الاعتبار

يقول أصحاب هذه النظريّة بأن الواضع يمارس عمليّةً اعتباريّة إنشائيّة، تتولَّد على أساسها العلاقة اللّغويّة بين اللّفظ والمعنى. وطرحوا صِيَغاً مختلفة في التكييف الإنشائي لهذا الاعتبار الوضعي، وهي:

الصيغة الأولى: إنّ الواضع يجعل اللّفظ على المعنى كما تجعل الإشارة الحمراء على موقعٍ للدلالة على الخطر، غاية الأمر أنّ وضع الإشارة خارجيّ، ووضع اللّفظ اعتباريّ؛ إذْ لم يجعل اللّفظ حقيقةً على أمرٍ خارجيّ.

ويُعترض على هذه الصيغة بأنّ مجرّد جعل شيءٍ على شيء آخر خارجاً، كالإشارة، أو اعتباراً، كاللّفظ، لا يعطيه صفةً يكون بها سبباً حقيقياً له، فالوضع الاعتباريّ لا يكون أحسن حالاً من الوضع الخارجيّ؛ لأنّنا نلاحظ في الوضع الخارجيّ أنّ مجرّد وضع الشارة الحمراء على موضع الخطر لا يكفي لحصول الدّلالة المطلوبة، ما لم تضمّ إليه عناية أخرى، كالتّعهد والالتزام بأن لا توضع الشارة الحمراء إلّا للدّلالة على الخطر. فلا بُدَّ من إبراز نكتةٍ أخرى قد تكفي وحدها لتفسير السّببيّة بين اللّفظ والمعنى، فلا حاجة إلى الوضع الاعتباريّ([9]). مع أننا نلاحظ أن العلاقة بين اللّفظ والمعنى علاقةٌ تصوريّة، بينما العلاقة بين الإشارات الخارجيّة وما تدلّ عليه هي علاقةٌ تصديقيّة. فالعلاقتان مختلفتان، فلا تُقاس إحداهما على الأخرى.

الصيغة الثّانية: اعتبار اللّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى بوجوده الخارجيّ، متَّحداً معه، فتسري إلى اللّفظ آثار المعنى عند الإحساس به. والتنزيل لا معنى له بدون الآثار، وحينئذٍ يكون أثر المنزَّل عليه ثابتاً للمنزَّل بواسطة الضميمة، كما في قول الإمام الصادق(ع): «الطواف بالبيت صلاة»([10]). فالمنزَّل عليه هو الصلاة، والمنزَّل هو الطواف، والأثر للمنزَّل عليه هو الطهارة. فإذا كان الوضع عبارةً عن تنزيل اللّفظ منزلة المعنى فيجب حينئذٍ أن تترتَّب آثار المعنى لذلك اللّفظ، وهذا ما لا نجده عند تنزيل لفظ «الأسد» على معناه، فالأسد في معناه يأكل ويشرب وينام، ولكنّ لفظ الأسد ليس فيه شيءٌ من هذا.

ويُلاحَظ على هذه الصيغة أيضاً ما ذكره السيد الهاشمي في قوله: «إن السّببيّة والاستتباع بين اللّفظ والمعنى لا يعقل أن تكون متولِّدةً من مجّرد الجعل والاعتبار، وإلّا لأمكن جعل أيّ شيءٍ سبباً لشيءٍ آخر بمجرّد الاعتبار»([11]).

الصيغة الثالثة: إنّ الوضع هو اعتبار اللّفظ أداةً لتفهيم المعنى. وقد يُعترض على هذه الصيغة بما مرّ سابقاً، وهو أنّ اعتبار اللّفظ أداة لتفهيم المعنى لا يجعله حقيقةً بمجرّد الاعتبار والجعل، وإلّا لأمكن جعل أيّ شيءٍ أداة لشيءٍ آخر.

ويُضاف إلى ذلك كلّه أنّ أصحاب هذه النظريّة، والقائلين بها، بَدَل أن يبِّينوا لنا كيفيّة حصول الاعتبار بين اللّفظ والمعنى، وطريقة حصول السّببيّة بينهما، نجدهم قد ذهبوا إلى تصوير ما هو المعتبر؟ وهل أن المعتبر هو وضع اللّفظ على المعنى أو كون اللّفظ وجوداً تنزيليّاً للمعنى؟ مع أنّ الكلام ينبغي أن يقع على كيفيّة حصول السّببيّة بينهما. وقد يكون هذا النقص الظاهر في نظريّة «الاعتبار»، بصيغها الثلاث المتقدّمة، هو السبب في ظهور النظريّة الثّانية في تفسير العلاقة الوضعيّة، وهي «نظريّة التعهُّد».

2ـ  نظريّة التعهُّد

وملخَّص هذه النظريّة أنّ الأمر الخارجيّ، الذي نسمّيه بالوضع، أو ما نستطيع أن نعبّر عنه بالعلاقة الرابطة بين اللّفظ والمعنى، هو عبارةٌ عن تعهُّدٍ من قِبَل الإنسان المستَعْمِل للّغة بأنّه متى ما أراد أو قصد تفهيم معنى الكتاب مثلاً أتى بلفظ «كتاب»؛ من أجل تفهيم قصده ومراده. فالواضع أو المتعهِّد اللّغويّ أخذ على نفسه هذا المعنى وهذه الملازمة. وما دام أن الأصل في سيرة العقلاء أنّهم إذا أرادوا شيئاً أتَوْا بلفظه، وبما أنّ العقلاء يوفون بما تعهَّدوا به، إذن إذا قال أو نطق أو تلفّظ بلفظ «كتاب» فهو يقصد معنى الكتاب. وهذا معنى السّببيّة بين اللّفظ والمعنى.

فالرابط بين اللّفظ والمعنى إذن هو هذا الالتزام، الذي أخذه المتعهِّد على نفسه. وبما أنّ الأصل والقاعدة في الإنسان هو أن يكون قاصداً ومريداً، لا ساهياً أو هازلاً، إلّا بقرينةٍ، فنفهم من إطلاقه للفظٍ ما أنّه يريد معناه الذي تعهَّد بوضع اللّفظ له. يقول السيد الخوئي: «قد تبيّن أن حقيقة الوضع عبارةٌ عن التعهُّد بإبراز المعنى الذي تعلَّق قصد المتكلِّم بتفهيمه بلفظٍ مخصوص، فكلّ واحدٍ من أهل أيّ لغةٍ متعهِّدٌ في نفسه متى ما أراد تفهيم معنىً خاص أن يجعل مبرزه لفظاً مخصوصاً … فهذا التعهُّد والتباني النفساني بإبراز معنىً خاصّ بلفظٍ مخصوص عند تعلُّق القصد بتفهيمه ثابتٌ في أذهان أهل كلّ لغةٍ، بالإضافة إلى ألفاظها ومعانيها بنحو القوّة. ومتعلّق هذا التعهُّد أمرٌ إختياري، وهو التكلُّم بلفظٍ مخصوص عند تفهيم معنىً خاصّ»([12]). ثمّ يضيف: «ومن ذلك تبيّن ملاك أن كلّ مستعملٍ واضعٌ حقيقةً. وأما إطلاق الواضع على الجاعل الأوّل، دون غيره، فلأسبقيّته في الوضع، لا لأجل أنّه واضعٌ في الحقيقة، دون غيره…؛ ضرورة أنّ تعهُّد كلّ أحدٍ لمّا كان فعلاً اختيارياً له يستحيل أن يصدر من غيره، غاية الأمر التعهُّد من الواضع الأوّل تعهُّدٌ ابتدائي غير مسبوق بشيءٍ، ومن غيره ثانويّ، ولأجله ينصرف لفظ الواضع إلى الجاعل الأوّل»([13]). فنستخلص من هذا الكلام أموراً ثلاثاً تتوقَّف عليها «نظريّة التعهُّد»، وهي:

الأوّل: وجود ملازمة سببيّة بين اللّفظ والمعنى.

الثّاني: إن هذه الملازمة والسّببيّة حصلت من التعهُّد الذي ذكرناه. ومن هذا التعهُّد يتّضح أنّ المتكلِّم يقصد تفهيم المعنى من اللّفظ. وهذا ما يسمّى بالدّلالة التصديقيّة.

الثالث: إنّ كلّ مستعملٍ للّغةٍ يصبح واضعاً حقيقةً؛ لأنّه تعهّد، وبشكلٍ ضمنيّ، أنّه لا ينطق باللّفظ إلّا إذا أراد إفهام معناه. وما دام الوضع عبارةً عن التعهُّد والالتزام، وهو لا يتعلّق إلّا بما كان المتعهِّد مختاراً فيه، فحينئذٍ لا فرق بينه بين الواضع الأوّل إلّا في شيءٍ واحد، وهو أن الواضع الأوّل أسبق زماناً، وأنّ الواضع الأوّل واضعٌ بالأصالة، وهو أصيلٌ، أمّا الثّاني فواضعٌ بالمتابعة، وهو فرعٌ.

ويُلاحَظ على هذه النّظريّة بما يلي:

أوّلاً: إن الدّلالة اللّغويّة فيها تتضمّن عمليّةً استدلاليّة، وانتقالاً منطقيّاً عقلائيّاً، على أساس الالتزام العقليّ، مع أن نشوء ظاهرة اللّغة في حياة الإنسان منذ عهوده الأولى، وقبل أن تتكامل مدركاته العقليّة. وهذا لا يساعد على هذا الافتراض، بل يبرهن على أن عمليّة الوضع وإيجاد العلاقة الوضعيّة، والاستفادة منها في مجال المحاورة، لا تتوقَّف على تعقيداتٍ عقليّة؛ لأنّها تتطلّب درجةً بالغة من النّضج الفكريّ، يؤهِّل الإنسان البدائي لفهم معاني التعهُّد والالتزام، مع أن مثل هذه المرتبة من النّضج العقليّ والاجتماعيّ حصلت للإنسان في مراحل متأخِّرة عن صيرورته إنساناً اجتماعيّاً، قادراً على التفهيم ونقل أفكاره إلى الآخرين.

ثانياً: عدم صحّة الاستعمال المجازي؛ لأنه أعّم من أن يراد به المعنى الحقيقي، مع أنه من الوضوح بمكانٍ أن الوضع لا يعني التعهُّد بعدم المجاز.

ثالثاً: إنه يلزم على هذه النظريّة أن المتكلِّم كلّما قصد المعنى أتى باللفظ، وليس العكس. فكلما قصد تفهيم المعنى أتى باللفظ، وليس كلّما أتى باللّفظ قصد تفهيم المعنى الخاصّ (الذي هو مقصود ومحلّ الكلام).

وهذا مخالفٌ لمقتضى القضيّة الشرطيّة؛ لأن مفادها أن شرطها يستلزم جزاءها، فيكون دالّاً على الجزاء، وليس الجزاء مستلزماً للشرط. وعليه فما حصل بالتعهُّد ليس هو المطلوب، أو المبتغى منه. فنظريّة التعهُّد تقول: إنّ الجزاء يستلزم الشرط، فقصد تفهيم المعنى يستلزم الإتيان باللفظ، وليس الإتيان باللفظ مستلزماً للدّلالة على المعنى.

فما ذكره أصحاب نظريّة التّعهُّد لا يحقِّق دلالة اللّفظ على المعنى؛ لأنهم عرّفوا التّعهُّد بأنّه متى ما أراد تفهيم معنىً أتى بلفظه الخاصّ به، وهذا معناه أنّ الشرط، وهو قصد تفهيم المعنى، مستلزِمٌ للإتيان باللفظ، وليس العكس، وهو أن الإتيان باللّفظ مستلزمٌ للإتيان بالمعنى الذي هو المراد، وهو دلالة اللّفظ على قصد تفهيم المعنى. فيتبيّن أن أحدهما غير الآخر، فدلالة اللّفظ على المعنى الموجود خارجاً لا تثبتها نظريّة التّعهُّد، بل هما على طرفي نقيضٍ أو تضادّ. وهذه العمليّة، سواء أكانت نوعاً من الالتزام أم التباني أم الشرطيّة، من البيّن جدّاً أنها ليست من التعهُّد، فمثلاً: لو كرّرنا لفظاً معيّناً أمام طفلٍ، كلفظ «حليب» مثلاً، وأتَيْنا بالحليب، فإنه سيحصل عنده فهمٌ للمعنى من اللّفظ. وهذا إنّما يحصل من كثرة التّكرار، وليس من التعهُّد في شيءٍ. نعم، هناك شيءٌ استلزم انتقال ذهنه من اللّفظ إلى المعنى؛ لنكتةٍ معيّنة، وليست هي علمه بتعهُّد الواضع المتكلِّم أنّه متى ما قصد معنى معيّناً أتى باللّفظ. فاستعمال اللّفظ لمعنىً معيّن أمام الطفل لعدّة مرّاتٍ أوجب انتقال المعنى إلى ذهنه من اللّفظ الذي أطلق أمامه. إذن فكثرة الاستعمال أوجدَتْ أُنْساً بين اللّفظ والمعنى، بدون واسطة معرفة الواضع أو التعهُّد أو الملازمة أو أيّ شيءٍ آخر، فيتبيّن أنّ انتقال الذهن من اللّفظ إلى المعنى لأمرٍ معيّن غير التعهُّد والملازمة.

وهذا السبب حدا بالبعض إلى محاولةٍ جديدة لفهم عمليّة «الوضع»، فبرزت نظريّة «القرن الأكيد».

3ـ نظريّة «القرن الأكيد»

«وبيانها أنّ الله سبحانه وتعالى قد جعل من الإحساس بالشّيء سبباً في انتقال الذّهن إلى صورته. فالانتقال الذّهني إلى الشيء استجابةٌ طبيعيّة للإحساس به. ويوجد قانونان تكوينيّان ثانويّان يوسّعان من دائرة تلك الاستجابة الذّهنيّة.

أحدهما: قانون انتقال صورة الشيء إلى الذّهن عن طريق إدراك مشابهه، كانتقال صورة الحيوان المفترس إلى الذّهن بسبب رؤية رسمٍ مشابه له على الورق.

ثانيهما: قانون انتقال صورة الشيء إلى الذّهن عن طريق إدراك الذّهن لما وجده مشروطاً ومقترناً بذلك الشيء على نحوٍ أكيد بليغ، فيصبح هذا القرين في حكم قرينه من حيث إيجاد نفس الأثر والاستجابة الذّهنيّة التي كان يحدثها على الذّهن عند الإحساس به…

وهذا الاقتران والإشراط الذي يوجب الاستجابة المذكورة لا يكفي فيه مطلق الاقتران، بل لا بُدَّ أن يكون اقتراناً مركّزاً مترسّخاً في الذهن؛ إمّا نتيجة لكثرة تكرار الاقتران خارجاً أمام إحساس الذهن، وهذا هو العامل الكمّي لتركيز الاقتران؛ أو نتيجة ملابسات اكتنفت الاقتران ولو دفعةً واحدة، جعلته لا ينمحي عن الذهن، وهذا هو العامل الكيفي». فحقيقة الوضع هي أنّ الواضع يمارس عمليّة إقرانٍ بين اللّفظ والمعنى، إقرانٍ أكيدٍ ناشئٍ من التكرار أو نتيجة عاملٍ كيفيّ معين، ومن ذلك تنشأ العلاقة الوضعيّة بين اللّفظ والمعنى. «وهكذا تولّدَتْ ظاهرة اللّغة في حياة الإنسان، وبدأت تتكامل من صيغٍ بدائيّة محدودة إلى صيغٍ متكاملة، أكثر شمولاً واستيعاباً للألفاظ والمعاني»([14]). وتتميَّز نظريّة القرن الأكيد بعدّة أمور، ومنها:

أوّلاً:إنّ انتقال الذهن عند سماع اللّفظ إلى المعنى هو أمرٌ طبيعيّ تكوينيّ؛ نتيجة السّببيّة والاستتباع بينهما، الناشئتان من عمليّة إقران اللّفظ بالمعنى.

ثانياً: الدّلالة المتحقِّقة بالوضع هي دلالةٌ تصوُّريّة دائماً، والدّلالة التّصديقيّة الكاشفة عن إرادة تفهيم المعنى متوقّفةٌ على ملاكاتٍ أخرى، كما يتّضح ذلك فيما بعد.

  ثالثاً: «تتوقَّف فعليّة الدّلالة الوضعيّة على العلم بالوضع؛ لأنّه إنّما تتحقّق الدّلالة بالإشراط والاقتران، فلا بُدّ أن يعيش الشخص ذهنيّاً حالة الإشراط والاقتران بين اللّفظ والمعنى، لينتقل إلى المعنى عند سماع اللّفظ. وهذا يكون على أساس العلم بالوضع غالباً؛ وقد يحصل على أساسٍ تلقينيّ، كأنْ تقرن أمام طفلٍ مثلاً بين اللّفظ والمعنى على نحوٍ خاصّ، فتحصل العُلْقة في ذهنه عن طريق هذا التلقين، فتؤثِّر هذه العُلْقة أثرها، وإنْ لم يكن الطفل عالماً بنفس هذه العُلْقة»([15]) .

2ـ أقسام الوضع

ينقسم الوضع بحَسَب رأي الأصوليّين إلى قسمين: وهما:

الوضع التَّعييني: وهو يحصل بجعل الواضع للعلاقه الوضعيّة بين اللّفظ والمعنى بجملةٍ إنشائيّة، مثل: «وضعت هذا اللّفظ لهذا المعنى»، أو ما يشابهها، مثل: سمّيتُ مولودي الجديد عليّاً.

الوضع التَّعيُّني: وهو الوضع الناشئ من كثرة استعمال الواضع للفظٍ معين في معنىً معين.

وتصوير الوضع التّعيُّني وتقريبه على مسلك التّعهُّد هو أن كثرة استعمال الواضع للفظٍ معينٍ في معنىً معين تكشف عن التزامه بتفهيم ذلك المعنى بذلك اللّفظ.

وتصوير الوضع التعيُّني على مسلك القرن الأكيد أن الوضع كما يحصل بعملٍ كيفيّ، كإنشاء الوضع وجعله بجملةٍ إنشائيّة، مثل: «وضعتُ وسمَّيتُ»، كذلك يحصل بعملٍ كمّي، وهو تكرار قَرْن اللّفظ بالمعنى باستعمالاتٍ متعدّدة، ممّا يؤدّي إلى ترسُّخ العلاقة بينهما في الذّهن، وكلما ازدادت كثرة الاستعمال ازداد الربط والقرن بينهما.

ويبقى نقطةٌ لا بُدَّ من الإشارة إليها، وهي: هل يتحقَّق الوضع بالاستعمال؟

فيُراد بالاستعمال إنشاء الوضع وإيجاده، بأن يستعمل اللّفظ في معنىً لم يكن موضوعاً له قَبْلاً، ولا مستعملاً فيه قَبْلاً بعلاقة المجاز، بقصد تعيين اللّفظ له، ومن مرّةٍ واحدة. فإذا قلنا بأن الوضع هو التّعهُّد بإبراز المعنى الذي تعلّق قصد المتكلّم بتفهيمه بلفظٍ مخصوص فمن الواضح أنّ التّعهُّد المذكور يكون مقدّماً على الاستعمال، لأنه أمرٌ نفسانيّ، من دون فرقٍ أن يكون إبراز هذا التّعهُّد بمثل كلمة «وضعتُ» أو نحوها، الدّالة على التّعهُّد المذكور بالمطابقة، أو يكون المبرز لهذا التّعهُّد نفس الاستعمال الدالّ على ذلك بالالتزام، ولكنْ بمعونة القرينة، فيمكن مع نصب القرينة الوضع بنفس الاستعمال. ومثال ذلك: إذا حمل الأب مولوده الجديد، وذكر اسماً معيّناً، فمن الواضح أنه يضعه له.

وإذا قلنا بأنّ الوضع عمليّةٌ اعتباريّة إنشائيّة، تتولّد على أساس العلاقة اللّغويّة، فمن الواضح أن يكون هذا الاعتبار بين لفظٍ خاصّ ومعنىً خاصّ متقدّماً على الاستعمال؛ لأنّه نفسانيّ أيضاً، وإنْ كان المبرز لهذا الاعتبار نفس الاستعمال مع نصب القرينة على ذلك، كما في المثال السابق. ففي الحالتين يكون الاستعمال متأخِّراً عن الوضع؛ لأن الوضع أمرٌ نفسانيّ، وهو سابق على الاستعمال دائماً. وعليه يمكن على هذين المسلكين الوضع بالاستعمال مع نصب القرينة. وإما إذا قلنا بأنّ الوضع هو عبارةٌ عن تحقيق قَرْنٍ أكيدٍ بين اللّفظ والمعنى في الخارج، بعملٍ كمّيّ من خلال تكرار الاستعمال، أو كيفيّ من خلال ظروف وملابسات اكتنفَتْ الاقتران، فيكون هذا الاستعمال في معنىً لم يُعهد له بنفسه مصداقاً للقرن الخارجي بينهما، فيمكن أن يحصل الوضع بذلك الاستعمال، ومن مرّةٍ واحدة، إذا كان الاستعمال بملابساته كافياً، كما في وضع الاسم للمولود الجديد.

3ـ حقيقة الواضع

وأما مَنْ هو الواضع الأوّل صانع اللّغة؟ فقد اختلفت كلمات الأعلام في تحديد حقيقة الواضع. ومع تسليمنا سَلَفاً بأننا نجهل تاريخ اللغات ووضعها، وعدم وصول العلماء في الفلسفة واللّغة والأصول حتّى الآن إلى أدلّةٍ قاطعة وقناعاتٍ كافية في هذا المجال، وأنّ هذا البحث لا يقدِّم ولا يؤخِّر في ما نعيشه في حالات اللّغة ودلالالتها، وعدم مدخليّة ذلك في البحث الأصوليّ، على الصعيدين العلميّ والعمليّ، فقد جَرَت محاولاتٌ لتحديد الواضع الأوّل عبر أقوالٍ، نستعرض ملخّصاً لها، وهي:

القول الأوّل: إن «الوضع» هو من قِبَل الله تعالى. وقد حاول أصحاب هذا الرأي الاستدلال على رأيهم بجملة أمورٍ، ومنها:

1ـ لو كان هناك واضعٌ بشريّ محدَّد قد أبدع النظام اللّغويّ لنُقل ذلك في التاريخ، ولخُلِّد ذكره بين الشعوب.

2ـ ما نشاهده من استيعاب النظام اللّغويّ لدقائق فنِّية، تفوق عادةً طاقة جماعة من البشر، فضلاً عن شخص واحد.

3ـ الآيات القرآنيّة التي تتحدَّث عن خلق آدم(ع)، وأنّه كان على معرفةٍ واطّلاعٍ على لغةٍ مكَّنته من الحوار والتفاهم مع حوّاء قبل أن يهبطا إلى الدنيا، وما جرى من حوارٍ بينه وبين إبليس أيضاً.

القول الثّاني: هو القول ببشريّة الوضع. وخلاصته: إنّ الإنسان بذكائه الذي ميَّزه به الله عن غيره من المخلوقات، ونتيجةً لإحساسه بالحاجه إلى التفاهم مع الآخرين من بني جنسه، اتّجه إلى استخدام الأساليب البدائيّة للتواصل مع غيره، فاستخدم الإشارات، والتصاوير، وتقليد الأصوات ومحاكاتها؛ للتعبير عمّا يدور في ذهنه، ونقله إلى الآخرين. ثمّ نَمَتْ عنده تلك الأساليب، وتطوَّرت تدريجيّاً، حتّى أصبحت بالشّكل المنسَّق المتكامل الذي هي عليه اليوم. فهي عمليّةٌ قد اشترك في إبداعها أجيالٌ من البشر، وفق حاجة كلِّ جيلٍ، وقتاً بعد وقتٍ، وإنّ كلّ مجموعةٍ من البشر، متقاربة فيما بينها؛ لتجاورها في مواطن العيش، اتَّفقت في ما بينها تدريجيّاً على اختيار ألفاظٍ مخصوصة، ووضعَتْها بإزاء معانٍ مخصوصة، وتطوّر ذلك عندهم حتّى أصبح لديهم بمرور الزمن لغتهم الخاصّة بهم.

القول الثالث: وهو التوفيق بين القولين، بأن الوضع بدأ بإلهامٍ من الله تعالى، وأنّ ظاهرة نشوء اللّغة أوّل ما بدأت في حياة الإنسان كانت بتدخُّلٍ وعنايةٍ من الله تعالى، بأنْ يكون سبحانه قد ألهم آدم، فعلَّمه الأسماء والألفاظ، وكيفيّة استخدامها في مجال نقل أفكاره وخواطره إلى الآخرين، كما هو ظاهر النّصوص الدينيّة التي تتحدَّث عن خلق آدم وتعليمه الأسماء، كما هو ظاهر قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا([16])، وقوله أيضاً:﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ([17]). ثمّ بعد ذلك؛ ونتيجةً لتوسُّع المجتمعات البشريّة، ازدادت الحاجة بين البشر للتفاهم فيما بينهم، ممّا أدّى إلى توسُّع اللّغة وتشعُّبها، بحيث أصبح لكلّ مجتمعٍ لغته الخاصّة به.

4ـ الحقيقة الشرعيّة أو المجاز اللّغويّ

ورد في المصطلحات الشرعيّة الخاصّة بالدِّين الإسلاميّ الحنيف ألفاظٌ خاصّة، كألفاظ «الصلاة»، و«الصوم»، و«الزكاة»، و«الحج». وقد وردَتْ لمعانٍ شرعيّة خاصّة وجديدة لم تكن مألوفةً عند أهل اللّغة، بل كان لها معانٍ لغويّةٌ أخرى، نُقلت منها لتأخذ تلك المعاني الخاصّة. ويتمّ نقل هذه الألفاظ إلى المعاني الجديدة المستَحْدَثة بأحد طريقين، وهما:

1ـ الوضع «التَّعيينيّ» من قِبَل الشارع المقدَّس، بأن يصرِّح بوضع هذه المعاني الجديدة لتلك الألفاظ. وهذه الطريقة لم تُعْهَد ولم تُنْقَل لنا بالصراحة. وعلى فرض ثبوتها تثبت لتلك الألفاظ «حقائق شرعيّة»، وإلّا فيبقى استعمالها من قِبَل الشارع «مجازاً لُغَوياً». فإذا قلنا بثبوت «الحقيقة الشرعيّة» لتلك الألفاظ تظهر الثمرة في كلّ نصٍّ شرعيّ ورد فيه استعمال تلك الألفاظ، فتحمل على هذه المعاني الشرعيّة، بشرط تأخُّر الاستعمال عن الوضع التعيينيّ.  أمّا إذا لم نقُلْ بثبوت «الحقيقة الشرعيّة» فتُحْمَل الألفاظ على المعاني اللّغويّة.

2ـ الوضع «التَّعيُّنيّ» الناشئ من كثرة استعمال الألفاظ في الخطابات الشرعيّة لهذه المعاني الجديدة، وتناقلها ممَّنْ يدين بهذا الدين الحنيف صيَّرها حقيقةً لتلك المعاني الجديدة.

5ـ الدّلالة وحقيقة الاستعمال

نشير بأنّ لكلّ كلامٍ ثلاث دلالات، هي: الدّلالة التصويريّة؛ الدّلالة التصديقيّة الأولى؛ والدّلالة التصديقيّة الثّانية. وقد وردَتْ تسمياتٌ حديثة لأصناف الدلالات، وهي:

1ـ الدّلالة التصويريّة (الدّلالة اللّغويّة) أـ المصورة، ب ـ الممثّلة، ج ـ المستوى التركيبي.

2ـ الدّلالة التصديقيّة الأولى (الدّلالة التفهيميّة): أـ المفسّرة، ب ـ الموضوعة، ج ـ المستوى الدلالي.

3ـ الدّلالة التّصديقيّة الثّانية (الدّلالة الجديّة): أـ الموضوع، ب ـ المأوّلة، ج ـ المستوى التّداولي.

1ـ الدّلالة التّصوّريّة

إن لكلّ كلامٍ يصدر عن متكلِّمٍ صورةً أوّليّة تدلّ على أن اللّفظ موضوعٌ لهذا المعنى. وهذه الصّورة تُسمّى الدّلالة التّصوّريّة. واختصاراً تعرَّف بأنها تصوُّر المعنى عند صدور اللّفظ. لذلك فقد أسماها البعض الدّلالة اللّغويّة؛ لأن مدلولها هو المعنى اللّغويّ للّفظ. وتكون قهريّةً بدلالتها على المعنى؛ لأن ظهور المعنى لا يكون عن إدراك القصد الحقيقيّ، بل لأسبقيّةٍ في ذهن السامع. فلو صدر اللّفظ من غير العاقل، أو من نائمٍ، فإنّ تصوُّراً أوّليّاً قهريّاً سينقدح في ذهن السامع؛ نتيجة علمه بأن هذا اللّفظ موضوعٌ لهذا المعنى. وبهذا تكون الدّلالة التّصوّريّة كاشفةً عن المعنى الحقيقي للوضع، وغير كاشفةٍ عن قصد اللّافظ. فلو تلقى السامع كلمة «عين» فإن الصّورة الأولى المتبادرة إلى ذهنه هي العين الباصرة، دون النظر إلى قصد اللّافظ، هل هو العين الباصرة أم عين الماء أم غير ذلك؟

2ـ الدّلالة التّصديقيّة الأولى

ويُعبَّر عنها بالدّلالة التّفهيميّة أو الاستعماليّة. وهي دلالة اللّفظ بعد إطلاقه من اللّافظ على أنّ له إرادة تفهيم السّامع. وعُبِّر عنها بالتّصديقيّة لأنّها توجب إفهام السامع بإرادة المتكلِّم للمعنى من لفظه، وبعبارةٍ أخرى: هي مجموع الدّلالة التّصوّريّة زائد الإرادة الاستعماليّة.

3ـ الدّلالة التّصديقيّة الثّانية

ويُعبَّر عنها بالدّلالة الجِدِّيّة. وهي ظهور حال المتكلِّم بأنّ ما أراده بكلامه جِدِّيٌّ وواقعيّ. ويكون حصولها عند التطابق بين الإرادة التّفهيميّة الاستعماليّة والإرادة الجِدِّيّة. وتمتاز الدّلالة التّصديقيّة الثّانية عن الدلالتين التّصوّريّة والتفهيميّة بأنّها لا تكون إلّا بجملةٍ تامّة، مشتملةٍ على موضوعٍ وحكم، وهي مستفادة من ملاحظة حال المتكلِّم، الملتفت والقاصد لإخطار المعنى الجِدِّيّ، والمجرَّد من أيّ قرينةٍ منفصلة تشير إلى عدم الجِدِّيّة.

ونخلص إلى أن الدّلالة التّصديقيّة الثّانية مشروطةٌ بأربعة أمور، وهي:

الأوّل: علم السّامع بالوضع.

الثّاني: إحراز أنّ المتكلِّم عاقلٌ وملتفتٌ.

الثالث: أن يكون الكلام جملةً تامّة.

الرابع: أن لا ينصب المتكلِّم قرينةً منفصلة على عدم الإرادة الجِدِّيّة.

فهي عبارةٌ عن مجموع الدّلالة التّصوريّة زائد الإرادة الاستعماليّة، بالإضافة إلى الإرادة الجِدِّيّة. وهذه الدّلالة التّصديقيّة الثّانية هي المهمّة بالنسبة إلى الأصولي، ويدور عليها معرفة مراد الشّارع في الأدلّة الشّرعيّة.

موضوع الدّلالة

إن بحث الدّلالة في علم الأصول موضوعه الوصول إلى الدّليل الشّرعيّ. فإذا ما حصل اليقين أو الاطمئنان بالدّلالة إلى أنّ هذا الحكم هو المدلول تكون الدّلالة حجّةً في إثبات الحكم. ولمّا كان لكلّ كلامٍ عدّة احتمالات للمعنى أسمَيْنا المعنى الأسبق إلى تصوُّر السّامع دلالةً تصوُّريّة، وأسمَيْنا الكشف عن مراد المتكلِّم دلالةً تصديقيّة. وبهذا يتّضح أن الدّلالة التّصوُّريّة غيرُ كاشفةٍ عن الحكم الشرعيّ ـ بما هي الدّلالة ـ، ولا حجِّيّة فيها، إلّا بعد مطابقتها للدّلالة التّصديقيّة. ومن هنا يرفض بعضٌ تسمية التّصوُّر الأوّل دلالةً، ومنهم: الآخوند، حيث يقول في الكفاية: «إنْ قلتَ: على هذا يلزم بأن لا يكون هناك دلالةٌ عند الخطأ، والقطع بما ليس بمرادٍ، أو الاعتقاد بإرادة شيءٍ، ولم يكن له في اللّفظ مرادٌ. قلتُ: نعم، لا يكون حينئذٍ دلالةٌ، بل يكون هناك جهالةٌ وضلالةٌ، يحسبها الجاهل دلالةً»([18]). يرفض الآخوند أن يسمّي التّصوُّر الأوّل للّفظ الخطأ دلالةً، ويسمّيه جهالةً وضلالةً. كيف ذلك وقد بنى الدّلالة التّصديقيّة على مباني الدّلالة الأولى، التي هي قطعاً الدّلالة التّصوُّريّة؟! وكيف رآها الآخوند جهالةً وضلالةً لو لم يُرشده التّصوُّر الأوّل إلى ذلك؟! والظاهر أنّ عدم الحجّة في الدّلالة التّصوُّريّة دفع به إلى إسقاط صفة الدّلالة عنها.

وعليه يكون السؤال: هل من تلازم بين الدّلالة التّصوُّريّة والدّلالة التّصديقيّة؟

ونجيب: إن الدّلالة التصديقيّة لن تتحقَّق بدون التّصوُّر الأوّل الرابط بين اللّفظ والمعنى، فالدّلالة التّصوُّريّة حاصلةٌ عند صدور أيّ لفظٍ ولو على سبيل الخطأ (من الساهي أو النائم)، حيث لا دَوْر للدّلالة التّصديقيّة.

وقد يسأل بعضٌ: كيف نسمّي الصورة السابقة إلى الذهن، والتي لا تطابق الدّلالة التّصديقيّة، دلالةً؟

أقول: هي تصوُّراتٌ مجرّدة لصورةٍ خاطئة، تدلّ على عدم مطابقتها لحقيقة المراد.

الدّلالة والإرادة

لقد جرى الكلام بين أهل الاختصاص في كون الإرادة تابعةً للدّلالة ومقيِّدة بها، وأيّ الدلالات تتبع؟ ولدخول هذا البحث لا بُدَّ من تفصيلٍ؛ وفصل. أما التفصيل فتقسيم الإرادة إلى ثلاثة أقسام، وهي:

1ـ الدافع الأساس المحرّك، والباعث لكلّ حركةٍ، وهو الذي وضعَتْ التسمية بإزائه.

2ـ الحضور الذهني، وتصوُّر معنى الإرادة.

3ـ الوجود الخارجي الشّخصيّ، وهو دافعٌ آليّ قائم بطرفَيْه: المريد؛ والمراد. وهو القسم الذي جعله صاحب الكفاية محلاًّ للإشكال، ومجالاً للقيل والقال. أما الفصل فبين ثلاثة إرادات، وهي:

1ـ إرادة الواضع.

2ـ إرادة اللافظ.

3ـ إرادة المتلقّي.

فإرادة الواضع تابعةٌ للإرادة الجِدِّيّة. وهذا ما أورده السيد الخوئي، حيث ذكر: «وعلى الجملة، قد ذكرنا سابقاً أن اختصاص الدّلالة الوضعيّة بالدّلالة التصديقيّة لازمٌ حتميّ للقول بكون الوضع بمعنى التعهُّد والالتزام»([19]). وبعد هذا ينتقل السيد الخوئي إلى الحديث عن إرادة اللافظ، وإرادة المتلقّي، فيقول: «وأمّا الدّلالة التّصوُّريّة، وهي الانتقال إلى المعنى من سماع اللّفظ، فهي غير مستندةٍ إلى الوضع، بل هي من جهة الأنس الحاصل من كثرة الاستعمال، أو من أمرٍ آخر، ومن ثمّ كانت هذه الدّلالة موجودةً حتّى مع تصريح الواضع باختصاص العُلْقة الوضعيّة بما ذكرناه»([20]). فاللفظ عند إطلاقه غير مقيّد بالإرادة، ولا تترتَّب عليه الآثار إلّا بتحقُّق الإرادة الجِدِّيّة للافظ، وهي الدّلالة التّصديقيّة بين الإرادة التّفهيميّة؛ لأن التّصوُّر وجودٌ تصوُّري للمتصوَّر؛ والتّصديّق وجودٌ تصديقيّ للمعلوم. ومنشأ هذا الخلط بين الإرادات الثلاث هو الاعتقاد بأن إرادة الواضع هي المنطلق لإرادة اللافظ والمتلقّي، فهل وضع الواضع الألفاظ لمعانيها من حيث هي هي، أو من حيث كونها مرادةً للافظها؟ يقول العلّامة الحلّي: «إنّي أوردْتُ هذا الإشكال على المحقِّق الطوسي فأجاب بأن اللّفظ لا يدلّ بذاته على معناه، بل باعتبار الإرادة والقصد. واللفظ يُراد منه المعنى المطابقيّ، ولا يُراد التضمُّني، فهو يدلّ على معنىً واحد لا غير»([21]). ويشرح المحقِّق الطوسي في موضعٍ آخر: «لما كانت دلالة اللّفظ على المعنى بالمطابقة وضعيّةً كانت موقوفةً على إرادة المتلفِّظ ذلك المعنى إرادةً جارية على قانون الوضع؛ إذ الغرض من الوضع تأدية ما في الضمير، وذلك يتوقَّف على إرادة اللافظ. فما لم يُرِدْ المعنى من اللّفظ لم تجِدْ له دلالة عليه»([22]). فظاهر عبارة المحقِّق أن الدّلالة اللّفظيّة تابعةٌ لإرادة المتلفِّظ. وهذا ما صرَّح به الشيخ الرئيس، وبعبارةٍ أشدّ وضوحاً وتوضيحاً: «الدّلالة الوضعيّة تتعلّق بإرادة اللّافظ الجارية على قانون الوضع، حتّى أنه لو أطلق، وأريد منه معنىً، وفُهم منه، لقيل: إنه دالٌّ عليه، وإنْ فُهِم منه غيره فلا يُقال: إنه دالٌّ عليه…،  وإنْ كان ذلك الغير، بحَسَب تلك اللّغة أو غيرها أو بإرادةٍ أخرى، يصلح لأن يدلّ عليه… والمقصود هي الوضعيّة، وهي كون اللّفظ بحيث يُفْهَم منه عند سماعه أو تخيّله، بتوسُّط الوضع، معنىً، وهو مرادُ اللافظ»([23]). فنرى الآخوند، في معرض ردِّه على الشيخ الرئيس والمحقِّق الطوسي في موضوع أن الدّلالة تتبع الإرادة، يقول: «فليس ناظراً إلى كون الألفاظ موضوعةً للمعاني بما هي مرادٌ، كما توهَّمه بعض الأفاضل، بل ناظرٌ إلى أن دلالة الألفاظ على معانيها بالدّلالة التصديقيّة، أي دلالتها على كونها مرادةً للافظها، تتبع إرادتها منها»([24]). ويتّضح الخلط بين إرادة الواضع وإرادة اللافظ.

وملخَّص ما سبق: إنّ الإرادة بقسمَيْها الأوّل والثّاني ـ حَسْبَما أورَدْنا سابقاً ـ تابعةٌ للدّلالة ومقيّدة بها عند كلٍّ من الواضع واللافظ والمتلّقي. وأما القسم الثالث من الإرادة فمتعلّقٌ بالدّلالة الجِدِّيّة عند الواضع فقط؛ أما اللافظ والمتلقّي فإرادة التّصوُّر لديهما متعلّقةٌ بالدّلالة التّصوُّريّة، والإرادة الجِدِّيّة متعلِّقةٌ ومرتهنةٌ بقصد الجِدِّ والتفهيم والتصديق.

6ـ الاشتراك اللّفظيّ

المشترك اللّفظيّ: هو اللّفظ الموضوع لمعنيين أو أكثر. وإنّه كما يقع في الأسماء كذلك يقع في الأفعال، وفي الحروف.

ومثاله في الأسماء: «القُرْء»، قد وُضع للطُّهْر والحَيْض؛ و«الصَّريم»، فإنه قد وُضع لمعنى الليل والصبح؛ و«المولى»، فإنّه قد وُضع للسّيد والعبد؛ و«الجون» وُضع للأبيض والأسود؛ و«القاسط» وُضع للعادل والظالم.

ومثاله في الأفعال: «عسعس» أي أقبل أو أدبر؛ و«بان» أيْ انفصل وظهر وبَعُد؛ و«قضى» بمعنى حَكَمَ وأَمَرَ وحَتَمَ وأَعْلَمَ.

وأما في الحروف فمثاله: «مِنْ»، فإنها تأتي لابتداء الغاية، كقوله تعالى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ…([25])؛ وتأتي للتبعيض، كقوله تعالى:﴿لَنْ تَنَالُواْ البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ([26])؛ وكذلك تأتي لبيان الجنس، كقوله عزَّ وجلَّ: ﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ([27]). وأمّا وضع لفظين أو أكثر لمعنىً واحد فهذا يُسمّى بالتّرادف، وهو خارج عن بحثنا. وقد ادّعى بعضُ أهل اللّغة ضرورة وجود الاشتراك في اللّغة. ودليله أنّ الألفاظ محدودة ومعدودة، بخلاف المعاني غير المحدودة والتي لا حصر لها، فلا يمكن الالتزام بجعل اللّفظ مقابل معنىً واحد فقط؛ لأن ذلك سيؤدّي إلى وجود معانٍ بدون وجود ألفاظٍ للدّلالة عليها. وقد رُدّ هذا القول بأنّ المعاني وإنْ كانت غير محدودةٍ، ولكّن الإنسان يستعمل فيها ما يحتاجه فقط. وإنّ الاشتراك إذا كان قد وقع بسبب زيادة المعاني عن الألفاظ فمن الطبيعيّ أن لا نجد لفظاً مهْمَلاً، مع أنّ الألفاظ  المهملة في اللّغة كثيرةٌ، وهي لا تقلّ عن الألفاظ المشتركة، بل تزيد عليها. وهذا يدلّ على أنّ الاشتراك لم يقع بسبب زيادة المعاني. وادّعى بعضٌ عدم صحّة وجود الاشتراك؛ لأن الحكمة والغرض المطلوب من الأوضاع اللّغويّة إفهام المعنى الموضوع بإزائه اللّفظ بذلك اللّفظ، وهذا يقتضي أن يكون ما وضع اللّفظ بإزائه محدّداً ومعيّناً، لا مردَّداً بين معانٍ متعدِّدة، كما في المشترك. ولكنّ هذه الدّعوى غير صحيحة؛ لأنّ صلاحيّة اللّفظ في الدّلالة على معناه، الحاصلة من الوضع، محفوظةٌ في المشترك، وإنْ كان يحتاج في تعيين إرادة أحد المعاني الموضوع بإزائها اللّفظ إلى قرينةٍ معيّنة حاليّة أو مقاليّة. ويعود الاشتراك اللّفظيّ والمترادف من الألفاظ إلى أسباب، ومنها:

تعدُّد الواضعين: بتعدُّد القبائل، حيث كان لكلّ قبيلةٍ ألفاظها الخاصّة، ممّا أدّى عند توحيد اللّغة إلى وجودهما. وممّا يساعد على هذا التّصوُّر عدم تعقُّل وضع اللّفظ المشترك من واضعٍ واحد على معنيين متضادّين، كلفظ «قُرْء» الواقع على الطُّهْر والحَيْض؛ ولفظ «جون» الواقع على الأبيض والأسود؛ ولفظ «قاسط» الواقع على العادل والظالم.

2ـ غفلة الواضع، حيث نسي وضعه الأوّل، وقد اشتهر في قومٍ، فوضعه ثانياً لمعنىً آخر، واشتهر في آخرين، ثمّ تراضى الكلّ على الوضعين.

3ـ تطوُّر اللّغة، حيث كان اللّفظ يدلّ على معنىً واحد، ثمّ استعمل في معانٍ أخرى؛ للحاجة إليها .

استعمال اللّفظ المشترك في أكثر من معنىً

إن استعمال اللّفظ المشترك في أحد معانيه ـ الموضوع لها ـ يحتاج إلى القرينة الصّارفة إليه؛ ومع عدم وجود القرينة يكون اللّفظ مُجْمَلاً، لا دلالة له على أحد المعاني. وهذا ليس محلّ خلافٍ بين علماء الأصول.

إنما وقع الكلام في جواز استعمال اللّفظ المشترك في موردٍ واحد، مع إرادة أكثر من معنىً واحد، بحيث يكون استعمال اللّفظ الواحد بمنزلة الاستعمالين أو الاستعمالات إذا كان المراد أكثر من معنيين، كلفظة « العين».

وقد انقسم علماء الأصول في جواز هذا الاستعمال وعدمه إلى فريقين، وهما:

الأوّل: وهو القائل بجواز الاستعمال؛ للأدلة التالية:

أـ الأخبار الدّالة على أن للقرآن سبعة بطون، أو سبعين بطناً.

ب ـ وقوع استعمال اللّفظ في أكثر من معنىً في الكتاب العزيز. والوقوع خيرُ دليلٍ على الجواز، كقوله تعالى: ﴿ألَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماوَاتِ… ([28]). وهنا السجود يختلف باختلاف القائم بالسجود، فسجود الملائكة غير سجود البشر، وسجودهما غير سجود الشمس والقمر. وكذلك في قوله تعالى: ﴿إنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ…﴾ ([29]). فالصلاة لفظٌ واحد، له معنيان، وهما:

1ـ  الرحمة من الله تعالى.

2ـ  طلب الرحمة من الملائكة.

فاستعمال لفظ «الصلاة» أُريد منه كلا المعنيين، في موردٍ واحد.

الثّاني: هو القائل بعدم الجواز. ودليله أن استعمال اللّفظ في المعنى إنّما هو إيجادٌ لذلك المعنى باللّفظ، لا بوجوده الحقيقي، بل بوجوده التنزيليّ؛ لأنّ «وجود اللّفظ هو وجودٌ للمعنى التنزيليّ، وهو واحدٌ يُنسب إلى اللّفظ حقيقةً أوّلاً وبالذات، وإلى المعنى تنزيلاً ثانياً وبالعَرَض، فإذا أوجد المتكلِّم اللّفظ لأجل استعماله في المعنى فكأنّما أوجد المعنى، وألقاه بنفسه إلى المخاطب»([30]). وبناءً عليه لا يمكن استعمال لفظٍ واحد، وفي موردٍ واحد، إلّا في معنىً واحد؛ لأنّ استعماله في أكثر من معنىً يستلزم لحاظ كلٍّ منهما بالأصالة دفعةً واحدة، ومعنى ذلك أن نلحظ المعنيين في وقتٍ واحد، على لفظٍ واحد. وهذا غير معقولٍ؛ لأنّ النفس تأبى اجتماع لحاظَيْن مختلفَيْن لملحوظٍ واحد. كما أورد صاحب الكفاية دليلاً على امتناع استعمال اللّفظ المشترك لأكثر من معنىً، وهو أنّ حقيقة الاستعمال ليس مجرّد جعل اللّفظ علامةً للمعنى، بل الاستعمال جَعْلُ اللّفظ وجهاً للمعنى. فكما أن الوجه فانٍ في المعنى، كذلك اللّفظ يكون فانياً في المعنى. ولذا يسري قُبْح المعنى وحُسْنه إلى اللّفظ. وحينئذٍ فإنّ لحاظ عنواناً ووجهاً للمعنى ينافي لحاظه كذلك لمعنىً آخر»([31]). والصّحيح هو عدم جواز الاستعمال، سواء في المفرد أو المثنى أو الجمع؛ لما ذكرناه؛ «ولأنّ المشترك يوضع لمعانيه بوضعٍ واحد، بل وُضع لكلّ واحدٍ من معانيه بوضعٍ خاصّ، فإرادة الجميع في نصٍّ واحد مخالفةٌ للوضع العربيّ في اللّغة. ومخالفة الوضع اللّغويّ لا تجوز؛ لما يلزم من الجمع بين المتنافيَيْن؛ إذ كلُّ واحدٍ المعاني مثلاً يكون مراداً وغير مرادٍ في آنٍ واحد»([32]). وأمّا ما ورد في أدّلة القائلين بالجواز فيمكن حمله على العنوان الجامع للمعاني المشتركة من اللّفظ الواحد. فإنّه قد يُتصوَّر وجود جامع للمشترك اللّفظيّ بين معنيَيْه أو معانيه؛ فكلمة «يسجد»  في آيةٍ ذُكرَتْ في أوّل البحث لها معنيان، وهما:

الأوّل: الخضوع القهريّ لحكم الله تعالى، وهو معنى سجود الأرض والسماء.

الثّاني: وضع الجبهة على الأرض، وهو معنى سجود الإنسان. فالجامع هنا بين المعنيَيْن هو « الخضوع»، وحالة «الخشوع».

7ـ استعمال اللّفظ في المعنى المجازيّ

«الحقيقة» لغةً مشتقّةٌ من الحقّ، الذي هو الثبوت، وهي «ذات الشّيء اللازمة له، من حقّ، أي لزم وثبت. وفي الاصطلاح: اللّفظ المستعمل في وضعه الأوّل في الاصطلاح الذي به التخاطب، وهي: لغويّة؛ وعُرْفيّة؛ وشرعيّة»([33]). وأمّا «المجاز» فهو لغةً مشتقٌّ من الجواز، الذي هو التعدّي والعبور، فإذا قلتَ: جِزْتُ الطريق أي عبرَتُها. فالمجاز تعدّى موضوعه الأصليّ الذي وُضع فيه. وقال ابن الحاجب: «والمجاز الجواز، وهو الانتقال، وموضعه. وفي الاصطلاح: اللّفظ المستعمل في غير وضعه الأوّل»([34]).

وهو يخضع لشروطٍ ثلاثة، وهي:

1ـ الوضع الأوّل: فإنّ لكلّ مجازٍ حقيقةً سابقةً عليه.

2ـ العلاقة التي تربط بين المعنى الحقيقيّ والمعنى المجازيّ.

3ـ عمليّة الجواز: وهي العبور من الحقيقة إلى المجاز.

والأمثلة عليه كلمة «شمس»، الموضوعة للنّجم المضيء. فهذا اللّفظ حقيقةٌ لها؛ لأنّه وضع بإزائها. فإذا نقلنا الشّمس إلى الوجه المليح استعارةً كان ذلك مجازاً. وكذلك إذا نقلنا البحر إلى الرجل الجواد كان ذلك مجازاً، لا حقيقة. فيكون للّفظ بالمعنى المجازيّ علاقة ثانويّة؛ لعلاقته اللّغويّة الأوّليّة بالمعنى الموضوع له (الحقيقة).

والدّلالة المجازيّة: هي دلالة اللّفظ عند استعماله على معنىً لم يكن مدلولاً له بحَسَب القانون اللّغويّ؛ لعلاقةٍ بينه وبين مدلوله اللّغويّ. فالدّلالة المجازيّة ثانويّةٌ ومتفرِّعة عن عدم إرادة المعنى الحقيقيّ الأوّل.  وتفسير الدّلالة المجازيّة على مسلك «التّعهُّد أنّ الواضع كما تعهَّد بذكر لفظٍ خاصّ عند إرادة تفهيم معنىً خاصّ، دون أن يأتي بأيّ قرينةٍ، كذلك تعهَّد بذكر اللّفظ عند إرادة معنىً آخر، ولكنْ مع نصب قرينةٍ تدلّ عليها. فالتّعهُّد كما هو موجودٌ بالقياس إلى تفهيم المعاني الحقيقيّة، كذلك هو موجودٌ بالقياس إلى تفهيم المعنى المجازيّ. فكلُّ متكلِّمٍ متى ما قصد تفهيم معنىً مناسب للمعنى الموضوع له اللّفظ يتكلَّم بذلك اللّفظ مصحوباً بالقرينة، ليكون المجموع مُبْرِزاً لذلك المعنى»([35]).

ولا يحتاج جواز الاستعمال المجازيّ على هذا المسلك إلى ترخيصٍ من الواضع؛ لأنّ كلّ مستعملٍ بناءً على هذا المسلك هو واضعٌ، كما بيَّنّا سابقاً. وأما الدّلالة المجازيّة على مسلك «القرن الأكيد» فتوضيحها وتفسيرها أنّ اللّفظ يكتسب بسبب وضعه للمعنى الحقيقيّ صلاحيّة الدّلالة على كلّ معنىً مقترنٍ بالمعنى الحقيقيّ اقتراناً خاصّاً، غير أنّها صلاحيّةٌ بدرجةٍ أضعف؛ لأنّها تقوم على مجموع اقترانين.

ومع اقتران اللّفظ بالقرينة الصّارفة عن المعنى الحقيقيّ تصبح صلاحيّة اللّفظ للدّلالة على المعنى المجازيّ فعليةً، ويكون اللّفظ دالّاً فعلاً على المعنى المجازيّ. والدّلالة اللّفظيّة التّصوُّريّة على المعنى المجازي كالدّلالة التّصوّريّة على المعنى الحقيقي، كلتاهما تستندان إلى الوضع، ولكنْ على اختلافٍ في الشّدّة والضّعف. وهذه الدّلالة على المعنى المجازيّ من لوازم الوضع الحقيقيّ، وليست بحاجةٍ إلى وضعٍ جديد، إنّما تتوقَّف على استحسان الذّوق. «فكلّما كان المعنى غير الموضوع له اللّفظ مناسباً للمعنى الموضوع له اللّفظ، واستحسنه الطّبع، صحّ استعمال اللّفظ فيه، مع القرينة»([36]).

علامات الحقيقة والمجاز

إنّ استعمال الألفاظ إمّا أن يكون حقيقياً أو مجازياً؛ فالاعتباطيّة لا وجود لها في أيّ لسانٍ. وعليه فإنّ للمتكلِّم في أداء المعنى الذي يريده طريقان: أحدهما: الحقيقة؛ والآخر: هو المجاز. فإذا علمنا بأنّ اللّفظ المعيّن موضوعٌ لمعنىً معيّن فمن الواضح أن استعمال اللّفظ في ذلك المعنى يكون على نحو الحقيقة؛ أمّا إذا استُعمل في غيره فيكون على نحو المجاز. وإذا شكَكْنا في وضع لفظٍ معيّن لمعنىً معيّن فهناك علاماتٌ تدلّنا على الحقيقة، وهي كثيرة، وأهمّها ما يلي:

1ـ التبادر: وهو انسباق المعنى من نفس اللّفظ مجرَّداً عن كلّ قرينةٍ؛ لأنّ هذا الانسباق يحتاج إلى سببٍ، والسبب هو العلاقة الوضعيّة.

التجرُّد من القرينة: واستعمال اللّفظ مجرّداً عن قرائن المجاز. فإذا استُعمل اللّفظ مثلاً من دون قرينة المجاز عليه يكون استعمالاً حقيقيّاً.

نصّ الواضع: كما في وضع الآباء لأسماء الأولاد؛ ووضع البلدّيات أسماء الشوارع والساحات؛ وغيرها.

النقل المتواتر للوضع، كاتّفاق معاجم اللّغة على أنّ هذا اللّفظ موضوعٌ لمعنىً محدّد.

شهادة أهل الخبرة في تشخيص الحقيقة من المجاز، إذا لم يكن هناك معارضٌ.

الاطّراد. والمقصود من الاطّراد «هو صحّة استعمال اللّفظ المشكوك في جميع الحالات، وفي جميع الصّور، وفي جميع المصاديق. فإذا صحّ استعمال اللّفظ في المعنى المشكوك في جميع الحالات صار اللّفظ مطّرداً، نحو: لفظ «الأسد»؛ فإنّه يطّرد استعماله في المشكوك، وهو الحيوان المفترس، في جميع الحالات، ولا يختصّ بمقامٍ دون آخر، ولا بمصداقٍ دون آخر، بل يستعمل في الحيوان المفترس، سواء كان قائماً أو جالساً أوغير ذلك من الحالات. كما أنه يستعمل في جميع أفراد الأسد، بلا فرق بينها»([37]).

7ـ صحّة الحمل وعدم صحّة السلب عنه دليلٌ على الحقيقة. فإذا شككنا في لفظ «الصّعيد» في قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً([38]) هل أنه يطلق على الأرض الصّخريّة؟ فإذا صحّ الحمل، أي جعل «الأرض الصّخريّة» موضوعاً لمحمولٍ هو الصعيد؛ أو لم يصحّ السلب، أي سلب «الصعيد» عن «الأرض الصّخريّة»، كان ذلك علامةً على الحقيقة.

8ـ «قول اللّغويّ» بين الردّ والقبول

من الواضح أنّ رأي أهل الاختصاص في موضوعات اختصاصهم هو محلُّ تقديرٍ واحترامٍ. وحيث إنّ علماء الأصول قد تقدَّموا في البحث اللّغويّ كثيراً على أهل الاختصاص، وكانوا أكثر دقّةً من أهل اللّغة، فقد وقع الكلام في قيمة رأي اللّغويّ، وتأثيره على تأسيس القواعد والأصول التي وصل إليها بحث علماء أصول الفقه.

والصّحيح أنّ علماء الأصول لا يعتمدون على آراء أهل اللّغة في البناء لقواعدهم الأصوليّة؛ حيث نجدهم يأخذون بالفهم العُرْفيّ الذي تبانى عليه الناس. وهذا الأخذ بالظاهر العُرْفيّ هو انتصارٌ للفهم الاجتماعيّ للغة. وإذا أرَدْنا أن ندرس «قول اللّغويّ»، من حيث الأخذ به والاعتماد عليه أو ردّه، فهو لا يخلو من أحد حالاتٍ ثلاث، وهي:

1ـ أن يفيد العلم. وهذا إذا استند قوله إلى استقراءٍ تامّ لوضع اللّفظ للمعنى. وهذا إمّا غير ثابت؛ أو نادر الوقوع .

2ـ أنْ يكون «قول اللّغويّ» شهادةً يركن إليها الأصوليّ، ولكنّها لا تكفي ليُبْنى من خلالها حكمٌ شرعيٌّ يُنْسَب إلى الباري عزَّ وجلَّ. نعم، إذا ضُمّ إليه شهادةٌ أخرى، ولم تُعارَض ببيِّنةٍ أخرى، فإنّنا قد نعتمد على هذا القول مع نُدْرته؛ لكثرة الاختلاف بين أهل اللّغة، وتشعُّب آرائهم في المسألة الواحدة.

3ـ أن يكون قول اللّغويّ مفيداً للاطمئنان، كما لو اتّفق أكثر من لغويٍّ على رأيٍ واحد. لذا نرى أن الباحثين في علوم التفسير والحديث يرجعون إلى القواميس اللّغويّة، كما في تفسير الكتاب العزيز،والسُّنّة الشّريفة.

قائمة المصادر والمراجع

* القرآن الكريم.

1ـ ابن أبي الجمهور (محمد بن عليّ)، عوالي اللآلي العزيزية، إيران، طبعة سيّد الشهداء، ط1، (1403 هـ ـ 1983م).

2ـ ابن الحاجب (جمال الدين)، منتهى الوصول والأمل، مصر، مطبعة السعادة، ط1، (1326هـ).

3ـ ابن سينا، شرح الإشارات في الطبيعيّات.

4ـ الآخوند (محمد كاظم)، كفاية الأصول، إيران، تحقيق: مؤسّسة آل البيت (ع) لإحياء التراث، ط1، (1409هـ).

5ـ البحراني (إبراهيم إسماعيل)، المفيد في شرح أصول الفقه، بيروت، ط1، (1997م).

6ـ الخنّ (مصطفى سعيد)، أثر الاختلافات في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء، بيروت، مؤسّسة الرسالة، 1972م.

7ـ الشيرازي (صدر المتألِّهين)، شرح حكمة الإشراق، باب الدلالات الثلاث.

8ـ الطوسي (نصير الدين)، الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، إيران، مطبعة الإمام أمير المؤمنين(ع)، (1363هـ).

9ـ الفياض (محمد إسحاق)، محاضرات في أصول الفقه، قم، دار الهادي، ط3، (1410هـ).

10ـ المظفَّر (محمد  رضا)، أصول الفقه، بيروت، دار التعارف، ط4، (1983م).

11ـ الهاشمي (محمود)، بحوث في علم الأصول (مباحث الدليل اللّفظي)، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، (1977م).

 

 (1) أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، قسم اللغة العربية.

 ([2]) سورة المائدة، الآية: 38.

 ([3]) سورة المائدة، الآية: 6.

([4]) الهاشمي، مباحث الدليل اللّفظي، ص: 1/72.

([5]) الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه، ص: 1/32.

([6]) الهاشمي، مباحث الدليل اللّفظي، ص: 1/73.

([7]) الهاشمي، مباحث الدليل اللّفظي، ص: 1/74.

([8]) الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه، ص: 1/39، بتصرُّفٍ.

([9]) الهاشمي، مباحث الدليل اللّفظي، ص: 1/76.

([10]) ابن ابي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي، ص 1/214.

([11]) الهاشمي، مباحث الدليل اللّفظي، ص: 1/77.

([12]) الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه، ص: 1/45.

([13]) الفيّاض، المصدر السابق، ص: 1/47 ـ 48.

([14]) الهاشمي، مباحث الدليل اللّفظي، ص: 1/81 .

([15]) الهاشمي، المصدر السابق، ص: 1/82.

([16]) سورة البقرة، الآية: 31.

([17]) سورة البقرة، الآية: 31.

([18]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، ص: 18.

 ([19]) الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه، ص 1/118.

 ([20]) الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه، ص 1/118.

 ([21]) الطوسي (نصير الدين)، الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد، إيران، مطبعة الإمام أمير المؤمنين(ع)، (1363هـ)، ص: 8 .

([22]) شرح الإشارات في الطبيعيات، ص:  1/32.

([23]) الشيرازي (صدر المتألهين)، شرح حكمة الإشراق، باب الدلالات الثلاث، ص:  36.

([24]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، ص: 18.

([25]) سورة الإسراء، الآية: 1.

([26]) سورة آل عمران، الآية: 92.

([27]) سورة الحجّ، الآية: 30.

([28]) سورة النحل، الآية: 49.

([29]) سورة الأحزاب، الآية: 56.

([30]) المظفَّر (محمد  رضا)، أصول الفقه، ص: 1/29.

([31]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، ص: 1/36.

 ([32]) الخنّ (مصطفى)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ص: 230 .

 ([33]) ابن الحاجب، منتهى الوصول والأمل، ص: 14.

 ([34]) ابن الحاجب، المصدر السابق، ص: 14.

 ([35]) الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه،  ص: 1/99، بتصرُّفٍ.

 ([36]) البحراني (إبراهيم إسماعيل الشهراني)، المفيد في شرح أصول الفقه، بيروت، ط1، 1997، ص: 1/50.

 ([37]) البحراني، المفيد في شرح أصول الفقه، ص: 1/62.

 ([38]) سورة النساء، الآية: 43.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website