المرأة والتّأويلات االحداثيّة للقرآن
دراسة اجتمـاعية
نضال عيسى كريف([1])
الملخص
تبقى التّشريعات الفقهية الخاصة بالمرأة اليوم محل اختلاف بين من يدعو إلى الحفاظ عليها من دون المساس بها وبين المفكرين المجددين الإسلاميين الذين قدّموا تأويلًا حداثيًا يأخذ بالحسبان حركة التّغيّر والتّطوّر الاجتماعي والثّقافيّ المستمر عبر إعادة قراءة التّراث في ضوء التّجدد الحضاريّ الحاصل. إنّ عملية إعادة قراءة النّص الدّينيّ والتي نعبّر عنها في بحثنا هذا بالتّأويل الحداثيّ، تبدأ من حيث ما انتهى التفسير التّقليديّ، فالتّأويل بأبسط أشكاله وصوره محاولة لإعادة تشكيل البنية النّصيّة والسياقية للنص بما يتوافق مع المحيط الاجتماعي والثقافي وهنا يمتد مجال التّأويل ليشمل ظاهر النّص وباطنه وغايته ومقصده. ولعل من أهم معطيات واقع الحداثة هو اتساع نشاط المرأة السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ودخولها الجاد والفعلي في كافة مجالات العمليات والأنشطة الاجتماعية وهذا ما خلق فجوة ثقافية وعملية بين التفسير الفقهي وقيم الحداثة التي تنظر للبشر كنوع اجتماعي واحد دون تمييز ضمن مبادئ حقوق الإنسان. إن تبنينا للتأويل االحداثيّ يرتكز على فكرة أساسية هي أنّ الشّريعة والنّص الدّينيّ لا يمكن اختزاله بأحكام الفقهاء خاصةً تلك التي تدّني من مكانة المرأة من قبيل الأفضليّة والقوامة وتعدد الزّوجات خاصةً أن مقاصد الشّريعة الإسلامية بشكل عام هي المساواة التاّمّة (خلقكم الله من نفس واحدة).
الكلمات المفتاحية: (التّأويل، الحداثة، الأبوانيّة، حقوق المرأة)
Abstract
The jurisprudential legislation pertaining to women today remains the subject of a difference between those who call for preserving it without prejudice to it and the Islamic innovators who have provided a modernist interpretation that takes as a movement of continuous social and cultural change and development by re-reading the heritage in light of the ongoing civilization. The process of re-reading the religious text, which we express in this research with modernist interpretation, begins with what the traditional interpretation has ended, so the interpretation in its simplest forms and images is an attempt to reshape the textual and contextual structure of the text in line with the social and cultural environment. Perhaps one of the most important data of the reality of modernity is the expansion of women’s political, social, economic and cultural activity and their serious and actual entry into all areas of social processes and activities.
Our adoption of modernist interpretation is based on a basic idea that Sharia and religious text cannot be reduced to the rulings of the jurists, especially those that lower the status of women such as preference, guardianship and polygamy, especially since the objectives of Islamic law in general are complete equality (God created you from one soul).
Key words: (interpretation, modernity, patriarchy, women’s rights)
مدخل عام
يشكو الكثير من المسلمين اليوم من أنّ التّفاسير التّقليديّة التي أصبحت موسوعات فقهية بسبب توسعها الشّديد في عرض قضايا الفقه واللغة والتشريع على حساب مقاصد تفسير القرآن نفسه، لم تعد تصلح لتكون النّموذج الامثل الذي تجري على منواله كتب التفسير الحديثة التي تهتم بمسائل مثل (حقوق الانسان، العدالة الاجتماعية، الحرية) وبذلك تكون الحاجة ملحة إلى إعادة هيكلة المجال الدّينيّ هيكلة تناسب مستويات التّطور الاجتماعيّ والمعرفيّ وتناسب مكانة الدّين في المجتمع الإسلامي، من هنا فإنّ مدار بحثنا قد ارتكز على التّمييز بين اتجاهين مثّل الأول منها الرؤية الكلاسيكية للدّين والتي يمثلها رجال الدين التّقليديّن بمعارفهم وأدواتهم التّقليديّة في حين مثل الاتجاه الثاني الرؤية الحداثويّة للدّين/القرآن تحديداً والتي تمتلك مناهج حديثة في تفسير النّص والخطاب الدّينيّ فضلاً عن امتلاكها لرؤية واعية لحركة التّقدم الاجتماعيّ والثّقافيّ والتقانيّ الذي يعيشه المجتمع والذي انعكس على وضع المرأة ومكانتها، وأصبح لزوماً أن تشغل المرأة بذلك حيزاً واسعاً ورحباً يتنافى تماماً مع التّأويل الكلاسيكي الذي حدّ من مكانة المرأة وفاعليتها تكويناً ووجوداً.
بهذا يتحدد هدف البحث من خلال عرضه المغاير والمختلف لتوجهين اثنين يهيمنان على الواقع الاجتماعيّ الإسلامي حالياً وهما:
– الخطاب والتفسير التّقليديّ الذي لا يرى من قيمة للتّجربة الإسلامية إلا عبر تبني ما قرره السلف مع إقصاء لكلّ المظاهر االحداثيّة في تأويل النّص الدّينيّ وتفسيره.
– الخطاب االحداثيّ الرّافض لكلّ بعد ديني في التّجربة الحداثيّة على أساس أنّه عاجز عن تقديم أي إضافة في السّياق العربيّ الحديث.
أما أهمّيّة بحثنا فتكمن في الحاجة المعرفيّة الملحة الى فهم جديد للإسلام يناسب تطور الفكر الإنساني ويناسب عملية التّغيير الاجتماعي ويراعي متطلبات هذا التغيير، والتعرف إلى حضور الحداثة في الرؤى والطروحات الحديثة للنص الدّينيّ. إن رؤيتنا للحداثة تتلازم وترتبط بتجديد الخطاب والفكر الدّينيّ الذي ظل رهين (النّص وتاريخيته) لذا فالتّأويل الحداثويّ يستلزم خطاباً دينياً يبدأ من إعادة قراءة النّص وفق أرضية معرفية تراكميّة عبر القرون والسنين وتأخذ بالحسبان التّقدّم العلميّ والتّقنيّ في تفسير الأمور وينتهي بإعادة قراءة التّراث في ضوء تلك الأرضية المعرفيّة وهذا هو غاية ومقصد التّأويل الحداثويّ الذي تبناه البحث. وعليه فلابد لنا من تقديم تعريف لمفهوم الحداثة بغية مقاربة مضمونها مع ما تمّ تبنيه من الشّأن الحداثويّ، ذلك أن الحداثة تُعرف بصيغ مختلفة، فمن قائل إن الحداثة هي نهوض بأسباب العقل، ومن قائل إنّها ممارسة السيادات الثلاث عن طريق العلم والتّقنيّة: السّيادة على الطبيعة والسّيادة على المجتمع والسّيادة على الذّات. بل نجد منهم من يقصرها على صفة واحدة فيقول إنها قطع الصّلة بالتّراث أو إنها طلب التّجديد أو إنها محو القدسيّة عن العالم أو إنّها العقلنة أو إنها الديمقراطية أو إنها حقوق الإنسان أو قطع الصّلة بالدّين أو إنها العلمانية. (عبد الرحمن، 2013، ص23)
وتبعاً لتعدد تعاريف الحداثة اتجهت معالجتنا لهذا المفهوم من مجال الأخذ بأسباب العقل والتقدم الذي أحرزته علوم التّأويل والتفسير من دون قطع الصلة بالتراث الإسلامي الذي نعدّه المرتكز الإسلامي الثابت والذي أضحى بحاجة إلى تجديد أدواته من دون المساس بجوهر التراث وما تضمنه من قيم أخلاقية وإنسانية عظيمة، وهنا ينساق معنى الحداثة ليشير إلى ما عبر عنه الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت بأنها “لا تعني أكثر من تغيير في طريقة التّفكير”. (المسكيني، 2018، ص96)
إلا أنّه يجب أن لا يفوتنا أن هناك من ينكر المزاوجة بين الإسلام والحداثة بحجة أن الحداثة ترتبط بالفلسفات الغربيّة ذات التّوجه العلمانيّ والليبراليّ وما تضمنته من جوانب سلبية، حسب رؤيتهم. وبرؤية متفحصة نجد أن هذه مغالطة علمية؛ فالإسلام بجوهره دعوة للحرية والعدالة والارتقاء والأخذ بالأسباب العقلانية، وبذلك فإن هذا الاعتقاد يبقى مجرد وهم لأن الإسلام لا يرفض أبداً الإفادة من منجزات الحداثة في جوانبها التّقنيّة والإداريّة والعلميّة والاختلاف بينها هو اختلاف في الأسس والمنطلقات والمناهج. (شعيب، 2013، ص159)
ومن هذا السياق اشترط المفكر طه عبد الرّحمن لتّطبيق الإسلام لرّوح الحداثة اجتناب آفات التّطبيق الغربيّ والذي فقد الغرب جراءها الكثير من القِيَم الإنسانية لذلك كانت الشروط التي يُفترض أن الواقع الحداثويّ يحققها إسلامياً تقوم على ثلاثة مبادئ: مبدأ الرشد، ومبدأ النقد، ومبدأ الشمول. (عبد الرحمن، 2013، ص24)
وبشكل عام فإنّ قراءتنا االحداثيّة للنصوص الإسلامية لم تحاول قطع الصّلة بالتراث بقدر ما تحاول قطع الصلة بجزئه الذي فقد مقصده وراهنيته وذلك عبر الركون إلى المحاولات المتراكمة لمفكرين ومجددين إسلاميين أعادوا قراءة النّص الدّينيّ قراءة جديدة من خلال تجاوز الزّمان والمكان وبما يتناسب مع معطيات الواقع الاجتماعي المتغير. ومن هذه القراءات ما قدمه المفكر السّودانيّ محمود محمد طه الذي قدم اجتهادات حداثية في العديد من القضايا الدّينيّة وقضية المرأة كذلك. وقد رأى هذا المفكر أن حكمة التشريع الإسلامي تقتضي التدرج؛ فالمجتمعات لا تقفز عبر الفضاء وإنما تتطور وئيداً وعلى مكث فوجب على التشريع أن يأخذ في اعتباره طاقة المجتمع على التطور وحاجته الراهنة فيجدد قديمه ويرسم خط تطوره ويحفزه على السير في المراقي. (طه، 2012، ص373)
وفي السياق نفسه نجد المفكر نصر حامد أبو زيد إذ إنّ طروحاته االحداثيّة تمثلت بما أسماه بـ”القراءة العلميّة للنّص” والتي يجب أن تأخذ بالحسبان العلوم اللسانيّة وعلم الإشارة والسّيمولوجيّة والتّاريخ وعلم الاجتماع. وانصبت فكرته الأساسية على ضرورة بث الوعيّ العلميّ في قراءة التّراث، وذهب أبو زيد إلى أنّ النّص الدّينيّ المقدس ليس نصاً أزلياً فوق التّاريخ لأنّ من شأن ذلك أن يفصله عن سياق نزوله والأحداث المؤسسة له وهو ما أطلق عليه بـ”تاريخيّة النّص” كما حاول أن يقارب النّص الدّينيّ مقاربة علمية بعيداً عن المقاربات الآيديولوجيّة التي أفرغت النّص من مضمونه وجعلته نصًا فقهيًا سياسيًا. (العارف، 2016، ص233)
وعلى الصعيد نفسه ذهب المفكر محمد شحرور وذلك في مؤلفه الشهير “الكتاب والقرآن قراءة معاصرة” وتشير كلمة المعاصرة برأيه إلى الأخذ بالحسبان الأرض المعرفيّة التي نقف عليها لفهم النّص القرآني فإذا كان النّص ثابتاً من وحي الله لنبيه (ص) فإنّ فهم النّص يتغير مع الوقت بسبب التّراكم المعرفيّ الذي يحصل مع التّطورات العلميّة والفكريّة. (الحافظ، 2012، ص37)
وعلى الخطى نفسها قدّم المفكر فضل الرّحمن الذي دعا إلى إعادة قراءة النّص وفقاً لثلاث قواعد هي: المعرفة الدقيقة للظروف الموضوعيّة التي أحاطت بالنّص وقت نزوله أي معرفة التّاريخ والجغرافيا والمجتمع والثقافة السائدة آنذاك ومعرفة المبدأ الأخلاقيّ الذي يحيط بالنّص، أما القاعدة الثالثة فهي العودة إلى الواقع الحالي لمعرفة كيف يمكن تطبيق ذلك المبدأ الأخلاقي أي التركيز على البعد الأخلاقي والقيمي في قراءة وفهم النّص. (الحافظ، 2012، ص38)ّ
إن هذه القراءات المعاصرة تضعنا أمام حقيقة مؤداها بأن مجمل المحاولات االحداثيّة لقراءة النّص كانت نابعة من الداخل الإسلامي وأنها كانت ترمي إلى ما يمكن أن نطلق عليه “مقاصد النّص الدّينيّ” لمعرفة الغاية التي يبتغي النّص تمريرها للمجتمع في مآل الأمور فضلاً عما ارتبط به من مبدأ أخلاقي وإنساني يتناسب مع الوضع المستحدث، وقد تمّ عرض بعض أفكار هؤلاء المفكرين بما يتوافق مع متطلبات التجديد والمعاصرة.
المبحث الأول: المرأة بين سلطّتي التّراث الدّينيّ والأبوانيّة – مدخل اجتماعي
ترتكز الدّراسة الجندرية(*) على استجلاء العلاقة التّفاعليّة بين كل من الرجل والمرأة بوصفهما طرفين في علاقة دائمه وضرورية لا يتأسس اجتماع بشري إلا بها وينبغي أن يكون الجهد منصبًا على تبيين طبيعة الرابطة الجامعة بين الهويتين الذكوريّة والأنثويّة بشكل متلازم فتحليل واقع المرأة مثلاً يتطلب أيضاً تحليل واقع الرّجل بالتّوازي. (المخينيني، 2016، ص136)، وهذا يشير الى أنّ المفهوم الجندر قد نظر الى المرأة بنظرة حداثويّة من حيث العلاقة التّفاعليّة والدّور المتساوي الذي تؤديه بالمجتمع. وعلى صعيد مختلف يقف التّراث الإسلامي من المرأة موقف حازم ذلك أنّ المنظومة الثّقافيّة الذكوريّة قد سعت عبر التّاريخ الى تكريس سلطة الذكر على الأنثى وعدّت الاختلاف الفيزيولوجي الجسدي بينهما مشروعاً للتفاضل وقائداً الى تفوق فئة الرجال على النساء . وهذا ما يجعل أهمّيّة الاختلاف بين الجنسين إشكاليه جندرية مركزية. (المخينيني، 2016، ص137)
إنّ وجه الإشكال يكمن في الاختلاف البيولوجيّ بين الرّجل والمرأة والذي استقر في قاع التّراث التّقليديّ ونتج عنه تسييج تام عن المرأة بتصورات وحدود ثابتة والتي جعلت المرأة كائن من الدّرجة الثانية تبعاً لهذا الاختلاف. إنّ أنصار التّراث التّقليديّ في الإسلام ينطلقون في رؤيتهم نحو أفضلية الرجل وإطلاق حقوقه مقابل تقييد المرأة وحسر وظيفتها داخل الأسرة من قاعدة (النّظام الطّبيعيّ) الذي خلقه الله حسب الاختلاف الفسلجي، إذ بين انصار هذا الاتجاه أنّ حقوق وتكاليف الرجل و المرأة في الأسرة يجب أن تكون متناسبة مع ذلك النّظام الطّبيعيّ. (الشبستري، 2013، ص508)، إنّ هذا النّظام ينسجم بطبيعة الحال مع معطيات الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ للمجتمع الإسلامي سابقًا والذي يقيم التّفاضل على أساس فيزيولوجيّ وطبيعيّ، وبهذا لم يكن له رؤية واسعة عن التّغييرات الاجتماعيّة والسياسيّة الكبيرة التي حدثت في جميع مناحي الحياة، لذا لم يكن لدى القدماء تصور لإمكانيّة خروج المرأة الى فضاء المجتمع واندماجها في جميع الشّؤون الاجتماعيّة. (الشبستري، 2013، ص514). ومن جهة أخرى تنطوي الكثير من التّشريعات الإسلامية ذات التوجه التّقليديّ على تكريس صارم لتبعية المرأة عبر نصوص فقهية تظهر دونيّة المرأة مقابل تفوق الرجل عقلاً وديناً هذا فضلاً عن النّصوص الدّينيّة التي حمّلت المرأة وزر شقاء الإنسانيّة الى يومنا هذا. إذ لا تزال الأسطورة الدّينيّة تلاحق المرأة وتحملها تبعة خروج آدم من الجنة في الثقافات الدّينيّة كافة ونشط الطّابع التّفسيريّ الكلاسيكيّ للنّصوص والروايات الدّينيّة ليلقى اللوم على حواء في إغواء آدم بالشّجرة ومن ثم معاقبة الله تعالى له على ذلك بأخراجهما معاً من الجنة. ولعل من الدّلالات الاجتماعيّة لإخراج آدم من الجنة بتأثير حواء لاتزال تأخذ حيزاً واسعاً في ثقافتنا الشّعبيّة بشكل واضح. فبصرف النّظر عن أنّ القرآن لا يحمّل حواء في منطوقه مسؤولية خروج البشر من الجنة يظل الضمير الإسلامي ينسب للمرأة وحدها بتأثير هذه الرواية مسؤولية تلك الجناية هذا بالإضافة الى أنّ العقاب الدّائم الذي أوقعه الله تعالى بحواء عقاب لا سبيل للفكاك منه خصوصاً ما يتعلق منه بالحكم عليها بنقص العقل والدّين. (أبو زيد، 2007، ص21)
ووفقاً لهذا التّصور فإنّ دائرة المساواة بين الرجل والمرأة تضيق تطبيقياً ونظرياً وفق التّفسير التّقليديّ للقرآن في ظل خطاب تفسيريّ من وجهة نظر ذكوريّة، وبهذا تكون الجندريّة الحديثة نمطاً من أنماط الانفتاح على التّطور القرآني للوجود الأنثوي، بدءاً من لحظات الخلق الأولى وصولاً الى المصير الآخروي المنتظر. (المخينيني، 2016، 139)
وما تجدر الإشارة إليه أنه ومنذ تأسيس الإسلام أجرى النّبيّ (ص) تغييراً واضحاً في ما يتصل بالأحكام الظالمة والتّمييز الكبير الذي كان سائداً في الثقافة الجاهليّة وسنّ أحكاماً تتناسب مع فهم الزّمان فلو تحركنا بهذه القبليّة والمسبقة الذّهنية فهذا يعني أنّ ذلك المقدار من التّغييرات التي أجراها النّبي ليست تغييرات نهائيّة، فتلك التّغييرات كانت بحدود فهم ذلك الزّمان وبحدود الإمكان والقدرة ولكن الخطاب الأصليّ لهذه التّغييرات هو وجوب إزالة كل أشكال الظلم والتميز بالنسبة الى النساء على امتداد التاريخ وهذا هو المضمون الكليّ لحركة النبي (ص). (الشبستري، 2013، ص515)
وفي الوقت الذي يُجمع فيه الباحثون من أنّ بنية العائلة العربيّة عبر التّاريخ هي بنية أبوانيّة بطريكية تسودها الثّقافة الذّكوريّة وهيمنة الذكور في الوقت نفسه الذي تحتل فيه المرأة مركزاً دونياً متراجعاً يؤسس لذلك العرف والتقاليد الموروثة بجعل المرأة كائنًا بغيره لا بذاته. (بركات، 1996، ص186)، لذلك فليس ببعيد أن يكون التفسير التّقليديّ متأثراً ومتماهياً مع هذا النّظام الأبواني البطريكي بشكل من الأشكال. إذ تتمثل الذّهنية الأبويّة أول ما تتمثل في نزعتها السّلطويّة الشّاملة التي ترفض النقد ولا تقبل بالحوار إلا أسلوباً لفرض سيطرتها إنّها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة التي لا تعرف الشّك ولا تقر بإمكانيّة إعادة النّظر، وبذلك يكون التّفاعل والحوار بين الأفراد والجماعات لا يرمي إلى التّوصل إلى تفاهم أو اتفاق بين وجهتي نظر بل إلى إظهار الحقيقة الواحدة وتأكيد انتصارها على كل وجهات النّظر الأخرى بهذا فإنّ الذّهنية الأبويّة علمانيّة كانت أم دينية لا تستطيع تغيير موقفها لأنّها لا تريد أن تعرف إلا حقيقتها ولا تريد إلا فرضها على الآخرين. (شرابي، 2008، ص27)
وبناءً على ما جاء يتسنى لنا القول إنّ كلاً من المدونة الفقهيّة التّقليديّة والعلمانيّة (بتشكيلتها الغربية) قد مارستا الوصاية الأبوانيّة في شأن المرأة تميزت الأولى بتشييّد المركزية الذكوريّة وإقصاء المرأة عن الفضاء الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ، أما الأبوانيّة العلمانية فقد تميزت بطابعها الاغترابيّ عن الهويّة الثقافيةّ العربيّة فضلاً عن أنها اختزلت حقوق المرأة بشعارات واصطلاحات لا تبتعد كثيراً من جعلها ضمن إطار السّلع لتقع في شباك الدّعوة الزائفة للحريّة والمساواة، حتى عند رفع شعار تحرير المرأة فإنّ الدّعاة العلمانيين لم يعرفوا طبيعة العلاقة بين الرّجل والمرأة إلا عبر اللذة والمنفعة، ومن هنا كانت العقبة المركزيّة في وجه التّغيير الديمقراطيّ الصحيح في هذا المجتمع ففي غياب المساواة بين الرّجل والمرأة يغيب مبدأ المساواة في المجتمع ككل. (شرابي، 2008، ص26)
تحت هذه المعطيات ظهرت الإشكاليّة المعمقة عبر تاريخ الفكر الإسلامي إذ ظهر الصّراع بين الرؤية القرآنيّة التي دعت الى إصلاح الممارسات الاجتماعيّة وتغيير الأسس التّنظيمية للمجتمع وفق منظومة من التّطورات والمبادئ والقِيم العلوية فأَداَن القران الكريم الموقف الجاهليّ لقبول المنظومة المعيارية الإسلامية استناداً الى مرجعيّة تراثيّة إبائيّة (صافي، 1999، ص39)، ومن هنا ظهرت معالم المشروع الحداثويّ المستند إلى إعادة العناصر الثقافية الفقهية التّقليديّة وتجديدها ، وجدير بالذكر أنّ توافق العناصر الثقافيّة المختلفة مع أيّ تجديد وتوافقه معها، مسألة تحتاج إلى وقت وتستغرق سنوات أو أجيال وقد أطلق “وليم أوكبرن” على تلك الحقبة التي يستغرقها قبول التّجديد مصطلح “الهوة الثقافيّة Culture lag” وأثناء هذه الحقبة يحاول النّاس من خلال عمليات المفارقة والاختراع والاكتشاف والاقتباس الثقافي أن يعدلوا من الأعراف والأفكار القديمة لتتطابق وتتواءم مع الجديد. (جابر، 1989، ص161)
وربما يمكننا عدّ التّأويل االحداثيّ أحد أدوات المفارقة والإبداع والتّقدّم الّذي أعاد تعريف وقراءة الكثير من القضايا التّقليديّة للمرأة لتتوائم وتتطابق مع مستجدات الحاضر. وبذلك فإنّ إمعان النّظر في قضايا جوهرية كمسألة تعدد الزّوجات وأفضليّة الرّجل وقوامته المطلقة والأرث كل هذه الأمور تستدعي وبشدة إعادة قراءة الشّريعة الإسلامية بمنظار حداثويّ يأخذ بالحسبان مراحل التّقدم الحضاريّ والتّقنيّ وتعقد الحياة الاجتماعيّة في خضم حركة التّغير الاجتماعيّ هائلة السّرعة. فعندما تثار مسائل من قبيل تعدد الزّوجات والقوامة والدّرجة وأهلية المرأة للحكم أو القيادة فإنّها ستصطدم حتماً بنصوص دينيّة يركن إليها دعاة المذهب التّقليديّ بأنّها أمور ثابتة لا مجال لتغييرها أو تأويلها بما يتلائم مع مستجدات العصر ومتطلباته. والغريب أيضاً أنّه عندما تثار مسألة حقوق المرأة ومساواتها بالرّجل يهرع رجال الدّين والمدافعين عن الإسلام والفقهاء السّلفيين إلى النّصوص القرآنية لإثبات أسبقيّة الإسلام في إعطاء المرأة حقوقها قبل أربعة عشر قرناً من الزّمان ولكن الواقع العمليّ يعكس نقيض ذلك خاصة في مجال عمل المرأة وحريتها ومساواتها مثال ذلك ما أفتى به أحد رجال هيئة البحث والإفتاء في إحدى الدّول العربيّة بعنوان “عمل المرأة من أعظم وسائل الزنا” إذ يقول: إن إخراج المرأة من بيتها الذي هو مملكتها ومنطلقها الحيويّ في هذه الحياة، إخراج لها مما تقتضيه فطرتها وطبيعتها التي حباها الله عليها فالدّعوة إلى نزول المرأة إلى الميادين التي تخص الرّجال أمر خطير على المجتمع الإسلامي ومن أعظم آثار الاختلاط الذي يُعتبر من اأعظم وسائل الزنا الذي يفتك بالمجتمع ويهدد قيمة وأخلاقه. (أبو زيد، 2007، 195)
مثل هكذا فتوى ليس من شأنها تحجيم دور ومكانة المرأة بل يتعدى الأمر أيضاً الى احتساب الفضاء الاجتماعي بميادينه حكراً للرجال دون النساء. فضلاً عن ذلك فإنّ هذهِ الفتوى تنضوي تحت الرّعاية والوصاية الأبوانيّة على المرأة في الفكر الإسلامي السّلفي الذي لا يزال ينظر إلى المرأة على أنّها فتنة وغواية ومن صلاحيات الأبوانيّة الدّينيّة تقييد حراكها الاجتماعيّ وتحجيم فضاؤها العام. وتبعاً لهذا الفهم الدّوغمائي فقد نشأ تنظيم المجتمع بأسره على السّماح للرجال في المجتمع بالتّصرف بنصفه الآخر من النّساء وكأنّهن من ممتلكاتهم الأخرى، إنّ المسكنات غير كافية فلا يمكن للمجتمع أن يكون مصلحاً فحسب في حين تكون حرية المرأة وعدالتها الاجتماعيّة على المحكّ. (شرابي، 2008، ص77). ولعل من المفيد أن نذكر هنا أن التقاطع بين التفسير التّقليديّ والحداثويّ في ما يخص قضية المرأة إنّما يعود إلى أمرين:
1-عدم التمييز بين الدّين الإلهي (الكامل) السّماوي المقدس وبين المعرفة الدّينيّة والتي هي من الرأس حتى أخمص القدم أرضيّة وإنسانيّة قاصرة لأنّها بشرية وتحتاج الى تعديل وتكميل مع تقادم الزّمن.
2- فصل الدّين عن تاريخيته وتعميم الكلام على الحقوق التي أعطاها الإسلام للمرأة علماً أنّ المرأة لم تنعم بهذهِ الحقوق إلا في حقبة الرّسالة الأولى والخلافة الرّاشديّة. (عباس، 2003، ص229)
إنّ مسألة التّفاضل بين الرجل والمرأة وفق الفهم التّقليديّ الفقهيّ تصدم بالمفهوم الحداثويّ للمساواة التاّمّة بينهما إذ لا يوجد أفضلية أو درجة أو تمييز بين النّاس وفق لائحة حقوق الإنسان والمجتمع الدّيمقراطي الحديث ولعل هذا هو سبب الأزمة المصاحبة للصّراع بين التّراث والحداثة خاصة في ما يتعلق منه بأمر المرأة وقوامة الرّجل وتابعيتها له ونظام تعدّد الزّوجات فضلاً عن مسألة الميراث والطلاق بما ينسف البناء القائم على المساواة من الأساس. ويرى أحد الباحثين أنّ هذه القضايا المذكورة آنفاً هي امتداد لمعطيات وظروف استبداديّة وتسلطيّة معروفة في التّاريخ وقد ذهب بعض العلماء المحدثين الى الزّعم بأنّ القوامة بالمعطى الحداثويّ هي ترقيق للرّق. (خليل، 1985، ص46)
ولعل الأمر لا يتوقف عند النّصوص القرآنية التي فسرت بمنظار تقليديّ فحسب، بل يمتد ليشمل الكثير من الأحاديث النّبويّة التي تكرس دونيّة المرأة وتخلفها، وأفضليّة الرجل عليها من قبيل ” لا يُفلح قوم ولوّا أمرهم امرأة ” و”أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرّجل، قلنا بلى يارسول الله، قال فذلك من نقصان عقلها”، و”استوصوا بالنّساء خيراً فأنهن خلقن من ضلع أعوج وإنّ أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإنّ ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج”، و”الشؤوم في المرأة والدّار والفرس” (البخاري، كتاب النكاح، ص226) إلى آخرها من الأحاديث في هذا المجال. إنّ وجود هذا الكمّ الكبير من الأحاديث النبويّة الشّريفة التي وردت في أُمات الكتب الفقهية والتي انتجت تفسيرات منحازة دعا إلى اعتقاد البعض أنّ القرآن كان أكثر إنصافاً في شأن النوّع (الجنس) بينما يستمد معظم الأحكام الإسلامية المجحفة بالنّساء مصادره من الحديث. (قرامي، 2012، ص370)
إنّ مقابلة حقوق المرأة في الشريعة الإسلامية وحقوق المرأة في لائحة حقوق الإنسان تظهر لنا تراجعاً كبيراً من قبل الفهم التّقليديّ لتلك الحقوق خاصة مسألة “المساواة” كمطلب في غاية التعقيد خاصةً وأنّ علماء الدّين التّقليديّين لا ينفكون عن ترديد هذه الكلمة لدفع التّهمة عنهم وتأكيداً من قبلهم لهذه المساواة الذكورية المزعومة وقد خاض أنصار الحداثة والإصلاح الدّينيّ والاجتماعي صراعاً منذ القرن التاسع عشر مع مواضيع عدة من قبيل تعدد الزوجات والمساوة في الإرث وغيرها واعتبروا ذلك عنصراً اساسياً في تخلف المجتمع وان الغاؤها يشكل دليلاً على التقدم. (زبيدة، 2007، ص248). وبقي لنا أن نقول إنّه قبالة هذه الطّروحات الفكريّة المتصلة بشأن حرية المرأة وحقوقها ومساواتها بزغت محاولات حداثويّة جادة من قبل مفكرين وعلماء إسلاميين خاضوا خلالها حرب لا هوادة فيها من أجل تأكيد فاعليّة النّص القرآني ومرونته وقابليته لاستيعاب المستجدات والمتطلبات الآنية بما يردم الفجوة المعرفيّة والفكريّة بين الواقع والنّص الدّينيّ وبما يعيد للمرأة ويعطيها مكانتها الإنسانية الجديرة بها في عصر التّقدم والحداثة.
المبحث الثاني: التّأويل الحداثويّ للقرآن- قراءة في حقوق المرأة
بعد التّحولات الاجتماعيّة والثقافيّة التي شهدها العالم الإسلامي بفعل المدّ الحداثويّ الكبير بات لزوماً مراجعة النّصوص الدّينيّة التّقليديّة والتي تصطدم بمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة وبمبادئ حقوق الإنسان تلك النّصوص التي تصدى الى إعادة تأويلها وقراءتها جملة من المفكرين والباحثين الإسلاميين. فقد انطلق هؤلاء من مسلمة أنه لا يوجد تفسير نهائي لكلام الله، لأنّ جميع التّفاسير لا بدّ أن تقع في إطار القضايا وكل قضية تمتلك قيوداً ومفاهيم خاصة بها ومن هذه الجهة فلا توجد قضية تفسيرية تساوي كل الخطاب الإلهي لذا فلا ينبغي التوقف عند موقع تاريخي معين، وبكلمة أدقّ إنّ مواقعنا التّاريخية متحولة ومن خصوصيات الخطاب الإلهي أنّه يقبل عملية التفسير دائماً. (الشبستري، 2013، ص229) وهذا في مجمله يعني أنّ التّأويل الحداثويّ للقرآن قد أخذ وجهتين:
الأولى: هي السّيرورة الاجتماعيّة وما يرافقها من عمليات التغّير الاجتماعيّ الذي ينعكس بالضرورة على تطوير فكر ودور ومكانه المرأة وتناميه.
الثانية: هي عدم التّوقف عند -تاريخانيّة- النّصوص القرآنية وتوسيع أفق معانيها ورؤاها بمعنى أن يجتاز مداها الرّحب عنصرا الزّمان والمكان وعدم سحب واقع الحياة الاجتماعيّة للقرن الأول الهجري على واقعنا المعاصر بكل تجلياته وتناقضاته وتعقيده.
ومن ضمن المشاريع التّجديديّة السّاعية إلى فهم الخطاب الدّينيّ وتشكيله ما قدمته الباحثة آمنة ودود(*) من قراءات تفسيريّة للآي المتصلة بالمرأة ومكانتها بالنّص القرآني سعياً منها إلى التصدي لقراءة ذكورية طغت على فهم المسلم لنّصه الإسلامي عبر العصور وكانت السبب في تحريف المعنى القرآني والتفريط في القصد من الرّسالة الإسلامية المكرسة لمبدأ المساواة بين الجنسين. (المخينيني، 2016، 104). وقد قامت ودود في محاولة حثيثة منها بتأسيس قراءة حداثويّة للنّص القرآني تنأى عن القراءة الذكورية الإقصائيّة تقّر للمرأة المسلمة بأحقيتها في إثبات كينونتها، ببلاغ الرّسالة الذي يتوجه إليها بالخطاب تماماً كما يتوجه إلى الرّجل، وهي بذلك ترفض كل عملية للنّص القرآني تلتزم بالمنهج الكلاسيكيّ الموروث في قراءة النّص الدّينيّ والتي تمثل في تصورها مجموع مقولات ذكورية متكلسة لا تجري إلى غاية أهم من إعلاء القراءة الرّجالة للنّص القرآنيّ. (المخينيني، 2016، ص106)
إنّ الفكرة الرّئيسة التي يمكن اقتباسها من ودود هي توظيفها للهرمنيوطقيا الحديثة في معالجتها للنّصوص الدّينيّة لتقصير المسافة وطويها بين القرن الأول والواقع المعاصر. وتأسيساً على هذ المعنى الذي اقترحته الباحثة فإنّ النّص القرآني لا يكتسب معناه من المرجعيّة التّاريخية الحافة بلحظة تنزيله فحسب إنّما تكتسب هذه المرجعية قيمتها من علاقتها بالسياق الحاضر وهو سياق يحضر مع القارئ ضرورة، وليس بالإمكان تغييب مساهمته في اكتساب النّص القرآني دلالته اليوم”. (المخينيني، 2016، ص111). وفي كتابها الأخير (من داخل جهاد الجندر) طرحت آمنة ودود فكرة تجاوز حرفية القرآن تماماً في بعض الأحيان واعتباره عتبة تعبر بنا إلى مساحات أوسع أو نافذة مفتوحة نطل منها إلى عوالم أخرى (أبو بكر، 2000، ص381) في محاولة منها لتطويع التّأويل وفقاً لمسيرة الزّمن المتسارع.
ومن جهة أخرى نشطت الحركة النّسويّة الإسلامية في طرح أفكار حداثويّة في ما يخص النّص الدّينيّ ووجهت انتقادات إلى رجال الدّين الذين انتجوا خطاباً إسلامياً متشدداً ومنددة بالتّقاليد الأبويّة الجاهليّة المتسببة في تدهور وضع النّساء بل إنّ الحركة طالبت بفتح باب الاجتهاد أمام النّساء العالمات بآليات هذا العلم وشروطه والعمل على إحياء حركة الاجتهاد عموماً وتقديم الطّرح الفقهيّ البديل، وترى إحدى مناصرات الحركة أنّ قضية الاجتهاد تعكس رؤية ثقافية شاملة للحياة وهي قضية حتميّة تفرضها التّحولات النّوعيّة التي طرأت على واقع المرأة فضلاً عن التّغيرات الحاصلة على مستوى الوعي والإدراك. (قرامي، 2012، ص369). لقد ذهب الكثير من الباحثين والمجددين إلى أنّ ولوج بوابة الحداثة لتطوير نظرية إسلامية حول المرأة لن يتسنى تحقيقه إلا بواسطة الاجتهاد الذي ما هو إلا إعادة قراءة لنصوص برؤى وأدوات مختلفة تساير الوضع المستجد. هذا ولقد أفضت هذه الحركة إلى دور المرأة في مجال المعرفة الدّينيّة وإقدامها على تقديم مجموعة من الاجتهادات الخاصة بأحكام النّساء كالدّية والشّهادة والمهر وتقديم قراءات مختلفة لمجموعة مفاهيم “كالقوامة، والطّاعة، والتّفاضل، والنّشوز، والولاية، والتّكلف، والخلافة، والعدل، والضرب، والوقوف عند بعض المفاهيم التّراثية التي تسيء للمرأة كالاحتباس والنّكاح”. (قرامي، 2012، ص369)
وفي السياق نفسه نجد أنّ الكثير من الرؤى التّأويلية الحديثة للنصوص الدّينيّة قد اتخذت مساراً مغايراً ومختلفاً مع ما كان سائداً في ما يتعلق بشؤون المرأة المسلمة، إذ تبنت الرؤية التّأويلية الحداثويّة وفق ما طرحه عبد المجيد الشرفي جملة أمور في هذا الشّأن وهي: (الشرفي، 1989، ص241)
- اختيار شريك حياتها من دون وصاية (الأب، الجد، الأخ) تماماً كالرجل.
- وضع حد لتعدد الزوجات.
- تنظيم الطلاق بنحو يحفظ حقوق المرأة.
- المساواة بين الجنسين بالإرث.
وبذلك فإنّ التّصور الحداثويّ للنّص القرآني يفرز ضمن حيثياته الظروف الاجتماعيّة المتغيرة والمتحولة آخذاً بالحسبان مسألة -ثبات النّص وفهمه المتحول- منطلقاً استدلالياً حداثوياً لدمج المرأة في مشروع حقوق الإنسانوالعدالة الاجتماعية. وهنا لابد من الإشارة إلى رأيّ الدكتور عبد الله النّعيم في مسألة الحقوق هذهِ إذ يرى إنه لم يكن خلال مراحل تكوين الشّريعة أي مفهوم عن حقوق الإنسان العالميّة (كمصطلح) في أيّ مكان فقد كان الرّق نظام مستقر ومشرّع في جميع أنحاء العالم، وأنّ الإسلام (بنصوصه) على الرّغم من عالمية مبادئه إلا أنّه كان محدد بالمكان الجغرافي فضلاً عن الأطر الثقافيّة والاجتماعيّة المميزة له لذا فإنّ قصور الشّريعة عن حقوق الإنسان كان له ما يبرره في السّياق التّاريخي وإنّ الوضع في ظلها كان أفضل من الوضع السّابق ولكن هذهِ المبرزات تختفي في السياق الراهن فالقانون الإسلامي الحديث ليس بوسعه اغفال المفهوم الراّهن لحقوق الإنسان في التطبيق المعاصر للقانون الإسلامي. (النعيم، 2006، ص191)
من جانب آخر فإنّ معالجة بعض النّصوص الدّينيّة المتعلقة بالمرأة والأسرة معالجة تاريخية بحتة قد سببت مشاكل للوعيّ الحديث وقد برزت هذهِ المشاكل بين الادعاء بأعطاء المرأة لحقوقها بالشّريعة وبين القوانين الوضعيّة والمواثيق العالميّة التي ساوت بين الرّجل والمرأة بالإطلاق. وانطلاقاً من هذه المسلمة خاض أنصار الحداثة والإصلاحيون وهم من دعاة القانون الإسلامي الحديث صراعاً في مواضيع (تعدّد الزّوجات وحقّ الزّوجة في الطّلاق من جانب واحد وقوانين الوصاية ومشكلات الإرث) وحسبوا ذلك عنصراً أساسياً في تخلف المجتمع وإن الغاءها دليلٌ على التّقدم. (زبيدة، 2007، ص248). لقد عالج معظم الدّعاة الحداثويّين قضايا المرأة ككائن بذاته لا بغيره من خلال المساواة التاّمّة بين الرّجل والمرأة بالاستناد إلى الخطاب القرآني ﴿ خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ النساء:1. والخطاب الآخر: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ النحل:97. من هنا نظر الإسلام في حقيقته لا في شريعته السّلفيّة إلى المرأة كإنسان وليس كجنس ﴿ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ البقرة:228. وهذا يعني أنّ لهن من الحقوق بقدر ما عليهن من الواجبات سواء بسواء، وقوله المعروف يعني ما تواضع عليه المجتمع في تطوره نحو كمالاته المبتغاة… فإذا بلع تطور المجتمع بالمرأة ان تتولى المناصب الرفيعة بجدارة فأن حقها من الحرية يكون مكافئاً لمقدرتها على أداء الواجب الرّفيع فإذا كانت تؤديه كما يؤديه الرّجل فقد أصبح حقّها في الحرّيّة مكافئاً لحقه وذلك بسبب واحد بسيط هو أنّ واجبها قد كان مكافئاً لواجبه. (طه، 1979، ص11)
لقد مثلت طروحات محمود محمد طه فلسفة حداثوية تزاوج بين النّص القرآني والتّطور الاجتماعي وفق تأويل حداثويّ بامتياز. إذ شدد على مسألتين هما ( إعزاز المرأة، وحكم الوقت). (طه، 1979، ص37)
وهذا الطرح ينسحب على حكم تعدّد الّزوجات وغيره، إذ يرى أنّ المرأة كانت تعيش في مستوى بائس وما كانت تستطع أن تمارس حقها بين عشية وضحاها وكان لابدّ لها من مرحلة انتقال لتتهيء ولتنزل منزل عزتها وكرامتها كاملة، ومن حكم الوقت أنه كان عدد النساء أكثر من عدد الرّجال وذلك لما تأكل الحروب منهم وكذلك سمح بالتّعدّد إلى أربع فقال: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ وقال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ…﴾ فهو ليصل إلى شريعته المتمشية مع حكم الوقت تنزّل عن أصله وتجاوّز عن العدل التّام وسمح ببعض الميل ﴿فلا تميلوا كل الميل﴾ مع أنّه لولا حكم الوقت لم يكن يسمح إلا بالعدل التّام، وهو في أصل الدّين لا يتجاوز عن بعض الميل، وفي أمر المال فإنّه أشرك الأنثى في الميراث ولكنه جعلها على النّصف من الرجل فقال: ﴿للرجل مثل حظ الأثنين﴾، وداخلها في عدالة الشّهادة، ولكنه جعلها إلى النّصف من الرجل فقال: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ﴾ إنّ هذه الشّريعة السّلفيّة عادلة وحكيمة إذ عدّ حكم الوقت، ولكن يجب أن يكون واضحاً فإنّها ليست الكلمة الأخيرة للدين وإنّما هي تنظيم للمرحلة يتهيأ بها وخلال وقتها المجتمع برجاله ونسائه لدخول عهد شريعة الإنسان ويتخلص من عقابيل شريعة الغابة. (طه، 1979، ص38). وفي السّياق نفسه فإنّنا نجد بعض المفسّرين في العصر الحديث ممن رفضوا مسألة تعدد الزّوجات وذلك لأنّه لا يمكن للمرء أن يكون – عادلاً – بين زوجاته وأنّ الشرط المذكور ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾ يجعل مسألة التعدد غير قابلة للتحقق من الناحية العملية. (جانسن، 2017، ص193)
وفي هذا الصدد جاء الموقف الأكثر صلابة من قبل عبد العزيز فهمي الذي وصل إلى نتيجة مفادها أنّ تعدد الزّوجات محرّم بشكل واضح في القرآن والحجة النّصيّة التي اعتمد عليها في الوصول إلى هذه النتيجة هي آية مأخوذة من سورة النّساء نفسها تقول: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ النساء:129. يقول فهمي غذا ربطنا بين هذهِ الآية وبين ما قاله القرآن: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ النساء:3، فأن صورة المسألة تكتمل بشكل واضح ومثير ويبدو عدم جواز التعدد جلياً بسبب عدم إمكانية تحقق شرطه وهو (العدل). (جانسن، 2017، 193). كما أنّ الأحكام الفقهية يجب أن تتغير بما يتناسب وتغير الدّور الجديد للمرأة ومن ذلك مسألة رئاسة الرّجل وقوامته في الأسرة، إذ إن هذه الرئاسة إنّما أُعطيت للرجال في وقت كانت جميع أعباء الأسرة على عاتقه ولكن إذا تقرر أن يتحمل عبء الأسرة كل من الرجل والمرأة بالتساوي فالرجل لا يمكن أن يكون وحدهُ رئيس الأسرة. (الشبستري، 2013، ص514)
وبناء على ما جاء نجد أنّ متطلبات الواقع الاجتماعيّ الحديث تستدعي بالضرورة الركون إلى هذه التّأويلات الحداثويّة لأجل إعطاء معنى متدفق جديد لروح النّص القرآني الكريم الذي أعطى الإنسان من ذكرٍ وأنثى منزلة متساوية من جهة (الإيمان) ومن جهة التّعبد. أما الأمور التّشريعيّة الأخرى فهي مفتوحة الأفق للتأويل المستمر.
الخاتمة
مع حركة التّقدم والتّطور التّكنولوجي والثّقافي الذي شهده العالم العربيّ والإسلامي الذي طال جميع الانظمة الاجتماعيّة وفي خضم عملية الحداثة وما أفرزته من مشاريع تنمويّة شاملة استطاعت المرأة أن تحقق فيها إنجازات على الصعد كافة وأن تقف على مسافة واحدة من الرّجل في ما يخص الواجبات إذ استطاعت أن تتقلد مناصب رئاسية وأن تكون ربان سفينة وطائرة وقاضية في مجتمعات شتى فضلاً عن مسؤوليات أخرى بالمجتمع فكان لزاماً لذلك أن تحظى بحقوق موازية لهذه الانتقالة النوعية في الواجبات وإذا استطاعت المرأة أن تكون شريك الرجل في التنمية الإنسانيّة فيجب أن تحصل على حقوق تتناسب مع هذا الدّور الجديد وهذا ما دعت اليه وأكدته الرؤية الحداثويّة للقرآن وفق رؤى وتصورات الحداثويّين الذين وجدوا أنّ النظرة التّقليديّة الأصولية للمرأة “نص القرآن الكريم” إنّما يؤكد في ذاته ومنبعه قضية المساواة التاّمّة “نفس واحدة” وأنّه يجب التّمييز بين ما (جاء به الإسلام) و(ما جاء من أجله الإسلام) من خلال تأكيد فكرة ومسألة (ثبات النّص) و(تغير الأحوال) والظروف والدّواعي ومن خلال إثبات تاريخيّة النّصوص التي عالجت قضايا خاصة في ظروف خاصة وأطر ثقافية خاصة، والحال يستوعب توسيع الفهم وإعادة القراءة القرآنية لجعل النّص القرآني ملائم لكل زمان ومكان نظرياً وتطبيقياً. وبهذا نستطيع أن نقول إنّ الأطروحات والأفكار الحداثويّة التي تعاملت مع الاجتهادات الفقهيّة بعقلية جديدة قد عملت على تفكيك الموروث الفقهيّ والتّفسيريّ ومن ثم إعادة بناءه وتشكيله وفق البدائل والأسس الجديدة استرشاداً بكل ما هو رحمة وعدل في دين الله وفي شخص الرّسول(ص) وذلك بالاستناد إلى ضرورة التّمييز بين الشّريعة الإسلامية فهي أصل ثابت وتمتلك أحكام شرعية منزلة وقطعية الدّلالة وبين الأحكام الاجتهاديّة/ التّفسير التّقليديّ والمدونة الفقهيّة الاستنباطيّة البشريّة التي يجب أن تأخذ بالحسبان الظروف الاجتماعية المتغيرة.
المصادر
- أبو زيد، نصر حامد، (2007): دوائر الخوف في خطاب المرأة ،المركز الثقافي العربيّ المغرب.
- أبوبكر، أميمة ، (2000): اتجاهات وتيارات في البحث النسوي الإسلامي المعاصر، النسوية العربيّة رؤية نقدية، تجمع الباحثات اللبنانيات، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت.
- بركات، حليم، (1996): المجتمع العربيّ المعاصر بحيث استطلاع اجتماعي ، ط5، بيروت – لبنان.
- جابر، سامية محمد، (1989): علم الاجتماع المعاصر، دار النهضة، بيروت.
- جانسن، يوهانس، (2017): تفسير القرآن في مصر الحديثة، ت: حازم زكريا، مركز مؤمنون بلا حدود للدراسات والابحاث، المغرب.
- الحافظ، زياد، (2012): الخطاب الدّينيّ والتجديد الحضاري في الأمة العربيّة، المستقبل العربيّ، السنة (35) العدد (402)، مركز دراسات الوحدة العربيّة.
- خليل، خليل احمد، (1985): المرأة العربيّة وقضايا التغيير، ط3، دار الطليعة، بيروت.
- زبيدة، سامي، (2007): الشريعة والسلطة في العالم الإسلامي، ط1، دار الكتب الوطنية، ليبيا.
- الشبستري، محمد مجتهد، (2013) نقد القراءة الرسمية للدين، احمد القبانجي، دار الانتشار العربيّ، بيروت لبنان.
- شرابي، هشام ، (2008): النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربيّ، ترجمة محمود شريح، دار نلسن، السويد.
- الشرفي، عبد المجيد، (1989): الاسلام والحداثة، الدار التونسية للنشر، 1989.
- شعيب، قاسم، (2013): فتنة الحداثة صورة الإسلام لدى الوضعيين العرب، ط1، المركز الثقافي العربيّ، المغرب.
- صافي، لؤي، (1999): العقل والتجديد ،قضايا التنوير والنهضة، ط2، سلسلة كتب المستقبل.
- صحيح البخاري، تقديم الشيخ احمد محمد شاكر، بيروت، د.ت، كتاب النكاح ، وكتاب النبي الى كسرى وقيصر، وكتاب الشهادات.
- طه، محمود محمد، (1979): تطوير شريعة الاحوال الشخصية، ط3، ام درمان، السودان.
- طه، محمود محمد، (2012): نحو مشروع مستقبلي للإسلام، ثلاثة من الأعمال الأساسية، ط1، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة.
- العارف، مصطفى، (2016): تاريخية النّص الدّينيّ عند نصر حامد أبو زيد، دراسة في كتاب تجديد الفكر الإسلامي، مقاربة نقدية، ط1، مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
- عباس، دلال، (2003): حقوق المرأة في الإسلام بين النّص والممارسة، ط1، سلسلة بحوث ثقافية في الفكر الإسلامي المعاصر.
- قرامي، أمل ، (2012): النسوية الإسلامية حركة نسوية جديدة أم استراتيجيات نسائية لنيل الحقوق، النسوية العربيّة رؤية نقدية، تجمع الباحثات اللبنانيات، ط1، مركز دراسات الوحدة العربيّة، بيروت.
- المخينيني، ايمان، (2016): نحو تأويلة جندرية للقران قراءة في كتاب (Qur’an and Women) لأمينة ودود، دراسة في كتاب: محاولات تجديد الفكر الإسلامي، الجزء2، ط1، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المغرب.
- المسكيني، فتحي، (2018): الإيمان الحر أو ما بعد الملة مباحث في فلسفة الدين، ط1، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المملكة المغربية.
- النعيم، عبد الله احمد، (2006): نحو تطوير التشريع الإسلامي، ت: حسين احمد امين، مركز القاهرة للدراسات وحقوق الانسان، القاهرة.
[1] – أستاذ مساعد في الجامعة المستنصرية- كلية الآداب.
(*) الجندر/ الخصائص التي يحملها الرجل والمرأة كصفات مركبة اجتماعياً لا علاقة لها بالاختلافات العضوية /منظمة الصحة العالمية.
(*) آمنية ودود: أستاذة في مجال الّدراسات الإسلامية في جامعة فرجينيا – وهي من أصل أندونسيّ.