Yell هتاف
هاني قدري([1])Hany Kadry
أخيرًا، شعر أنَّ له وطنًا، سيحنو عليه، أخذ يحلم بمِصْرَ أخرى غير تلك التي عاشها فيها، أو حتّى قرأ عنها في كتب التاريخ، فرحته وسط زملائه في الميدان بخطاب التنحّي، لم تستمرّ طويلًا؛ فقد كان لديه الكثير والكثير من الأحلام التي آن الأوان، أن تتنفّس وتخرج من قمقم اليأس الذي حاصره منذ حصوله على شهادة البكالوريوس بتقدير عامّ ممتاز، تذكّر آخر مرّة رأى فيها تلك الشهادة، كانت يوم أخبروه في الجامعة بعدم حاجتهم إلى مُعيدين هذا العام، لم يكن وحده الذي يحلم، فالميدان كان غارقًا في أحلام البسطاء.
رجع إلى بيته، فاستقبله والداه استقبال الأبطال، دخل الحمّام، ليستحمّ بصابونة كاملة، كان قد اشتراها بما تبقّى معه من أموال، حلق ذقنه لأوّل مرّة منذ زمن، تعطّر بكلّ زجاجة العطر التي أهدتها له محبوبته أيّام الجامعة، قبل أن تتزوّج بزميلهم في الدفعة، ابن عميد الكلّيّة الذي صار مُعيدًا بطبيعة الحال.
خرج من الحمَّام، وأخذ يبحث عن شهادته، إلى أن وجدها، عطّرها هي الأخرى بما تبقّى من عطرٍ في الزجاجة، ثمّ علّق شهادته على الحائط المواجه لباب بيته، ليراها كلّ مَنْ يطرق بابه، كان يعلم أن بيته، سيستقبل الكثير من المهنئين له بنجاح الثورة، فسأل أمّه عن كتب الجامعة، أخبرته أنّها تحت السرير، فأخرجها وأزال ما عليها من غبار سنواتٍ كثيرة، أخذ يستنشق رائحتها فرحًا، وأخذت أمّه تضحك قائلة:
- أَصِرْتَ بعد الثورة، تحبّ رائحة العفن والغبار؟!
فابتسم، وقال:
- بل رائحة الحلم.
ثمّ أخذ يرصف الكتب فوق بعضها البعض، قارئًا ما كان يكتبه في الهوامش ثمّ ارتدى أفضل ثيابه، وطلب من أمّه وأبيه أن يمكثا أمام التلفاز ليشاهداه وهو يتحدّث مع زملائه عن محبوبته التي قرّرت أن تبادله الشعور نفسه، تعجّبت أمّه، خصوصًا حين رأته يلقّي زجاجة العطر الفارغة في صندوق القُمامة، وسألته بوجهٍ متهلّل:
- أرأيت محبوبتك تلك في الميدان؟
فأجاب خجلًا:
- لم أرَ سواها.
فسألته:
- أبيضاء هي أم سمراء؟
فتبسَّم أبوه وأخبرها أنّها بيضاء، وسمراء، وحمراء أيضًا، ويتوسّطها نسر… ثمّ ضحك، ومن خلفه ابنه.
اتّصل بكلّ أصدقائه، وأقاربه ليشاهدوه، ولم ينسَ أن يكتب على صفحته الشخصيّة في موقع (فيس بوك): «سأطلّ عليكم اليوم من شاشة التلفاز، على الهواء مباشرةً».
ثمّ انطلق وسط دعوات أمّه وأبيه التي ملأت الفراغ من حوله، فليس سوى تلك الدعوات، يزاحم حلمه في هذا الفضاء الفسيح، نزل، وفي طريقه إلى (ماسبيرو) وجد زحامًا، ووجد الجمع يهتف باسم مِصْرَ، أخذ يهتف معهم على الرّغم من أنّه لم يكن يعرفهم، لكنّه اعتاد الهتاف باسم مِصْرَ، فكان يردّد دومًا في الميدان: «ليس المهمّ، مع من نهتف، المهمّ، أن نهتف من أجل مِصْرَ».
انطلقت الهتافات ثمّ انطلقت الرصاصات، وسقطت معها الأجساد.
على الرّغم من أنَّ أمّه ظلّت متجمّدة أمام شاشة التلفاز متعجّبة من شدّة رائحة العطر التي تفوح في المكان، كان ابنها قد ألقى الزجاجة الفارغة في صندوق القُمامة، وبينما كانت تتبع مصدر الرائحة، صدرت موسيقى أهمّ الأنباء من التلفاز، وسقطت معها اللوحة المعلّقة على الحائط أرضًا، فهبّ الأب من مكانه فزعًا، ظنًّا أنّه زلزال، أمّا الأمّ، فلم تحرّك ساكنًا، ثمّ قامت في صمتٍ، وأخرجت ثيابها السوداء؛ استعدادًا لحِدادٍ، لن ينتهي.
hanykadry92@gmail.com – شاعر وكاتب مصريّ – عضو اتّحاد كتاب مصر – [1]