الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافة
د. محمّد أمين الضنّاويّ[1]
لعلّه من المفيد في هذه الظروف إن نركّز على أهمّيّة الأوضاع الاقتصاديّة والثقافة، وجدليّة ارتباطهما بشكل متلازم، ولعلّ وطننا العربيّ يشكّل نموذجًا لهذا الارتباط. قد نلاحظ كيف انقلب الواقع الذي تعيشه الأمّة ففي القرنين السابقين كان للأوضاع الاقتصاديّة أثر كبير في الثقافة عمومًا من حيث نسبة عدد العباقرة. فقد أظهرت دراسة قام بها العالم الإنكليزيّ فرانسيس جالتون[2] يمكن اختصار نتائجها بفكرة أنّ الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة تساعد المثقّف في سيره أو تعرقله، ولكنها لا تستطيع أن تمنعه من شقّ طريقه إلى الأمام.
ولقد توصّل في تلك الدراسة أيضًا إلى نسبة المثقّفين المبدعين في طبقات المجتمع إلى ثلاث نتائج في الطبقات الغنية 63% وفي الطبقة المتوسّطة 35% وطبقة الفقراء 1%.
إنّ اللافت هذا التفاوت لا شكّ في أنّه يجافي الواقع، ويخرج على الحقيقة، إذ إنّ هذا التفاوت لا يكون إلاّ لسبب من اثنين:
إمّا أنّ عقول الفقراء ناقصة إذا قيست بعقول غيرهم من البشر، وهذا غير مقبول لدى ذوي العقول السليمة، وما تناقضه أبحاث علماء النفس.
وإمّا أنّ حالة الفقر التي نشأوا فيها، وعدم توفّر وسائل التعليم في بيئاتهم حالا دون نضوج عقولهم، وقتلت فيهم مواهبهم فعجزوا عن القيام بعمل مبدع يُذكر.
قد يقول أحدهم إنّ أيّ مثقّف لا يمكنه أن يثبت ثقافته وسعة معرفته، من أيّ طبقة كان، إلاّ بالإنتاج أو بالحوار الفكريّ البنّاء والواضح، وبإنتاجه الفكريّ. ولا يجب أن يغيب عن بالنا الدور الكبير للقيم والمعتقدات وأثرها في توجيه السلوك الإنسانيّ وفكره، والأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة لها من دون شكّ تأثير مهمّ في عمليّة التنمية الثقافيّة، أمّا الفقر والتخلّف فلهما تأثير سلبيّ على المثقّف، ولا نستغرب إن حدّ الفقر والتخلّف من القدرة على اكتساب الثقافة ولقدرة على الإنتاج الفكريّ المبدع.
ولعلّ هذا جزء ممّا أصاب التطوّر عند الكثير من المثقّفين والمفكّرين العرب والمسلمين، ما أدّى إلى أن تفقد الأفكار العربيّة والإسلاميّة فاعليّتها وقوّتها الدافعة، وإلى ملء الفراغ بحشو من الأفكار الميتة من الداخل، والأفكار غير المفيدة من الخارج.
لا بدّ لعودة نهضة المثقّف العربيّ والمسلم من تصفية الثقافة العربيّة ممّا أصابها من الضَّعف، ومظاهر الجمود، وبعض الشوائب التي تراكمت عبر القرون، يعقب ذلك عمليّة إعادة الثقافة إلى حيويّتها لتصبح قوّة تدفع الإنسان العربيّ والمسلم للعودة إلى طريق بناء حضارته.
هذه العودة ليست بالأمر السهل اليسير إذ لا يمكننا الاستخفاف بها، ولا حتّى أن نستغني عنها، وممّا لا شكّ فيه أنّها تحتاج إلى كثير من اليقظة، والصبر، والمثابرة المترافقة بالإصرار الجدّيّ، وتضافر الجهود الذي يساهم في حصول عودة واعية ومنتتجة.
وهذا مشروع ليس بالمشروع الهين الذي يمكن الاستخفاف به، أو الاستغناء عنه، فهو يحتاج إلى كثير من اليقظة والصبر والإصرار وتظافر الجهود.
[1] – أستاذ جامعيّ سابق، وأحد رئيسَيْ تحرير مجلّة أوراق ثقافيّة، مجلّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، له العديد من المؤلَّفات.
[2] – ابتدأت الأبحاث العلميّة على الذكاء، والقدرات العقليّة في عصرنا الحديث على يد عالم الإحصاء فرانسيس جالتون، المولود في عام 1822م والمتوفَّى في عام 1911م، إذ كان يعتقد جالتون بأنّ كلّ شيء من الممكن قياسه، وقد بدأ أبحاثه المنهجيّة على الذكاء في لندن حيث أسّس مختبرًا لقياس الذكاء في عام 1884م، وقد استمرّ في العمل عليه لستّة أعوام متتالية، وقد وضع فيها عددًا كبيرًا من القياسات الخاصّة بالوظائف الحسّيّة الحركيّة، مثل التمييز الحسّيّ والتآزر الحسّيّ الحركيّ، وسرعة ردود الأفعال، والقوّة العضليّة، وقد وصل عددها إلى 17 مقياسًا لدى الكثير من الأشخاص، وقد كان للدور الذي قام به جالتون في دراسات القدرات العقليّة بواسطة طريقة القياسات التجريبيّة المعمليّة لعدد من الوظائف السيكولوجيّة أهمّيّة كبيرة في وضع حجر الأساس لدراسة القدرات العقليّة في أوائل القرن العشرين. mawdoo3.com