فتى الزّمان
فتى الزّمان
د. خديجة شهاب
ألقيت جسدي على الأريكة، ليرتاح من عناء يوم عمل تموزي شاق ومرهق. يبدو أنّ حرارة الشمس قد تخطت معدلها الطّبيعي في مثل هذا الفصل، فَصَدق عليه قول أجدادنا ب ” تموز بتغلي الميّ بالكوز”. تموز ما لحكاياك معنا إلّا الكثير الكثير……وكم من غُصةٍ اجترحناها فيك يا تموز.
وقبل أن أتمدد لآخذ قيلولتي؛ استفزني صوت قادم من بعيد، لم أتبيّنه للوهلة الأولى، ولكنّه دفعني لأن أخرج إلى الشّرفة في محاولة لاستطلاع ما يجري.
وضعت كفي فوق جبيني في وضعيّة تسمح لي بالرؤية بعيدًا من حرارة الشّمس اللاهبة، بدأت ملامحه تظهر رويدًا رويدًا. إنّه شاب في مقتبل العمر يركض بسرعة فائقة، يتعثر فيقع وقبل أن يصل إلى الأرض يرفع جسده ويعاود الركض ثانية.
آه. إنّه أحمد ابن ليلى جارتنا الشّابة، وجنتاه محمرتان، وأوداجه منتفخة، وجهه كقرص الشّمس المتربع في كبد السّماء؛ إنّه يتصبب عرقًا، اختلطت حبيباته بدموعه الغزيرة المنهمرة بلا توقف.
لا أعرف ما الذي دفع به إلى هذه النّاحية من القرية، فهي لا تزال تحت مرمى نيران العدو الصّهيوني القابع على التّلة المقابلة لمنزلنا، ولولا لم يكونوا يعرفون أن لا أحد يقطن هذا البيت إلا أنا وأمي لما تركونا بسلام.
على الرّغم من هذا فالصّهاينة يرسلونا إلينا بين الفينة والأخرى مجموعة من العملاء ترهبنا، وتمارس علينا الضغوط النّفسيّة لنرحل.
أصبح في محاذاتي، تُرى ما الّذي جاء به إلى هذه النّاحية؟!
أحمد قلّ لي ما بك، لعل أمرًا خطيرًا حصل! أرجوك قل شيئًا يبرّد قلبي؛ لم يُجِب، تابع ركضه ظننتُ أنّه لم يسمعني فما يشغل باله عطَّل سمعه.
اضطررت أن أهرول خلفه، لعلني أحظى بضالتي؛ وأعرف ما الخبر ولكن في لحظة سمعته ينادي ويصرخ بصوت مرتجف فيه الكثير من الخوف والرّجاء:
أيّها الطبيب أرجوك أنقذ أمي، فقد فاجاءها المخاض، والقابلة تقول: إنّ الولادة متعسرة، وقد تحتاجك بين لحظة وأخرى، أرجوك ؛ أجبني؛ قل إنّك تسمعني……
تركتُه، وقفلت عائدة إلى منزل ليلى، لعلني أستطيع المساعدة في شيء. عاداتنا في القرية في الأيام العادية هي أن نساعد بعضنا فكيف في ظل الظروف السائدة .
النسوة والجيران يملأن المنزل، فليلى قد استُشهد زوجها الشّاب منذ شهرين في معركة ميدون الشّهيرة، وهو يدافع عن الأرض، ولا معيل لها. اندفعْتُ باتجاه الغرفة التي ترقد فيها، ” أم أحمد”، وسألْتُ القابلة كيف الوضع الآن.
- أجابت: إنّ الطفل في غير وضعه الطّبيعي فالقدمان في المقدّمة والرأس في الخلف؛ لذا الوضع دقيق ويحتاج إلى بعض الوقت.
- وهل تحتاجين إلى مساعدة، يمكنني أن أفعل …
- أبقي قريبة قد أحتاجك.
تركت الغرفة ، وأنا أفرك كفّيّ ببعضهما، والأفكار السّوداء تأخذني يمينًا فشمالًا. ورحت أدعو لليلى في سرّي أن يجعل خلاصها قريبًا.
فجأة؛ رأيته يقف بباب البيت مذهولًا، خائفًا، ويائسًا؛ وقد بدت على محيّاه أمارت الحنق والغضب؛ فبادرته بالسؤال:
- أين الطّبيب ؟!
- أحمد ما بك أراك وحيدًا، أين الطّبيب؟ لماذا…………؟؟؟؟
وقبل أن أكمل انفجر بالبكاء قائلأ: قتلوه، لقد قتله المجرمون، وجدته مرميًّا على الأرض، وقد أصابت رأسه رصاصة قاتلة، قتلوه لأنّه يساعدنا ويطبب جراحنا، ويداوي آلامنا، أرادوا أن ينالوا من صمودنا.
وقع الخبر علينا كالصاعقة، ولم نصدّق ما نسمع، هول المصيبة عقل ألسنتنا لوقت غير قليل.
- بعد ذلك علقت سمر: لعنهم الله، فهم على الرّغم من أنّهم يراقبون منزله ليل نهار، ويفرضون عليه أوقات الخروج والعودة، إلّا أنّهم لم يتركوه بسلام. فهو لم يتوان لحظة عن مدّ يدّ المساعدة للجميع من دون استثناء، فقد كان وجوده بيننا يشعرنا بالأمان والاطمئنان، ويخففّ عنّا عبء الاحتلال.
- أردفت الحاجة أمّ جهاد: كان غيابه عن المنزل بين الفينة والأخرى يقلقهم، ويؤرق نومهم.
- شاركت هبة في الحديث: منزله يقع على التلّة المقابلة لموقعهم، ويمكنهم الوصول إليه بسهولة، فهم يعرفون أنّه سبب صمود الكثير منا. يهبُّ تارة لنجدة عجوز ينازع، وأخرى لإعطاء الدّواء لطفل ارتفعت حرارته، جراء حمى أصابته.
- أجل؛ لا طبيب آخر يداوي جراحنا في هذه القرية، فالوصول إلى الأطباء في القرى المجاورة فيه الكثير من المشقّة، لا سيارات عندنا فالاحتلال يصوّب نيرانه على كلَّ ما يتحرك، لذلك فوجودها عسير ونادر؛ لقد كنّا نقصده حين يتعذر على المقاومين القابعين في الجرود مداواة جريح بينهم.
- علّقت أمّ عليّ: رحمه الله؛ كان غيابه المتكرر عن المنزل أكثر ما يقلق الصّهاينة، ولعلهم تأكدوا من أحد العملاء أنّه في غيابه، يذهب لمداواة الجرحى والمرضى من المقاومين، ويُؤمِّن لهم بعض حاجياتهم.
- لكنّهم لن ينالوا منّا، نَعِدهم بذلك، إنّه واحد في مسيرة المقاومة، وقافلة المقاومين، وخسارته ستزيدنا صلابة وعزمًا.
لم نفق من غيبوبتنا إلاّ على صوت الطفلة القادم من الغرفة المجاور.ـ وهي تصرخ، وتبشّر بخروجها إلى الحياة، وصوت القابلة يقول: حمدًا لله على سلامة “أم أحمد”، ومباركة مولودتكم ” وتتربى بعزكم” ماذا تريدون تسميتها؟
لا شعوريًا حضنت ” أحمد” وقبّلتُه وقد بدت على وجهه تباشير السّرور والأمل وقال: فرح ؛ نعم هي فرح…
