بلاغة الخط الإلكترونيّ وجماليّات العنوان في نتاج ذي قار الأدبيّ قراءة في نماذج مختارة
م. م. صلاح الدين عبد الحسين فليفل([1])
المقدمة
هذا بحثٌ حاولتُ فيه أن ألقي الضوء على موقف المصمم في اختيار نوع الخط (الإلكترونيّ) في الحاسوب، وكيفية تأثيره على المتلقّي. وما مدى ربطه بالمضمون من خلال تحديد نوعية “شكل الحرف ورسمه” بما له من إشارات أولية في جذب المتلقّي إلى اقتناء الكتاب. فمنذ الصفحة الأولى نجد أنفسنا أمام حركة متوازية بين العنوان والنّص تحملنا في تأويلات كثيرة تدفع القارئ إلى تحديد دلالة العنوان وربطها بالمضمون “المحتوى”.
لا فالعنوان والنص دلالة بنيوية كبرى، من حيث إن المعمول عليه هنا “العتبة” التي تولد منها معظم الدّلالات النّصية اللاحقة. لذا تظهر لنا في المجموعات الشّعرية المختارة في صدارتها قيمًا تصميميّة متنوعة قد تكون هذه الخطوط اقتراحات المصممين، أو من اقتراحات الكاتب. إذ تشمل هذه الاقتراحات شكل الحرف رسمًا وحجمًا، وهي تتجلى بثلاثة مظاهر “خطي، ولوني، وتشكيليّ”. فالمظهر الخطيّ هو الأكثر ميلًا إلى اللسانيات نرى فيه صورًا لمعاني الكلمات، على الرّغم من أن بعضهم يعد واقع المطبوعات المخطوطة بالآلة “الحاسوب” لا يمنح الخط فيها أيّ دلالة تذكر بسبب انتقاء الإرادة الأسلوبيّة التي يمكن أن تكون مصدر دلالة في النّصوص المخطوطة يدويًّا.
إنّ هذه الأطروحة تجعلُنا في تزاحم من الأفكار بين ما هو قديم منوط بقواعد وأصول وما هو جديد في الخط “الرّقميّ”. إنّ النّزعة التّجديديّة في صور الحروف وتركيبها والانفتاح على فضاءات واسعة أدّت إلى تجديد الأفكار والرؤى الناتجة من خلق انعطافات، وإزاحات على المنجز الفنيّ الحداثويّ المتولد من الخبرة التّصويريّة والانشائيّة والهروب من قواعد الخط الكلاسيكيّ المحكم بضوابط صارمة جعلت من المصمم ينشد الحداثة في تصميم حروفه، وهذه معاني التّجديد والإضافة على شكل الحرف الرّقميّ هي قفزة على عمود الخط الموزون والمنسوب، وإنّ نضج الوعيّ الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ مسحة على نضج الذائقة لدى الفنان ليتصرف بالحرف كيف يشاء وما صحبه من تطور تكنولوجيّ هائل في العالم أسهم كثيرًا في إخراج عدد كبير من المصممين. إذ لم يعد مقياس الحرف حاكمًا في الخط المطبوع “الإلكترونيّ”، فهو مرهون فقط بالذّوق السليم وذكاء المصمم في إنشاء تعبيريّ يحاكي المضمون اللغوي.
ونحن نعيش الآن في عهد الثّورة الكتابيّة الثالثة في التاريخ، التي انطلقت من الشّرق المتوسط إلى الشرق الأدنى، فأنشأت لنا نظامًا ثالثًا تواصليًّا في الخط المطبوع “الرّقميّ” وظاهرة بصرية جديدة. فكما للشّعر نظام وأصول سمعيّة، فللخط والرسم أيضًا أصول ولكن بصريّة. يستمد منها الخط مبررات وجوده من النّص، وفيه يتجاوز إلى بلاغة بصريّة أشمل وأوسع لما يحمله الحرف من خصائص تتخذ أشكالًا متعدّدة، وهو مؤشر على طواعيته ومرونته، ونرى أنّ هذه المزية أيضًا تكتنف الخط الرّقميّ بين أيدي المصممين، فهو يحمل تلك المميزات من الاستطالة، والاستقامة، والدوران لتحقيق أهداف وظيفيّة وجماليّة وبلاغية عدّة.
إنّ مشكلة الخط المطبوع “الرّقميّ” هو التّضاد الحاصل بين ما هو قديم لشكل الحروف وتطوره عبر الأزمنة، وبين الحرف المطبوع في المنحى التعبيري لدى المصمم لخلق متجاورات متوازنة غير مبعثرة يمثل توزيعها توزيعًا دلاليًّا بين الخطوط وتباينها. ولعلّ ذلك مرده إلى الخصائص الفنية للخط المطبوع من خلال توظيفه في تقنيات الحاسبة “الرّقميّة” في إنشاء التصميم لعتبة كتاب ما…
السؤال الأهم هنا هو: هل استطاع الخط الرّقميّ تقوية احتمالات اللعب بعناصر اللغة في شكله وحجمه في إضفاء جماليات على البنيات التكوينيّة في تصمم أغلفة الكتب؟ والمشكل الآخر هو الشكل والمضمون كموضوع فنّيّ أساسه هذه العلاقة الوشيجة بين شكل الحرف الرّقميّ، ومدى الانزياح التّعبيري المتحقق لتكامل هذه العلاقة التّعبيريّة المتأصلة في صياغة البنية التكوينية لعنوان العتبة وفق اشتراطات فنيّة خاصة تسهم في تنوّع الإيقاع البصريّ والتّداخل النّصيّ بين لغة النص واللغة الصوريّة المقترحة وهذه العلاقة بين النّص وصور الحروف هي الرؤية التشكيليّة للغلاف.
فالغلاف هو العتبة الأولى المهمّة لأيّ كتاب كما يوصف بأنّه علاقة جذب تنطوي على ملمحين جماليّ وصوريّ تحت دلالات شتى، وتتعدّد فيه مستويات المقاصد لصالح العمل الشّعري. لقد اقترنت أهمّية البحث في عملية الترجمة المتبادلة بين العمل الصوري “الحروف وشكلها”، والعمل اللغوي وهي نقل المصمم إحساساته وإرهاصاته الذّاتية المحايدة إلى عملية تجسيد وإحساس مرتبط بالنّص، وقد تقترب رؤى الشاعر من رؤى المصمم فينجز عملاً مجازيًّا مقابل النّص. لذا ارتأيت أن يكون عنوان البحث “بلاغة الخطّ الإلكترونيّ وجماليّات العنوان في نتاج ذي قار الشّعري” قراءة في نماذج مختارة لعنوان العتبة. فجاء البحث مستهلًا بتمهيد. ثم المبحث الأول: “بلاغة القواعد في عمود الخط القديم وآفاق التجديد”. اعتمد فيه الباحث على المنهج الوصفيّ التّحليليّ، ناقشنا فيه دلالات الشكل والحجم في رسم الحرف القديم وتطوره عبر الزّمن ودلالات صورة الحروف في التكوين الفني وتأثيرها على المتلقي سواء كانت فنية أم تجارية.
امّا المبحث الثاني: فجاء في “صور الحرف الرّقميّ والخطاب البصري”، ومكامن البنية العميقة للنّص ورؤية المصمم في الكشف عنها وتطويعها في الخط ليفتح بها أواشج التواصل القرائيّ من تفعيل عنصر الشدّ والجذب في البنية التشكيليّة. إذ إنّ استثمار الخطوط الرّقميّة في البنية الصوريّة للحرف العربيّ بوصفه تكوينًا ذا محمول ثقافيّ واسع بدءًا من رمزيته الصّوتية وانتهاءً بالمنظور الروحاني الصوفي المستوحى من القرآن، وعملية المزاوجة بين الخط الطباعيّ اللاتينيّ والخط الطباعيّ العربيّ، وظاهرة الأخذ والعطاء بين الخطوط الرّقميّة، وتأثيرها الأيديولوجي على الإرث الحضاريّ الكبير للحرف العربي، وما هي التيبوغرافية الجديدة في رسم الحرف العربي بعد انسلاخة من هيمنة الحرف الرّقميّ اللاتيني. أما المبحث الثالث: “فجاء تحليلًا لعناوين العتبة لما اخترته من مجموعات شعرية لعدد من شعراء وأدباء ذي قار”. وجاءت خاتمة البحث فقد أجملتها بنقاط عدة رشحت عن البحث.
تمهيد
تندرج عناوين الأغلفة تحت نظامين، الأوّل لغوي والثاني فني يضطلع بمَهَمَّة توصيل رسالة اجتماعيّة وثقافيّة، ومن ثَمَّ فهو مغمور في أيديولوجيا ومُبالغ في خرق النّظام القديم للخط بحثًا عن مرجع له. فالعمل الفنيّ يبدعه فرد مُنغرس في الجماعة يُنتجه إلى جموع القراء في رؤية بصريّة جديدة تتناغم فيها مظاهر الصّراع بين القديم والجديد في نوع الخط وشكله الذي يتصف بطابع الفوضى حينًا والتّحرر في حين آخر. ويشكل هذا التّحرر مصدرًا للغة التّصويريّة البلاغيّة في الخط الرّقميّ، لكونه نتاجًا فرديًا قد يكون ممزوجًا بالقديم ذي الأصول والقواعد، أو قد يكون حديثًا متجددًا صادرًا عن وعيّ وإرادة واختيار حر من قبل الفنان. لذا نراه يستخدم أنساقًا تكوينيّة تضفي على البنية النصيّة لعنوان العتبة رمزية تعبيريّة، للتعبير عن شخصية المضمون الكامن في جوهر “المتن الشّعري أو القصصيّ” مستعينًا بإبرازها بالآليات المتعددة جماليّة، ونفسيّة تحيط بالمصمم، وهندسيّة بما للخط من علاقة وطيدة بالهندسة وحساباتها.
فلم يقتصر عمل الفنان، أو المصمم الخطاط على إظهار الجانب الصوري في رسم أشكال الحروف، بل هو مرتبط أيضًا بالوعيّ الثقافيّ. فالاثنان المصمم، والكاتب لهما الدّور الأكبر في إخراج العتبة “الغلاف” بما أنّ “الشّعرية لا تتولد من النص ذاته، وليست كامنة فيه، وإنما تتولد من أمرين: الأول مستوى الثقافة ونوعيتها، والثاني مرتبط بمدى وعي القارئ لمعنى الشّعر، وعمليته الإبداعية، وكيفية قراءته”([2]). فإن الغاية الأخيرة من الخط الرّقميّ هي: الإفهام والتّوصيف الجماليّ في أولى مَهَمَّاته ومحاولاته الحداثوية كفنّ من جهة، ومن جهة أخرى هو مسحة وصورة أو تصاوير (التصاوير: وصفها (الطيبي) وهو احد شُراح قصيدة ابن البواب في الخط العربي، وصف الحروف كائنات حيه، لكل حرف منها صور تحكى معنى معين) تشكيلية جديدة لرسم الحروف في إطار وعي ظاهرة ما ودراستها يتخللها الإبداع الفني باعتباره منجزًا يحمل خصائص استثنائية فيها استلهام للقيم الجماليّة.
إنّ تحفيز تلك القيم الجماليّة والبلاغيّة، التي ندّعي أنها موجودة في الخط الرّقميّ. تدخله في دائرة الإبهار في المعادلة الفنيّة التي تعتمد على الشّخصيّة المبدعة، بما تحققه من اشتراطات عناصر الفن واشتراطات المقاصد الجماليّة والتشكيليّة. فلجأت الرقمنة الحديثة إلى استعارة كلّ مقومات الخط الكلاسيكيّ، وعناصره التي هي من روافده الفنية المُهمّة التي يقصدها المصمم الخطاط، ويستسقي منها بعض الأصول والتكتيكات والسمات الجوهرية فيه، ليروضها في الرقمنة “الخط الطباع”.
المبحث الأول: بلاغة القواعد في “عمود الخط القديم” وآفاق التجديد
لنُبيّن ماذا نريد بقولنا “عمود الخط الكلاسيكي”؟، وهل للخط عمود؟ وما هذا الترابط بينه وبين الشّعر القديم الذي جدد فيه أبو نواس بثورته ضد “عمود الشّعر القديم”، وهل هناك ترابط بين العمودين فعلًا؟
فالاثنان يشتركان بعوامل عدة ترجع “إلى اعتماد نقد مَلَكَةِ الخط من خلال نقد مَلَكَةِ الشّعر. فالشّعر غير النثر في أشياء كثيرة أهمها غلبة الإحداثيّة الجماليّة على المفهوم في الشّعر. وللشكل والصياغة والوزن في الشّعر دور أساسي في نقده وتحليله، وكذلك الخط هو غير الكتابة في تفوق إحداثيّة الشكل والوزن على إحداثية المفهوم كما في الشّعر”([3]).
وإنّ هذه الإحداثيّة بين الشّعر والخط تُعدّ ملاذًا للباحث في الكشف عن الكيفيات المتولدة من جمال الحرف؛ لاستنطاق المتن لمعرفة “العلاقات الإبداعية هذه حلت فيما هو شعري وما هو تشكيلي وفيما هو تشكيليّ وما هو خطي… إلخ حلولاً كلّيًّا ضمن تركيب جديد وخلقة جديدة للعمل الإبداعيّ”([4]). لذا فهما نصان متناصّان، لكلّ منهما دوره في صياغة الجمال.
إنّ من أهم مكونات الثقافة العربيّة “اللغة والدين”. فأضحى الخط يحمل في صورته معنى يضاف إلى معانٍ أخرى يحملها النص نفسه، فهو يمثل صورة لما لا صورة له. فقط استطاع الخطاط أن يصل بغاياته من العناية والتفنن من حيث هو وسيلة للمعرفة محاط بلباس القدسية التي أتته من الارتباط الوثيق بالقرآن وكتابته. فعندما أدرك الخطاط العربيّ ما في الحروف العربيّة من خصائص روحانيّة، وجماليات ومقوّمات التّحول والتّحوير، وهذا مرده إلى الخصائص الكامنة في الخط. ولو وقفنا قليلًا عند رحلة الخط بين التّطور والارتقاء، نجدها رحلة طويلة ومخاض عسير تمظهرت باستكمال أشكال الحروف من جهة ووضوح قراءته من جهة شكله، ومظهره بالاعتماد على القيم مثل التّناظر والتّوازي والتّناغم والاتزان، فإنّ دراسة تاريخ الخط العربيّ عبر مراحله المتعددة تشير إلى الصلة الوثيقة باللغة العربيّة. فقد أفرغ الفنان العربيّ من قابليته الفنية وعكف كثيرًا على تزيينه، وهذا مبرر لتوجيه المواهب إليه بسبب كرههم للتصوير لاعتبارات روحانية.
فلم يعد الخط مجرد أداة للكتابة، بل هو عنصر يستعمل في تجميل المخطوطات، وتزيينها والنقش عليها التي ينطلق منها الخطاط من قواعد خاصة متناسقة بين الخط والنقطة والدائرة، فهو – الخط ج – كائن يمتاز بالحيويّة والنمو بدليل تطور شكله من حال إلى حال أاخرى، وتمثلت أشكاله هذه بالمرونة والمطاوعة لتتلاءم مع الأغراض الثّقافيّة. ويقول أحد الباحثين جورج بيرو: “إنّ ابتكار الأبجدية كان حدثًا مهمًّا جدًا لا يمكن مقارنته بأيّ حدثٍ آخر في تاريخ الجنس البشريّ. وهو أعظم من ابتكار الطباعة إذ إن تحليل الكلام وإرجاعه إلى عناصره الأولية يحتاج إلى عمل فكري عظيم”([5]).
فتمظهر الحرف بدلالات وأبعاد جماليّة، بفعل ارتباط الحروف مع بعضها البعض ارتباطًا بالمعنى على سبيل المثال: حرف الراء في كلمة “جر، وخر، وفر” كلاً منها له صورته الحركيّة والدّلاليّة الخاصة به التي تفرضها على الكلمة، ثم إن للحرف قيمة قدسية سرّية وهذا ما نراه دلالات واضحة في الحروف المقطعة في القران الكريم مثل ياء سين ونون وكاف هاء ياء عين صاد… إلخ([6]).
لقد أعطى العرب لكل حرف من الحروف مدلولًا خاصًا “فالباء لها حرمتها لأنّها أوّل حرف في القرآن، والجيم كانت كناية عن الصّدغ، والصّاد هي مقلة الإنسانيّة، والهاء هي الهُويّة الإلهيّة عند ابن عربيّ، والميم كانت تعبيرًا عن الضيق، أمّا الألف فلقد كانت ذات أهمّيّة خصوصًا عند العرب لأنها مقام أحد”([7])، وهي رمزية الوحدانيّة المطلقة لله سبحانه وتعالى.
أمّا الصورة الشّعرية التي وظفها الشّعراء في شعرهم فالألف تقابل القامة الجميلة المنتصبة. ويقول ابن المعتز:
كأن السّقاة بين الندام أَلِفاتٌ على السطور قيامُ
تجلت في بيت ابن المعتز صورًا بيانيةً عدة فـ”صورة الجيم هي الأذن، والدال صورة العاشق صار دالاً من شدة الحزن، والسين هي الأسنان الجميلة والميم الفم الجميل، وكانت الواو صورة الزورق والراء صورة الهلال”([8]). وقد وصف الخط وتجويده بأنه صنعة نفسيّة يعبر بها الفنان المبدع عن مقاصده في تعزيز المضمون اللغوي ليضفي إليه خصوصيته المنفردة في ابعادها وطبيعتها ووظيفتها ومستوياتها([9]). فقال رجل في جارية كاتبة مجودة “كأنّ خطها أشكال صورتها، وكأن مدادها سواء شعرها، وكأن قرطاسها أدبهم وجهها، وكأن قلمها بعض أنملها، وكأنّ بيانها سحر مقلتيها، وكأن سكينها سيف لحاظها، وكأن مقطعها قلب عاشقها”([10]) لذا يعد التاريخ المساحة الزّمنية التي حملت أنماط الخط وتعدّدياته التي ستبقى أمثلة على خاصية الإبداع في الخط العربيّ([11]). وإنّ هذا المساحة الزّمنيّة للخط العربيّ في بعده الحضاريّ والتّأسيسيّ تعتريه عدة صعوبات في واقعة بين معطيين حضاريّ وتاريخيّ. فالكتابة هي أخطر جهود الإنسان وأكثر المعطيات الإبداعية الإنسانية أهمّيّة اكتشافًا واختراعًا التي أسست له نقطة البَدء التّاريخيّة في مسيرته الحضاريّة الطويلة([12]) على الرّغم من ذلك استطاع الخط أن ينسلخ من ظاهرة اليبوس التي كانت تعتري حروفه طوال القرون الأربعة الأولى من الهجرة، بسبب نضوج الذّائقة الجماليّة لدى الفنان المسلم وحاجة المجتمع وتطور متطلباته في نسخ الدّواوين والمصاحف وأمور الدّولة الأخرى. تولدت لديه انزياحات مبررة للخروج من بودقة الخط الكوفيّ القديم، أو خط المصاحف الذي يكثر الجدل والجدال فيه بين أمرين، هل هو الأقدم أم الخط الحجازي؟ أم هو نفسه الخط الحجازي وبالحمل الشّائع صار اسمه الخط الكوفي نسبة إلى عاصمة الدولة العربيّة الإسلامية آنذاك “الكوفة”. على الرغم من أننا نرى أنّ الخط الكوفيّ ما هو إلّا موروث ثقافيّ ورثناه من النّبط، وقد تأثر القرآن بهذا الخط فولّد لنا رسومًا خاصة غير قياسيّة، وحددها علماء الصرف واللغة قديمًا. وبما أنّه هكذا إذًا؛ فهو خط اعتاد عليه إنسان ذلك الزمان، بتأثير الموروث من الآباء إلى الأبناء. أضحت نزعة التّجديد الأولى في العصر الأمويّ كما نرى فيها فيه المدرسة الأولى لعمود الخط العربيّ، ثم العباسيّ – المدرسة الثّانيّة – نقطة التّحول في إفراز خطوط أخرى متنوعة في رسومها صاغتها عقلية فذّة أدخلت الخط في دائرة التّجديد والتّحول والتّنوع في الخطوط ورسومها ضمن النّسبة الذّهبيّة، واختار الألف أصلًا لكل حرف من حروف الهجاء. فهذا النّظام المحكم بقواعد وأصول حدّدها الذّوق العربيّ، وقننها بنسب جماليّة أرسى قواعدها الوزير ابن مقلة وجعل لكلِّ حرفٍ من حروف اللغة نسبة فاضلة ضمن محيط الدّائرة التي ولّد منها جميع الحروف، فأضحت تلك القواعد والأصول”نصًا مقدسًا” لا يمكن الهروب منه، لمن أتوا بعد ابن مقلة وآخرهم ياقوت المستعصمي. الذي على يديه استقر عمود الخط وتغيرت زاوية الكتابة في القصبة بعدما كانت عريضة غير محرفة، ثم تعددت الأذواق في اختيار زوايا القلم “قطة القلم”، وجعلوا لكل قلم قطة أو زاوية كما قال به المتأخرون والمعاصرون من ذوي الخبرة. فذهب إدوارد روبرتسن إلى القول إن: ابن مقلة قد اخترع طريقة جديدة للقياس بواسطة النّقط، ونظريًّا فإنّ النّقطة تتكون من وضع رأس الرّيشة على الورق، وبتحريك الرّيشة إلى الأسفل مع الضغط لفتحها إلى أقصى حد، إذ يرفع مباشرة وبسرعة، وبهذا يمكن عمل مربع، أو معين، وبجعل الريّشة وحدة للقياس، فقد جعل ابن مقلة حرف الألف الكوفيّ مستقيمًا بعد إن كان منحنيًا من الرأس نحو اليمين كالصّنارة، وقد اتخذه مرجعًا لقياساته، وخطا ابن مقلة خطوة أخرى وقد هذّب الحروف، وأخذ الخط الكوفيّ كقاعدة وأخرج من هذه الحروف أشكالًا هندسيّة، وبذلك أمكنه قياس هذه الحروف ومن هذه القياسات استنبط نسبًا لكل حرف بالنسبة للألف، وفي حالة الحروف المقوسة مثل الراء والنون والسين فقد جعل قطر كل حرفٍ ألفا وهكذا”([13]). وهذا التنوع في شكل الحرف لا يسلب من فن الخط صيغته التأثيرية والجماليّة، بل هي ضرورة نوعية لتجسيد هذا الفن، وهي من متطلبات الفنون البصرية أو الكلاميّة([14]).
فالتاريخ والفن في مجال الكتابة الإنسانيّة هو ابداع الخط وهو ما يشير إلى قفزة نوعية جديدة في مسيرة الإنسان الحضاريّة وشاخصًا من الشّواخص المُهمّة في عملية الإبداع التّاريخيّ والإنسانيّ على حد سواء فهي قابلة للتّمييز فيما بينهما من خلال الوظيفة الحضاريّ، والطبيعيّة الإبداعيّة والفنيّة وينطبق هذا بشكل واضح على الكتابة العربيّة والخط العربيّة([15]).
لقد تبارى الخطاطون في تجويد صور الحرف بعدما كان يابسًا صار لينًا، وقد أضفت عليه هذه الليونة – الاستقامة والرّشاقة والمطاوعة والتناسق – متعة جماليّة. وما زال ينمو حتى بلغ مبلغًا جماليًّا رائعًا يكشف لنا أبعادًا تعبيريّة وبصريّة رسمت صوره كلامًا بلاغيًّا ذا دلالة إيحائيّة انتجها اختيار النّص المنوط بمحددات عدّة أهمّها:
- البعد التّربويّ والأخلاقيّ والنّفسيّ للنّص المكتوب.
- محاكاة المبنى للوصول في هذه المحاكاة إلى المعنى المراد بنائه في النّص نفسه، من خلال إبراز شكل معين يُظهر المعنى الحقيقيّ للنّص.
- من الضروريات التي يتبارى عليها الخطاطون هو النص الذي يكثُر فيه التشابه في رسم الحرف الواحد. ويبرز هذا في تكرار حرف الحاء الملفوف”تاج الحروف” وحرف العين، وحرف الواو وخاصة الملفوف. لما له من دلالة تحدٍ لإظهار مهارة كل خطاط في انتاج اللوحة الفنيّة. وهذا ما نجد في عدة نصوص كتبها العرب أو الأتراك، ومنها النّص”وضجوا ضجةً…” يظهر لنا في هذا النص التكرار المحبب للخطاطين لذا “يعتمد الخطاطون تكرار بعض الحروف التي يحويها النّص، وجمعها وإبرازها بشكل واضح، بما يقوي بنية اللوحة ويرصن أركان العمل الفنيّ البلاغيّ، كون التّكرار سمة مميزة وجزءًا من البنيّة الشكليّة والمضمونيّة، ويتداخل التكرار أحيانًا في الإفصاح عن الهدف والوظيفة المرسومة، من هنا تتجلى قيمة ومهارة الخطاط وإمكاناته في تحقيق البلاغة البصريّة، من خلال تكييف النص عبر تكرار الحروف، فيكون أكثر إثارة للاهتمام”([16])
الشكل رقم (1) نموذج من النصوص التي كثر تباري الخطاطين على كتابتها
- ضبط عمود الخط الذي يترتب عليه متطلبات المنجز الخطيّ، وقد ولّد هذا التباري بين الخطاطين بعد نضوج رسوم الحروف المضبوطة ضمن قواعد ومفاهيم فرضها “عمود الخط الكلاسيكيّ”، بعدًا روحانيًّا وأكاديميًّا في تحسين الحرف العربي وتهذيبه وهذا ما سعى إليه الفنان المسلم في المنجز الفني الإبداعيّ. إذ نلتمس عدة مفاهيم اكاديمية تحقق للخط هُويته التّشكيليّة الأساسيّة إذ لا بدَّ من توافرها معظمها أو كلها مجتمعة وهي: “النقطة والخط والمساحة واللون والكتلة والتركيب الملمسي والتوازن والحركة والسكون وغيرها”([17]).
ولكن تبقى اشتراطات “عمود الخط الكلاسيكيّ” مقيدة بقواعد تستلزم إظهار شكل الحرف بحكم معياريّ متفق عليه، على الرّغم من أنّنا لا نعني بتلك القواعد الأداء القسريّ([18])، فهي لا تسمح بالأداء العشوائيّ في التّعبير الفنيّ الأصيل في شكل الحرف العربيّ. فإنّ قدرات الخطاط الفنيّة تأتي “من خلال عمليات الاختيار الموفقة لخصوصية شكل معين لهذه الحروف دون سواه من الاشكال الخاصة بنفس الحروف حيث تعددت أشكال الحرف الواحد عند خط كلمة معينة وأداء حروفها برشاقة من جهة أو من خلال عمليات المدّ، والفصل، والوصل، والتّركيب، والتّشكيل، والتأليف وغيرها من علميات صقل التّعبير الفنيّ الشّكلانيّ وتهذيبه في أداء الخط العربيّ”([19]).
يعدُّ أبو حيان التّوحيدي أوّل من تكلم على الخط العربيّ، وجماليته وتقنياته في رسالته تحت عنوان “علم الكتابة” فبيّن فيها شروط بقوله:([20]) “الخط الصناعيّة في سبعة معانٍ، التّحقيق أيّ إنابة الحروف، والتّحديق أيّ جعل بعضها كالأحداق، والتّحويق في الدّوائر، والتّخريق أيّ الهاءات والعين، والتّشقق في الصاد وأمثالها، وبالتّنسيق الكامل بين الحروف، ثم بالتّوفيق والتّدقيق والتفريق”([21])، وبمثل هذا المعنى تحدث قبله الوزير ابن مقلة عن هذه الشّروط والقواعد في صناعة النص الخطي وهي التوفية والاتمام والاكمال والإشباع والإرسال”([22]).
شكل رقم (2)
وبهذا التّجويد والتّحسين الذي ظهر على الحرف، فقط خرج الخط العربيّ عن نظام او نمط الوراقين، وكذلك بعُد عن تصنع المحررين كما عبر عن ذلك الصوليّ في وصفه للحرف ومتى يستحق أن يوصف بالجودة([23]). وأشار صاحب “رسائل إخوان الصّفا”: “ينبغي لمن يرغب ان يكون خطه جيدًا. وما يكتبه صحيح التناسب أن يجعل لذلك أصلًا يبني عليه حروفه، ليكون ذلك قانونًا له يرجع في حروفه لا يتجاوزه ولا يقصر دونه”([24]).
وهذا القانون الذي وصفه “إخوان الصفا” يشعر المرء منه، أنّ الخط رحلة وجدانيّة وليست قِطعًا جامدةً، بل هي كائناتُ حيّة تنبض بالحياة ونحسن بها من خلال أياديّ الفنان العربيّ التي تعكس إصرارًا لتحقيق أعلى درجات التّجويد في الحرف والاتقان في بناء اللوحة الفنية المعبرة عن خلقه لبديع([25]).
الشكل رقم (3) يوضح نضوج (عمود الخط القديم ) بخط ياقوت المستعصمي
ويبقى السؤال هل يمكن لنا الاستغناء عن النمط التقليديّ في الخط العربيّ بأنماط أخرى رقمية لتحكي لنا ثورة جديدة من ثورات الكتابة وهي الثورة الثالثة للكتابة؟ وكأنّها أشبه بالخطوط القديمة الخاليّة من الليونة والرّشاقة والمطاوعة، ولا أقصد كلها ولكن الأعم الأغلب منها امتاز بهذه الميزة. لذا فان منهج الموازنة بين “عمود الخط القديم” والخط الرّقميّ – الذي يحبذ البعض تسميته بهذا الاسم، لأنّ تسمية الخط الطباعيّ قد تسلخ عنده الرّقميّة – تنطلق من فكرة إثبات الأصل لهذا الخط الرّقميّ الذي وجد له ميدانًا أوسع في الدّراسة الخطيّة الإبداعيّة على الرّغم من أن “علم الخط” كان معنيًّا بالكشف عن جمال التّذوق الفنيّ، وفق نظم وقواعد تؤدي إلى بناء نتاج إبداعي مطابقًا لتلك النّسب التي أرساها ابن مقلة آنذاك، إلى أيام الخطاط البغداديّ ياقوت المستعصميّ، وهي آخر مراحل الرّقي والنّضوج للخط، ثم بعد سقوط بغداد تذكر لنا المصادر التّاريخيّة حادثة طريفة حصلت لياقوت، حيث هرب والتجأ إلى إحدى مآذن جوامع بغداد يحمي نفسه من غزو المغول وصرف أيامًا فيها يكتب حرصًا منه أن لا تضعف يده غير مكترث لما يفعله المغول في بغداد من دمار وسلب ونهب، ثم ظهرت المدرسة التركيّة بعد سقوط بغداد، وقتها سأل أحد السلاطين أنذاك، وهو بايزيد العثماني الخطاط الشيخ حمد لله الأماسيّ833 – 927) هـ/ 1429 – 1520 م).
وقال: له كيف يمكن لنا تطوير صور الحروف العربيّة وتجويدها على ما بيدو إنها راقت له. وقد اعتكف الخطاط
الشكل رقم (4) نموذج من خط الشيخ حمد الله الأماسي
حمد الله أربعين يومًا في أحد الأمكان، ليخرج لنا بطريقة أرسى فيها طريقة جديدة لا تفرق عن المدرسة البغداديّة، إلاّ بحسن التجويد للحرف وتصغير بعض الأحرف فظهر الثلث العادي والنسخ على شكل مرقعات يعلوها الثلث، ثم أسطر من خط النّسخ، وهو عُرف سائد عند الخطاطين إلى الآن، ثم جاء أحمد قره حصاري ولم يضف إلا النّزر القليل في تجويد الحرف والابتكار فيه، إلى أن استقر الخط على إيدي مصطفى الرّاقم الذي أرسى دعائم الثلث الجليّ، وهو أول من ابتكر التّوقيع تحت اللوحة الفنيّة، وعمل على إدخال الخط في العمارة… أمّا في الوقت الحاضر فإنّ هذا السعي الحثيث الذي يسعى اليه البعض في إظهار نماذج وصور حروف جديدة للخط، هو أقرب ما يكون إلى إنتاج توئمة غير متعارضة موازنة، لما هو قديم في عمود الخط الكلاسيك. حاملة في طياتها ما يبحث عنه الفنان المسلم. إذ اتسمت هذه الخطوط الرّقميّة بقدر يسير من الدّقة في إبراز النّسب، والمقادير الفنية لها، ما ساعد على ترصين الجانب الجماليّ، على الرّغم من بعض المآخذ عليها وخاصة في عمليّة المزاوجة “التيبوغرافية” في تجارب المصممين. وهذا ما سوف نتحدث عنه في المبحث الثاني.
المبحث الثاني: صور الحروف الرّقميّة والخطاب البصريّ
تعرضت صور الحرف القديم إلى جملةٍ تحولات تصدَّع فيها رسمه من حيث شكله وسمكه، وخسر أيضًا جزءًا كبيرًا من حظوة الحضور التقليديّ التي امتاز بها من خصائص فنيّة وجماليّة، ومنها: الاستقامة، والرّشاقة، والتّناسق، والامتداد، والتّدوير. لقد تغلغلت الرّقمنة الحديثة في جوانب الحياة شتّى، فبدأ الخط العربيّ يكافح في التّصدي لتلك التّحديات المفروضة عليه بواسطة التّقنية الجديدة. وقد وجده الخطاطون التقليديون منافسًا لهم في مجارات فنون وجماليّات رسم الحرف العربي.
يُثيرُ الخط الرّقميّ اليوم مزيدًا من الأسئلة والمراجعات وأحيانًا عند البعض الاتهامات، لما يعتريه من سمات وظيفيّة ولغويّة ربما لا ترتقي إلى مصاف عمود الخط الكلاسيك، ومن هذه الأسئلة: هل الرّقمنة ضرورة وجمال؟ أم أنّها “عمليّة تدوينيّة إحصائيّة تعمل على الإحاطة بمكونات الحقل العلميّ الذي تعالجه بسرعة فائقة في المسح إذا عُمل فيه، وبسرعة أكبر في الاستجابة لمطالب البحث العلميّ الذي يهيئ المستحدثات لمناخ ملائم لعمليّة الخلق والإبداع، والتي هي فطرة في الإنسان”([26]). وهل هناك تصور حقيقي ممكن يتيح للمصمم صناعة لوحة فنيّة”بالخط الطباعي الرّقميّ” ضمن معايير العمل الفني؟. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن تناولي لمسألة الشّكل والحجم في الخط الرّقميّ منطلقة من منطق السؤال والإستفهام، وسوف أقصر جهودي على محاولة إيجاد موازنة عادلة تماثل الأصول (عمود الخط)، ولا أقول التطابق بين الرقمنة وعمود الخط وظيفيًّا. وهذا كُله يؤدي بنا إلى القول إنّ الرّقمنة طريقة ضمن نظام الخط الموزون، تهتم باستخراج رسم جديد “صور” تعنى بمحاولة نقل النموذج القديم “عمود الخط” إلى حقول صورية أخرى ذات طابع آلي “طباعيّ”، وهي ثقافة خطية أخرى. “وقد واجهت الطباعة بالحروف العربيّة في بداياتها، قطيعة اجتماعیّة أدت إلى تأخّر تطورها بسبب رسوخ ثقافة الخط الیدويّ، وضعف قدرة التّقنیّة الطباعیّة عن الوفاء بالتّمثیل الجید للخط، الذي بلغ من الرّقي أوجًا یصعب محاكاته آليًّا، فرُجِع إلى أسلوب الكتابة البدائيّ البسیط، والتّخلي عن كثیر من قیم التّراث الخطيّ الجماليّة والوظيفية، بدلًا من التّعرف بخصائص الكتابة العربيّة وقواعد الخط العربيّ، والعمل على حسن توظیفهما في مجال الحروف الطباعيّة، كما أنّ وجود التّقنيات الطباعيّة كان أصلًا للغات غیر العربیّة، فبات من الطبيعيّ أن يكون هناك فرق بین الخط الیدويّ والخط الطباعيّ، حتى أصبح فن الخط العربيّ وحرفة التّصميم التیبوغرافيّ؛ حقلين منفصلين تمامًا”([27]).
وترجع أولى بوادر تطور الخط الطباعيّ العربيّ بالحروف المعدنيّة إلى بدايات القرن السّابع عشر على يد إبراهيم متفرقة المطبعجي بين العام 1711 – والعام 1716م، بالتّعاون مع السّفير العثمانيّ في فرنسا “بيكر مي سكر جلبيّ”، ثم بعدها تأسست مطبعة في إسطنبول، وقد استطاعت هذه المطبعة الحديثة آنذاك أنّ تنشط الحركة المعرفيّة والعلميّة في إسطنبول([28]). أمّا في مصر، فقد أمر “محمّد علي باشا” بإنشاء أوّل مطبعة حربيّة في بولاق، وهي أول مطبعة آنذاك في الوطن العربيّ، وأخذت المطابع في مصر نفس محارف الحروف الطباعية في إيطاليا، إذ قامت المطابع الإيطالية آنذاك بطباعة معجم عربيّ إيطاليّ من حروف الطباعة في إيطاليا كما في الشكل رقم (1)، الذي طُبِع باستخدام خط شبيه بالخط الذي أستخدم في طبع الإنجيل في روما في القرن السّادس عشر([29])، وهو يفرق عن تجربة إبراهيم متفرقة، إلّا أنّه قريب من خط مطبعة نابليون، الذي نرى له نموذجًا كما هو مبين في الشكل رقم (1). وهنا لا بُدَّ لنا من وقفة تاريخيّة لمعرفة تجارب المصممين الأوائل والمعاصرين([30])
الشكل رقم (1)
- تجربة إبراهيم متفرقة 1711م: وهي طريقة تشبه عمود الخط الكلاسيكيّ العربيّ على العكس من الخط الأوروبيّ الطباعيّ وتجربتهم في طباعة الحرف العربيّ، فهو لا يحمل ذلك الإرث أو الموروث ثقافي الإسلاميّ أو العربيّ.
- تجربة الخطاط محمد بك جعفر، وقد قام بوضع قاعدة لحروف مطورة من خط النّسخ أسماه (الأميري)، وكان في غاية الجمال، وبعد استحسان حروفه المطورة طُبِع مصحف الملك فؤاد، وهو أول مصحف يطبع في القرن العشرين بحروف معدنية منفصلة (moveable type) نوع قابل للتّحريك. وقد قُلِد من شركات عالميّة عدّة، فقد استغلت هذه الشركات الحرف العربيّ لتسويقه إلى الدول التي تستخدم الخط العربيّ ومن المؤآخذات على تجربة، أو طريقة الخطاط محمد بك جعفر وضع الحركات الإعرابيّة أعلى الحرف وأسفله وبشكل متباعد.
لذا يعتقد البعض في رصف هذه الحركات الإعرابيّة أنه حل مبتكر لمشكلة رصف الحركات، وهي من النّاحية الجماليّة تضفي على الخط نوعًا من التّنسيق والتّوازن([31]). ويرى الباحثُ أنّ رصف الحركات الإعرابيّة يتعدى الأمر الوظيفيّ المُعدّ له تلك الحركات كونها أيضًا تضفي أمرًا جماليًّا، فلا يصح التزيين أو وضع الحركات الإعرابية الكثيفة في الخط اليابس ومنه الخط الطباعيّ، فالإكثار من تحشيد الحركات برصفها من الأعلى والأسفل يربك النّص المقرؤ في حالة استخدام الخط الطباعي كونه معدًّا لوظيفة واحدة، وهي القراءة الواضحة، على الأقل في حالة استخدام سطور متعددة في الصفحة الواحدة.على الرغم من أن استخدامه في عنوان العتبة سوف يأخذ منحى آخرى من الجماليّة تبعاً لرؤية بصرية جديدة يبتكرها المصمم مراعياً بذلك المعنى والمبنى في النص المكتوب في هذا النوع من الخط. أمّا في حالة استخدامك الخط الكلاسيكي (عمود الخط)، فالأمر ضرورة كبرى، وظيفيًّا وجماليًّا. وإنّ حكم الحركة في الخط الرّقميّ، تحددها الضرورة لكي لا يحصل تشويش أثناء قراءة من مثل الشّدة أو المدّة أو الهمزة وهذا ما نراه في خط الرقعة والخط الدّيوانيّ، وخط التعليق، وكلهم من الخطوط القواعدية الخاضة “لعمود الخط العربيّ”، إذ لا يُحبذ إكثار الحركات فيه لأنّه يشتت الرؤية البصريّ من النّاحيّة اللغويّة والفنيّ. وإجمالًا، نقول لكل خط ثقافة بصريّة تختلف عن خطوط أخرى، ويعتمد هذا على:
أ- نوع الخط: كما قلنا سابقًا الخط، أمّا يكون يابس غليظ، وممتلئ وأمّا لين رشيق. إذ إنّ نوع الخط إذا كان من الخطوط ذات المنحنيات والاستدارات يستدعي منا وضح الحركات والإكثار منها لإحداث تناغمًّا جماليًّا يخدم العمل الفنيّ، وتجلى ذلك في خط الثّلث والنّسخ والدّيوانيّ الجليّ، وهذا الأخير يشبع بالحركات من أعلى وأسفل، ليصبح كسوة جماليّة تحيط بالعمل الفنيّ بلطف واناقة، وتوزع الحركات التّزيينيّة والحركات الإعرابيّة وفقًا لحاجة الحروف، وضمن المساحات المتاحة، وترسم هذه الحركات بقلم أصغر من القلم الرئيس بمقدار الثلث منه. والبعض يرى أن التريين هو صورة نهاية كل حرف، و”اعتمادًا على وظيفتهما التي تتردد بين تمايز الحروف بعضها عن بعض، وتزيين الحروف، بيان نهاية الكلمات، تقول: إن تشكيل الحرف ثنائيّ، فهو يتكون من جزأين متمايزين، هما الجزء الأساسيّ الذي في ضوئه التّمييز بين الحروف الهجائيّة، وهو بهذا الجزء المميز، والجزء الجماليّ الذي يراد به تزيين شكل الكتابة وتحويلها إلى فن من الفنون، ويمكن تسمية هذا الجزء الجمالي أو التزييني”([32]).
ب- الضرورة الحركات الإعرابيّة والتزيين: وهي أحكام تفرضها لغة الشكل الخطيّ، من خلال إحداث تأثير لغويّ بصريّ غير مخلٍ في توافق شكل وحجم الحرف، فلكل خط خواص فنية وإيقاعات متغيرة، فالحركات الإعرابيّة ضرورة حتميّة لا بدّ من وضعها على الحرف تجنبًا للبس “اللحن” في موقع الكلمة الإعرابيّ، أمّا التزيين فهو منوط بنوع الخط وشكله، والهدف منه إضفاء الجانب الجماليّ على الحروف. فهذه خصائص الشكل بحسب طبيعة الخط هي التي تستدعي تلك الضرورة الإعرابيّة والصرفيّة من دون التزيينيّة التي يضعها الخطاط وأيضًا المصمم، وهذاما نراه في الخطوط الخالية من التشكيل والتزيين، ومنها خط الرقعة الذي هو قريب من الكتابة الاعتياديّة التي تداولها المجتمع في كتابتهم اليوميّة، والخط الرّقميّ الطباعيّ السّميك الممتلئة حروفه، وأيضًا الخط الكوفيّ القديم الذي لا يحمل أيّ أثرٍ من آثار التشكيل إلى أن جاء أبو الأسود الدؤليّ، وهو أول من وضع الحركات بصورتها القديمة، فكانت النّقطة هي الحركة الإعرابيّة، وبها بدأ إعراب القرآن. وبعده جاء الخليل الفراهيدي وعمل حركة مجانسة لرسم الحرف، وهي إلى الآن تستعمل. فشُكل ما أمكن منه، للضرورة والتّمييز لمنع اللبس في القراءة، ومنها المبني للمجهول، وحذف أحرف العلة وتعويضها بحركة مجانسة لما يحذف منها، والهمزة وغيرها.
انظر الشكل رقم (2) الخط الكوفي المصحفيّ القديم القرون الأولى، الشكل رقم (2)
- تجربة المصمم والمبرمج المصريّ خالد حسني، وهي محاولة أراد بها استرجاع الإرث الحضاريّ القديم وتطويره. وقد عمد إلى تطوير المصحف المخطوط بالخط الأميريّ، وبدأ مشروعه على نظام اللاينوكس، وهو عمل مفتوح المصدر يستطيع كل مصمم أو مهتم أن يطوّر فيه باتجاهات إبداعيّة متجددة. وقد أتاحت الثورة الرّقميّة روح التنافس والإبداع، وحب التغيير والقفز على النمطية، وضرب كل القيود في إمكانيّة صناعة الخطوط الطباعيّة. لذا جاءت مبادرة المصمم خالد حسني سنة 2010م ردًّا على كبرى الشّركات العالميّة، التي كانت تحتكر خطوط الحواسيب لمدّة طويلة. إذ أدت هذه المبادرة إلى استرجاع جمال الخط الأميريّ الرّقميّ وهو “ترقيم الخط الأميريّ” ما جعله متاحًا وشائعًا في الاستخدام على الكثير من المواقع العربيّة على الأنترنت([33]).
- تجربة المصمم الباكستانيّ أشفاق نيازي: وقد عمل على مجموعة من الخطوط التّقليديّة لخط المصحف العثمانيّ “الرّسم العثمانيّ” استطاع فيها أن يجعل من ذلك التّناص الحاصل بين الخط الرّقميّ الشّيبه بالنّسخ، والنّسخ التقليدي غرضًا وظيفيًّا لتمثيل الرّسم العثمانيّ، من خلال المزاوجة بين الرّسم التقليديّ للمصحف بخط عثمان طه الخطاط السوري. وهذا بين لنا مدى إمكانيّة الصّنعة المتقنة لدى المصمم في هذه المزاوجة. كما هم مبين في الشكل رقم(3)
الشكل رقم (3)
- تجربة نبية جارودي: قبل ستين عامًا مع مدّة ازدهار الصحافة اللبنانيّة في الخمسينيّات من القرن المنصرم، برزت الحاجة إلى الخطوط المبسطة التي تسهم في تسريع عملية التنضيد بصورة سريعة على “مكائن اللاينونايت”. إذ قامت جريدة الحياة اللبنانية آنذاك بتكليف المصمم نبية جاروديّ ودعمه إلى القيام بتطوير ما يعرف بالخط العربيّ المبسّط، الذي بدوره يعتمد على طريقة الآلة الكاتبة في اختصار الأشكال المطلوبة، لطباعة الخط العربيّ إلى محرفين بدل من المحارف العديدة. وقد أسماه “خط ياقوت” تيمُّنًا بالخطاط البغداديّ “ياقوت المستعصمي”([34]).
7- محاولة البروفيسور أحمد لخضر غزال: تعدُّ هذه المحاولة من المحاولات العربيّة الأصيلة، وقد قدم أول براءة اختراع لإصلاح الطباعة في العام 1954 وفي العام 1959 تخدم الآلة الكاتبة الأولى، التي تذكر في مجال تنامي أهمية الحواسيب. فكانت استجابة السيد أحمد لخضر غزال سريعة في ابتكار خط يناسب طابعات الحواسيب في السّتينيّات من القرن الماضي، على الرّغم من أنّ هذا الخط لم ينل تلك الحظوة بين أفراد المؤسسات وأصحابها وغيرهم، بسبب سرعة تبدل التكنولوجيا والمحدوديّة، وعدم ملائمته الوطنية في بعض تلك الشركات. إلاّ أنّ محاولة أحمد لخضر كما يرى بعض المصممين مميز بطابعه الآلي الحديث، وقد قامت شركة “لاينوتايت” بترقيمه حيث أصبح اليوم خطًا معتمدًا تميزت به بعض الشّركات التّجاريّة كشركة الاتصالات زين وبعدها قامت قناة الحرة الأمريكيّة بتطوير خط قد صممه أحمد لخضر، واشتقت منه خط آخر.
- محاولة المصمم محمد جابر: يصح قول عليها هي محاولة الهروب من الاعتماد على الخط الطباعيّ الغربي و”المزاوجة التيبوغرافيّة”، وقد بدأت استخدام الخط العربي خارج أُطرهُ القومية أو الهُوية العربيّة بهذه المزاوجة، لخدمة من كانوا يدرسون هناك في العالم الغربيّ. والبعض يرى([35]) أنّ السّبب يرجع في ذلك إلى أنّ “يوهان غوتنبرغ” مخترع الكتابة المطبعيّة اللاتينيّة لم يأخذ الخط العربيّ بالحسبان عندما طوّر الطباعة. لذا فقد فرضت الخطوط اللاتينية “الغوتنبرية” أو “الإرث الغوتنبريّة” نفسه على الإرث العربيّ في تصميم الخطوط، وهذا ما نراه من تأثير واضح عن أغلب المصممين في تصميم الحرف الطباعيّ، وتغليب الحرف الطباعيّ اللاتينيّ سيئ التّصميم والمزاوجة بينه وبين الحرف العربيّ، ليؤسس عليها نسخة جديدة من خطوط الطباعة عن طريق دمج خصائص أثناء التّصميم للأشكال الحروف العربيّة مع الحفاظ على المظهر الخارجيّ للحروف([36]).
لقد مثل مصطلح “المزاوجة التيبوغرافية” خطابًا بصريًّا جديدًا في عالم تصميم الحروف الطباعيّة، انخرط فيه أغلب المصممين في العالم الغربيّ. إذ أخذ هذا المد في الحروف اللاتينيّة انعكاسه على حروف العربي نوعًا ثقافيًّا، وعمليًّا في تغريب الخط العربيّ الطباعيّ، وحتى إذا قلنا الخط التّقليديّ. فصار الاعتماد على الخط اللاتينيّ الطباعيّ أساسًا في خلق نوع جديد من الخطوط الطباعيّة المعرّبة الذي طابعها وهيكلها العام روح الخط اللاتينيّ، “ونتيجةً لذلك فهناك القليل من الخطوط الطباعيّة العربيّة التي يستطيع ناطقيّ العربيّة الاعتماد عليها في استعمالاتهم اليومية”([37]) ويوضح لنا الشكل رقم (4) كيفيّة المزاوجة بين الحرف اللاتينيّ والحرف العربيّ الطباعيّ.
الشكل رقم (4)
أمّا من الطرف الآخر في عملية المزاوجة، نلحظ عدد من المصممين البارزين ممن زاوج بين الموروث الحضاريّ للخط العربيّ، فقاموا بتصميم خطوط عربيّة طباعيّة من وعيّ الموروث الثقافيّ الخطيّ القديم من مثل خط النّسخ، وخط الرّقعة ليسهل قراءتها بقراءة بصرية لا تختلف رسومها عن ذلك الإرث الحضاريّ الأصيل. ومن بين هؤلاء المصممين”أرليت حداد بطرس، نادين شاهين، باسكال زغبي، يارا خوري تمور، كريستيان سركيس، مأمون الصقال”، ومنها تجربة باسكال زغبيّ في المزاوجة بين خط النّسخ الكلاسيكيّ أظهرت لنا خط “زرد نكست”، وكذلك تجربة كريستيان سركيس في الخط الديوانيّ. أظهرت لنا خط “ثريا”. ومن التّجارب المهمّة التي تفصح عن وعي وادراك بالموروث الخطي الأصيل. امتلك صاحبها قدرة كبيرة في فهم قواعد الخط العربي القديم والحديث، حيث زاوج بين الخط القديم للخطاط عارف حكمت الذي وضع ابجديته سنة 1914م، ولم يضع له صور اخرى في اتصالات
الحروف وكيفية ربطها مع بعضها البعض. إلى أن جاء الخطاط وسام شوكت بما يحمله من أدوات معرفيّة في الخط الشكل رقم (5)
الكلاسيكيّة وأدوات الحرف الرّقميّ، أدى ذلك التّراكم الثقافيّ في معرفة رسوم الحروف ومسارتها إلى إنتاج هذه المزاوجة في رسم الحرف الكلاسيكيّ، وإظهار خط مشابه للخط السنبلي، بان يجعل منه منطلقا له في انتاج إسلوب جديد، فيه مساحة من الحرية والرّشاقة. إذ جعل له ابجدية ومقاطع، إذ لم يستطع ذاك الاول أن يترك له مقاطع أو اتصالات ليعرفها المتعلم لهذا الخط يعتمد فيه على خلق انحناءات تخيليّة بناءً على المرسوم القديم للخط السّنبلي، وأنشأ له مقاسات موزنة مراعيًا النّسب الجماليّة للحرف العربيّ. لقد عمل شوكت على إعادة الروح الجماليّة لهذا الخط المنسيّ. وقد اتّجه بعض الصميمين إلى إبراز الجانبّ الرّمزيّ للحرف بربط المبنى التّكوينيّ للنص بالمعنى. فقد نهج المصمم باسم المهدي هذا المنهج في جميع أعماله. حيث انقلب انقلابًا كبيرًا على قاعدة وأصول “عمود الخط القديم”، بل حتى على الخطوط الرّقميّة من خلال المزاوجة بين التّجريديّة للحرف وبين الخطوط الهندسية، فنراه يسلك مسلك الرمزية في لوحاته، وكأنّه يحاكي بها زمرية الخطوط الصينية، أو الرّمزية السومرية القديمة. فهو يناظر بين العلاقات الناشئة بين الحرف والنص المختارة، لإنتاج عنصر يعدّ المعنى موضوعًا له. نقدر أن نطلق عليه “الخط التمثيلي”. وهو هنا يُريد أن يكشف لنا عن قراءآت جديدة للخط الرّقميّ ويحيلها إلى احتمالات لديه، فهو يحتكم بين مستويين اثنين الفنيّ والنّفسيّ. وهذا بدوره خاضع إلى رصد آفاق المخيلة الحديثة “ما بعد الرقمنة”. التي أقصد بها الخط التّمثيليّ الرّقميّ ومن خلاله يمكن لنا أن نؤسس إلى مصطلح جديد خاضع للنقد والجدل المنطقي في قابل الأيام. إنّ استهداف المعنى وربطه بالمبني في عمود الخط القديم لم يخرج عن كونه ربطًا بالتكوين الخارج للتكوين خصوصًا في خط الثلث الجليّ، يخضعه الخطاط إلى المعنى من دون التلاعب بأشكال الحروف، ولكن لم يعد هذا موجودًا عند المصمم باسم المهدي في لوحاته، فقد خرج عن عمود الخط القديم، واختار لنفسه حروفًا خاصة به، غايتها الرمزية لاستنطاق المبنى مُراعيا فيه المضمون، وأغلب لوحاته الفنية كانت المحددات فيها الدائرة والمستقيم بعمل هندسي تجريدي للمعنى النصي والثيمة البارزة فيها هي ارتفاع الحروف، والبعض منها كأنها حكايات الصّغار بين أحضان الأمهات. انظر إلى الشّكل رقم (6).
الشكل رقم (6)
وبالنّظر إلى تلك المحاولات نستنتج الآتي:
- الاعتماد على الخط الموزون القديم وأساسه الخط الكوفيّ المصحفيّ والبسيط.
- استخدام الخط بالاعتماد على الخط اللاتينيّ ما أدى إلى أن يفقد الخط العربي طابعه الثقافي الأصيل.
ج- أغلب الخطوط الرّقميّة اعتمدت على خط النّسخ التقليدي لإنتاج خط طباعيّ جديد يخدم متطلبات العصر، ويكاد يكون هو الشّكل الكتابيّ المناسب “في الكتابة الطباعيّة التي تمثل الجانب اللغوي أيضًا، فإن الأمر قد أستقر على “خط النسخ”، وإن كان خط النسخ من الخطوط الفنيّة والجميلة، ولكنًه في أشكاله الطباعيّة، يكاد يكون شكلًا كتابيًّا. خاصة بعدما لحقه كثير من التّشوية، بخطوطه المطروحة حديثًا في مختلف الأجهزة الطباعيّة وفي تقديري أنّ الرّقمنة سوف يكون هاجسها الأساس في هذا الجانب”([38]).
د- استخدام الخط الطباعي اللاتيني في المحتوى يكمن في استخدامين:
الأول: استخدام الخطوط الكبيرة، والثانيّ: الخطوط الصغيرة في العناوين أو العرض. وهو هنا يعتمد على فئات محصورة في تصميم الخط الطباعيّ العربيّ، فقد أهمل فئة أخرى تؤمن بالخط العربيّ وثقافة الإرث الحضاريّ، لما للخط العربيّ من مساحة وفضاء واسع بفرض نوع من الجماليّة والتناغم والتّوازن في المحتوى، وخاصة في اتصال الحروف الذي يفقده الخط اللاتينيّ([39]) .
إنً مصطلح الرّقمنة يعوم بين ما هو قديم، وبين ما هو حديث. تتنوع دلالاته في الشّكل والمضمون تظلله عناصر إيحائية. ينظر الشكل رقم (7)، فالأشكال والقواعد متغيرة عبر الزمن تتطور بين المجتمع فطرياً. على الرّغم من أنّ “بنية الخط بتشكيلاتها المتعدّدة تحيل إلى نزعة بدائيّة في محاولة للتخلص من عبودية الشّكل الطباعيّ الآلي السّائد، وبهذا يكون النص قد خطى على مستوى الشّكل البصريّ خطوتين انزياحيتين، الأولى: خارجيّة، تخص خرق نظام العادة الطباعية، والثانية: داخليّة، تخص الخروقات البصريّة التي حدثت داخل نظام العادة الخطيّة”([40]). لذا يعمد المصمم في عملية تسهيل القراءة إلى الهرميّة البصريّة والإيقاع، فهو يستعين بمبادئ التّصميم. وبهذا فهو يوجه القارئ من المعلومة الأكثر أهمّيّة إلى المعلومة الأقل أهمّية من خلال التّلاعب في سمك، وشكل الحرف وأيضًا ما يضعه من ألوان على العكس ما نراه في الكتابات البدائيّة الأولى مثل الخط الهيروغليفيّة المصريّة، ففيها نسبة التعتيم كبيرة جدًا بسبب استخدامها للرّموز المبهمة. وأيضًا هذا ما نلحظه في الخطوط المنسوبة الكلاسيكيّة “عمود الخط العربيّ” وخصوصًا الخط الدّيوانيّ الجليّ في بداياته الأولى كان يستخدم كرسالة ترسل بيد الجنود يستخدمها السّلاطين العثمانيين فيما بينهم انذآك، لكي لا يطّلع أو يفهم الجندي ما كُتب فيها من أامور أو أسرار تخص الدولة. لما يتميز به هذا من ميلان حاد وتداخل في رسم الحرف الواحد وتعشيق للحروف فيما بينها والإكثار من حركات التزيين، أضف إلى ذلك حركات الإعراب. ونرى هذا أيضًا في كتابات أهل المغرب العربيّ، ونقصد هنا الخط المغربيّ الذي امتاز خصائص متفردة نابعة من الخطوط الموزونة “الخط الكوفيّ” الذي اخذ منه، وصنع لنفسه شكلًا خاصًّا به يعرف بالخط المغربيّ، وقد تعددت أنواعه، ومنها الشّبيه بالخط الدّيواني. ولكنًه غير مشابه له في رسم حروفه، إنّما أخذوا يقلدون الشكل له أو الإطار التكوينيّ في رصف الحروف وتداخلها وتشكيلاتها الكثيفة جدًا. ما دعاهم إلى استخدامه في مراسلاتهم الحربية في أيام عصر الخلافة في المغرب العربيّ.
يرى البحث في قواعد هذا الخط فسحة كبيرة للمصمم الخطاط، أن يجعل من هذا الخط المنسوب مزاوجة عمليّة لإنتاج نوع جديد يُلبي متطلبات الذوق العام. لما يحتويه من خصائص المرونة، والدوران، والرّشاقة، والتحّكم الطوعي لما يرتأيه المصمم. وتظهر لنا صور الحروف بأشكال متعددة اثناء عملية الخط الفني المنسوب من خلال جرة القلم الواحدة المباشرة، فكل “حرف من الحروف العربيّة هندسته الخاصة، والحروف بأجزائها وكلّيّاتها مردودة إلى نسبة ثابتة، هي النسبة الفاضلة، فعرض الألف بالنسبة إلى طولها 8:1، وتظل هذه النسبة مرعيَة مهما تفاوتت المساحات التي يكتب فيها، فالمبالغة التي جعلت 12:1، جعلت الألف هزيلة ضعيفة”([41]). من هذا نقول: كما للحرف أسرار روحانيّة يستمد قدسيته من القرآن الذي هيّأ للفنان المسلم سبل الابداع والتجويد في الحرف العربي،حتى صار البعض يوصي أن تدفن هذه الحروف معه في قبره، مرسومة على قطعة قماش ليتخذه كفنًا، وهذا ما فعله أحد القساوسة قبل مئات السنين. والبعض من فنانيّ العالم الغربيّ لم ينكر على الخط الأسبقية على باقي الفنون، وهو يرى أنّ أقصى نقطة في الرسم أو التشكيل أردت الوصول إليها وجدت الخط العربي قد سبقني إليها. فللخط الرّقميّ أيضًا أاسراره مبرراته وأصوله في الحجم والشّكل. فالحرف الأول منذ القِدم لم يكن اعتباطيّة، أو فوضويّة بل هو شعور فطري متأصل داخل النّفس البشرية.
شكل رقم(7)
الشكل رقم (8 )
المبحث الثالث: تحليل دلالات الخط الرّقميّ في العتبات “أدباء ذي قار اختيارًا”
أولًا: جنائن آدم وقصائد أخرى
نوع الخط: متين، وهو يشابه خط النسخ الطباعيّ السّميك هندسيّ ذو رتابة واضحة خالٍ من التشكيل والانحناء والتّقويس.
دلالته التّصميميّة: انّ العلاقات البنائية الداخلية الكامنة في هذا التصميم تتظافر بعلاقتين: الأولى العلاقة اللونية، والثانية: العلاقة الإيحائيّة.
لذا يمكن لنا تأسيس علاقة كبرى بين رمزية اللون السيميائيّة وسمك الخط المسمى “المتين”. أو ما يسمى بلغة الحاسوب “بولد”، لخلق تكوين صامت يوحي إلى هدوء تلك الجنائن والسكينة والاسترخاء بما يشكل روحًا حيّة، وحركة فعالة في التّصميم. بتعاضد العلاقتين. لتبرز قيمًا مختلفة تهدف لإغناء البنية التّصميميّة ومنها:
- انتظام اللغة التّصميميّة إنّ صح القول، فهي تهدف إلى إيحائيّة في نوع الخط مفادها صفة الهيبة والإبداع والإغراء في الخطوط الأفقيّة.
- مثّل حرف (ج) وهو شاخص ينظر من بعيد إلى ما سوف يفعله آدم، دلالةً سيميائية لنقل ذهن المتلقي “المتخيل” إلى فضاء حسيّ وبصريّ في البنية الإيحائيّة المتشكلة من سمك الخط الذي يعبر عن غلظ الصّراع الدّائر بين النّفس واللذة أو الشهوة. فهذا الاسترسال المتسلسل في سمك الخط “يهتم بوجود نوع من المنطق السببي الترابطي في العلاقات بين مختلف عناصر العمل الفنيّ”([42]).
- الحروف المنفصلة “الدال والميم” غير المتشابكة مثلت دلالة ايحائية أخرى لصمت آدم اتجاه ما فعله. تاركاً وراءَ ظهره الجنائن، وهذا الانفصال في الحروف هو روافد الحركة الإايقاعيّة المهمّة في النّص المكتوب “التصميم” وهذا ما يثير مخيّلة المتلقي ليحفز عنده رسم لوحة في مخيلته. أمّا الدّلالة البصريّة الأخرى المحدثة في خط “وقصائد أخرى” حملت عدة مقاصد منها:
- الذنب بدلالة اللون الأسود ليخلق في داخل اللوحة ظهيرًا لونيًّا بلون متضاد كما يعبر التّشكيليون. تعمل لغويًّا على إظهار الدّلالات، وهذا ما نراه من تلك الدلّالات الكامنة ما وراء “الخط الرّقميّ” من إظهار التأويل من خلال التّضاد الدّلاليّ، وبهذا يكون التلوين فاعلًا على الأداء والدلالة. وظاهرة هيمنة اللون الأسود كانت مهيمنة حقبة الثمانينيات ([43]).
- تكرار الخط بحجم أصغر ليأخذ شكل الحروف في عنوان العتبة الرئيس أعلاه رسمًا وشكلًا بنبره طباعّية أقل من المتين “لإحداث منبه بصرّي يبرز أهمية جملة أو مفردة من دون سواها ويمكن عده شكلًا من أشكال التّوكيد البصريّ الذي ينتج أحيانًا تضعيفًا دلاليًّا يترجح هذا على ذاك، وقد أفاد الشّعر من التّقنيات الطباعية لإبراز حالات خاصة بالنّصوص”([44]). ولقد أصبح التّلاعب بحجم وشكل الحرف تقليدًا متبعًا لإبرار عنوان العتبة أو ما هو بحكمها، وهو لأن أصبح من ضمن قصدية النّص([45]).
4- صورة الشّاعر: هذا الاستثمار لصورة الشّاعر يضعنا أمام أمرين، الأول هو توظيف و”إحالة لتكريس مناخ السيرة الذاتية للعمل الشّعري”([46]) والثانيّ “ترتبط أهمیة الصورة بقدراتها التّأثیریّة ومعانیها المهمة التي تحملها، بوصفها أحد العناصر التیبوغرافیة المهمة، إذ تؤدي دورًا كبیرًا في تسهیل إیصال المعاني المُتَضمَّنة في المتون التي قد لا يمكن الوصول إلیها في ظل الاعتماد على الكلمات والمعانيّ فقط، كما تستطیع الصورة إحداث التباين المطلوب في التصمیم الطباعي بالإضافة إلى ما تنطوي علیه من قیم جمالیّة قادرة على استیقاف النظر، كما تعمل على إضفاء الحیویة والحركة بما یقضي على الرتابة والجمود، وتنقسم الصور فیما یتعلق بخصائصها الطباعیة المرتبطة بتدرجاتها الظلیة وبطریقة إنتاجها إلى قسمين رئيسين، هما الصور الظلیة الفوتوغرافیّة، والصور الخطیة الرسوم الیدویة”([47]).
ثانيًّا: أميرة من أور
اسم الخط: east وهو خط مستحدث من مجموعة خطوط الحاسوب، فيه إيحاء للخط الكوفي القديم.
الدّلالة التّصميميّة: على الرغم من الطابع الهندسي الذي يكتنف هذه الخطوط المستحدثة في الحاسوب، والتي تتميز برتابة حروفها، وخلوها من التشكيل المعهود في الخط العربي الكلاسيكي وقواعده المعروفة. لكننا نرى في هذا التصميم اجتهاد المصمم في اخراج شكل “أيقونيّ”، اعتمد فيه على مساحة التكوين، والتكامل البنائي واختيار المنظور المؤثر. لكي يهتدي المتلقي إلى نص بصري لغوي يدرك معناه، ويحدد ماهيته الجماليّة والرمزية فيه. تضمن هذا التكوين في البنية الداخلية دلالات في حرفي “م. ن” إيحاءً دلاليًّا استلهمها المصمم من كلمة “أور” ليربط الحاضر بالماضي عبر ربطها بخط مستقيم طويل يمثل الحضارة السّومرية، ويسمى عادة هذا الخط المستقيم عند الخطاطين ب “الكشيدة”، وهي خط أفقيّ يتوسّط حرفين يحسن المدّ بينهما. وقد تعددت الغايات من وراء هذه الكشيدة – التي لا تحمل أيّ أصل عربيّ، فهي كلمة معربة عن الفارسية- ومن هذه الغايات: الموازانة بين أطوال النصوص في الشّعر العربيّ، للمحافظة على النص مرتبًّا غير مرتبك. ومنها ايضا تستخدم لتزيين الكلام، ونراها في “عمود الخط العربيّ” إضافةً جماليّة وضرورة قصوى لإحداث شدّ بصري يلبّي متطلّبات العمل الفنّيّ في استنطاق المعنى والمبنى، لتذهب بالمتلقي إلى تأويلات متعددة. وقد تكون اطوأأاااااوهي صفة تميزت بها خطوط ذات العمود الخطي الكلاسيكيّ ومنها الثلث والنّسخ والدّيوانيّ، لما فيها من مرونة ومطاوعة إذ “تؤدي هذه الصفة دورًا مهمًّا في عملية التّنغيم والايقاع الفني، إذ المدات الطويلة في الكلام تؤدي دور لحظات الصمت واللاتلفظ، فاستمرار الحرف ممدودًا مصحوبًا يجعل العين تتابع هذه المسيرة حتى لحظة التوقف، أو التشابك مع حروف أخرى حيث أن الأشكال التي تعطي الإيقاعات في الخط العربيّ”([48]). ونراه في الشكل أدناه إنّ الكشيدة مقيدة بحكم جماليّ لا اعتباطيّ بين الحروف التي يجوز فيها هذا المد. على الرّغم من إنّ المدّ في كلمة “من” غير وارد في “عمود الخط الكلاسيكيّ”، لأن الميم بعده حرف نازل لا يجوز المدّ فيه. ولو كان بعده حرف صاعد لجاز لنا ذلك في المدّ بينهما، ويصح أيضًا المدّ النون لتصبح مرسلة. وما أراده المصمم هنا هو، الإيحائيّ صوريّ المتحوّل من المحتوى اللغويّ إلى تجربة تشكيليّة أفرغ فيها الكتابة من كونها وسيلة التخاطب، وحولها إلى شكل صوري ليصنع منها لوحة ذات دوافع تشكيليّة ليس فيها طابع اللوحة الخطية. وقد وضع العلماء العرب “تفاصيل دقيقة بشأن استعمال المدات، فاستعمالها في الكلمات ذات الحرفين يختلف عن الثلاثية، وكذلك الحال عند استعمالها في الكلمات الرباعيّة، والخماسيّة، والسداسيّة”([49]). وأحدث حرف النون المقلوب إيقاعًا وتنوّعًا بصريًّا في نظام التّواصليّ اللغويّ، يمكن أن يكون هذا التغير دليلًا لتحديد المنحى النفسيّ للنص([50]).
ثالثًا: لحم إبليس
نوع الخط: المتين “السميك”، أو الطباعيّ العريض، أو الثقيل. وهو قريب من خط النسخ، ومن مميزات هذا الخط أنّه هندسي خالٍ من التشكيل والانحناء والدوران.
دلالته التّصميميّة: النواة الإيقاعيّة التّصميميّة في هذا الخط جامدة هادئة في وحداتها اللونيّة، ونوع الخط المختار، وشكل الحرف المرسوم. لكنّها مكتظّة بسيلٍ عارمٍ من الأسى والفقدان، وهذا ما نلحظه من رمزية اللون الأبيض على الرّغم من وجود متعارضة بين اللون الأبيض، وإبليس الذي يرمز إلى الشر الأسود. “غير أنّ العنوان المركب من مفردتي “لحم” و”إبليس” يحيلنا إلى نصوص التراث المتعلّقة بموائد الملائكة للبشر عبر أحلام المنام أو اليقظة، وفيه دلالات عن أفعال البشر اللإانسانيّة. فهذا الكائن المرعب، بات لا يضاهى في شراسته وحقده على الآخر، وتمتعه الغرائبيّ وهو يمضغ لحم أخيه، وذلك لتماهيه مع الشيطان في بعض أفعاله، بل وتفوقه عليه في أخرى”([51]). ويتراءى للمتلقي عناصر متناقضة ومتقابلة بعض الشيء في الفكرة التصميمية ومفادها: أن ثمة صلة قوية بين اختيار نوع الخط السميك، وجملة “لحم ابليس”، فلم يختار المصمم خط فيه انحناء، أو مرونة ورشاقة، ليوحي الينا بالحيوية والنّشاط المتجدد. إنّما أراد المصمم أن يجعل عنصر الايهام حاضرًا في “اللون الابيض” الذي يحمل في طياته رمزية النقاء والصفاء والمحبة. وهو عامل الشد البصري المؤثر لا إراديًّا على العين البشرية. فالقيم اللونية جاءت هنا متعارضة مع جملة “لحم ابليس” بما يحمله من شقاء وعناء للبشر لا نقاء فيه ولا صفاء، وبهذا يعاضد المصمم بين الايهام اللوني وسمك الخط ليجعل منه تسلسلًا زمانيًّا وبعدًا دلاليًّا، وينتج لنا قراءة ثالثة بين اللون والشكل الخطي، ودلالة الخط المستقيم. ونلمح في الصورة الفوتوغرافيّة للشاعر إيحاءين في الأولى إيجابيّ، والثاني سلبيّ.
الشكل رقم ( 1)
رابعًا: تراتيل بلون التّوبة
نوع الخط: حسن سمرة، وهو من ضمن مجموعة خطوط الحاسوب الموجودة على برنامج الوورد، والفوتوشوب. والاسم يعود إلى أحد مبتكري هذه الخطوط الحديثة في عالم التصميم.
دلالته التّصميميّة: اتّكأ المصمم في هذا التّصميم على اللون لترتيب إيقاع الخط، وشكله. نرى أن التوزيع اللوني للنص لم يكن اعتباطيًّا، بل خلق لنا لوحة ملوّنة ذات الإيقاع المتوسط الشدة تعطي انطباعًا بالوَقار. وإذا كان في تراتيله يحاول الشّاعر الولوج إلى الماضي واستحضار الأسطورة “ميثولوجيا”، فإنّه في اختياره لنوع الخط والألوان مزاوجة لتلك الميثولوجيا السائدة في المجتمع في دلالة الألوان ورمزيتها عند المجتمع. تتبادل فيه الخطوط الأفقيّة والعموديّة للتآلف في ما بينها، لتشكّل نصًّا أدبيًّا يعاضده في ذلك التنسيق الأفقيّ الحادث في السّطر ضمن النّزعات التي تعتمد على اللون والإفادة من هذا التّعدد اللونيّ لتحقيق الشدّ الانفعاليّ، كون الاختلاف اللوني يشدّ اهتمام المتلقّي ويزيل الرّتابة، وأنّ هذا التّناغم الحاصل بين اللون والخطّ، اتسم بالثبات، والانسجام، والتناسق في السرد اللونيّ – إن صحَ التعبير – ليحيلنا إلى تفكيك هذا السرد الذي بدأ بلون أسود مبهم غير معروف متى ينتهي…؟ ربما أراد به زمنًا محسوسًا، أو خلقًا ايقاعيًّا مشهديًّا ليستكمل خيوط القصة بلون أحمر يرمز إلى الحرب والدّماء وضعه المصمم وسط اللوحة في جو نفسي متوتر إلى أن يخرج ضوء من نفق بعيد في تلك المشهدية اللونية الثالثة، ليظهر لون التوبة اللون الأخضر لون الخلاص والأمل، وهذا يذكرنا بالمقطع الأول من نص “اغتيال” لصادق الصائغ في كيفية إحالته إلى التّدرج اللونيّ بقوله([52]):
في إسبانيّا
يأتي الصبح أبيض.
يكبو ثور أسود.
يدمي رمح أحمر.
فخلق لنا نص ملون، كما فعل المصمم في تراتيل بلون التوبة، فخلق لنا خط ملون.
خامسًا: كمشة فرشات
نوع الخط: مهند بولد، وهو دائما ما يستخدمه المصمم لتمييز نص عن غيره من النصوص، بلون أسود داكن، أو أي لون آخر، وهذا النوع من الخط الرّقميّ قريب من خط النسخ.
دلالته التّصميميّة: لكل علمٍ مصطلحاته، وللخطّاطين والمصميمين مصطلحاتهم الخاصة بهم. لقد ابتدأ المصمم بهذا التصميم بحرف الكاف “الزناديّ” الأكثر إحاطة، والأكثر رمزية في دلالة المعنى من الكاف السيفي. الذي يكون بشكل مرتفع لا يشير إلى دلالة واضحة المعالم في كلمة “كمشة”. لذا أعطى المصمم خصوصيّة للكاف “الزناديّ”، فهي هنا “ككاف التشبيه” – عن جاز لنا القول بها – وهو تشبيه تمثيلي ما بين حرف الكاف “الزناديّ”، وتطويق الشّيء المراد الحصول عليه. التي أراد المصمم منها إيحاءً جماليًّا أكثر وأعمق في دلالاته من الكاف السيفي. يمس إحساسه المرهف الكامن في خفايا النّفس، فيحدث التواصل بين المبدع والمتلقي في البناء الصوري،فالتماثل الصوري في رسم الحرف مع النص يعد مرجعا مهمًّا في تأصيل صفة البيان البلاغي عما في النّفس، “ومن هنا يختار الخطاط عادة نمط الخط في تدوين النّص لما فيه من مزايا معنية في التّعبير”([53]). فالعلاقات الجماليّة في التصميم لا بدّ لها من الاتصال الحسيّ بالموضوع.
الشكل رقم (2) الكاف الزنادي (خط النّسخ )
ولّدت لنا العلاقات الحسيّة في الأدب، والبصريّ في التّصميم الخطي تأملًا (استطيقيًّا) ناشئًا من استخدام نوع الخط لاكتشاف الروابط الفكريّة بين المعنى والمبنى. وهنا يتبادر إلى الذّهن مقومات التمايز بين الصورة الفنية لعمود الخط القديم والخط الرّقميّ فالإثنان خطابهما موجه إلى البصر، ولكن يبقى التّعامل مع الحرف وشكله وحجمه في تمايز كبير فلكل منهما فقهه الخاص، إذ يصلح المجاز المطلق في رسم الحرف في الخطوط الرّقميّة للهروب من الرّتابة، والتقييد على العكس من الخط الكلاسيكيّ فهو دستور مقدس. لقد ولد لنا اللون الاحمر في “نص العتبة” مساحة من التأمل والانتظار بين الجالس المنتظر وبين الذي يحوم حول الأزهار. لينقل المتلقي في حوار داخلي، ولقد أضاء اللون الأحمر بإطار أبيض يرمز إلى النقاء والسّلام الذي يعمل تفعيل لغة النص ودلالاتها الإيحائيّة. الخاتمة
في ختام هذا البحث نؤشّر إلى إضاءات دلاليّة عدّة، وإيحائيّة ضرورية في الخطوط الرّقميّة التي نزعم إنّها قائمة فيه. نتج عنها أنواع تحاكي تلك الخطوط الكلاسيكيّة ذات الإرث الحضاريّ والثقافيّ الكبير، فجاءت هذا المحاكاة لاستنطاق الخط الرّقميّ، وكيفيّة مراعاة الخط فيه حجمًا ونوعًا في عنوان العتبة النّصيّة، وكشف المقاصد البلاغيّة الناشئة بين الحرف والصورة الشّعرية في المحتوى الأدبيّ، لمختارات عناوين العتبة النّصية لأدباء ذيّ قار. قلد سعى البحث في الكشف عن المعياريّة والموازيّة بين الخطين فضلًا عن الّتناص الحاصل بينهما بعض الشّيء، وهنا لا بد لي من التنوية إلى رأييّ الشّخصيّ في مسألة القول إنّ الرّقمنة” خط” فيه غير خاضعة إلى معيار منطقيّ مطابق إلى تلك المواصفات والحدود المعروف والمنطبقة على “عمود الخط العربيّ”. لذا فقط توصلت إلى عدة نقاط نراها تجلت في ثنايا البحث:
1- عززت لديه فكرة الأصول والقواعد في الخط العربيّ القديم القول بمصطلح “عمود الخط القديم” وهي محاولة أو أطروحة جديدة بوصف الخط خاضع لمحددات لا يمكن الانسلاخ عنها. كما هو عمود الشّعر العربي.
2- هندسة الحرف تنطلق من النقطة والمعين، لأنّهما الوحدة المثلى لرسم الحرف ضمن النّسبة الذّهبيّة.
- خضت كل نصوص التراثية المختارة من الخطاطين إلى محددات تربوية ونفسيّة، فيعمد اغلب الخطاطين إلى اختيار النصوص التي يكثر فيها تشابه الحروف وخاصة تكرار حرف الحاء والواو وغيرها. لشد الانتباه البصريّ عند المتلقي، وأيضًا الإفادة منها لعرض أمر دينيّ أو تربويّ برؤية بصريّة جديدة. وهذا التّباري بين الخطاطين قد ولد روح التنافس بينهم، فأنتج لنا لوحات ترى فيها روحانيات مختلفة، وحركات للقلم في رسم الحرف تتعدّد في ما بينها، والإخراج الفنيّ للوحة وانعكاستها على نفسيّة الخطاط في رسم الحرف. وقد يصل البعض منهم إلى أشهر أو سنوات لإنجاز اللوحة لأنّهم يرون في تأملاتهم “اللوحة الفنية” فيها ما يتطلب التّصحيح للوصول إلى مرحلة التّجويد في الخط.
- المزاوجة التيبوغرافيّة بين الخط الرّقميّ العربيّ واللاتينيّ، تعوم بين فريقين الأول يرى أن المزواجة هي الصلح لخلق حرف جديد من خلالها وترك الحرف العربي صاحب الإرث الثّقافيّ. وهذا ينطلق من ثقافة أيديولوجيّة تحقق السيادة والحظوة للخط الرّقميّ اللاتينيّ. والفريق الثاني يرى البقاء على ذلك الإرث الثقافي والمزاوجة بينه وبين الحرف الرّقميّ وهذا ما نراه في تجارب الكثير من المصميمين العرب.
- اشتق أغلب الخط الرّقميّ، من خط النسخ كونه المرسوم الأمثل في كتابة الرّقميّة. لما يتميز به من مطاوعة كبيرة خاصة في رسم شكله وحجمه ومنها السّمك والتّرشيق وأغلب الخطاطين يستخدمونه على اللافتات، أو على السّطوح الأخرى ورسمه بالقلم والمسطرة ويسموه الخط النّسخيّ الطباعيّ، وهذا يؤكد الفرق بين مصطلح الخط الرّقميّ والخط الطباعي الفنيّ. فالطباعيّ عمل يدوي أو صناعة يدوية من دون استخدام الآلة والعرف السائد بين المجتمع يقول اطبع هذا الكتابة يحيلك إلى الآلة الطباعة أي النّسخ، أو أخذ صورة مطابقة لمحتوي الكتاب، أو أيّ شيء، أمّا الخط الرّقميّ فهو إنشاء الحروف على (الحاسبة الرّقميّة) بحروف مُعَدّة مسبقًا.
- تصميم عنوان العتبة النّصيّة هو عملية مشتركة لتبادل الأفكار بين المصمم والمؤلف على الرّغم من تشابه الخطوط في العتبات من حيث بنيتها وسمكها، إلا أنّ هناك تكوينات أيقونية استطاع بعض الكتاب رفض رأيهم على المصمم ومن تلك التّجارب نراه في تصميم عنواني كتب الاديب المشهور أدونيس فأغلبها من بُنات أفكاره، وكذلك الروائيّة أحلام مستغانمي فكل عنوانيّ العتبات النّصية هي رسمت أفكارها ينفذها المصمم، وأبرزها في رأيي ذاكرة الجسد، وعابر سبيل، وفوضى الحواس، ومنها أيضًا أعمال باسم المهدي. فقد لامست هذا العناوين صميم المعنى والمبنى، وأفرزت لنا مصطلحًا جديدًا قابلًا للنقد والجدل، وهو ما بعد الرّقميّة “الخط الرّقميّ التمثيليّ”.
المصادر والمراجع
- إدهام محمد حنش، الخط العربي وإشكالية النقد الفني، ط1، دار المناهج للنشر والتوزيع، 2015.
- أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، دار الآداب، بيروت، 2010.
- الارتقاء بالقيم الجماليّة في خطوط الطباعة العربيّة، اطروحة دكتوراه، خالد عثمان أحمد، جامعة السودان، 2017م.
- أميمة عبد السلام الرواشدة التصوير المشهدي في الشّعر العربي، المعاصر: ط1: وزارة الثقافة الأردنية: عمان – الأردن: 2015م.
- إياد عبد الله حسين الحسيني، التكوين الفني للخط العربي وفق اسس التصميم، اطروحة دكتوراه، كلية الفنون الجميلة جامعة بغداد، 1986م.
- تداخل الفنون في القصيدة العراقية، كريم شغيدل، دار الشؤون الثقافية، 2007.
- حسن حسن طه، قابلية التحوير كخاصية فنية في الخط العربي، وكمدخل لإثراء التصميمات الزخرفية، رسالة ماجستير.
- حسين علي جرمط، خط الثلث الجلي، دراسة جماليّة في تنوعاته التصميمية، ط1، دار الينابيع، 2016م.
- خالد عثمان أحمد الصديق، رسالة دكتوراه، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، 2017م.
- الخط العربي من خلال المخطوطات، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات السعودية، الرياض (1406).
- رحمة محمد أبو كليلة، الخط العربي مهارة وحضارة، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، ط1، 2015م.
- عبد الناصر ونوس، محمد غنوم، الخط العربي (نشأته – مبادئه – استخداماته)، منشورات جامعة دمشق، 2016م.
- علي شبيب ورد، كولاج تأويل في كتاب لحم إبليس، جريدة الصباح، 2015.
- كريم شغيدل، تداخل الفنون في القصيدة العراقية الحديثة، ط1، دار الشؤن الثقافية – بغداد، 2007م.
- محمد عبد العزيز عبد الدايم الرفاعي، الكتابة العربيّة نظام بين نظامين، بحث ضمن مشروع نظام الكتابة العربيّة، ط1.
- يوسف ذنون، زينة المعنى (الكتابة، الخط، الزخرفة) الدوحة 2015.
مواقع الإنترنيت
- arabictype word press. Com 2020
- arabictype word press.com
- https://alhikmeh.org/yanabeemag مقال منشور، حيدر عبد الباري العبودي، 2018.
- عفيف بهنسي، جماليّة الخط العربي بوصفه فنًّا وإبداعًا، بحث منشور على شبكة الإنترنيت.
- ستوديو هبه، د. محمد النعسان تطوّر الخطّ العربيّ وعالميّته، بحث منشور على شبكة الإنترنيت.
- أثر التغريب على تصميم الطباعة العربيّة، جاد الله، مقال منشور infolar.
- جاد الله، أثر التغريب في تصميم الخطّ الطباعيّ، ttps://hazine.info.
- حسين علي جرمط. تكييف البنية النصّيّة إلى البلاغة البصريّة في تكوينات الخطّ العربيّ، بحث منشور على الإنترنيت.
[1] – مدرّس مساعد في معهد الفنون الجميلة العراق – مديرية تربية محافظة ذيّ قار.
[2]– أدونيس، النص القرآني وآفاق الكتابة، دار الاداب، بيروت، ط2010، ص72.
[3]– د. عفيف بهنسي، جمالية الخط العربي بوصفه فنًّا وإبداعًا، ص127-128.
[4]– د. ادهام محمد حنش، الخط العربي وأشكالية النقد الفني، ص106.
[5]– د. عفيف بهنسي، جمالية الفن العربي، عالم المعرفة، ص97.
[6]– م، ن، ص 80.
[7]– م، ن، ص101.
[8]– م، ن، ص101.
[9]– ينظر، الخط العربي مهارة وحضارة، رحمة أبو كليلة، ص27.
[10]– ستوديو هبه، د. محمد النعسان تطور الخط العربي وعالميته. 2012.
[11]– ينظر، عفيف بهنسي جمالية الخط، ص101.
[12]– ينظر، د. ادهام محمد حنش، إشكالية الخط العربي والنقد الفني، ص22-23.
[13]– https://alhikmeh.org/yanabeemag مقال منشور، حيدر عبد الباري العبودي، 2018.
[14]– الخط العربي واشكالية النقد الفني، ص26.
[15]– ينظر، المصدر نفسه، ص23.
[16]– د. حسين علي جرمط، تكييف البنية النصية إلى البلاغة بصرية في تكوينات الخط العربي، ص10.
[17]– ينظر: الخط العربي وإشكالية النقد الفني، ص34.
[18]– الخط العربي واشكالية النقد الفني ادهام محمد حنش، ص15.
[19]– م، ن، ص25.
[20]– ينظر، د عفيف البهنسي، ص30.
[21]– م، ن، ص 40.
[22]– ينظر م، ن، ص60.
[23]– ينظر: الخط العربي من خلال المخطوطات، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات السعودية، الرياض (1406)، ص35.
[24]– ينظر: المصدر نفسه، ص35.
[25]– ينظر: الخط العربي حضارة ومهارة، رحمة أبو كليلة، ص10.
[26]– يوسف ذنون، زينة المعنى (الكتابة، الخط، الزخرفة) الدوحة 2015، ص139.
[27]– خالد عثمان احمد الصديق، رسالة دكتوراه، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كلية الفنون الجميلة والتطبيقية، 2017 م، ص2.
[28]– ينظر arabictype word press. Com 2020
[29]– ينظر م، ن.
[30]– ينظر م، ن.
[31]– arabictype word press.com
[32]– د، محمد عبد العزيز عبد الدايم الرفاعي، الكتابة العربية نظام بين نظامين، بحث ضمن مشروع نظام الكتابة العربية، ط1، ص87.
[33]– م، ن.
[34]– م، ن.
[35]– ينظر أثر التغريب على تصميم الطباعة العربية، جاد الله، مقال منشور hazine.infolar
[36]– م، ن.
[37]– م، ن.
[38]– يوسف ذنون، زينة المعنى، ص121.
[39]– ينظر، جاد الله، أثر التغريب في تصميم الخط الطباعي.
[40]– كريم شغيدل، تداخل الفنون في القصيدة العراقية، ص87.
[41]– محمد غنوم وزميله، الخط العربي نشأته واستخداماته، ص164.
[42]– التصوير المشهدي في الشّعر العربي المعاصر، د. أميمة عبد السلام، ص69.
[43]– تداخل الفنون في القصيدة العراقية، كريم شغيدل، دار الشؤون الثقافية، 2007، ص31.
[44]– تداخل الفنون في القصيدة العراقية الحديثة، ص70.
[45]– ينظر: المصدر نفسه، ص68.
[46]– المصدر نفسه، ص72.
[47]– الارتقاء بالقيم الجمالية في خطوط الطباعة العربية، ص45.
[48]– حسن حسن طه، قابلية التحوير كخاصية فنية في الخط العربي، وكمدخل لإثراء التصميمات الزخرفية، رسالة ماجستير، ص51.
[49]– خط الثلث دراسة جمالية في تنوعاته التصميمية، د. حسين علي جرمط، ص74.
[50]– انظر، تداخل الفنون في القصيدة العراقية الحديثة.
[51]– عليّ شبيب ورد، كولاج تأويل في كتاب لحم أبليس، جريدة الصباح، 2015.
[52]– تداخل الفنون في القصية العراقية الحديثة، ص30.
[53]– د، حسين علي جرمط، خط الثلث دراسة جمالية في تنوعاته التصميمية، ص72.