foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

تحليل منهج الزهري التاريخي في كتابه المغازي النبوية

0

 

تحليل منهج الزهري التاريخي في كتابه المغازي النبوية

An Analytical Study of Az-Zuhri’s Literary Style

In his book Al-Maghazi-an-Nabawiyya

Assia Al mohtar- kais   dr.د. آسيا المهتار قيس([1](

 

ملخص البحث

تعدُّ السيرة النبويّة نقطة البداية في دراسة التاريخ الإسلاميّ، فهي مرتبطة بأقوال النبيّ حامل الرسالة الدينيّة وبأفعاله. إنّ الدافع وراء اختيار الزُهريّ مرجعًا للقراءة التحليليّة يعودُ بالأساس إلى كونه أوّل من وضع إطارًا واضحًا للسيرة ورسم خطوطها العريضة في كتابه المغازي النبويّة، تاركًا لتلاميذه من بعده مهمّة الغوص في التفاصيل.

ربط الزهري السيرة بالأدب والسيرة بالقرآن. وتكمن أهمّيّته أيضًا في تدقيقه في تسلسُل الأحداث الزمنيّ وقد ساعده الاهتمام بالتواريخ على تثبيت إطار السيرة النبويّة تاريخيًّا بوجهٍ واضح متماسك. اشتُهر الزُهريّ كذلك في تحقيق الأحاديث على الإسناد وهو ما شهد له به بعض المؤرّخين أمثال الطبريّ حينما قال إنّ الزُهريّ قد “سار خطوة مهمّةً حين اتّخذ الإسناد الجمعيّ” بجمعه عدّة روايات في قصّة متسلسلة واحدة.

إنّ التحليل الأوّليّ لنصّ الزُهريّ يكشف تميّزه بالطابع الأدبيّ في الكتابة والوصف سواء من طريق أثر القصص الشعبيّ في أخباره التاريخيّة أو في استعماله قطعًا من أبيات شعر في عدد من المواضع. تبقى مغازيه جديرة بالدراسة لأهمّيتها التاريخيّة والدينيّة والأدبيّة حيث اخرجها من إطار السير التاريخيّة البحتة وربطها بالسيرة فنًّا أدبيًّا.

الكلمات المفتاحية: السيرة النبوية – الأدوبة – المغازي – الاسناد الجمعي – السرد التاريخي.

Abstract

The Prophet’s biography is considered the pivotal point for studying the Islamic history, as it is linked to the sayings of the Prophet, the bearer of the religious message. The reason behind choosing Az-Zuhri as a reference reading is that Az-Zuhri was the first to present a general framework for the Prophet’s biography that was later used by his scholars to delve further into the Prophet’s life.

Az-Zuhri’s importance also lies in presenting a detailed chronological sequence of the Prophet’s life events establishing an outline for the Prophet’s biography. What helped Az-Zuhri was his reliance on attribution wherein the historian Al-Tabari said that Az-Zuhri’s use of attribution has united many stories into one.

A preliminary analysis of Az-Auhri’s writings reveals his literary style in narration and description be it through the use of folk tales or poetry in his historical story-telling.

The study is worth reviewing for its historical, religious and literary importance, as it presented the Prophet historical biography in an artistic fashion.

Key wor s: Al-Maghazi-an-nabawiya- Prophet’s Biography – Historical narration – Collective attribution – Manners

المقدّمة

تعدُّ السيرة النبويّة نقطة البداية في دراسة التاريخ الإسلاميّ، فهي مرتبطة بأقوال النبيّ(ص) وبأفعاله  كونه حامل الرسالة الدّينيّة. وتُعَدّ مدخلًا لدراسة سيرورة الدّيانة الإسلاميّة التّاريخيّة، لكونها تعدُّ بداية نشأة التأليف عند المسلمين. في البداية، كانت الكتابة حولها لا تجري على نهج معروف، ولا قواعد مرسومة كما هو الحال عند أبي سعيد أبان بن عثمان بن عفّان الأمويّ (ت 105/723)، أقدم مدوّني السيرة. وأصبحت في ما بعد فنًّا واضح المعالم له مناهجه وقواعده وروّاده، ومؤلَّفاته عند كلّ من ابن إسحاق (ت151/768) والواقدي (ت 207/823) وابن سعد (ت 230/845).

نشأت السيرة أوّل ما نشأت أحاديثَ في المجالس الخاصّة تدور على مغازي الرسول، يقوم بنقلها حُفّاظ الرواية مسندين الحديث إلى صحابة الرسول. ثمّ خطت خطوة كبيرة مع تدوين الحُفّاظ ما ورثوه عن الصحابة. ويعدُّ أبان بن عثمان وعروة بن الزبير (ت 94/713) أحد مؤسّسَيْ تاريخ السيرة في الإسلام، ثمّ تواتر الكاتبون فيها، أمثال وهب بن منبه (ت 114) وشرحبيل بن سعد (ت 123/741) والزُهريّ، موضوع دراستنا، (ت 124) وتلاميذه على رأسهم محمّد بن إسحاق (ت 151/768).

وإنّ الدافع وراء اختيار الزُهريّ مرجعًا للقراءة التحليليّة يعودُ بالأساس إلى كونه أوّل من وضع إطارًا واضحًا للسيرة ورسم خطوطها العريضة في كتابه المغازي النّبويّة، تاركًا لتلاميذه من بعده مهمّة الغوص في التّفاصيل. وتكمن أهمّيّته أيضًا في تدقيقه في تسلسُل الأحداث الزمنيّ. وقد ساعده الاهتمام بالتّواريخ على تثبيت إطار السّيرة النبويّة تاريخيًّا بوجهٍ واضح متسلسل. واشتُهر الزُهريّ كذلك في تحقيق الأحاديث على الإسناد. وهو ما شهد له به بعض المؤرّخين أمثال الطبريّ (310/923) حينما قال إنّ الزُهريّ قد «سار خطوة مهمّةً حين اتّخذ الإسناد الجمعيّ بجمعه عدّة روايات في قصّة متسلسلة واحدة[1]» وابن حنبل (ت 241/855) حينما رأى في عمل الزهريّ عملًا مفيدًا وعدَّه بحرًا، و«أعلم الناس».

إنّ التحليل الأوّليّ لنصّ الزُهريّ يكشف تميّزه بالطابع الأدبيّ في الحكي والوصف سواء من طريق أثر القصص الشعبيّ في أخباره التّاريخيّة أو في استعماله قطعًا من أبيات شعر عدد من المواضع. وتبقى مغازيه جديرة بالدراسة لأهمّيتها التّاريخيّة والدّينيّة والأدبيّة (كما سنتبيّن في بحثنا هذا). وعلى أساس هذه المغازي يمكن الانطلاق نحو دراسات تاريخيّة جديدة تثري التاريخ الإسلاميّ. فهي تتناول أخبار مكّة وأهلها وأسرة النبيّ وحياته ونزول الوحي، والهجرة والخلافة وصولًا الى حكم الأسرة الأمويّة بوجهٍ مفصّل ودقيق باعتماد الإسناد ما يجعلها وثيقة تاريخيّة دينيّة بالغة الأهمّيّة والشأن.

وبناءً على هذا كلّه، توضع الإشكاليّة الآتية: إلى أيّ مدى تتجلّى مظاهر الاستعمالات الأدبيّة أو الأودبة Littéralité)) في المنهج الزهريّ في وصفه الأحداثَ التاريخيّة الإسلاميّة وتوثيقها؟

وبهدف محاولة الإجابة على هذه الإشكاليّة، سنسعى في الشقّ الأوّل إلى دراسة «هيكلة المجتمع العربيّ «قبل» و«عند» مجيء الإسلام» بهدف تحديد «بنية المجتمع العربيّ قبل الإسلام» أوّلًا والدور الذي أدّاه «ظهور الإسلام» ثانيًا. وفي الشقّ الثاني، سنتطرّقُ إلى «قضيّة التوثيق والكتابة: ما بين القرآن والسنّة» بإثارة مسألة “نزول القرآن وحفظه وقراءته» وبدراسة العلاقة القائمة بين كلّ من «التّاريخ والسّيرة». وفي الشقّ الثالث والأخير، سنسعى إلى تقديم «دراسة تحليليّة لمنهج الزهريّ في المغازي النبويّة» من طريق تحليل «البنية والمنهج» ثمّ من طريق استخراج «تجلّيات الأودبة ومظاهر ربط السيرة بالقرآن».

أوّلًا: هيكلة المجتمع العربيّ: «قبل» و«عند» مجيء الإسلام

  1. بنية المجتمع العربيّ قبل الإسلام: إنّ بنية المجتمع العربيّ في منطقة شبه الجزيرة العربيّة هي بنية قبليّة اعتمدت على صلة القرابة والانتماء العصبويّ في تحديد علاقتها بالأفراد سواء داخل المنظومة أو خارجها. ويتميّز هذا المجتمع بالتفافه إمّا حول النسب أو حول القبيلة بدرجة أكبر. فهو لا يلزم الأسرة النواة بل يتعدّاها إلى الأسرة الممتدّة، وقد يصل إلى درجة تكوين قبيلة كاملة بناءً على هذا التطوّر الاجتماعيّ. وكان من بين مميّزات هذا المجتمع هو تعصّبه لأفراده لدرجة تصل إلى حدّ القتل والثأر.

اتّصفت المنطقة العربيّة عامّةً ومكّة خاصّةً بظواهر مناخيّة مميَّزة. فقلّة المياه وشحّ الأمطار جعلا نمط العيش بدويًّا بامتياز، وحركتَي ديناميّة الهجرة والترحال نحو كلّ من بلاد الشّام ومصر الأقرب إلى مصادر المياه. وكانت مدينة مكّة في ذلك الزمن أبرز مدن شبه الجزيرة العربيّة تجاريًّا ودينيًّا، وقد ارتبط تاريخها بالنّبيّ إبراهيم وبناء الكعبة، كما عَرَفَت نظامًا اجتماعيًّا قائمًا على الثروة والسلطة والدين والقبيلة، وقد كانت قريش من قبائلها المهمّة، وقد عرفت بالتفافها حول انتمائها القريشيّ وجعلته معيارًا في تحديد الوليّ على أمرها وفي توجيه معاملتها داخل المنظومة الاجتماعيّة وخارجها.

كان الانتماء إلى قبيلة قريش في مكّة يمنح صاحبه امتيازًا مقارنةً بأفراد القبائل الأخرى سواء اجتماعيًّا أو اقتصاديًّا أو سياسيًّا. وظهر ذلك الاختلاف حتّى في اللغة بين قبائل المركز وقبائل الضواحي. فعلى الرغم من أنّها لغة عربيّة فصحى ولكنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ اللهجات كانت موحَّدة. ويستطيع دارسو علم اللغة أن يحدّدوا ذلك الاختلاف البيّن الظاهر بين لغات أهل الحضر، ولغات أهل البادية وبين لغة أهل قريش ولهجات غيرهم من القبائل، قبل الإسلام وبعده؛ «وأن يجدوا لهذا الاختلاف أسبابه في انعزال بعض المواطن اللغويّة عن الحضارة أو قربها منها. وفي نوع ودرجة الحياة الاجتماعيّة التي كان العرب عامّة يعيشونها هنا وهناك»(2) .

في الواقع، إن مقاربتنا بُنيةَ المجتمع العربيّ من هذه الزاوية هو بهدف تفكيك البيئة الاجتماعيّة والمحيطيّة التي تميّزت بها المنطقة قبل مجيء الرسول محمّد حاملًا معه رسالته الدينيّة. ويظهر إذًا؛ أنّ المجتمع العربيّ كان متشبّثًا باللحمة الاجتماعيّة المتمحورة والملتفّة على النسب والقبيلة. ولطالما تميّز هذا النظام الاجتماعيّ بنقل بناه الاجتماعيّة (جاه وسلطة) وبناه الفكريّة (معتقدات وتصوّرات) من جيل إلى آخر ما يجعل أيّ محاولة تغيير داخليّة أو خارجيّة في منظومته صعبة نوعًا ما، بحكم تداخل البنيتين تداخلًا ليس من الهيّن فصله، الشيء الذي يدفعنا للحديث عن مرحلة مجيء الإسلام وتفاعله مع هذه البيئة العربيّة القبليّة.

  1. ولادة محمّد وظهور الإسلام: ولد أَبُو القَاسِم مُحَمَّد بن عَبد الله بنِ عَبدِ المُطَّلِب في شهر ربيع الأوّل من عام الفيل ما يوافق سنة 570م أو 571م في مدينة مكّة. بدأ في دعوته سرًّا قبل أن ينتقل إلى العلن، ويجهر بها أمام الجميع حيث سعى إلى نشر الديانة الإسلاميّة والقيم التي تحملها. بيد أنّ طبيعة النظام الاجتماعيّ آنذاك لم تسهّل عمليّة الدعوة المحمّديّة ما جعله يعاني من بعض المضايقات من طرف قادة قبائل قريش لعلّ أبرزهم عمّه أبو طالب بن عبد المطّلب(3). في الواقع، سعت المنظومة الإسلاميّة إلى تحديد العلاقات الدينيّة (علاقة العبد وربّه) والاجتماعيّة (علاقة الأفراد في ما بينهم). وحاولت تخفيف حدّة الرابط العصبويّ وتكوين رابط آخر أكبر جامع وشامل. «فبدأ يُضعف من شأن القبيلة ويُحلّ محلّها فكرة الأمّة»(4)ويقصد بمفهوم الأمّة هنا الجمع والالتفاف حول الدين.

عُني الإسلام بإرساء القواعد المؤسّسة لهذه الأمّة، وجعل الناس متساوين في الحقوق والواجبات ووضع نظام الزكاة الذي أصبح ركنًا من أركان الإسلام، والذي يهدف إلى توطيد العلاقة الإنسانيّة والاجتماعيّة بين كلّ مكوّنات المجتمع حينها، وسعى إلى لمّ شملها من طريق حثّها على التعايش في ما بينها. واهتمّ الإسلام كذلك منذ بداياته بتنظيم العلاقات العامّة بين أفراد الأمّة كالميراث والمعاملات التجاريّة والزراعيّة والصناعيّة بالإضافة إلى حقوق المرأة. فحُرّم وأد البنات ونُظِّم الزواج وحُرّم البغاءن وأُبيح الطلاق الذي عدَّه الحديث الشريف أبغض الحلال عند الله. وبذلك يكون الإسلام قد وسّع الإطار الضيّق لحقوق الإنسان ودعا إلى تحرير الناس من أسر العبوديّة وخفّف شيئًا من قسوة المجتمع على المرأة.

إنّ منظومة كهذه، بتلك المبادئ والركائز، كانت تفرض مسألة التدوين والكتابة ضرورةً من أجل المحافظة عليها وضمان استمراريّتها. فإن كان الدّين، سوسيولوجيًّا، يحتاج إلى جماعة تؤمن به من أجل الحيلولة دون نهايته، فهو يحتاج أيضًا إلى توثيق بهدف استمراريّته.

ثانيًا: قضيّة التوثيق والكتابة: ما بين القرآن والسُنَّة

  1. نزول القرآن وحفظه وقراءته: بدأ نزول القرآن الكريم في شهر رمضان وبالتحديد في ليلة القدر واستمرّ ثلاثًا وعشرين سنة. وكان الرسول يأمر بكتابة كلّ ما ينزل وقت نزوله، ومن أبرز الكتّاب: عثمان بن عفّان (ت 35/656) وعليّ بن أبي طالب(ع) (ت 40/661) وزيد بن ثابت (ت 45/665).

وعدا عن كتابة القرآن الكريم عمل الصحابة على حفظه وتلاوته على المسلمين، وكان حَفَظَتُه يسمّون بالقرّاء. وتُقسم سُوَر القرآن الكريم إلى قسمين: قسم السُوَر المكّيّة، وقسم السُوَر المدنيّة نسبةً إلى المدينة المنوّرة، وغالبًا ما كانت السور المكّيّة تدعو إلى عبادة الله الأحد ونبذ عبادة الأصنام، بينما غلب في السُوَر المدنيّة التشريع الدينيّ والتّشريع الاجتماعيّ، كمثل أسس الميراث والزّواج والطلاق والزّكاة وتحرير الرقيق. ومتى دعت الحاجة إلى تفسير بعض آيات القرآن الكريم، كان الصحابة يرجعون إلى الرسول إن لم يبادر هو مباشرةً إلى تفسيرها بنفسه.

يقول الله عزّ وجلّ في محكم تنزيله: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾(5). إنّ مسألة صيانة المحتوى القرآنيّ وحفظه هي قضيّة ربّانيّة بالأساس. ويقول الطبري في هذا الصدد: «يقول تعالى ذكره: ﴿إِنَّا نَحْنُ نـزلْنَا الذِّكْرَ﴾ وهو القرآن ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ قال: وإنا للقرآن لحافظون من أن يزاد فيه باطل مَّا ليس منه، أو ينقص منه ما هو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه، والهاء في قوله: ﴿لَهُ﴾ من ذكر الذكر(6) فالقرآن هو المصدر الأوّل للتشريع الدينيّ في المنظومة الإسلاميّة. وهو النصّ الذي تقام به الصلاة المفروضة ويرجع إليه في حالات اللبس، وعدم البيان بناءً على مبدأ “تفسير القرآن بالقرآن” وفي حالات النزاع تحت قوله عزّ وجلّ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾. فالآية القرآنيّة قد وضعت تراتبيّة في الشّأن الدينيّ الإسلاميّ. تبتدئ بالله من طريق كلامه في القرآن الكريم، ثمّ الرسول بوساطة سنّته وأخيرًا أولي الأمر وهم العلماء من طريق تفسيراتهم.

مرّت عمليّة كتابة القرآن عبر مراحل متعدّدة وفي حقب مختلفة. فالمرحلة الأولى تمّت في عهد الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم بوساطة الكتابة في جريد النخل أو في الحجارة المستوية والمصقولة. والمرحلة الثانية كانت في عهد أبي بكر وقد سعى من خلالها إلى ترتيب الآيات، والسّور من طريق جمع القرآن بعد معركة اليمامة التي قتل فيها كثير من حفظة القرآن. أمّا المرحلة الأخيرة فكانت في عهد عثمان بن عفّان، وعُرِف وقته بتوسُّع الأُمّة الإسلاميّة الجغرافيّ وقد صاحبه ظهور قراءة جديدة للنصّ القرآنيّ. وبهدف تفادي التحريف أو التغيير، سعى عثمان إلى جمع حفظة القرآن، وطلب منهم نسخ كلّ المصاحف المتوافِرة من عهد أبي بكر ليرسلها إلى صحابة المناطق البعيدة من أجل تعليم الناس إيّاها.

فيكون قد مرّ القرآن من مرحلة الحفظ في الصدور إلى مرحلة الحفظ في السطور، وكلّ ذلك تحت وصاية أوّل كلمة نزلت في القرآن: اقرأ.

  1. التاريخ والسيرة:عُنِيَ المجتمع القبليّ بالأيّام والروايات القبليّة التي كانت تُتداول شفهيًّا، فكانت للمسلمين مقاربة للتاريخ هي مقاربة أهل الجاهليّة نفسها، «فعُنيوا بأخبار الأيّام والمعارك وشؤون القتال، فكان من الطبيعيّ أن يهتمّ كتّاب السير قبل كلّ شيء بمغازي الرسول، مشدّدين على الدور الحربيّ الذي اضطلع به وأدّى إلى انتصار المسلمين في معاركهم».(7)كما أدّى الشعر دورًا أساسيًّا في الرواية الشفهيّة وتخلّل القصّة ومنحها حيويّةً وزادها تأثيرًا. ولا بدّ من الإشارة إلى أهمّيّة الشّعر في المجتمع آنذاك، فبه حُفظت اللغة وعُلِّمَت.

جاء القرآن الكريم ليعمّق الإحساس التاريخيّ عند العرب وليفتح أعينهم على قصص الأمم. وقد نصّ القرآن الكريم على أنّ أقوال النبيّ محمّد موحى بها وسيرته مثال للمسلمين يقتدون به. فشرع المسلمون بتدوين أقوال الرسول وأفعاله للاقتداء بها. وتحوّلت أقواله ومغازيه إلى مصدر اعتمد عليه العلماء للتشريع والتنظيم. وسرعان ما صار الصحابة أنفسهم قدوة لمن بعدهم في أقوالهم وأعمالهم.

بدأت دراسة مغازي الرسول في المدينة ضمن دراسة الحديث، وعُني بعض المحدّثين بدراسة حياة الرسول. وسُمّيت دراسات حياة الرسول الأولى، بعد جهره بالدعوة، باسم المغازي، وتعني لغويًّا غزوات الرسول وحروبه، لكنّها تناولت في الأصل عصر الرسالة بكامله. وتناقلت العرب الأخبار والقصص عن المغازي وتوسّع فيها القُصّاص وجعلوها أدبًا شعبيًّا إلى جانب الأدب التقليديّ الذي يعتمد الفصحى. واختلف أدب المغازي عن الأدب الشعبيّ التقليديّ الذي كان ملكًا شائعًا لجميع أبناء المجتمع بتوفيره ذخيرة وافية لحافِظيه ولدارِسيه، يُكتَشف بدراستها الحياة الذهنيّة والروحيّة للأسلاف الأقدمين، كما يُضبط عبرها التاريخ الاجتماعيّ الخاصّ بالمراحل الأولى من المجتمع البشريّ(8).

وتكتسي الرواية أيضًا أهميّةً في الأدب الشعبيّ. فالرواية هي التي تُظهر منزلة المحدّثين والرواة عن غيرهم من الناس كما أنّها تسلّط الضوء على أهمّية الإسناد ودوره. وبدأ المسلمون بكتابة سيرة الرسول (أقواله وأفعاله)، فارتبطت قيمة الحديث أو الرواية بالإسناد وبمنزلة المحدّثين أو الرواة، فجاءت سيرته جزءًا من السّنّة، لكونها مع الحديث مصدرين مهمّين من مصادر التشريع.

وأصبحت «روايات الأيّام» مع الوقت جزءًا من الأخبار التاريخيّة، إذ تكمن أهميّتها في «أنّها استمرّت في صدر الإسلام، [وفي أنّها تتميّز] بالأسلوب القصصيّ شبه التاريخيّ [الخالي] من أيّ نظرة تاريخيّة».(9) أي أنّها تحكي وتصف من دون أن تؤول أو تستنتج. وجاء القرآن الكريم من بعدها ليوصي بأنّ لأقوال الرسول ولسيرته مكانتهما الخاصّة بين المسلمين. «فقد نصّ القرآن على أنّ أقوال الرسول موحى بها وأنّ سيرته مَثَلٌ للمسلمين يقتدون به(10). ولقد شعر العرب في الإسلام بأنّهم أصحاب رسالة جليلة فالفتوحات الكبرى جعلتهم يحسّون بأنّ لهم دورًا تاريخيًّا. وإذا استعرضنا نشأة الدراسات التاريخيّة لاحظنا أنّ بدايات علم التاريخ عند العرب سارت في اتّجاهين أساسيّين: الاتّجاه الإسلاميّ، أو الاتّجاه الذي ظهر عند أهل الحديث، والاتّجاه القبليّ، أو اتّجاه الأيّام»(11).

وعُدَّت السيرة جزءًا من الحديث تخضع لأحكام الإسناد بوجهٍ عامّ، فهي ليست روايات متسلسلة متتابعة لكنّها روايات متفرّقة يجمعها موضوع واحد ويربط بينها. وهي قائمة على سرد الأحداث والإكثار من الاستقراء بهدف البيان والتدقيق. وفي هذا الصدد، يقول إحسان عبّاس في كتابة السيرة: «في أحضان التاريخ نشأت السيرة وترعرعت واتّخذت سمتًا واضحًا، تأثّرت بمفهومات الناس عنه على مرّ العصور[…] فكانت تسجيلًا للأعمال والأحداث والحروب»(12). ويضيف كذلك أنّه لمّا كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمع، وتعرض أعمالًا متّصلة بالأحداث العامّة أو متأثّرة بها حقّقت غاية تاريخيّة بارزة(13)، كثيرًا ما ابتعدت من الأصل التاريخيّ وأصبحت غايتها تعليميّة أو أخلاقيّة، وقد غلب هذا اللون من السِيَر على الأدب الأوروبّيّ في العصور الوسطى (كَسِيَر القدّيسين).

وفي حالة السيرة النبويّة، فإنّ الفتوحات في الجزيرة العربيّة التي انبثق عنها انتصار الإسلام كانت في حاجة إلى سُنّة من سنن الرسول. لقد أراد المسلمون إجابات على كيفيّة التعامل مع الأسرى والنساء والأطفال، وعلى كيفيّة التصرّف ومواجهة المستجدّات التي كانت غريبة عند أهل شبه الجزيرة، لذلك كان من المتوقّع، والضروريّ حتّى، أن تتحوّل السيرة على يد موسى بن عقبة (ت 141)، وابن شهاب الزُهريّ في كتّاب المغازي الأولى إلى تسجيل دقيق للمعارك الحربيّة وما دار فيها من فنون وما نتج منها من تغيُّرات، بالإضافة إلى كونها مرشدًا إنسانيًّا أخلاقيًّا.

ثالثًا: دراسة تحليليّة لمنهج الزهري في “المغازي النبويَّة”: بعد دراسة بنيويّة للمجتمع العربيّ قبل الإسلام وفي وقته، وبعد محاولة استجلاء أبعاد العلاقة بين القرآن والسنّة ودور كلّ منهما في تاريخ التوثيق الإسلاميّ، يتبقّى الشقّ الأخير من الدراسة المرتبط بنموذج الزهريّ ومنهجه المتَّبع في كتابه المغازي النبويّة.

من هو الزهريّ؟

هو محمّد بن مسلم عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مُرّة الإمام أبو بكر القرشيّ الزُهريّ المدنيّ. أحد الأعلام وحافظ زمانه. ولد في العام 50هـ ومنهم مَن قال عام وفاة عائشة أي العام 58هـ. طلب العلم في أواخر عصر الصحابة وله نيّف وعشرون سنة. قيل إنّ له ألفين ومئتَي حديث نصفُها مُسند. توفّي في العام 124ه(14).

اشتهر الزُهريّ بالعلم وبفصاحة اللسان، وقد يكون السبب وراء ذلك هو ترحاله إلى البدو “يعلّمهم ويفقّههم وينظر في أحوالهم”. وقد أدرك الزُهريّ عددًا من الصحابة وأخذ علمه عن أبنائهم وعن التابعين الأوائل، كما تتلمذ على عدد من الشيوخ منهم عبد الله بن جعفر (ت 61/680) و عبدالله بن عمر (ت 73) وسهل بن سعد (ت 91) وأنس بن مالك (ت 93) وسعيد بن المسيّب (ت 94) وعروة بن الزبير (ت 94) وغيرهم(15).

ولمّا عاش في العصر الأمويّ احتاج الناس إلى علمه، وكان أحوجهم إليه خلفاء دمشق الذين توثّقت علاقته بهم حتّى «غدا المستشار التاريخيّ والثقافيّ للبلاط الأمويّ» وبعد وفاته قال الإمام مالك بن أنس (ت 179) فيه: «مات العلم يوم مات الزُهريّ»، وأضاف أنّ «كتبه حملت على البغال». وذُكِر عن الإمام سفيان بن عيينة (ت 198) قوله: «مات الزُهريّ ، وما أحد أعلم بالسنّة منه»(16.

ويعدُّ الزُهريّ من مؤسّسي مدرسة المدينة التّاريخيّة (مدرسة المغازي) لأنّه رسم منهجها الذي ستسير عليه، فقد قام بجمع موادّ أخبار المغازي. أخذ بروايات عروة بن الزبير بعد أن تقصّى روايات أهل المدينة الأخرى، ثمّ زاد عليها بالتّنسيق والتّرتيب والتّمحيص والتّدقيق. وكان الزُهريّ أوّل من منحَ السيرة النبويّة هيكلًا محدّدًا كما يذكر سهيل زكّار في مقدّمة كتابه السيرة النبويّة: «فأمكن القول إذًا؛ إنّ الزُهريّ ثقة بإجماع أهل زمنه واللاحقين لأنّه يؤرّخ للسيرة النبويّة، ويمكن عدُّ ما كتبه وثائق تكوّنُ مصدرًا للمعرفة ودليلًا للوصول إلى الحقائق التاريخيّة»(17).

  1. مغازي الزهريّ: بين البنية والمنهج

أ- بنية مغازي الزُهريّ: عدَّ بعضهم مغازي الزُهريّ مقتطفات غير كاملة، حدّدت إطار المغازي وهيّأت جلّ الموادّ التي اعتمد عليها ابن إسحاق والواقدي في ما بعد. ويشير سهيل زكّار في تحقيقه كتاب المغازي النبويّة: «أقدّم للقارئ أصحّ رواية مدوّنة وأقدم أثر معروف حتّى الآن من سيرة النبيّ، ومغازيه مع أخبار بعض الحوادث التي وقعت في تاريخ الإسلام حتّى بداية العصر الأمويّ»(18.

ويُعدُّ سهيل زكّار قصر المدّة الفاصلة بين الزُهريّ ووفاة النبيّ قيمة «ترقى بالمغازي التي وضعها إلى مقام لا يمكن أن يزاحمه عليه كتاب آخر في الثقافة الإسلاميّة»(19.

وتنقسم سيرة الزُهريّ إلى حقبتين زمنيّتين من حياة نبيّ المسلمين، أوّلهما الحقبة المكّيّة التي يتناول الزُهريّ فيها (ضمن باب حفر زمزم) أحداثًا كثيرة تتعلّق بقبيلة قريش قبل الإسلام وبزواج عبدالله من آمنة بنت وهب، فيقول: «كان عبد الله أحسن رجل رُئي في قريش قطّ… يا نساء قريش، أيّتكنّ يتزوّجها هذا الفتى، فتصطفي النور الذي بين عينيه…»(20). ثمّ يتناول حقبة اليتم الحقيقيّة في حياة النبيّ خاصّةً أنّ أبا طالب كان فقير الحال ولديه عدّة أطفال. ويسلّط الزُهريّ الضوء على موقع النبيّ المميّز عند قبيلة قريش التي كانت تدعوه قبل الإسلام بالأمين وتضعه في مكانة سامية، كما يربط بين صفات الرسول وحياة قريش الاجتماعيّة قبل أن ينتقل ليتحدّث عن عمل الرسول مع خديجة بنت خويلد وعن مدح الرسول لهذه السيّدة صاحبة الصفات الحميدة: «ما رأيتُ من صاحبة أجير خيرًا من خديجة، ما كنّا نرجع أنا وصاحبي إلّا وجدنا عندها تحفة من حطام تخبّئه لنا…» (21.

ويذكر الزُهريّ في ما بعد وضع خديجة الاجتماعيّ والاقتصاديّ وزواج الرسول منها وولادة بناته الأربع وابنه القاسم، ثمّ ينتقل إلى حقبة الخلاء في حرّاء ونزول الوحي. وبعد نزول الوحي ينتقل الزُهريّ إلى الحديث عن نشر الإسلام ودعوة رسول الله إلى نبذ عبادة الأوثان كما يتناول أوّل المؤمنين بالإسلام، ويتوقّف للحديث عن اضطهاد قريش للمسلمين، وبهذا يختم الحقبة المكّيّة لينتقل إلى بداية الإسلام في المدينة.

إذًا، مع الانتهاء من الحقبة المكّيّة يتناول الزُهريّ الفترة المدنيّة من حياة الرسول، فيبدأ بسرد أحداث الهجرة إلى المدينة وتاريخها وظروف وصوله إليها، كما يتوقّف على نظرة اليهود إلى الرسول، ومن ثمّ تحويل القبلة إلى الكعبة وفرض الصيام وزكاة الفطر. وتكرّ ابتداءً من هذه المرحلة سبحة الوقعات والغزوات بحسب تسلسلها التاريخيّ(22) وهي كالآتي:

  • غزوة الحديبيّة.
  • وقعة بدر.
  • وقعة هذيل بالرجيع.
  • وقعة بني النصير.
  • وقعة أحُد.
  • وقعة الأحزاب وبني قريظة.
  • وقعة خيبر.
  • فتح مكّة.
  • غزوة الفتح.
  • وقعة حُنين.
  • من هاجر إلى الحبشة.
  • حديث الثلاثة الذين خُلّفوا.
  • الأوس والخزرج.
  • حديث الإفك.
  • حديث أصحاب الأخدود.
  • حديث الكهف.
  • بنيان بيت المقدس.
  • بدء مرض الرسول.

ومع وفاة نبيّ المسلمين ينتقل السرد إلى مرحلة ما بعد النبيّ التي تنقسم إلى الأقسام الآتية بحسب ورودها التاريخيّ:

  • بيعة أبي بكر في سقيفة بني ساعدة.
  • قول عمر في أهل الشورى.
  • استخلاف أبي بكر (عمر).
  • بيعة أبي بكر.
  • غزوة ذات السلاسل وخبر عليّ ومعاوية.
  • حديث الحجّاج بن علاط.
  • خصومة عليّ والعبّاس.
  • حديث أبي لؤلؤة قاتل عمر.
  • حديث الشورى.
  • غزوة القادسيّة وغيرها.
  • تزويج فاطمة رحمة لله عليها.

ويظهر من خلال هذه الأقسام حرص الزُهريّ على تدوين الأحداث احترامًا للتسلسل التاريخيّ، فلم يقتصر عمله على التدوين والجمع، بل رقي إلى تصنيف الموضوعات وفرزها إلى عدّة موادّ. فقد سرد الزُهريّ حوادث كثيرة ومتنوّعة وربطها بمحيطها ومهّد فيها لملاحظات تتعلّق بدور النبيّ، لأنّ اعتماد الزُهريّ هذه المنهجيّة في التدوين يشير إلى مرحلة جديدة من مراحل جمع التراث العربيّ والإسلاميّ وهو خير دليل على الانتقال من الرواية الشفهيّة إلى الرواية المدوّنة، وهنا تكمن أهمّيّة الزُهريّ في ربط التاريخ بالأدب من خلال الرواية التاريخيّة. فقد ذكر الزُهريّ الأحداث معتمدًا أسلوبًا سلسًا قائمًا على التسلسل الزمنيّ رابطًا حياة الرسول بالأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة المحيطة به، وذلك بلغة سليمة وتصوير دقيق للأحداث وإكثار من الإسناد.

ب- منهج مغازي الزهريّ: اعتمد الزُهريّ المنهج التاريخيّ في مغازيه واحترم تسلسل الأحداث بحسب حصولها. فذكر مثلًا أخبار مكّة وأهلها وأحوال أسرة النبيّ وحياته قبل الإسلام، كما تطرّق إلى الحقبة المكّيّة من حياة النبيّ وصولًا إلى زمن الهجرة وذكر من بعدها المرحلة المدنيّة، ثمّ تحدّث عن تاريخ الإسلام حتّى نهاية عصر الخلفاء الراشدين. وقد توقّف الزُهريّ على بعض المعارك التي خاضها الرسول (وقعة بدر، وقعة خيبر، وقعة أحد، وقعة الأحزاب،…)، بالإضافة إلى الحديث عن السفارات والوفادات والنشاطات(23) أيّام الرسول حتّى وفاته. وكما ذكرنا، لم ينتهِ السرد التاريخيّ على هذه المرحلة بل أكمل وصولًا إلى ما حدث في سقيفة بني ساعدة وبيعة أبي بكر الصدّيق وصولًا إلى تأسيس حكم الأسرة الأمويّة.

لم يضع الزُهريّ خطّة لكتابة السيرة بل جاءت الكتابة إجابات عن أسئلة وفتاوى في مواضيع تاريخيّة مترابطة، كقوله: «سُئل الزُهريّ عن أوّل من آمن بالرسول: ما علمنا أحدًا أسلم قبل زيد بن حارثة». ثمّ أضاف «ولم يتبعه من أشراف قومه غير رجلين أبو بكر وعمر رحمهما الله»(24). في الحقيقة، قام الزُهريّ ربّما، أو أحد تلاميذه، بتصنيف هذه المواضيع في حقبة لاحقة وإخراجها للناس. ومن المرجّح أن يكون مَعْمَر بن راشد (ت 153)، تلميذ الزُهريّ، هو الذي جمع الإجابات تحت اسم «المغازي» أو «السيرة» مع بعض الإضافات التوضيحيّة.

وعبر هذه السيرة البالغة الأثر في التاريخ الإسلاميّ، يمكن رصد المستوى الثقافيّ التاريخيّ ونوعيّة المسائل التي بحث فيها المسلمون في العصر الأمويّ، وهو الأثر التاريخيّ الوحيد المدوّن الذي وصل إلينا كاملًا عن العصر الأمويّ. وقد رصد الزُهريّ الأحداث التاريخيّة وحاول نقلها كما هي. وهو ما جاء في حديثه عن يزيد بن أبي سفيان حيث قال: «ثمّ توفّي يزيد بن أبي سفيان فأمّر مكانه معاوية… هاجت الحرب بين عليّ ومعاوية… ثمّ اجتمع الناس على معاوية»(25.

ج- أسلوب الصياغة والأداء: اتّصف أسلوب الزُهريّ بالوضوح والبساطة والتركيز والتناسق، فقد كان همّه أن يحصل على العلم أو الأحاديث إذ يرى فيه ضرورة اجتماعيّة ودينيّة: «الاعتصام بالسنّة نجاة […] واعبد الله بشيء أفضل من العلم وأيضًا تعلّموا تسودوا به قومكم»(26.

وقد جاء النصّ مفعمًا بالمعلومات والتفاصيل واحتوى على استقصاء كامل بحث عن الحقيقة. ولم يهمل الزُهريّ الشعر في رواياته لكنّه روى منه الصحيح وبوجهٍ ضئيل، هو الذي عرف عنه ولعه بالشعر(27). فقد كان يقول بعد أن يروي الحديث: «هاتوا من أشعاركم وأحاديثكم، فإنّ الأذن مجّاجة والنفس حَمْضَة»(28.

ولم يكتفِ الزُهريّ بالأسلوب الروائيّ وذكر قصص الأيّام كما فعل تلميذه ابن اسحاق بعده بل اعتمد العلم والمنطق والجدّيّة في عمله إضافة إلى حياده النادر فلم يتحيّز لأحد. كما أنّه اعتمد الإسناد ووضع الأخبار من دون أن يميل في الإسناد نحو طرف أكثر من آخر. ومن هذا المنطلق قال به الإمام أحمد بن حنبل: «الزُهريّ أحسن الناس حديثًا، وأجود الناس إسنادًا».(29

وتميّزت لغة الزُهريّ بأنّها لغة عربيّة بليغة خالية من التأنّق الأدبيّ حتّى إنّ الاستشهاد بالشعر جاء في مواضع قليلة من دون أن ينمّ على إيغال في التنميق. وكانت الرواية قصصيّة حوادثها مضبوطة بالإسناد الجمعيّ، مثال: «عبد الرزّاق عن معمر عن عثمان الجزريّ- قال مَعْمَر في غزوة الفتح»(30)؛ أو «عبد الرزّاق عن معمر، قال الزُهريّ: أخبرني الزُهريّ قال: أخبرني عروة بن الزبير عن المِسور بن مخزمة ومروان بن الحكم – صدّق كلّ واحد منهم صاحبه»(31) .

واتّصف أسلوب الزُهريّ بالوضوح والتركيز وعدم التّفخيم والمبالغة فقد انحصر اهتمام المؤلّف بالعلم وبصحّة الأحاديث وباعتماد الأسانيد، وروي عنه أنّه قال: «إنّ الحديث ليخرج من عندنا شبرًا، فيرجع من عندهم ذراعًا – أي من العراق -»  ثمّ أضاف: «ما هذه الأحاديث التي يأتون بها، ليس لها خُطُمٌ ولا أَزِمّة»(32.

وتكمن أهمّيّة نصّ المغازي بمنهجه التاريخيّ في أنّه نصّ لا يمكن أن يزاحمه كتاب آخر في الثقافة الإسلاميّة على مكانته، لكونه أقرب نصّ مكتوب لتاريخ الرسول. بالإضافة إلى ذلك تميّز النصّ بالصدق في القول والنزاهة في الحكم. إنّما هل يمكن عدُّ الزُهريّ من أوائل المؤرّخين الذين وضعوا أصول منهج البحث الأولى في التاريخ العلميّ الحديث الذي اعتمدته أوروبّا في القرن التاسع عشر مُستندةً في الكتابة التاريخيّة على طريق النقد والتمحيص والتدقيق؟(33)

د- تعريف المنهج التاريخيّ: عرف الباحثون العرب المنهج التاريخيّ ودعاه بعضُهم بالمنهج الاسترداديّ(34) وبعضُهم الآخر منهج البحث الوثائقيّ أو التاريخانيّ، لكنّ التسمية الأوسع شيوعًا ظلّت “منهج البحث التاريخيّ”. والتاريخ هو كلّ ما حدث، أو هو رواية كلّ ما حدث وتدوينه، وهو فعّاليّة علميّة من فعّاليّات المعرفة البشريّة تتّسع ساحتها لكلّ شؤون الإنسان. وقد عرّف بعض الباحثين التاريخ بأنّه التدوين الموثّق للأحداث الماضية وعرّفه بعضُهم الآخر بأنّه وصف الحقائق التي حصلت في الماضي بطريقة تحليليّة ناقدة، لتأتي خلاصة هذه التّعاريف بأنّه علم لا يمكن فصله عن المنهج التاريخيّ(35).

ولا بدّ من التذكير أنّ علم التاريخ نشأ عند العرب المسلمين فرعًا من علم الحديث اعتمادًا على المصادر الموثوقة وعلى الرواية الشفهيّة خاصّةً قبل مرحلة التدوين. وفي قرون التدوين التاريخيّ الأولى استُخدم الإسناد كما في الحديث، وهنا تأتي أهمّيّة كتابات الزُهريّ الذي كان أمينًا في نقل الأخبار، ثمّ جاء من بعده الأزرقيّ (ت 250/864) والبلاذري (ت 279/892) واليعقوبي (ت 284/897) والمسعودي (ت 346/957) والأصفهاني (ت 356/967) وابن النديم (ت 384/1047) الذين اهتمّوا بالجغرافيا والتاريخ، ثمّ جاء من بعدهم الطبريّ (310/923) والخطيب البغدادي (ت 463/1071) وابن الجوزي (ت 597/1201) الذين اعتمدوا على الوثائق الرسميّة في مؤلّفاتهم.

أمّا النقد التاريخيّ عند العرب فلقد بيّنته معظم آيات القرآن الكريم التي أكّدت مفهوم البيّنة والحجّة والبرهان ووجوب «التثبّت من الخبر». وقد نبّه الرسول في أحاديثه إلى ضرورة تبيّن الصدق من الكذب على الرّغم من زيف بعض الأحاديث المنسوبة أو الإضافات(36). «لكنّ العلماء اتّخذوا الموازنة الزمنيّة بين خبرين فاستطاعوا كما يذكر السخاوي [ت 902/1497] بذلك النمط من الموازنة والمحاكمة الزمنيّة التاريخيّة أن ينقدوا ما يدّعي بأنّه وثائق ويظهروا زيفها»(37). ثمّ جاء ابن خلدون (ت 808/1406) الذي شجب نقل المؤرّخين بعضهم عن بعض أو عن الرواة من دون تمحيص أو تدقيق، وميّز في عمليّة النقد التاريخيّ وقواعدها بين نوعين من الأخبار:

– الأخبار الشّرعيّة.

– الأخبار عن الواقعات. ورسم بذلك طريقًا واضحة في عمليّة نقد الخبر أو الواقعة.

اتّهم المؤرّخون العرب أنّهم لم يسعوا إلى التعليل، بل اكتفوا بالسرد وتفاوتوا في تقصيتهم الأسبابَ وتفسيرهم الحوادث. إنّما لا بدّ من الإشارة إلى أنّ عددًا من المؤرّخين حاول ضبط الأحداث زمنيًّا بواسطة توثيقها بالسنة والشّهر والليلة (كما فعل الزُهريّ استنادًا إلى القرآن الكريم).

  1. تجلّيات الأودبة في المنهج الزهريّ ومظاهر ربط السيرة بالقرآن

 أ- أبعاد الأودبة: يُعدُّ الزُهريّ أوّل من أعطى أفكارًا واضحةً بيّنة للسيرة، وحاول ربط سيرة الرسول بالأحداث الاجتماعيّة والعسكريّة التي كانت سائدة آنذاك معتمدًا الإسناد الجمعيّ ومحترمًا تسلسل الأحداث الزمنيّ. وقد امتدّ السّرد في نصّ الزُهريّ منذ ما قبل الوحي إلى ما بعد وفاة الرسول والخلفاء الراشدين. فجاءت الأحداث متدفّقة ضمن سرد متعمّق في تأريخ الرسول والصحابة الشخصيّ ومن ثمّ الخلفاء.

لقد أعطى الزُهريّ بعض التواريخ المهمّة مثل هجرة الرسول، ووقفة بدر وأُحُد والخندق وفتح مكّة(38) ووفاة الرسول وغيرها. كذلك ميّز بين الحقبة المكّيّة والحقبة المدنيّة ضمن تسلسُل الأحداث والغزوات ونزول الآيات القرآنيّة، محقّقًا بذلك تداخلًا متينًا ما بين التاريخ والأدب. فجاء السرد الأدبيّ قائمًا على تاريخ حقيقيّ محترمًا تسلسل الأحداث بحسب وقوعها.

ومن صفات السّرد في مغازي الزُهريّ أنّه استِعاديّ. فهو يمتدّ من الجاهليّة، أي حقبة ما قبل الإسلام إلى ولادة الرسول، فنزول الوحي، ثمّ وفاة النبيّ، وصولًا إلى العهد الأمويّ. ومع تلاحق أحداث هذا السّرد نلاحظ أمرين يتعلّقان بأدب السيرة، وبعناصر الخطاب السرديّ هما: أدبيّة النصّ السرديّ وتواجد عناصر الخطاب السرديّ.

ب- أدبيّة النصّ السرديّ: يتمتّع سرد الزُهريّ بتماسكه التاريخيّ وقدرته على متابعة تطوّر الأحداث على الرغم من الفجوات السرديّة الظاهرة. ويلاحظ القارئ العودة تارةً إلى الأحاديث وطورًا إلى الغزوات، أو إلى تفاصيل شخصيّة من حياة الرسول في محاولة لإحكام بنية السّرد والإحاطة بالأمور بحسب وقوعها. فيسرد الزُهريّ الكثير من الحوادث بطريقة متسلسلة مع الإكثار من الإسناد، فيتطرّق مثلًا إلى دور جبريل عند نزول الوحي ويخبر عن لسان النبيّ: «بينما أنا أمشي سمعتُ صوتًا من السماء فرفعتُ رأسي فإذا الذي جاءني بحرّاء جالسًا على كرسيّ بين السماء والأرض»(39).

تظهر أدبيّة السّرد في نصّ الزُهريّ عبر عوامل التّشويق والتبئير والإحاطة بالأحداث. فبعد تناول حياة الرسول منذ ولادته حتّى نزول الوحي، يكمل في سرده لينتقل في حقبة لاحقة للحديث عن اضطهاد قريش للمسلمين وعن الإسراء، والمعراج وردّة فعل آل قريش الذين لم يصدّقوا رسول المسلمين (وحده أبو بكر صدّقه لذلك سمّي بأبي بكر الصدّيق).

ج- عناصر الخطاب السرديّ: تنطلق المغازي من نصوص الزُهريّ الأساسيّة التي أجمع المؤرّخون على أصالتها اعتمادًا على مَعْمَر بن راشد الذي أخذ عنه الزُهريّ. وقد كانت سيرة الرسول نصًّا مركزيًّا لترسيخ ظهور الإسلام على يد الرسول محمّد بوحي من الله. ومن خلال النصوص والسرد الذي تتضمّنه يتمكّن القارئ من الدخول في صلب مجتمعات الجاهليّة قبيل الإسلام عبر الحوادث المرويّة، والوصف العرضيّ الذي يؤطّر المشهد السرديّ من دون أن يصيب بالملل.

ويتساوى زمن الخطاب وزمن الحدث مع تكاثر التفاصيل السرديّة ليبدو السرد واقعيًّا، وهو من مؤشّرات الأسلوب الروائيّ المتسلسل إذ يكون التاريخ هو أساس الحركة وتطوّر الأحداث. فقد أورد الزُهريّ مثلًا في حديثه ما يلي: «[…] وقعة أحد ثمّ يوم الأحزاب ثمّ كانت الحديبيّة ثمّ الفتح بعد العمرة ثمّ خرج النبيّ إلى حنين ثمّ إلى الطائف ثمّ رجع إلى المدينة ثمّ أمّر أبي بكر على الحجّ، ثمّ حجّ رسول الله العام المقبل ثمّ ودّع…».(40)  يستشهد الزُهريّ بأبيات من الشعر ليست بكثيرة لكنّها أبيات شعريّة، ورجز متداول في تلك المرحلة التاريخيّة وهي ضروريّة لإثبات تاريخيّة الحدث وصحّته(41).

واستخدم الزُهريّ كذلك معجمًا تاريخيًّا له علاقةٌ بالوصف والحكي المرتبطين بالحقبة الزمنيّة آنذاك. إذ استعمل مثلًا مصطلح «يسطّرون» المرتبطة بالقلم و«مسطور» المرتبطة بالكتاب، وكذلك استعمل أفعال الإخبار نحو: «قصّ»، «خبّر»، «حدّث»، عدا عن المصطلحات التي كانت شائعة في عصره، كقوله: «هذا في الجاهليّة ليمرّ يجرّ سربه ما يُطعم في بسرة». (البسرة التمر والسرب القطيع)؛ وكذلك مثلًا: «وقد عرّس» (نزل آخر الليل للاستراحة).

ب- مظاهر ربط السيرة بالقرآن: إذا كان الزهريّ قد احترم التّسلسل الزمنيّ في وصفه الأحداثَ التاريخيّة الإسلاميّة، وسعى إلى التدقيق وإسناد محتويات السنة بطريقة ممنهجة، فلقد اعتمد أيضًا على خاصيّةً مميّزةً أخرى ارتأى فيها ربط السيرة بالنصّ القرآنيّ. أسّس المنهج الزُهريّ على مبدأ الاستشهاد بالآيات القرآنيّة في كلّ مناسبة لتثبيت الأحداث وتأطيرها زمنيًّا، فوردت آيات متعدّدة، منها ما هو في الدين ومنها ما هو في شؤون الحياة مثلًا: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ﴾(42).

وبوصف الرسول هو المرجع الدينيّ الثاني للمسلمين بعد الله، يُظهر الزُهريّ من خلال السرد والخطاب التاريخيّ مستوى الرؤى والمواقف والحوارات، ويُضمّن رواياته وصفًا يعرّف قارئه على أزمنة سابقة للإسلام وعلى أماكن وقبائل وألقاب وأيّام وغزوات ووقائع وأحاديث لها علاقة بمحمّد رسول الله، وهو ما يظهر في الملاحق التي أوردناها في خاتمة بحثنا(43).

وكذلك يستعين الزُهريّ بملفوظات وخطابات قد لا يعرفها قارئ القرن الواحد والعشرين لعدم شيوعها، فتُلمس من خلال المغازي مميّزات الكتابة السرديّة التي وصفت الشخصيّات التاريخيّة في فضاء الإسلام، وكذلك الحوار بين الرسول بوجه خاصّ مع غيره من الصحابة والجند والأفراد وحتّى مع أهل بيته. وبالعودة إلى النصّ يمكن إطلاق صفة الروائيّة أو القصص القرآنيّ عليه فمن خلاله يمكن التعرّف إلى إسلام الرسول والصحابة الحقيقيّ من دون إهمال شخصيّة الرسول القياديّة المتجلّية بكامل أبعادها لتتحوّل الأخبار إلى ضرب من ضروب القصص أو الحكايا التي تطرح مادّة معرفيّة تدفع دائمًا إلى البحث والاستقصاء في كلّ ما كُتب ويُكتب عن سيرة النبيّ.

يكمّل الزُهريّ رسم شخصيّة الرسول التي ظهرت في القرآن الكريم والحديث الشريف، فيسلّط الضوء على الرسول وعلى أفعاله وتصرّفاته ضمن السياق المقدّس إنّما بدرجة أدنى من القرآن الكريم. فيؤطّر منزلة النبيّ كما يتوقّف على أناس معاصرين له ويصف دورهم الحقيقيّ بجانبه، وكيف تمكّن هؤلاء جميعهم من صحابة ومؤمنين من منح الإسلام الصورة التي اتّخذها في سنواته الأولى.

بناءً على ذلك، يكون الزهريّ قد ربط السيرة بالأدب والسيرة بالقرآن موظِّفًا لمهارته الحكائيّة والوصفيّة سواء من طريق المعجم أو من طريق الاعتماد على الأدب الشعريّ في إيحاءاته، مستغلًّا نقطةً مهمّةً رفعت من قيمة قلمه وأكّدت مشروعيّته والتي هي قربه زمنيًّا من عهد الرسول محمّد عليه الصلاة والسلام.

الخاتمة

يقول عبد العزيز الدوري في كتاب نشأة علم التاريخ عند العرب: «ما رأيتُ أنصّ للحديث من الزُهريّ». أمّا الطبري فقال معلّقًا على دور الزُهريّ في التأريخ: «كان محمّد بن مسلم الزُهريّ مقدَّمًا في العلم بمغازي رسول الله وأخبار قريش والأنصار».

عالج الموضوع في قضيّته المحوريّة مسألة الأودبة في المنهج الزهريّ واتّخذَ مثالًا للدراسة كتابه المغازي. وعليه تطرّق في الأوّل إلى هيكلة المجتمع العربيّ في حقبتين مختلفتين وتوصّل إلى أنّ الاجتماع العربيّ، هو اجتماع مبنيّ على رابط عصبويّ تسود فيه روح القبليّة، ما صعّب نوعًا ما مهمّةَ رسول الله محمّد المتمثّلة في نشر رسالته الدينيّة. بيد أنّ الموضوع درس أبعاد التغيّرات التي حصلت في التركيبة الاجتماعيّة والعلاقات بين الأفراد بعد دخول الإسلام المنطقة.

مرّت الدراسة، في شقّها الثاني، من الحقل الاجتماعيّ إلى حلّ آخر أشدّ ارتباطًا بالتوثيق والتدوين والتأريخ وعلاقتهما بالسيرة والقرآن إذ سعت في الأوّل إلى أن تعرّج على بداية نزول القرآن وحفظه الشفهيّ والكتابيّ. أمّا في الثاني فلقد بني التحليل على أساس استيعاب العلاقة الكامنة بين التاريخ والسيرة، أي، بكلمات أبسط، معرفة دور السيرة في كتابة التاريخ.

وأخيرًا في الشقّ الثالث، توصّلت الدراسة، بعد تفكيك وتحليل لمنهج الزهريّ، إلى نقط ميّزت نصَّه المدروس:

  • اعتماد المنهج التاريخيّ التعدّديّ المتسلسل.
  • ربط الأحداث الاجتماعيّة والعسكريّة بحياة الرسول.
  • إعطاء عدّة تواريخ مهمّة في حياة الرسول.
  • اعتماد الإسناد الجمعيّ وهو خطوة مهمّة نحو الأخبار التاريخيّة المتّصلة.
  • الإكثار من ذكر الآيات القرآنيّة المتّصلة بأخبار النبيّ، وهو عامل مهمّ في ظهور الدراسات التاريخيّة.
  • استقاء المعلومات من الأحاديث النبويّة.
  • الإكثار من ذكر الأشخاص، والأمكنة، والتفاصيل الواقعيّة.
  • ظهور أثر القصص الشعبيّ: نظرة هرقل إلى الدين الجديد.
  • الاهتمام بأخبار الأنبياء الماضين وبأهل الكتاب.
  • ذكر بعض الأبيات الشعريّة في الأخبار بعيدًا من أسلوب قصص الأيّام.
  • الدخول في التفاصيل من دون الإغراق فيها وخلق ملل.
  • توظيف لغة بليغة وإخراج المغازي من إطار السير التاريخيّة البحتة وربطها بالسيرة فنًّا أدبيًّا.

في الواقع، تناولت دراسات الزُهريّ في مجملها حياة الرسول، فبدأت ببعض الحوادث السابقة الإسلامَ وبعضها يتّصل بالرسول وظروف ولادته، ثمّ حياته في مكّة من ثمّ المدينة. ولم تقتصر خدمة الزُهريّ الدراسات التاريخيّة على نظرته التاريخيّة ودراسته تاريخَ صدر الإسلام، بل “قدّم خدمة كبرى إلى علم التاريخ بتدوين أخباره وأحاديثه”، وورد عند مالك بن أنس أنّ أوّل من دوّن العلم هو ابن شهاب وهذه الكتابة فتحت الطريق للآخرين ما أدّى إلى كتابة الروايات التاريخيّة. ويتّضح لقارئ الزُهريّ أنّ منهج المغازي وأسلوب الكتابة، وطريقة عرض الأخبار حدّدت خطوط كتابة السيرة النبويّة وإطارها. فقد أدّى الزُهريّ دورًا مهمًّا في ضبط أحاديث المدينة ورواياتها كما أسّس المدرسة التاريخيّة في المدينة، ووضع منهج كتابة المغازي بدراساته الجدّية. وقد ساعدت روايات الزُهريّ في وضع الدراسات التاريخيّة على أساس ثابت، وأدّت إلى حفظ الروايات التاريخيّة الأولى.

إنّ عناية الزُهريّ بلغته نابع من اهتمام العرب منذ العصور الإسلاميّة الأولى باللغة العربيّة، اهتمامٍ عزّزته الآية الثانية من سورة يوسف والمؤكّدة عربيّةَ القرآن بقولها: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾، فاعتماد القرآن الكريم اللغة العربيّة دفع المسلمين إلى إتقان لغتهم، وربطها بكلّ العلوم وخاصّة علم التأريخ وعلم كتابة السيرة وغيرها.

الهوامش

1– أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ، تاريخ الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، الجزء الأوّل، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1967، ص 1517.

2– أحمد رشدي صالح، الأدب الشعبيّ، الطبعة الثالثة، القاهرة: مكتبة النهضة المصريّة، 1971، ص35-36.

3– غير أنّ ذلك لا يعني بالضرورة أنّ الإسلام قد أنهى مفهوم الرابط القبليّ. فبعد وفاة الرسول، حدث ما يسمّى» بأحداث سقيفة بني ساعدة «التي دارت على سؤال واحد: من سيحكم؟ ويقول عزمي بشارة في هذا الصدد: »ترجّح المعطيات في التراث أنّ خلافة النبيّ كانت موضوع خلاف صيغ بلغة العصبيّة القبليّة والقرابة، وليس بلغة دينيّة.« أنظر: عزمي بشارة، الطائفة، الطائفيّة، الطوائف المتخيّلة، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط1، 2018، ص176-177.

4–  شوقي ضيف، تاريخ الأدب العربيّ، الجزء الثاني: العصر الإسلاميّ، القاهرة، دار المعارف، 1963، ص25.

5–  سورة الحجر الآية 9.

6– جامعة الملك سعود، المصحف الإلكترونيّ، تفسير الطبري، على الرابط: http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura15-aya9.html

7– إحسان عبّاس، فنّ السيرة، دار بيروت للطباعة والنشر، بيروت، 1956، ص14.

8– أحمد رشدي، صالح، الأدب الشعبيّ، ص21-24.

9-عبد العزيز الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2007، ص16.

10– «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»؛ سورة النساء، الآية 59.

11– عبد العزيز، الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب، ص 18.

12– إحسان عبّاس، فنّ السيرة، ص 14.

13– المرجع نفسه، ص 12.

14– الذهبيّ، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، دار الغرب الاسلاميّ، ط 1، 2003، ص227-249.

15– عبد العزيز، الدوري، نشأة علم التاريخ عند العرب، ص22.

16– الزُهريّ، المغازي النبويّة، مقدّمة سهيل زكّار، ص30.

17– المرجع نفسه، ص22.

18– المرجع نفسه، ص22.

19– الزُهريّ، ص32.

20- المرجع نفسه، ص39.

21– المرجع نفسه، ص42.

22- أنظر الملحق .

23– أنظر فهرست السفارات والوفادات والوقعات في آخر الدراسة.

24– الزُهريّ، المغازي النبويّة، ص46.

25–  المرجع نفسه، ص152-155.

26– عبد العزيز الدوريّ، نشأة علم التاريخ عند العرب، ص80.

27– أنظر فهرست الأشعار في الملاحق آخر البحث.

28– يوسف هوروفتس، المغازي الأولى ومؤلّفوها، ترجمة حسين نصار، القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي، ط1، 1949، ص68.

29– الزُهريّ، المغازي النبويّة، مقدّمة زكّار، ص34.

30– المرجع نفسه، ص76.

31– المرجع نفسه ، ص50.

32– رجاء وحيد دويدي، البحث العلميّ أساسيّاته النظريّة وممارسته العمليّة، بيروت – دمشق، دار الفكر المعاصر، ط1، 2000، ص32.

33– ليلى الصبّاغ، دراسة في منهجيّة البحث التاريخيّ، سورية، جامعة دمشق، ط1، 1998، ص39 و78.

34– محمود قاسم، المنطق الحديث ومناهج البحث، القاهرة، المكتبة الأنجلو المصريّة، ط 3، 1971، ص233؛ أحمد بدر، أصول البحث العلميّ ومناهجه، الدوحة، المكتبة الأكاديميّة، 1994، ص238.

35–  رجاء وحيد دويدي، البحث العلميّ أساسيّاته النظريّة وممارسته العمليّة، ص151..

36- سورة الحجرات الآية 6: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ” .

37–  رجاء وحيد، دويدي، م.س.، ص151.

38– أنظر الملاحق في آخر البحث: فهرست التواريخ والوقعات.

39–  الزُهريّ، المغازي النبويّة، ص 42.

40– المرجع نفسه، ص 75.

41– أنظر فهرست الأشعار في آخر البحث.

42– سورة الممتحنة، الآية 10.

43– لم تقتصر دراسات الزُهريّ على المغازي النبويّة، بل شملت الأنساب وتاريخ صدر الإسلام، “وإن حدّث عن الأعراب والأنساب لقلتُ لا يحسن إلّا هذا” (الأصبهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج 3: 361).

المصادر والمراجع

المصادر

  1. القرآن الكريم.
  2. إبن إسحاق، محمّد بن إسحاق المطلبي، كتاب السيرة المغازي، تحقيق سهيل زكّار، بيروت، دار الفكر، 1978م.
  3. إبن قتيبة، أبو محمّد عبدالله بن مسلم الدينوريّ، الإمامة والسياسة(يُنسَب إليه)، تحقيق طه محمّد الزيتي، بيروت، دار المنتظر، 1985 م.
  4. إبن هشام، أبو محمّد عبد الملك، السيرة النبويّة، تحقيق الأنباري، القاهرة، 1955م.
  5. الزُهريّ، محمّد بن مسلم ابن شهاب، المغازي النبويّة، تحقيق سهيل زكّار، دمشق، دار الفكر، 1981م.
  6. الطبريّ، أبو جعفر محمّد بن جرير،تاريخ الطبري: تاريخ الرسل والملوك، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، الجزء الأول، دار المعارف، مصر، الطبعة الثانية، 1967م.
  7. الواقدي، أبو عبد الله محمّد بن عمر، كتاب المغازي، تحقيق الدكتور مارسدن جونس، بريطانيا – مصر، مطبعة جامعة أكسفورد ودار المعارف، ثلاثة أجزاء، 1966م.

– المراجع

  1. بدر، أحمد، أصول البحث العلميّ ومناهجه، الدوحة، المكتبة الأكاديميّة، 1994م.
  2. بروكلمان، كارل، تاريخ الشعوب الإسلاميّة، ترجمة نبيه فارس ومنير البعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، 1998م.
  3. بيضون، إبراهيم، مسائل المنهج في الكتابة التاريخيّة العربيّة، بيروت، دار المؤرّخ العربيّ، 1995.
  4. بشارة، عزمي، الطائفة، الطائفيّة، الطوائف المتخيّلة، المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ط1، 2018م.
  5. الحديثيّ، نزار عبد اللطيف سعود، علم التاريخ عند العرب: فكرته وفلسفته، بغداد، منشورات المجمع العلميّ، 2001م.
  6. حسن، محمّد عبد الغنيّ، علم التاريخ عند العرب، مؤسّسة المطبوعات الحديثة، 1961م.
  7. حسين، طه، من حديث الشعر والنثر، القاهرة، دار المعارف، 1936م.
  8. خودابخش، صلاح الدين، حضارة الإسلام، ترجمة وتعليق عليّ حسني الخربوطلي، بيروت، دار الثقافة، 1971م.
  9. الدوري، عبد العزيز، نشأة علم التاريخ عند العرب، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربيّة،2007 م.
  10. دويدي، رجاء وحيد، البحث العلميّ أساسيّاته النظريّة وممارسته العمليّة، بيروت – دمشق، دار الفكر المعاصر،2000 م.
  11. الذهبيّ، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان، تاريخ الإسلام، تحقيق الدكتور عمر عبد السلام تدمري، بيروت، دار الكتاب العربيّ، 1990م.
  12. رستم، أسد، مصطلح التاريخ، الطبعة العشرون، صيدا، المكتبة العصريّة،1955 م.
  13. سلومي، عبد العزيز بن سليمان، الواقدي وكتابه: منهجه ومصادره، المدينة المنوّرة، الجامعة الإسلاميّة، 2004م.
  14. سيديو، خلاصة تاريخ العرب، الطبعة الثانية، بيروت، دار الآثار، لا تاريخ.
  15. صالح، أحمد رشدي،الأدب الشعبيّ، الطبعة الثالثة، القاهرة، مكتبة النهضة المصريّة، 1971م.
  16. الصباغ، ليلى، دراسة في منهجيّة البحث التاريخيّ، سورية، جامعة دمشق، 1998م.
  17. ضيف، شوقي، العصر الإسلاميّ، القاهرة، دار المعارف، 1963م.
  18. عبّاس، إحسان، فنّ السيرة، بيروت، دار صادر،1955 م.
  19. العقّاد، عبّاس محمود، عبقريّة محمّد، مصر، دار الهلال.
  20. فرج، ريتا، عبد الله عروي مؤرّخ المفاهيم ومنظّم القطيعة المعرفيّة، مجلـّة العربيّ، عدد 704، تمّوز 2017م.
  21. قاسم، محمود، المنطق الحديث ومناهج البحث، الطبعة الثالثة، القاهرة، المكتبة الأنجلو المصريّة، 1971م.
  22. كوثراني، وجيه، تاريخ التأريخ: اتّجاهات مدارس  مناهج، بيروت، الدار العربيّة للعلوم، 2012م.
  23. لاندو، روم، الإسلام والعرب، ترجمة منير البعلبكي، بيروت، دار العلم للملايين، 1977م.
  24. هوروفتس، يوسف، المغازي الأولى ومؤلّفوها، ترجمة حسين نصّار، القاهرة، مطبعة مصطفى الحلبي،1949 م.

المراجع باللغة الأجنبيّة

  1. Blachère, Régis, Histoire de la littérature arabe des origines à la fin du XVème siècle de J-C. Paris, A. Maisonneuve, 1952.
  2. Claudel, M, Les premières invasions des arabes dans l’Afrique du nord, Journal Asiatique, serie IX, t.13,1900.
  3. Lammens, H, l’Age d’or de Mohamet et la chronologie de la Sira , Journal Asiatique, serie X, t 17, pp:209-250.
  4. Larané, André, Chronologie universelle, éditions librio, Paris, 2011.
  5. Sfeir, Antoine, l’islam contre l’islam, L’interminable guerre des sunnites et des chiites, Editions Grasset, 2013.

 

 samikais@free.fr أستاذ محاضر في الجامعة اللبنانية- كلية التربية- البحث تحقيق تحقيق الدكتور سهيل زكّار- -[1]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website