foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

جدليّة العلاقة بين السّليقة والمنطق في تشكيل بنيات الشّعر الجاهليّ

0

جدليّة العلاقة بين السّليقة والمنطق في تشكيل بنيات الشّعر الجاهليّ

رابعة هرموش([1])

الملخص

تشير الدّراسات اللغويّة إلى أنّ اللغة العربيّة كانت في العصر الجاهليّ مُتعدّدة اللهجات، غنيّة بمفرداتها، مُتميّزة بالغنى الأدائي، من دون أن يكون لها قوانين مكتوبة يُعتمد عليها في تقويم المنطوق الأدبيّ، بل كان لها قوانين عُرفيّة سماعيّة يُتقن صياغتها وضبط آليّات استخدامها النخبة اللغويّة، فإذا قيل إنّ اللغة قامت على السّليقة والفطرة، فهذا إشارة إلى صفاء في المختبر اللغوي وبراعة في اختيار عناصر اللغة وتنميتها، لأنّ البيئة اللغويّة العربيّة تمايزت بغلبة أبنائها الذين توارثوا جيناتها كما توارثوا أشكالهم وطبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولمّا جاء الإسلام، ونزل القرآن بلسان عربيّ مُبين، اختصّت هذه اللغة بمنزلة ساميّة، فكانت لغة الذّكر ولغة التّشريع ولغة الأدب والحياة والتواصُل الدّيني والمعرفيّ، وكان للقرآن دور أساس في حفظ قوانينها، وتهذيب ألفاظها، وتليين أساليبها، وإغناء مُعجمها بالمُفردات والمعاني الجديدة، ومن ثمّ نشرها في شتى الأصقاع التي افتتحها المسلمون، لتصير لغة الدّين والفقه والتّشريع والسّياسة والثّقافة والعلوم، ولذلك ارتبطت المعرفة الدّينيّة بإتقان اللغة العربيّة ومعرفة خصائصها. حظيت قضية العلة الصرفيّة، أيضًا، باهتمام مفكرين غربيين مثل نولدكه، كيس فيرستيخ، فتركوا آراء خاصة ودراسات قيمة كشفت عن تضارب في الآراء، إذ عدَّ بعضهم العلة الصرفيّة سليقة لغوية وموروثة عند الإنسان، وعدَّها آخرون أنّها نتيجة تطور عقلي منطقي، ومن العلماء العرب ابن خلدون الذي جمع بين السليقة والمنطق، عندما قال إنها ملكة شبيهة بالصناعة – هي وسيلة العقل – أي علم التخلص من الخطأ أو بمعنى آخر ما نسميه المنطق، وهذا ما أكده أرسطو، أفلاطون، هيجل، أسبينوزا، ديكارت، كانت، فيخته.

يقوم هذا الموضوع على إشكالية تنبثق منه أسئلة متنوعة منها: هل شكلت الدّراسات القديمة منطلقًا للعلل اللّغويّة؟ وهل تكلّم الإنسان بلغة فصيحة بالسّليقة أم بالاكتساب؟

يرى اللغويّون العرب القدماء، أنّ السّليقة ارتبطت بالجنس والوراثة، أمّا في رأي المحدثين لم تكن السّليقة أمر سحري أو غامض لأنّ الإنسان يكتسب اللّغة بصورة آليّة، كالطّفل الّذي يتعلّمها بالتّقليد والمران.

أظهرت هذه الدراسة أنّ العلل اللغوية تخضع للمنطق الّذي ينظمها ويصوغها بما يتوافق ودلالاتها السّياقيّة، فكانت واحدةً من العِلل التي تناولها النّحاة دراسةً وتعليلًا، فحاولوا ربطها بنشأة المنطق العقلي البدائي عند الإنسان، وعلى الرّغم من أنّ الشعراء قد أبدعوا وتكلموا وفق سليقتهم، غير أنّه لا يمكن أن ننفي حقيقة تأثر العِلل اللغوية بالعِلل المنطقية، وليس بالضرورة أن تكون قد خضعت كليّاً لتلك المعايير، ولكنّها احتاجت إليها لتصل إلى هذه الدرجة المتمايزة.

الكلمات المفتاحيّة: نشأة اللغة – السليقة – المنطق – الشعر الجاهلي.

Résumé

Les études linguistiques indiquent que la langue arabe à l’époque préislamique était multi-dialectes, riche en vocabulaire, sans avoir de règles écrites pour évaluer la prononciation littéraire. Il disposait plutôt de lois auditives dont la formulation était maîtrisée et les mécanismes de leur utilisation contrôlés par l’élite linguistique.             Si l’on dit que la langue est basée sur l’intuition et l’instinct, alors c’est une indication de pureté linguistique et de compétence dans le choix et le développement des éléments de la langue, car l’environnement linguistique arabe se distinguait par la prédominance de ses locuteurs qui ont hérité de ses gènes comme ils ont hérité de leurs formes, natures, coutumes et traditions, et quand l’Islam est venu, et que le Coran a été révélé dans une langue arabe claire, cette langue s’est caractérisée par un statut sublime.             C’était la langue du Coran, la langue de la législation, la langue de la littérature, de la vie, de la communication. Le Coran avait un rôle fondamental dans la préservation de ses règles linguistiques. Il eut pour effet d’alléger ses mots, d’adoucir son style, d’enrichir son lexique avec un vocabulaire moderne et de nouvelles significations, puis en permettant sa diffusion dans les territoires contrôlés par les musulmans, jusqu’à devenir la langue de la religion, de la jurisprudence, de la législation, de la politique et de la culture et des sciences. La connaissance religieuse s’est alors liée à la maîtrise de la langue arabe et de ses caractéristiques.             La question de l’irrégularité morphologique a également retenu l’attention de linguistes occidentaux tels que Nöldeke et Kees Versteegh qui ont mené des études, et ont montré des opinions contradictoires. Certains d’entre eux considéraient que le problème morphologique était hérité chez l’homme, tandis que d’autres le considéraient comme le résultat d’un développement mental logique.             Parmi les savants arabes, Ibn Khaldun a combiné entre l’intuition et la logique, en affirmant que c’est une aptitude. C’est le moyen de l’esprit, c’est-à-dire la science permettant de se débarrasser de l’erreur, ou en d’autres termes, ce que nous appelons la logique. Cela a été confirmé par Aristote, Platon, Hegel, Spinoza, Descartes, Kant et Fichte.             Cet article s’appuie sur une problématique, d’où émergent diverses interrogations, parmi lesquelles: Les études anciennes ont-elles constitué un point de départ des irrégularités linguistiques? L’individu parlait-il une langue éloquente, par intuition ou par acquisition?             Les anciens linguistes arabes croyaient que l’intuition était liée à la race et à l’hérédité. Alors que pour les modernistes, l’intuition n’était pas une chose magique ou mystérieuse car l’homme acquiert le langage automatiquement, comme un enfant qui l’apprend par imitation et entraînement.             Cette étude a montré que les irrégularités linguistiques sont soumises à la logique qui les organise et les formule en fonction de leurs connotations contextuelles. C’était l’une des irrégularités syntaxiques, que les grammairiens étudiaient et expliquaient, en essayent de la lier à l’émergence de la logique rationnelle primitive chez l’homme, et malgré le fait que les poètes avaient innové et parlé selon leur intuition. Bien qu’il ne soit pas possible de nier le fait que les irrégularités linguistiques sont affectées par la logique, et qu’ils ne sont pas nécessairement totalement soumis à ces critères, mais ils besoin d’eux pour atteindre ce degré distinct.

Les mots clés: les irrégularités syntaxiques- l’intuition- la logique- le poème pré islamique

المقدّمة

سلكت حركة التطوّر اللغويّ مساراتٍ متنوّعةٍ ومتباينةٍ، في خلال عمليات التعاقب الزمني، فتأثرت الحركات بالفضاء الفكريّ – الثقافيّ، من حيث ماهية الفعل، وبالتموضع المكاني – الجغرافي ومن حيث الأنساقُ والأشكالُ والأنماط والتدوين.

جاءت اللغة العربيّة، في العصر الجاهلي منتَج قوانين عرفيّة ثقافيّة فطريّة طبيعيّة، حافظت على سلامة المنطوق الفصيح الذي وصل في أنساق شعريّة، تمايزت بتعالق العنصر المنطقي وفق ما فرضتهُ المعاني وما أوحتْ به الدّلالات.

تأصّلت الدّراسات اللغويّة والنحويّة على طرح الإشكاليّات وعلى الجدل والمُناظرات والتعليل. فأسّست لعملية النّحو، وتمايزت الأبحاث والدّراسات بمنهج علميّ، له مُنطلقات تساعد على الاستقراء والاستنباط، وله إجراءات وأدوات منطقيّة، تفسِّر وتُعلِّل الظواهر اللغويّة وصولًا إلى النتائج ووضع القوانين، فكانت اللغة الجاهليّة والقرآن الكريم أصلًا في الاستنباط والاستنتاج والقوننة، وكان لعلوم العصور الإسلامية دورٌ رئيسٌ في تكريس أصولِ المنهج العلمي المنطقيّ.

حافظت اللغة العربيّة على نظام تعالق عناصرها، في نصّ قرآنيّ، أغنى اللغة وحماها وحافظ على قوانين تشكلها، فكانت آي الذِّكر الحكيم والشِّعر الجاهلي أصلًا تؤسّس عليه قواعد اللغة العربيّة التي استُنبطت بالاستقراء والاستنتاج والتّجربة والقياس والتّعليل والبراهين.

لقد وصلت اللغة من الجاهليّة مُركّبة في نصوص شعريّة ونثريّة تعكس مظاهر الحياة العقليّة، الاجتماعيّة والسياسيّة، على الرّغم من تعدّد اللهجات التي انتشرت في شبه الجزيرة العربيّة، والتي لن ندخل في تحديدها جغرافيًّا وتاريخيًّا، لأنّ كتب التاريخ والأدب ذخرت بالكلام على أهلها وسكانها وموقعها وطبيعتها.

أجمعت الدّراسات على تحديد المرحلة الزمنيّة المُتفق على تسميتها بالعصر الجاهلي، أنّها تعود إلى ما قبل البعثة النبويّة بقرن ونصف، فشهدت هذه الحقبة اكتمال اللغة العربيّة. ولقد قال الجاحظ في كتابه “الحيوان” مُحدّدًا هذه المرحلة: “أمّا الشعر (العربيّ) فحديث الميلاد، صغير السّن، أوّل مَن نهج سبيله وسهّل الطريق إليه امرؤ القيس بن حجر بن ربيعة […] فإذا استظهرنا الشعر- وجدنا له إلى أن جاء الإسلام – خمسين ومائة عام…”([2]).

لم تحدّد الدّراسات اللغويّة تاريخًا دقيقًا للمرحلة التي وصلت فيها اللغة العربيّة إلى شكلها الفصيح التام لغويًّا، نحويًّا وصرفيًّا، لأنّ اللغة عنصر حيّ يتطوّر وينمو مع الزمن. على الرّغم من اكتشاف نقوش أربع لهجات عربيّة قديمة، ثلاث منها كُتِبت بالخطّ المُسند الجنوبي، وهي اللهجة الثموديّة، والليحانيّة، والصفويّة، وواحدةً، كُتِبت بالخطّ الآرامي وهي اللهجة النبطيّة، فإنّ هذه النقوش لا تعطينا صورةً توضّح التكامل اللغوي الذي انتهت إليه اللغة العربيّة، منذ أواخر القرن الخامس الميلادي وأوائل السّادس.

يعتقد بعض الدّارسين أنّ العرب استخدموا لغةً أدبيّةً عامّةً اتفقت عليها القبائل جميعها، وهذه النظريّة ممكن قبولها لسببين:

  • إنّ المجتمع العربي الحديث تتعدّد لهجاته، وتختلف المُترادفات العاميّة فيه من بلد لآخر. ويمكن أن تتباين اللهجات في البلد الواحد، ولكنّها تجتمع على لغة العرب الفصحى المُعتمدة في الكتابة الأدبيّة، والسياسيّة، والدّيوانيّة.
  • إنّ الشعر العربي وصل بلغة واحدة متشابهة، دفعت بعميد الأدب العربي طه حسين إلى الاعتقاد أنّ هذه النصوص كُتِبت بعد الجاهليّة لتوافق المفهوم الدّيني والاجتماعي الجديد، لأنّ العرب كانوا يعيشون قبائل تختلف في ما بينها في اللغة واللهجة، فقد تستعمل قبيلة كلمة لا تستعملها أخرى، وخير مثال ما رُويَ: “أنّ أبا هريرة لمّا قدم مِن دوس عام خيبر لقيَ النّبي صلى الله عليه وسلم، وقد وقعت السّكين من يده – فقال له: ناولني السّكين، فالتف أبو هريرة يمنة ويسرة، ولم يفهم ما المُراد باللفظ، فكرّر له القول ثانيةً وثالثةً، فقال المِدية تريد؟ وأشار إليها، فقيل له: نعم، فقال: أوَتسمّى عندكم سكّينًا؟ ثمّ قال: والله لم أكن سمعتها إلا يومئذ”([3]). ويُروى عن النّبي صلى الله عليه وسلم أنّه قال: “لا تقولوا: دعدع ولا لعلع، ولكن قولوا: اللهمّ ارفع وانفع”([4]).

تزخر كتب الأدب والمراجع القديمة بالأخبار والرّوايات، والأمثلة التي تؤكد اختلاف اللهجات العربيّة الجاهليّة وتباين ألفاظ المدلول عليه، وفي القرآن الكريم خير بُرهان ودليل، لأنّه نزل بلسانٍ عربيّ، ومع ذلك وردت فيه كلمات يفهمها أهل اليمن ويجهلها أهل البصرة، كقوله تعالى: ﴿مُتكئين فيها على الأرائك﴾([5]) فأهل اليمن يعنون بالأريكة المحلة فيها سرير، ولم يكن ليستخدمها أهل البصرة، وكذلك قوله تعالى: ﴿ولو ألقى معاذيره([6])، فأهل اليمن يُسمّون السّتر المعذار، وأهل البصرة لا يستخدمونها.

استنادًا إلى ما سبق هل يحقّ القول إنّ القرآن وحّد بين هذه اللهجات وجمع الأحسن والأفضل منها؟

تؤكد الدّراسات اللغوية على أنّ القرآن نزل على سبعة أحرف، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم قال: “أنزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسّر منه”([7])، ونحن نعلم أنّ قراءة المسلمين تعدّدت حتى اختلفوا في ما بينهم، ويُروى أنّ رجلين قرآ ثلاثين آية من الأحقاف فاختلفا في قراءتهما، فذهبا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ عنده، فقال عليّ (كرّم الله وجهه): “رسول الله يأمركم أن تقرأوا كما علمتم، ما جعل بعضهم يقول لقد نزل القرآن على سبع لغات منها خمس بلغة العَجز من هوازن، وهم الذين يُقال لهم عُليا هوازن”([8])، وكان الرّسول صلى الله عليه وسلم قد نشأ في “بني سعد بن بكر”، إحدى هذه القبائل، وهذا ما يُثبته قوله تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾([9]).

نزل القرآن الكريم بلغة قريش، التي كانت تستوعب اللهجات جميعها، وتتمتع بالفصاحة وسهولة اللفظ عند النّطق وحُسن البيان، وهذا ما أثبته أبو نصر الفارابيّ، إذ قال: “كانت قريش أجود العرب انتقاءً للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النّطق، وأحسنها مسموعًا وأبينها إبانةً عمّا في النفس”([10])، ولم يكن الاختلاف بين اللهجات مقصورًا على اللفظ بل تعدّى ذلك إلى إبدال الحروف، والتذكير والتأنيث والإدغام والإعراب.

وحّد القرآن بين اللهجات العربيّة، وجاءت لغته على درجة عالية من الفصاحة والبلاغة، إذ اختزلت الأفصح والأفضل تعبيرًا وتفاعلًا مع الآتي، من دون أن تظهر ما شاب اللهجات من أخطاء وعِلل صوتية وتركيبيّة؛ لأنّ لهجة قريش كانت جامعة للهجات الجاهليّة الأسلم تركيبًا وأداءً. شاع في الجاهليّة لهجات محليّة استمرّت آثارها واضحةً حتى القرن الثاني للهجرة، فسجّلها اللغويون مثل “الكشكشة”: وهي إلحاق شين بكاف الخطاب عند الوقف مثل (عليكش)([11]) “العنّة” فتقلب الهمزة عينًا “سمعت عنَّ فلانًا” أي (أنّ فلانًا) وكذلك الفحفحة والتلتلة.

ضمّن ابن فارس في كتابه “الصّاحبي” فصلًا حول اختلاف لهجات العرب، ورأى أنّهم اختلفوا في حركة نون المضارع، فهي مفتوحة في لغة قيس وأسد، ومكسورة عند غيرهم “نَستعين، نِستعين)، واختلفوا في إبدال الحروف، نحو: “أولئك، أولالك”، وفي التذكير والتأنيث “هذا البقر، هذه البقر”، وفي الجمع “أسرى، أسارى”، وكذلك في الإعراب مثل: “ما زيد قائمًا، ما زيد قائم”، و”إنّ هذان، إنّ هذين”([12]). لم يتوقف اختلاف العرب عند أشكال النّطق، بل حدث اختلاف في التعبير عن بعض المُسمّيات، سواء أكان في التضاد أم في الترادف، فلقد استعملت بعض القبائل كلمة “ثب” بمعنى “اقعد”، ما أوجد تعدّدية في النطق، وخلق مُعجمًا مِن المُترادفات العربية، عِلمًا أنّ بعض الدارسين يعتقد أنّ اللغة العربيّة لم تصل إلينا من الجاهلية كاملةً، ورأوا أنّها فقدت الكثير من المترادفات التي كانت شائعة فقالوا: “لو جاءنا جميع ما قالوه لجاء شعر كثير وكلام كثير”([13]).

إنّ هذه الآراء لا تؤثر على البنية العامّة لقوانين النّحو الكليّة والجزئيّة، لأنّ ما وصل إلينا لا يُستهان به كقيمة أدبيّة فنيّة، ولغويّة عظيمة، فهو غني بصرفه، ونحوه، وأدائه البياني، ويتمتع بوحدة لغويّة عربيّة أصيلة، خاضعة للقياس والمنطق، ما يجعلنا نؤمن بالنّظريّة القائلة بوجود لغة أدبيّة فنيّة واحدة اتفقت عليها جميع القبائل على اختلاف انتماءاتهم … ويتفق الدارسون على أنّ اللغة التي سادت على أخواتها هي لغة قريش لسببين:

  • الأهمية الدّينيّة والاقتصاديّة لقريش، فلقد كانت مركزًا تجاريًّا وسياسيًّا ودينيًّا مهمًّا، ولقد ورد ذكر تجارتهم في القرآن الكريم ﴿لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف﴾([14])، وحظيَت بالسّيادة المعنويّة على القبائل المجاورة، ورأى شوقي ضيف أنّها “كانت مهوى أفئدة العرب في الجاهليّة، وكان لها عليهم نفوذ واسع بسبب مركزها الدّينيّ والروحيّ والاقتصاديّ المادّي، إذ كانت حارسة الكعبة، بيت عبادتهم، وكانت قوافلهم تجوب أنحاء الجزيرة العربية، وكان العرب يجتمعون إليها في أعيادهم الدينيّة وفي أسواقها القريبة والبعيدة”([15]).

أعطى الموقع الدّيني والجغرافي قريشًا سُلطانًا سياسيًّا واجتماعيًّا حقيقيًّا، ساعد على سيادة لغتها، ولقد اعترف طه حسين بسيادة قريش على الرّغم من شكّه في الأدب الجاهلي فقال: ” كانت لغة قريش أفصح اللّغات العربيّة وأثراها لبعدها عن بلاد العجم من جميع جهاتها الفصحى، فُرِضت على قبائل الحجاز فرضًا لا يعتمد على السّيف، وإنّما على المنفعة وتبادل الحاجات الدينيّة والسياسيّة والاقتصاديّة” ([16]).

  • أمّا السبب الثاني فيمكن عدّه مُنبثقًا من الأول، لأنّ القبيلة الأكثر سُلطانًا معنويًّا هي قريش، لذلك اتخذت لغتها قاسمًا مُشتركًا بين الجميع، فكانت لغتها الأفصح، وهذا ما أجمع عليه الدارسون، بوصفها لغة الفصاحة، والتبادل التجاري، كونها غنيّةً بأدائها، بعيدةً من عيوب اللهجات الأخرى، ولقد قال أحمد بن فارس نقلًا عن اسماعيل بن أبي عُبيد الله :” أجمع علماؤنا بكلام العرب والرّواة لأشعارهم والعلماء بلغاتهم وأيّامهم، ومحالهم، أنّ قريشًا أفصح العرب ألسنةً وأصفاهم لغةً […] وكانت قريش مع فصاحتها وحُسن لغاتها ودقة لسانها، إذا أتتهم الوفود من العرب تخيّروا من كلامهم، وأشعارهم أحسن لغاتهم وأصفى كلامهم فاجتمع ما تخيّروا من تلك اللغات إلى نحائزهم، وسلائفهم التي طُبِعوا عليها فصاروا بذلك أفصح العرب، ألا ترى أنّك لا تجد في كلامهم عنعنة تميم ولا عجرفة قيس ولا كشكشة أسد…”([17]).

يؤكد كلام اسماعيل والوثوق به ما ثبت من اجتماع الشعراء في سوق عكاظ، كانوا يتبادلون الشعر ويعرضونه على الفحول، ويضعونه للنقد، مُعينهم في ذلك ما فطروا عليه من فصاحة اللسان، وسليقة كانت ترشدهم إلى الصّواب والخطأ، ليختاروا ما يرونه صالحًا ومُميّزًا، ثمّ يعلقونه على جدران الكعبة.

كان لموقع قريش الجغرافي أهميةً كبرى في احتفاظها بلغة سليمة فصيحة بعيدةً من عيوب اللغة، التي دخلت على لسان بعض القبائل، ولقد تناول كثيرون هذه الظاهرة، ومنهم ابن خلدون الذي علّل فصاحة قريش بقوله: “كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية، وأصرحها لبُعدها من بلاد العجم من جميع جهاتها، فصانها بعدها من الأعاجم من الفساد والتأثر بأساليب العجم، حتى أنّ سائر العرب على نسبة بُعدهم من قريش، كان الاحتجاج بلغتهم في الصّحة والفساد عند أهل الصّناعة العربيّة”([18]).

قال بعض الدارسين بسيادة لهجة قريش سيادةً تامةً على بقيّة اللهجات، ولكن لا يعني هذا أنّها كانت مركز بث للمنطوق اللغوي الجامع بين القبائل، بل ربما كان لقريش لهجة نواة استطاعت بما اكتسبته من خصائص جغرافيّة واقتصاديّة أن تُفعّل لهجتها مع الأفصح من لهجات القبائل الأخرى، فكان المنتج لغةً متطورةً، من حيث البنية التّركيبيّة والدّلاليّة، ومتميّزة من حيث قوانين الصّياغة والتعالق، إذ ساعد الاحتكاك اللغوي في إيصالها إلى مستواها الفصيح والعالي، فكانت لغةً متماسكة التراكيب، غنيّة الدّلالة، لها قوانينها الخاصّة بها.

أثبتت الدراسات اللغوية أصالة اللغة العربية، وتمسّكها بثوابتها، وقدرتها على التوليد، واحتفاظها ببعض جيناتها السّامية، فاستنتج علماء اللغة، بالاستقراء والملاحظة وعمليات الفرز والتحليل لعناصر اللغة العربية، أنّها ساميّة في أصل الوضع، والنشأة واستدلوا على ذلك بدراسة الألفاظ والعلامات.

ورد في كتاب شوقي ضيف أنّ اللغة العربية ارتبطت بالأصل السّامي ارتباطًا عضويًّا، فهي تشترك مع أخواتها السّاميات بالضمائر والأسماء الموصولة، وأسماء الإشارة وحروف العطف، وحروف الجر وأدوات الاستفهام، وفي الميل إلى المخالفة بين المذكر والمؤنث، وفي العدد ومخالفته، للمعدود في الجنس، وفي تأنيث الفعل مع جمع التكسير المذكر. تشترك العربية مع أخواتها السّامية في أنّ الأسماء الثنائيّة أقدم أسمائها، وكذلك في العربية أسماء وأفعال تشترك مع اثنتين أو ثلاث أو أربع كلمات من اللغات السّامية([19]).

ورأى برجشتراسر Bergstraesser أنّ “اللغة العربية أقرب إلى اللغة السّامية الأم من أخواتها […] فإنّ اللغة العربية ترقت رقيًّا بعيدًا بالقياس من أخواتها السّاميات … ولا بُدّ أن نفترض أنّ اللغة العربية اخترعت ألوفًا من الكلمات الجديدة، ولا عجب في ذلك بعدما شاهدناه مِرارًا من ميلها إلى التخصّص وإلى اختراع العبارات الجديدة”.  وأعطى مثلين على ذلك، أولهما كثرة ما اخترعته العرب من باب الإبل وأوصافها وشياتها وأمراضها وأدوائها من أسماء، ثانيهما ما اخترعته العرب من أدوات النفي، إذ تشترك مع اللغات السّاميّة في أدواته الأساس “لا” ثمّ تنفرد بما اشتقته من أدوات كثيرة فتعدّدت وظائف النفي وتنوّعت([20]).

تشير بعض الدّراسات إلى أنّ اللغة العربية، في العصر الجاهلي المتقدّم، كانت ساميّة فطريّة طبيعيّة، ولقد أظهر الدّكتور صبحي الصّالح في كتابه “دراسات في فقه اللّغة” علاقة اللغة العربية بأصلها الساميّ، ووضع مُخططًا، إذ أكّد بالدّليل والبرهان، علاقة العربية بغيرها من اللغات الساميّة.

لم تتوقف اللغة العربية عند حدود الوضع والنشأة، بل تطوّرت وتغيّرت مع تطوّر المجتمع وتبدّله، لأنّ اللغة في أيّة أمّة من الأمم، تمتلك جهازًا حيًّا يتفاعل مع البيئة الاجتماعيّة التي تتبنّاها، فتعبّر عن تطلعات الفكر، ما يفرض تطابقًا ما بين أحداث الفكر وأحداث اللغة، وهذا التّطابق ينتظم ضمن أسُس عقلانيّة منطقيّة يُنسِّق نسبها وقواعدها العقل البشري بما يتلاءم ونظرته الواقعيّة إلى المرئيّات، من جهة، وقدرته المنطقيّة على تجسيد المرئي والمحسوس باللفظ الذي يراهُ مُعبِّرًا عن حاجاته الذاتيّة والاجتماعيّة، من جهة ثانية، وذلك وفق ما يفرضه الوسط الإنسانيّ الذي يعيش فيه.

من الطبيعي القول إنّ لغة التخاطب أو اللهجة قد استحكمت ملكتها في مُتكلمها، وذلك لأنّ الطفل يكتسب، في الواقع، ملكة لسانيّة في اللغة التي يتكلمها المجتمع الذي يترعرع فيه، كما جاء عند تشومسكي. أيّ في الحقيقة، يكتسب ملكة لسانيّة في لغة التخاطب أو اللهجة. ومن ثمّ ينتقل بواسطة عمليّة تعلم من الملكة اللسانيّة في اللهجة إلى ملكة لسانيّة في اللغة الفصحى. ويحصل هذا الانتقال بسهولة لأنّ اللهجة واللغة الفصحى هما شكلان للغة الواحدة. فاللهجة هي اللغة العربية في شكلها المحكي العام، في حين أنّ اللغة الفصحى هي اللغة العربية في شكلها المكتوب المشترك. وقد لاحظ ابن خلدون أنّ أهل الأمصار يتكلمون لهجات متنوّعة وكلّ منهم يُعبّر بواسطة لهجته عن مُتطلباته الحياتيّة اليوميّة، فقال: “اعلم أنّ عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل، بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدةً من لغة مضر ومن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا، وهي من لغة مضر أبعد”([21]).

ولذلك لا نعجب، حين نرى بعض اللغويين العرب، يجعل العربية الفصحى مُرادفة للهجة قريش.كما يروي السّيوطي عن الفراء أنّه قال: “كانت العرب تحضر الموسم في كلِّ عام، وتحجّ البيت في الجاهليّة، وقريش يسمعون لغات جميع العرب، فما استحسنوهُ من لغاتهم تكلموا به، فصاروا أفصح العرب، وخلت لغاتهم من مُستبشع اللغات، ومُستقبح الألفاظ”([22]). تشير الدراسات اللغوية إلى أنّ اللغة كانت في العصر الجاهلي متعدّدة اللهجات، غنيّة بمفرداتها، متميّزة بالغنى الأدائي، من دون أن يكون لها قوانين مكتوبة يُعتمد عليها في تقويم المنطوق الأدبي، بل كان لها قوانين عرفيّة سماعيّة يُتقن صياغتها وضبط آليّات استخدامها النّخبة اللغوية، فإذا قيل إنّ اللغة قامت على السّليقة والفطرة، فهذا إشارة إلى صفاء في المختبر اللغوي وبراعة في اختيار عناصر اللغة وتنميتها، لأنّ البيئة اللغوية العربيّة تمايزت بغلبة أبنائها الذين توارثوا جيناتها كما توارثوا أشكالهم وطبائعهم وعاداتهم وتقاليدهم، ولمّا جاء الإسلام، ونزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مُبين، اختصّت هذه اللغة بمنزلةٍ ساميةٍ، فكانت لغة الذكر، ولغة التّشريع ولغة الأدب والحياة والتواصل الدّيني والمعرفيّ، وكان للقرآن دور أساس في حفظ قوانينها، وتهذيب ألفاظها، وتليين أساليبها، وإغناء معجمها بالمفردات والمعاني الجديدة، ومن ثمّ نشرها في شتى الأصقاع التي افتتحها المسلمون، لتصير لغة الدّين والفقه والتّشريع والسياسة والثقافة والعلوم، ولذلك ارتبطت المعرفة الدّينيّة بإتقان اللغة العربيّة ومعرفة خصائصها.

هل عرفت العربُ العللَ بطبيعتِها وفطرتِها أم خضعت لمنطقِ نظّمها وصاغها في قالبٍ حفظَ قواعدِها الصرفيِّةِ والنحويِّةِ من التشعُّبِ والضَّياع؟ وهل أثّر اختلاطهم بالأعاجم على بنيات الشّعر الجاهليّ؟

“الشعر لا يختصّ باللسان العربي فقط” و”الشعر موجود بالطبع في أهل كل لسان” و”لم يهجر الشعر بفقدان لغة مضر” حول هذه العبارات الثلاث السّابقة أدار ابن خلدون حديثه عن الشّعر. “فالشعر وُجد في لغة العرب كما وُجد في لغات العجم، فلليونان شعراؤهم وللفرس شعراؤهم كذلك.

والشعر موجود بالطبع في كلّ لسان، لأنّ الموازين – كما يقول – على نسبةً واحدةً في أعداد المتحرّكات والسّواكن وتقابلها موجودة في طباع البشر”([23]).

وقد كان للعرب شعراء في لغة مضر المعربة التي استقرأها النُحاة، ووضعوا على أساسها قوانين الإعراب، ثمّ فسدت هذه اللغة بمخالطة الأعاجم – كما هو رأيه – وخرج منها ما أسماه لغة العرب لعهده التي خالفت لغة مضر في الإعراب وكثير من الموضوعات اللغوية وبنية الكلمات، وأيضًا هناك لغات الأمصار التي فقدت الإعراب جملةً، واختلفت اصطلاحاتها في ما بينها. ومع ذلك لم يُهجر الشّعر، فالعرب المُستعجمون – كما سمّاهم – يقرضون الشعر أيضًا مثل أسلافهم من العرب المُستعربين في سائر الأعاريض وفي سائر الأغراض والفنون، ويجيء شعرهم بلغتهم التي خالفت لغة مضر – كما سبق القول – في الإعراب وبنية الكلمات.

هذا الشّعر أطلق عليه أهل المغرب “الأصمعيّات” وأطلق عليه أهل المشرق “البدوي” وسمّوا ما يتغنّون به منه “الحوراني”([24]). ومن هذا الشّعر هذه الأبيات لامرأة من “عرب نمر” بنواحي “حوران” قتل زوجها، فبعثت إلى أحلافه من “قيس” لطلب ثأره:

تقول فتاة الحيّ أمّ سلامة         بعين أراع الله من لا رثى لها

تبيت بطول الليل ما تألف الكرى          موجعة كان الشقا في مجالها

على ما جرى في دارها وبو عيالها        بلحظة عين البين غير حالها

فقدنا شهاب الدين يا قيس كلبهم          ونمتوا عن أخذ التار ماذا مقالها

أنا قلت إذ ورد الكتاب يسرني             ويبرد من نيران قلبي ذبالها

أيا حين تسريح الذوائب واللحى            وبيض العذارى ما حميتو جمالها([25])

فهذا نموذج من هذا الشّعر، وبتأمّله يتضح أنّه يمكن نسبته إلى بحر الطويل (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعيلن) إذا نطقت كلماته معربة، لكن يبدو أنّه لم يكن يُنطق معربًا، بل كانت كلماته تنطق ساكنة، بدليل أنّ كلمات القوافي الست (لها – مجالها – حالها – مقالها – ذبالها – جمالها) لا يتفق فيها حرف اللام إلا إذا سكن، ولو خضع للإعراب لخرج عن مقتضى العروض.

وإذا علمنا أنّ هذه الأبيات ممّا يُطلق عليه (الحوراني) الذي يغنى، فإنّ تقريب نطقها يكون بدفعها إلى أحد شعراء “الرّبابة” الجوالين، ومن المؤكد أنّه سيُغنيها على ربابته من دون إعراب.

وظاهرة أخرى تلك الأبيات هي الكلمات التي خالفت الفصحى في أبنيتها (بو عيالها – غثو – أخد – النار – حميتو) وهذا ما يؤكد ما سبق قوله من أنّ أشعار العرب استخدمت لغة هذا العهد غير المعربة مع التغيير في بنية الكلمات، فما الرأي في هذا اللون من الشّعر؟

يقدّم ابن خلدون لرأيه أنّ المشتغلين بعلم اللسان – النّحو والبلاغة – يرفضون هذا الشّعر، بل يستنكرونه، إذ هو مُستهجن مرذول فاقد الإعراب- لكن لابن خلدون رأي مخالف لذلك يقرّره في جرأة بقوله:

“فالدّلالة بحسب ما يصطلح عليه أهل الملكة، فإذا عرف اصطلاح في ملكة واشتهر صحّت الدّلالة، وإذا طابقت تلك الدّلالة المقصود ومُقتضى الحال، صحّت البلاغة، ولا عبرة بقوانين النُحاة في ذلك، وأساليب الشّعر وفنونه موجودة في أشعارهم هذه ما عدا حركات الإعراب في أواخر الكلم، فإنّ غالب كلماتهم موقوفة الآخر، ويتميّز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بقرائن الكلام لا بحركات الإعراب”([26]).           

لم تصل اللغة الجاهليّة بشكل اعتباطي، بل منظمة في أصول تعبيريّة وأركان تعتمد على السّليقة والفطرة، وتتمايز بخصائص وقواعد عرفيّة منطقيّة، أكسبتها بلاغة عالية، واستعمالًا صحيحًا مُطابقًا للأصول الموضوعة المُتعارف عليها، بالإضافة إلى مقدرة فريدة على التعبير الدّقيق والوضح.

تأسيسًا على ما تقدّم، كان التركيز على استنباط خصائص اللغة العربيّة وسماتها، التي وصلت إلينا في نصوص شعريّة ونثريّة كاملةً، وعريقةً في الفصاحة والأصالة، وحُسن الأداء، والتعبير، وهذه البلاغة والفصاحة ما كانت لتتحقق لولا وجود علم الإعراب؛ وهو علم أعطى للعربيّة خاصيّة تمييز المعاني المُتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف الخبر الذي هو أصل الكلام، ويُميَّز الفاعل من المفعول، والمضاف من المنعوت، فكان لهذا العلم فضل كبير على المسلمين في فهم القرآن، والتعمّق في فصاحته، فلولا الدّقة الإعرابيّة لفقدت قراءة القرآن الكثير من المعاني، ومزجت بين الخالق والمخلوق، والمذنب والمُسيء، كقوله تعالى: ﴿إنّما يخشى الله من عباده العلماء﴾([27])، فالترتيب التّركيبي للجملة يجعل الله عند المُشككين فاعلًا خائفًا من عباده العلماء، فجاء الإعراب عامل توضيح يمنع الشكّ ويُزيل الالتباس، وكذلك كقوله تعالى: ﴿إنّ الله بريء من المشركين ورسوله﴾([28]). وكذلك قوله: ﴿وإذ ابتلى ابراهيم ربه﴾([29]).

إنّ الظاهرة الإعرابيّة قديمة في الجاهلية، كونها وصلت في نظام إفصاحيّ إبانيّ، تعرب عناصره عن وظيفتها الدّلالية في التركيب، وفق ما يُحدّده الإعراب، وهذا ما يؤكده الموروث الشعري، ولغة القرآن الكريم، وينقض ما ذهب إليه بعض المُستشرقين من أنّ القرآن نزل بلهجة مكة المجرّدة من ظاهرة الإعراب؛ ولن ندخل في تفاصيل آراء المستشرقين؛ لأنّ هذه الدراسة تقتصر على إبراز خصائص البنية المنطقيّة في تنظيم اللغة العربية البلاغية التبليغيّة، ولا تهدف إلى مناقشة الآراء المتعدّدة والمتناقضة.

يشهد الإرث الثقافي للعصر الجاهلي أنّه تبنّى لغةً أدبيّةً متكاملة في حُسن التعبير والأداء، لها نظام إعرابي دقيق، ولم يكن هذا النظام في الفصحى مُستحدثًا، وإنّما هو ميزة موجودة منذ القدم، عرف في اللغة السّامية القديمة، وخير دليل على ذلك النقوش المُكتشفة في رأس شمرا (أوغاريت)، والتي تظهر أنّ اللغة الأوغاريتيّة السّامية كانت قائمةً على الإعراب مثل العربيّة، وفيها ظواهر المنع من الصّرف، غير أنّ الإعراب لم يكن على أسس وقواعد منظمة ومُنسّقة، بل قام على الفطرة والسّليقة. ولمّا تطوّرت العربيّة صار الإعراب أقوى عناصرها، وأبرز خصائصها، وسرّ جمالها، وأمست قوانينه وضوابطه هي المُعوّضة عن السّليقة، ورأى ابن فارس أنّ هذه الظاهرة زادت اللغة تقريرًا وتوضيحًا فقال: “من العلوم الجليلة التي خُصّت بها العربية الإعراب الذي هو الفارق بين المعاني المُتكافئة في اللفظ، وبه يُعرف الخبر الذي هو أصل الكلام ولولاه ما مُيّز فاعل من مفعول ولا مضاف من منعوت، ولا تعجب من استفهام، ولا صدر من مصدر، ولا نعت من تأكيد”([30]).

فرضتْ كثرةُ المؤلفاتِ الصرفيَّةِ ولادةَ دراساتِ تحليليّة، قوامُها تعدّدَ الآراءِ حولَ القضايا الصرفية، ومن بينها العلَّةَ الصرفيَّةَ ، وذلك من خلالِ عرضِ القضيّةِ وإبرازِ العلاقةَ الحتميَّةَ بين السليقةِ اللغويةِ للعلّة الصرفية، وتأصّلها في المنطقِ العقلي.

جاء الشعر الجاهلي ليعبّر عن الحياة التي كان يعيشها الإنسان آنذاك، فلقد عكس هذا الواقع فأتت أغلب موضوعاته نتيجة لمعاناة الشعراء في تلك الحقبة، أضف إلى ذلك أنّ اللهجات التي كانت سائدةٌ آنذاك انعكست في بعض الأشعار، لأنّ القبائل قد احتفظت ببعض هذه اللهجات في أشعارها، وذلك احتاج إلى مدّةٍ من الوقت للتخلص من هذه اللهجات الأولية. وُجِد الشّعر الجاهلي مُنظمًا بطريقةٍ عجيبةٍ، فإذا أخذت البيت الواحد وقسّمته إلى أجزائه الصغرى – الفونام والمورفام – لوجدت أنّه الأصل الذي قامت عليه الدّراسات الألسنية اليوم، ولقد تنبّه العرب القدماء إلى أهمية العلاقة بين الشّفتين والفم في إنتاج الأصوات اللغوية، فقسّموا هذه الأصوات، إلى الصوامت والصوائت، وأعطوها صفات عديدة كالمجهورة والمهموسة، فخضعت هذه الأبيات الشعرية لكلّ هذه القوانين بطريقةٍ فطريةٍ من دون معرفة مُسبقة بها.

حظيت قضيّة العلّة الصرفيّة، أيضًا، باهتمام مفكّرين غربيين مثل: نولدكه، أدلبرتوس ميركس، كيس فيرستيخ، فتركوا آراء خاصة ودراسات قيمة كشفت عن تضارب في الآراء، إذ رأى بعضهم أنّ العلة الصرفيّة سليقة لغوية وموروثة عند الإنسان، وعدّها آخرون هي نتيجة تطور عقلي منطقي.

كشفتِ الدّراسةُ عن علاقةِ الصّرفِ العربيِّ بالسّليقةِ والمنطق، وربطت العللَ الّلغويّةَ بالمنطقِ الّذي ينظِّمُها ويصوغُها بما يتوافقُ ودلالاتَها السّياقيّة، والّتي كانت واحدةً من العِللِ التي تناولها النّحاةُ دراسةً وتعليلًا، فحاولوا ربطها بنشأةِ المنطقِ العقليِّ البدائيِّ عند الإنسان.

تناول هذا البحث جانبًا من الظواهر اللغوية العِلة الصرفيّة في الشّعر الجاهلي، التي زخرت بها كتب الأدب واللغة وخاصة، لنتبيّن أنّها كانت موجودة في ذلك المجتمع على الرّغم من وصفه بالمجتمع البدائي، ولمّا اختلفوا في قضيّة دلالة الألفاظ على المعاني، وقعوا في إشكاليّة الدال والمدلول، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ المنطق كان موجودًا في طباعهم، ولكنّه اقتصر على السّليقة، حتى تطوّر به الأمر، ليحمل لواء القواعد المنطقيّة.

افتتن علماء الغرب بهذه القواعد، فنشطت الدراسات الألسنيّة، لتفكيك اللغة إلى أصغر وحداتها، ومعرفة أسرار تلك الأبنية اللغويّة ولإبراز أوجه التمايز بينها وبين اللغات الأخرى. أعتقد أنّ دراسة العلل الصّرفيّة وفق نظريّات لسانيّة حديثة مؤصّلة على دراسات نحويّة عربيّة منطقيّة، ما تزال تحتاج إلى علماء لغويّين معاصرين ليفتحوا أمامنا مجالات البحث العلمي الّذي نأمل أن نمتلك أدواته بمعرفة ومنطق.

أظهرَ الشّعراءُ الجاهليّونَ إبداعاتٍ على مستوى الخلقِ الفنيِّ والّلغويِّ ولقد تكلموا وِفقَ سليقتهم المرتبطةِ بالمنطقِ العقلي، الّذي أخضعَ النّصوصَ لمعاييرَ لغويّةٍ منطقيّةٍ احتاجت إليها لتصلَ إلى هذه الدرجةَ المتمايزة.

أظهرت هذه الدراسة أنّ العلل اللغوية تخضع للمنطق الّذي ينظمها ويصوغها بما يتوافق ودلالاتها السّياقيّة، فكانت واحدةً من العِلل التي تناولها النّحاة دراسةً وتعليلًا، فحاولوا ربطها بنشأة المنطق العقلي البدائي عند الإنسان، وعلى الرّغم من أنّ الشعراء قد أبدعوا وتكلموا وفق سليقتهم، غير أنّه لا يمكن أن ننفي حقيقة تأثر العِلل اللغوية بالعِلل المنطقية، وليس بالضرورة أن تكون قد خضعت كليًّا لتلك المعايير، ولكنّها احتاجت إليها لتصل إلى هذه الدرجة المتمايزة.

وعليه إنّ اللغة خاصيَّة إنسانيّة، خصّ الله بها الإنسان، وميّزه من سائر مخلوقاته، فقصّة الإنسان واللغة قصّة أزليّة، بدأت بذورُها مذ وُجد الإنسان وشغل المعمورة، فحاولَ التعبير عن حاجيّاته ورغباته، فعاشت الّلغة معه وعاش معها.

فالقصد بمصطلح الّلغة والسّليقة هو قصّة الإنسان مع الّلغة في ماضيه معها، وما طرأ عليها من تغييرات وتبديلات، حتّى وصلت إلى مرحلة النّضج، أو بمعنى آخر القدرة على توظيف الأداء الصوتي عند إنتاج الدّلالة، أي مرحلة نشوء الّلغة في رصد البعد التّكويني لها.

أثبتت اللغة العربية نتيجة بنيتها الصرفية المنطقية أنّها لغة حيّة، قادرة على تجديد نفسها بنفسها، بفضل قوانين تشكُّلها النّحوية والصرفيّة، والّتي تشمل العلل الصرفيّة.حَظِيَتْ قَضِيَّة العِلَّة الصرفيَّةِ باهتمام مفكّرينَ عربَ وغربيين، فتركوا آراءً خاصةً ودراسات قيمة كشفتْ عن تماثلٍ وتمايزٍ في الآراء، إذ رأى بعضَهم أنّ العلةَ الصرفيةَ سليقة لغوية وموروثة نطق بها الإنسان، وَعَدَّها آخرونَ نتيجةَ تطوُّرٍ عقليٍّ منطقيٍّ.

جمع ابن خلدون بين السليقةِ والمنطق، عندما قالَ إنِّها ملكةٌ شبيهةٌ بالصناعة، وممّا قالهُ: “من كانَ على الفطرةِ كان أسهلَ لقبولِ الملَكاتِ وأحسنَ استعدادًا لحصولِها، فإذا تلوّنتْ النَّفسُ بالمَلَكةِ الأخرى خرجتْ عن الفطرةِ وضَعُفَ فيها الاستعداد باللونِ الحاصلِ من هذه الملكة، فكان قبولها للملكةِ الأخرى أضعف”([31]).

الخاتمة

يمكن الاستنتاج، ممّا سبق، أنّ الشاعر الجاهلي نظم شعره مُتجاوِزًا لهجة قبيلته المحليّة، إلى لهجة أدبيّة عامّة أكثر فصاحةً وقوّةً، ولقد اختفت بمرور الزّمن ما تميّزت به لهجة كل قبيلة. وسيكون هذا مصير اللهجات المحليّة المُنتشرة اليوم في العالم العربي، إذا تمكنت النّخبة اللغويّة أن تحافظ على خصوصية النّص الإبداعي، لأنّ اللهجات المحليّة ليست لغات رفيعة عامّة جامعة، بل هي حاجة اجتماعية مناطقيّة، تتقلص فاعليّتها في إنتاج النصّ العربي الإبداعي الممهور بالانتشار والقبول في مستويات الثقافة العربية، وديمومته إلى لغة حيّة واحدةً جامعةً، وهذا ما يخشاه الاستعمار الفكري العالمي، الذي يسعى، بفضل أدواته، إلى فرض التّخلّي عن مقوّمات اللغة العربية، واعتماد اللهجات التي تساعد على ترسيخ الانقسامات بين أبناء الوطن العربي المتوحّدين، في هذه المرحلة من التاريخ، حول موروث لغوي فقط، وبضياع الرّابط اللغوي، بعد تجزئة الوطن العربي إلى دُويلات، من المحتمل أن تسعى كلّ منها إلى تحقيق استقلاليّة ثقافيّة تعزلها عن موروثها وتراثها، ما يساعد على إلغائها، لأنّ القوّة لا تكون إلا في وجود الأصل، وتحقق الوحدة، ولذلك كانت حماية اللغة العربية، واجبًا قوميًّا تفرضه روحيّة الانتماء الصّحيح.

المصادر والمراجع

  1. القرآن الكريم.
  2. أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا، الصّاحبي في فقه اللّغة العربيّة ومسائلها وسنن العرب في كلامها، الطبعة الأولى، 1993، مكتبة المعارف – لبنان.
  3. أبي عثمان عمرو بن بحر، الجاحظ، كتاب الحيوان، ت: عبد السلام هارون، الجزء الأوّل، الطبعة الثانية 1965، مصطفى البابي الحلبي – القاهرة.
  4.  أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، ابن منظور الأفريقي المصري، لسان العرب، المجلّد السادس، دار صادر- بيروت.
  5. بدر الدين بن بهادر بن عبد الله الشافعي، الزّركشي، البحر المحيط في أصول الفقه، قام بتحريره الشيخ عبد القادر عبد الله العاني وراجعه د. عمر سليمان الأشقر، الجزء الثاني، الطبعة الثانية، 1992، وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلامية- الكويت.
  6. رمضان، عبد التواب، التطور النحوي للّغة العربيّة، محاضرات ألقاها في الجامعة المصريّة عام 1929، المستشرق الألماني برجشتراسر، مكتبة الخانجي – القاهرة.
  7. رمضان، عبد التواب، فصول في فقه العربيّة، الطبعة السادسة، 1999، مكتبة الخانجي – القاهرة.
  8. شوقي، ضيف، تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي، الطبعة الرابعة والعشرون، دار المعارف – القاهرة.
  9. صبحي، الصالح، دراسات في فقه اللغة، دار العلم للملايين، لبنان، 2009.
  10. مصطفى صادق، الرافعي، تاريخ آداب العرب، الجزء الأول، الطّبعة الأولى 1997، مكتبة الإيمان.
  11. عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، المجلد الأول، مؤسس جمّال للطّباعة والنشر، بيروت – لبنان.
  12. عبد الرحمن بن محمد، ابن خلدون، المقدمة،، حقّق نصوصه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه عبد الله محمد الدرويش، الجزء الثاني، الطبعة الأولى 2004، دار يعرب – دمشق.
  13. عبد الرحمن جلال الدين، السّيوطي، المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، شرحه وضبطه وصحّحه وعنون موضوعاته وعلّق حواشيه محمد أحمد جاد المولى، محمد أبو الفضل ابراهيم، علي محمد البجاوي، الجزء الأوّل، الطبعة الثالثة، دار التراث – القاهرة.

 

 

 

 

 

 

[1]– طالبة دكتوراه  -الجامعة الّلبنانية المعهد العالي للدكتوراه – معهد اللغات والحضارات الشرقية (إنالكو) – باريس  rabiaa-a@hotmail.com

[2]– الجاحظ، عمرو، كتاب الحيوان، ت: عبد السلام هارون، الجزء الأوّل، الطبعة الثانية، ص 74. ،1965، الناشر: مصطفى البابي الحلبي، القاهرة.

[3]– الرافعي، مصطفى صادق، تاريخ آداب العرب، الجزء الأول، الطّبعة الأولى، ص 114، 1997، مكتبة الإيمان.

[4]– الصاحبي، ص 70.

[5]– القرآن الكريم، سورة الإنسان، آية 13.

[6] – م.ن. سورة القيامة، آية 15.

[7]– الرّازي اللّغوي، أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريّا، الصّاحبي في فقه اللّغة العربيّة ومسائلها وسنن العرب في كلامها، الطبعة الأولى، مكتبة المعارف، لبنان، 1993، ص 70.

[8]– م.ن. ص 61.

[9]– القرآن الكريم، سورة إبراهيم، آية 4.

[10]– السّيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، الجزء الأوّل، الطبعة الثالثة، دار التراث، ص 211.

[11]– ابن منظور، جمال الدين محمد، لسان العرب، المجلّد السادس، دار صادر- بيروت، ص 341

[12]– الصاحبي، م.س، انظر باب القول في اختلاف لغات العرب ص 50- 51- 52- 53.

[13]– الزّركشي، بدر الدين محمد، البحر المحيط في أصول الفقه، مسألة لسان العرب أوسع الألسنة، الجزء الثاني، وزارة الأوقاف والشّؤون الإسلامية – الكويت، الطبعة الثانية، 1992، ص 24.

[14]– القرآن الكريم، سورة قريش، آية 1- 2.

[15]– ضيف، شوقي، تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي، الطبعة الرابعة والعشرون، دار المعارف – القاهرة، ص 133.

[16]– تاريخ الأدب العربي – العصر الجاهلي، ص 133.

[17]– الصاحبي، م.س، ص 55.

[18]– تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، ص 133.

[19]– تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، انطر ص 109.

[20]– تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، ص 110.

[21]– المقدمة، م.س. ص 383.

[22]– السّيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللّغة وأنواعها، الجزء الأوّل، الطبعة الثالثة، دار التراث، ص 221.

 

[23]– ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد، 2004 المقدمة،، الطبعة الأولى، دار يعرب – دمشق، الجزء الثاني، ص 415.

[24]– م.ن. أنظر ص 415.

[25]– مقدمة ابن خلدون، الطبعة الأولى، 2004، الجزء الثّاني، دار يعرب – دمشق، ص 424.

[26]– م.ن. ص 416.

[27]– القرآن الكريم، سورة فاطر، آية 28.

[28]– القرآن الكريم، سورة التوبة، آية 3.

[29]– القرآن الكريم، سورة البقرة، ص 124.

[30]– الصاحبي، م.س، ص 75.

[31] – ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون، المجلد الأول، مؤسس جمّال للطّباعة والنشر، بيروت ص 338.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website