foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

تمثيل الهُويّة بوساطة الذاكرة في نصّ السيرة الذاتيّة “خارج المكان” لإدوارد سعيد

0

تمثيل الهُويّة بوساطة الذاكرة في نصّ السيرة الذاتيّة “خارج المكان” لإدوارد سعيد

ريّان زيدان*

في العقود الأخيرة، باتت المذكّرات الشخصيّة والتراجم والسير، ولا سيّما يوميّات الكتّاب وتصويرهم للفضاء الاجتماعيّ المحيط بهم ملاذًا مهمًّا لمن يبحث عن كتابة تاريخ جديد للحياة اليوميّة في القرون الماضية أو الحديثة. ومع أن كتابة السيرة الذاتيّة العربيّة الحديثة، أو كتابة اليوميّات في أواخر القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين كان بمثابة مرحلة اختبار وابتكار عظيم في كثير من الأنواع الأدبيّة العربيّة، مع ذلك يرى “دوايت رينولدز” أستاذ الأدب العربيّ في جامعة كاليفورنيا، في دراسته “من ترجمة النفس إلى السيرة الذاتيّة” أن هذا التطوّر لم يكن تطوّرا جديدًا تمامًا في تاريخ الآداب العربيّة، ولا تطوّرا ناتجا بصورة شبه كلّيّة من التلاقح الثقافيّ مع الغرب، فقد اعتاد العديد من العلماء على كتابة ترجمة للنفس أو كتابة حياتهم اليوميّة في العصر الوسيط حتّى قبل هذا العصر[1]. فقد عرفت الجاهليّة قبل الإسلام سيرًا من أنواع متعدّدة، تمثّل أغلبها في الشعر والمعلّقات.

ومع عصور الإسلام الأولى، ظهر أيضًا هذا الفنّ الأدبيّ، وكانت السيرة الغيريّة هي الأشهر، ولعلها السيرة النبويّة لابن هشام أو “سيرة ابن هشام”. وهو كتاب في السيرة النبويّة للنبيّ محمّد رسول الإسلام، ويعدّ من أهمّ كتب السيرة النبويّة ومصادرها الرئيسة. وهو كتاب لأبي محمّد عبد الملك بن هشام بن أيّوب الحميريّ البصريّ (المُتوَفّى سنة 218هـ).

وهذا يستدعي تعريف مفهوم أدب السيرة، وهي نوعان؛ السيرة الذاتيّة، والسيرة الغيريّة. السير في اللغة: الذهاب؛ كالمسير، والمسيرة، والسيرورة، والاستيار[2]. والفعل: سار، ومضارعه يسير؛ لأنّ أصله سَيَرَ. وهو يستعمل لازمًا ومتعديًّا. قال العلامة ابن منظور: “وسَارَ البعيرُ، وسِرْتُهُ أنا، وسارت الدابّة، وسارها صاحبُها: يتعدّى ولا يتعدّى[3]، ومعنى المتعدّي: الركوب، فإذا أراد بها صاحبها المرعى قال: أَسَرْتُها إلى الكلأِ، ويقال أيضًا: أَسَارَ القوم أهلهم، ومواشيهم إلى الكلأِ؛ وهو أن يرسلوا فيها الرعيان، ويقيموا هم. وقال العلامة ابن منظور – ملخّصًا ما سبق، ومبيّنًا وجهَ انتقال “السَّيْر” من المصدريّة إلى الاسميّة: “والاسم من كلّ ذلك السيرة”. وهذا النقل – بالنظر إلى الغرض من هذا المبحث- لباب الصيغ الآنفة جميعًا، وقد ذكر أهل اللغة لاسم “السيرة” أربع دلالات؛ فقالوا: “السيرة: الضرب من السير، والسيرة: السنة، والسيرة: الطريقة، والسيرة: الهيئة”[4].

أمّا اصطلاحًا، فالسيرة الذاتيّة هي بحث يقدّم فيها الكاتب حياته، ويبرز فيها المنجزات والإخفاقات، وما رافق حياته من صعوبات ومشكلات متعدّدة. وما من شكّ في أنّ للحسّ التاريخيّ دورًا كبيرًا، وتأثيرًا مباشرًا في إدراج نصّ السيرة الذاتيّة وعرضها، وفي تحديد البناء العامّ لكلّ تاريخ فرديّ.

إنّ السيرة الشخصيّة أكثر نبضًا من التاريخ بالحياة والتجارب الفرديّة بحكم محوريّة الذات الفرديّة في هذا اللون من التعبير من جهة، وثانويّة الأحداث من جهة ثانية. ومن السهل أن نتنيّه إلى كون التاريخ أحد وجوه فتنة هذا الجنس الأدبيّ، فالتاريخ يجري وراء الحقيقة باحثًا وممحّصًا ثمّ مبدّدًا لأيّ غموض في جوانب الحياة الإنسانيّة العديدة، أمّا السيرة الذاتيّة فتقتفي أثر الحياة في ذات الإنسان، كانت ولا تزال أكثر احتفالًا بالأدب الذاتيّ من كلّ ألوان التاريخ، حتّى إنّ التاريخ يعبّر عن مدى غنى الحياة الداخليّة للإنسان، وإنّ السيرة الشخصيّة هي ملتقى الحقّ الأدبيّ، والحقّ التاريخيّ.

هذا يسمح بالدخول إلى موضوع هذا البحث، وهو الرؤية الذاتيّة التي رسمها المفكّر الفِلسطينيّ – الأميركيّ الراحل إدوارد سعيد، في كتابه الشائق “خارج المكان”. والسؤال الأساسيّ في هذه السيرة الذاتيّة التي كتبها “سعيد” : “كيف يمكن معالجة تمثيل الهُويّة بوساطة الذاكرة في نصّ “خارج المكان”؟

تُستدعى الأنا نصّيًّا بوصفها متعيّنة في الماضي (الطفولة) انطلاقًا من حاضر تتحكّم فيه آليّات الاستدعاء التي تفرضها الكتابة (التعبير، والتنظيم، والتثبيت الغرافيّ)، ويُشرطه وضع اعتباريّ خاصّ (بوصفه كمفكّر، وكمثقّف عالميّ). كما تُستدعى هذه الأنا انطلاقًا من ضرورات أُنطولوجيّة، وإشكالات تخصّ فعل الكتابة ذاتَه؛ إذ يتخلّق السؤال المضني الآخر: “كيف يمكن التصرّف بالمخلفات والبقايا المرسَّخة في الذاكرة بوصفها معالمَ كبرى، لا تفاصيل دقيقة. فلا يمكن فهم تمثيل الهُويّة – بموجب هذا الأمر – بوصفها نتاجَ عمليّة استدعاء من جهة، وسؤالًا عمَّا كانته “الأنا” من جهة أخرى انطلاقًا ممّا هي عليه الآن فحسب. ولكن ينبغي تمرير كلّ ذلك أيضًا من ضرورات الكتابة، والانتماء إلى تجربتها (التفكير)؛ فهذا الاتّصاف الأخير يُشرط تمثيل الهُويّة في هذا النصّ.

وقبل الولوج في قراءة “خارج المكان”، من المُهمّ التوقّف عند سيرة غيريّة كُتبت عن المفكّر الراحل إدوارد سعيد، “إدوارد سعيد… رواية فكره” (بالفرنسيّة، منشورات “لا فربريك”) عمل/ تحدِّ جديد حول سيرة المفكّر الفِلسطينيّ، صدر للكاتبة الفرنسيّة من أصول لبنانية دومينيك أودي، في العام 2017. في العام 2005، أصدر المؤرّخ الفرنسيّ فرانسوا دوس كتابًا بعنوان “التحدّي البيوغرافيّ.. كتابة الحياة”، يدرس فيه كيف جرى صياغة حياة مشاهير التاريخ، ويشير إلى أنّ عِماد هذه الكتابة هو “التكهّن”، فما هو ثابت وموثّق لا يفي بحاجة النصّ الذي يبتغي إعادة بناء سيرة حياة شخصيّة ما، وهذا التكهّن – وقابليّته للتصديق – هو ما يسمّيه المؤلّف تحديدًا بـ”التحدي البيوغرافيّ”[5].

بالإضافة إلى “التحدّي” بالمعنى الذي وضعه “دوس”، أي ملء فراغات السيرة، فإنّ فكر إدوارد سعيد يحمل جانبًا إشكاليًّا في الساحة الفرنسيّة كفضاء تلقٍ، إذ لم يكن وصوله إلى فرنسا معبّدًا، لاعتبارات كثيرة أوّلها أن كتابه المرجعيّ “الاستشراق” (1979) يتناول مسألة حسّاسة داخل السياق الفرنسيّ، فالاستشراق الذي ينقده قد جرت بلورته بين فرنسا وبريطانيا، وهزّه يعني هزّ مسلّمات بحثيّة، وما يترتّب عن ذلك من تداعيات حول الأخلاقيّات العلميّة، والتوظيفات السياسيّة للدراسات الشرقيّة.

ثانيًا، عُرفت الساحة الفرنسيّة، خصوصًا في القرن العشرين، باكتفائها الداخليّ ومركّبات الفوقيّة الفكريّة، وكثيرًا ما قيل بأنّه من دون وجود مباركة من شخصيّة مرموقة في الداخل الفرنسيّ لما وصلت أعمال “سعيد” إلى الفرنسيّة. الناقد البلغاريّ الفرنسيّ “تزفيتان تودوروف” كان من قام بهذه المَهَمَّة، حين تكفّل بتقديم كتاب “الاستشراق”، وتعدّ مقدّمته تلك إلى اليوم مدخل الساحة الفرنسيّة إلى التمثّل النقديّ الجديد للمسألة.

في المقابل، لم يكن “سعيد” غريبًا عن التقاليد الفكريّة الفرنسيّة، فهو بحكم انتمائه إلى الأجواء الأكاديميّة الأميركيّة اعتمد على منهجيّات أصولها فرنسيّة؛ بالأساس الأركيولوجيا المعرفيّة من ميشال فوكو وتفكيكية جاك دريدا، ضمن ما عُرف بتأثيرات “الفرنش كونكشن” على الفكر الأميركيّ عمومًا. وهي مسألة لا تفوّت “أودي” في إضاءتها في عملها. لكنّ كتابها يذهب أبعد من المنطوق الفكريّ لـ”سعيد”، إذ إنّه كما تقول كلمة الناشر “يعالج فكر إدوارد سعيد من خلال متخيّله وحياته”. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ “أودي” تأتي إلى هذا الكتاب من خلفيّات سرديّة بالأساس، حيث تُعرف في الساحة الفرنسيّة أساسًا بصفتها روائيّة، بالإضافة إلى ذلك كانت لها علاقة مباشرة مع إدوارد سعيد (استفادت من لقاءات شخصيّة معه في كتابها)، وقد ترجمت له نصوصًا إلى الفرنسيّة.

تنشغل “أودي” أيضًا بسؤال “كيف صنع سعيد أسلوبه؟”. بالإضافة إلى أدوات ما يعرف بالأسلوبيّة، التي تحصر نظرها في النصوص، تبحث في مؤثّرات ثقافيّة عامّة لدى صاحب “خارج المكان”؛ إذ تضيء بالأساس علاقته بموتسارت وأثر قراءات فكريّة مثل فوكو وأدورنو، وأدبيّة مثل كونراد وسيوران وأورويل، ثمّ ترصد أيضًا أثر الترحّل في حياته.

هل تكفي هذه العناصر لتغطية مناطق الظلّ لفهم حياة إدوارد سعيد وفكره؟ ربّما يحدث ذلك بالنسبة إلى المتلقّي الفرنسيّ، الذي يبدو الكتاب موجّهًا إليه بالأساس، لكن هل للقارئ العربيّ الخلفيّات ذاتها عن صاحب “الاستشراق”؟ ثمّ لا ننسى أنّ سعيد ترك مجموعة كتابات أوتوبيوغرافيّة، لها مقروئيّتها العربيّة، وليس حالها كذلك في فرنسا، تاليًا يحتاج سعيد “رواية” أخرى لفكره، عربيّة هذه المرّة. وفي انتظار هذه الرواية الأخرى، نستعرض كيف أوصل “سعيد” نفسه رؤيته عن ذاته العربيّة – الأميركيّة؟!

ثمانية وستون عامًا؛ كانت سنوات الحياة التي عاشها المفكّر، والناقد، والموسيقيّ، والسياسيّ، والباحث الأكاديميّ إدوارد سعيد، الذي ظلّ حتّى مماته يبحث عن علاقة التناغم بين ذاته العربيّة، وذاته الأميركيّة. فيقول في تقديمه لمذكّراته في كتاب “خارج المكان” الذي بين أيدينا: “وكلّما أوغلت في ذلك الجهد ازددت اقتناعًا بأنّي إنّما أسعى إلى تحقيق فكرة طوباويّة. ذلك أنّه لم يعد في حياتنا المعاصرة دعم كبير للفكرة القائلة بأنّ الانتماء العربيّ لا يزال يقتضي، بحكم العادة والتقاليد، إقامة علاقة متنافرة مع الغرب.”.

من هذه الفكرة بدأ سعيد كتابة مذكّراته من خارج المكان؛ فكانت قِصّة استثنائيّة عن المنفى، وسرد لارتحالات عديدة؛ وأقرب إلى احتفال بماضٍ لن يستعاد. فقد ظهرت من خلال صفحات الكتاب؛ شخصيّة العربيّ التي أدّت ثقافته الغربيّة إلى توكيد أصوله العربيّة بعد أن تلقّى تشخيصًا طبّيًّا مبرمًا؛ أقنعه بضرورة أن يخلّف سجلاًّ عن المكان الذي ولد وأمضى طفولته فيه. ربّما يسأل القارئ؛ هل المرض، والقلق، والوهن، والعلاج كانت وراء هذه اللغة في تصوير جغرافيّا الارتحال التي مرًّ بها إدوارد سعيد في هذا الكتاب!! أم هي معاناة المغادرة، والوصول، والوداع، والمنفى، والشوق، والحنين، والانتماء للوطن الأمّ!

لقد كانت الموهبة والعبقريّة المتجدّدة والمركّبة عند إدوارد سعيد؛ هي التي جسدّت لديه قوّة الجذب بصراحته المتناهية (بإمكانك القفز بين الفصول الإحدى عشر من الكتاب لتتعرّف إلى صراحة السرد عند سعيد بشكل أكبر)، بل يبلغ درجات عالية من الصراحة بقدر ما هو؛ في الآن ذاته؛ حميم ومرح من خلال العودة معنا إلى الفصل الخامس؛ عندما تمّ تسجيله في “مدرسة الأطفال الأميركيّين في القاهرة” وحكايات اللباس، والطعام التي كانت تشعره بالفوارق بينه وبين زملائه من الأطفال الأميركيّين، وحديثه بصراحة عن التمايز الشديد في التراتب الاجتماعيّ بينه وبين أقرانه في المدرسة؛ وحكاية معلّمة اللغة العربيّة، واستفزازاتها له ليعلن عن عربيّته المسكونة داخله. والزيارة إلى مصنع السكر؛ وتأنيب مُدرّسة الصفّ له لعدم اكتراثه بالزيارة، ورؤيته لزميلته وهي في ثياب السباحة، ثمّ كيف أجبر نفسه على الخروج من شخصيّة الكائن “المعطوب، الفزع، الضعيف الثقة في النفس”، وتعلّمه الموسيقى مبتدءًا بالبيانو.

يقول سعيد في كتاب سيرته الذاتيّة: “غير أنّ الدافع الرئيسيّ لكتابة هذه المذكّرات؛ هو طبعًا حاجتي إلى أن أجسّر المسافة، في الزمان والمكان، بين حياتي اليوم وحياتي بالأمس. أرغب فقط في تسجيل ذلك بما هو واقع بدهيّ من دون أن أعالجه أو أناقشه”[6]. بهذه العبارات الشفافة عبّر إدوارد سعيد عن مكنوناته في كتابته لـ”خارج المكان”، مستذكرًا تجاربه وأحاسيسه منذ ولادته في مدينة القدس الفِلسطينيّة، العام 1935، ثمّ عودة والديه إلى القاهرة بسبب عمل الوالد، ثمّ قضاء أوقات أطول في القدس ويافا في الأربعينيّات (قبل نكبة 1948)؛ وقِصّة عودة العائلة من القاهرة إلى بيتهم في القدس عند نشوب معركة “العلمين”؛ طلبًا للاطمئنان، وتنقّلهم بين بيتهم في القدس، وبيتهم الريفيّ في رام الله؛ ثمّ السفر إلى ضهور الشوير في لبنان في أوائل الخمسينيّات.

يركّز سعيد على تعلّق والده وأعمامه بالقدس؛ وتكثيف نشاطهم التجاريّ – تجارة القرطاسيّة والكتب والهدايا- في المدينة المقدّسة، أرض الأباء والأجداد، والذهاب كلّما سنحت الفرصة لزيارة البيت (بيت العائلة الكبير) في القدس، والتمتّع والاستمتاع بالإقامة هناك. ومن خلال وصف هذه التنقّلات، والرحلات العاديّة، والقسريّة؛ يظلّ إدوارد سعيد يشدّد على نشأته المقدسييّة الفِلسطينيّة؛ رغم حمل والده للجنسيّة الأميركيّة. وكثيرًا ما تستشف من سرد سعيد؛ كيف أنّ والدته كانت متعلّقة بالقدس حيث بيت زوجها، وبمدينة الناصرة مكان ولادتها والعيش بفِلسطين وطنها، وكانت تعبّر عن غيابها كثيرًا عن بيتها المقدسيّ بالغضب والنفور من العيش في القاهرة ، في مصر أو ضهور الشوير في لبنان. لكن عمل وديع (والد إدوارد وزوجها) هو السبب في التنقّل والارتحال. والمذكّرات التي بين أيدينا، تفيد، أنّ والدة إدوارد استحصلت على الجنسيّة اللبنانيّة للسفر والتنقّل بعد سقوط فِلسطين، وسقوط الجنسيّة الفِلسطينيّة عنها، وبقيت على ذلك حتّى وفاتها العام 1990. ولم تحاول اكتساب الجنسيّة الأميركيّة كباقي أفراد العائلة.

وفي الفصل السادس من الكتاب؛ يؤكّد إدوارد سعيد على هُويّة العائلة المقدسيّة الفِلسطينيّة، وكذلك الروح الوطنيّة عند أفراد العائلة؛ عندما يتذكّر “الجدّة المستغربة التي نعى بها ابنا عمّي المقدسيّان الأكبران، يوسف وجورج، يوم الأوّل من تشرين الثاني 1947؛ وهو عيد ميلادي الثاني عشر، عشيّة ذكرى وعد بلفور. فقد وصفاه  بـ”اليوم الأشدّ إظلامًا في تاريخنا”[7].

رغم سنّه الصغيرة؛ أدرك إدوارد سعيد “معالم الأزمة الزاحفة” وما يحيط بهم من أمور غامضة؛ وتعقيدات الصراع مع الصهاينة والبريطانيّين. وكيف كان ينظر إلى مدينته (المدينة المقدّسة)؛ وهي مقسّمة إلى مناطق متعدّدة يسيطر عليها الجيش البريطانيّ وحواجز الشرطة التي كان لزامًا على السيّارات، والمشاة، وراكبي الدراجات المرور عبرها. وفي السياق ذاته يعبّر كيف أنّبته عمّته “نبيهة” لأنّه ذهب إلى دار السينما اليهوديّة، قائلة له: “لماذا لا تبقى مع العرب”[8]. تعبيرًا عن خوفها عليه من الاختلاط باليهود في مناطق التوتّر في القدس.

يصف “سعيد” كيف هُجّرت أسرة عمّته نبيهة من القدس مطلع ربيع العام 1948؛ وكيف “هجر [ابن عمّته الأكبر] بيت الطالبيّة عند سقوط الحيّ بأكمله بيد الهاغاناة الصهيونيّة. فانتقل للسكن في شقة صغيرة في البقعة الفوقى. وهو حيّ مجاور من إحياء القدس الغربيّة. ثمّ ما لبث أن غادر موطئ القدم الأخيرة هذا في آذار/ مارس دونما عودة هو أيضًا. “ومنذ أيّامي الأولى في القدس إلى آخر يوم فيها؛ أذكر بوضوح أن الطالبيّة، والقطمون، والبقعة الفوقى والتحتا كانت مأهولة بالفِلسطينيّين دون سواهم، وينتمي معظمهم إلى عائلات نعرفها ولا يزال لأسمائها وقع أليف في أذني- سلامة، دجّاني، عوّاد، خضر، بدور، جمّال، برامكيّ، شمّاس، طنّوس – وقد أمسوا جميعهم لاجئين”[9]. ويكمل سعيد قائلًا: “فعندما أسمع الآن إشارات إلى القدس الغربيّة؛ فإنّها تعني دومًّا بالنسبة إليّ الأحياء العربيّة لمرابع طفولتي. ولا يزال يصعب عليّ أن أتقبّل حقيقة أنّ أحياء المدينة المقدسيّة، حيث ولدت، وعشت، وشعرت بأنّي بين أهلي، قد احتلّها مهاجرون بولونيّون، وألمان، وأميركيّون غزوا المدينة وحوّلوها رمزًا أوحد لسيادتهم؛ حيث لا مكان للحياة الفِلسطينيّة الأصيلة في المدينة. فقد أضحت غربيّ المدينة المقدّسة يهوديّة بالكامل؛ فيما طُرد منها مواطنوها الأصليّون نهائيًّا في أواسط العام 1948.”[10]

من خلال تصفّحنا مذكّرات إدوارد سعيد؛ بروفسور في اللغة الإنكليزيّة والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويورك، الذي ألّف أكثر من سبعة عشر كتابًا مُهِمًّا؛ كان من أبرزها؛ الاستشراق، صور المثقّف، الثقافة، والإمبرياليّة، والمذكّرات التي بين أيدينا “خارج المكان”، ومئات من المقالات التي نشرت في دوريّات عدّة، نكتشف دائمًا أنّنا أمام باحث أكاديميّ عالميّ؛ استطاع بوعيه المبكّر (وخصوصًا من خلال سرده المفصّل لذكرياته في هذا الكتاب)؛ إلى إحداث ثورة في الدراسات الشرق أوسطيّة، وخصوصًا في ما يتعلّق بتسليط الضوء على القضيّة الفِلسطينيّة، مطالبًا العالم بالاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفِلسطينيّ، وموجّهًا مطالبته بالتحديد للرأي العامّ الأميركيّ والمسؤولين أن يقرأوا الوثائق الفِلسطينيّة التي ينطلق منها الموقف الفِلسطينيّ.

وما هذه المذكّرات إلا نافذة تطلّ على عمق القضيّة ومأساتها من خلال التذكّر، والصراحة، والبساطة في تناول الأمور، مع تركيزه على كشف زيف الغرب الرأسمالي وأدواته في المنطقة؛ مما أثار جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافيّة والسياسية والاجتماعيّة في العالم ككلّ، وفي الولايات المتّحدة الأميركيّة وربيبها الكِيان الصهيونيّ خصوصًا. وكان سعيد الأكثر جرأة في نقد الواقع من خلال مذكّراته، معتمدًا على فطنته ومواهبه المتعدّدة، وقدرته غير العاديّة على الصمود والتحدّي والعناد؛ والاعتداد بتحليله للأمور السائدة من خلال المعايشة اليوميّة والاطّلاع المكثّف على مساراتها؛ ما جعله يصل إلى نوع مبتكر من المعرفة يخرج من المفهوم التقليديّ لهذا العلم أو ذاك.

فبرز إدوارد سعيد في “خارج المكان” راوٍ مدهش لطفولة مفكّر كبير ومثقّف عصر؛ ولفِلسطينيّ ملتزم بوطنيّته، ومقاوم للاحتلال، ولسيرة وطن اغتصب مع سبق الإصرار والتزوير، ولحياة عربيّة – لها طعم ومذاق مشترك –  بين فِلسطين، ومصر، ولبنان امتزج فيها الفرد مع الجماعة؛ واستعصى على الفرد إلاّ أن يكون هو… هو إدوارد سعيد.

إذ يقول في مقابلة صَحفيّة حوله كتابه “خارج المكان”: “حسنًا، لقد وجدت أنّه من الضروريّ بالنسبة إليّ أن أكتب بشكل يوميّ، لقد كنت مريضًا جدًّا معظم الوقت. إذا كنت تتحدّث عن الذاكرة، فعليك تنقيحها بحيث تكون صحيحة تمامًا. ووجدت نفسي أكتب ثمّ أعيد الكتابة كثيرًا، وهو أمر لم أكن أفعله كثيرًا. من المثير للاهتمام دائمًا تجربة الخطّ الفاصل بين ما هو شخصيّ بحيث لا يمكن لأحد أن يفهم ما تقوله، وبين ما هو رسميّ جدًّا بحيث يتنبّأ الجميع بما ستقوله بالضبط. لو عشت قدر السنوات التي عشتها أنا، فستحاول أن تكون غير متوقّع بعض الشيء. عندما حاول بعضهم اقتطاع مقتطفات من الكتاب، وجده ليس سياسيًّا بما يكفي. لم يكن الغرض الأساسيّ للكتاب هو أن يكون سياسيًّا، بل أن أكتب عن هذا العالم العجيب، غريب الأطوار الذي نشأت فيه، وأن أكتبه بأمانة قدر استطاعتي”[11].

ولعلّ في قوله هذا تختبئ بذكاء هُويّة عميقة تقبع في دواخل “سعيد”، وهي الهُويّة العربيّة الفِلسطينيّة، التي على ما يبدو أنّ الجنسيّة الأميركيّة، وثقافتها الغربيّة التي غرف منها وانتقدها طويلًا، لم تستطع أن تلغي الهُويّة الأصليّة الكامنة فيه. فمن الجمال الّذي تركه إدوارد سعيد في مؤلَّفه “خارج المكان”، قدرته على المزج في الكتابة بين نمط “المذكّرات”، ونمط “السير الذاتيّة”؛ فعلى الرغم من اختيار المؤلّف صنف المذكّرات في العنوان الفرعيّ للكتاب، إلّا أنّ القارئ يجد نفسه أمام خليط متناغم من الأحداث، والمواقف الشخصيّة، الّتي تتبلور كلّما تنقّل القارئ بين سطور الكتاب، وبين سطورها تُبرز صور الهُويّة العربيّة بشكل جليّ.

هذا الكتاب، بمساراته وموضوعاته واضطراباته، يُعَدّ الأساس لفهم المكان ومعالمه عند إدوارد سعيد. بالتوازي مع تطوّر شكل الاستعمار في فِلسطين، ولا سيّما بعد حرب العام 1967، فقد أسهم فقدان البيت، والإحساس بالبُعد عنه، وصعوبة العودة إليه، في تشكيل الجزء الرئيس من رحلة سعيد للبحث عن المكان. وثمّة – أيضًا – قضايا أخرى، مثل الهُويّة، واللغة، والمرض، والموسيقى، حرّكت لدى سعيد فعله الجماليّ في كتابة مؤلَّفه. وثمّة مَنْ يذهب إلى عدّ الكتاب سيرة ذاتيّة عابرة للثقافات، ولعلّ عمليّة التنقّل بين أقسام الكتاب، بموازاة الاستماع إلى أحاديث أقرباء سعيد وزملائه، تضيء لنا على جماليّة هذا العبور المتناغم بين الثقافات؛ فنحن هنا أمام مثقّف أتقن عبور الهويّات، زد على ذلك أنّنا أمام مثقّف، يرى في ذاته صاحب هُويّة متعدّدة ومركّبة، ومنتمية إلى الإنسيّة، ومتفاعلة مع الآخر.

وفي هذه السيرة الذاتيّة “خارج المكان”، تجري عمليّة البحث عن المكان؛ فمن خلال التركيز على حياة سعيد؛ يمكننا أن نرى – في الوقت ذاته – حياة ملايين الفِلسطينيّين، الباحثين أيضًا عن المكان، وكلاهما؛ أي سعيد والفِلسطينيّين، شاعر دومًا بالنفي والاغتراب؛ ولهذا يطرح الكتاب/ السيرة ذكريات مفكّر تلحّ على جسده المريض ليكتبها، وتجربة تحمل في طيّاتها فصولًا عن المنفى؛ تجربة شخصيّة، وتجربة فِلسطينيّة عامّة طالت شعبًا بأكمله. وهنا يُذكر أنّ خصوصيّة “خارج المكان”، تعود أساسًا إلى خصوصيّة تجربة المنفى، الّتي عاشها سعيد كغيره من الفِلسطينيّين. فهو كما تقول أستاذة الدراسات الإنسانيّة في “جامعة كولومبيا”، جوري فيسواناثان: “لقد رأى – إدوارد – “خارج المكان” انعكاسًا لأن تكون فعليًّا خارج المكان؛ والمكان هو فِلسطين”.

“سعيد” يروي لنا في مذكّراته، بأنّ الاغتراب الّذي عاشه في نيويورك، لم يمنعه من الحرص الدائم على بناء حياة خاصّة في الولايات المتّحدة؛ حتّى لا يبقى غريبًا عن الحياة النيويوركيّة، ولا يشعر بأنّه غريب عن هذا المجتمع الحداثيّ. هذا التناقض الغريب الّذي يظهر في حياة سعيد، يترك القارئ بحال اضطراب في صراع سعيد مع المكان؛ فهو تارةً يرى في نيويورك لحظة اغتراب عن هُويّته لانفصاله عن الوطن، وتارةً أخرى يرى فيها ملاذه إلى التحرّر، وهو الّذي يقول في مذكّراته: “إنّ عدم اكتراث أحد بوجودي منحني شعورًا غريبًا… بالتحرّر لأوّل مرّة في حياتي”[12].

عاد إدوارد سعيد، في العام 1967، مجدّدًا إلى الصراع مع المكان؛ والمكان هو ذاته مدينة نيويورك، وهنا يقول سعيد في مذكّراته: “لم أعد الإنسان ذاته بعد 1967، فقد دفعتني صفعة الحرب إلى نقطة البداية، إلى الصراع على فِلسطين”. فقد تحوّل سعيد بعد هزيمة 1967، من أكاديميّ جامعيّ إلى مثقّف عامّ يخاطب الجمهور الأمريكيّ، ويطمح إلى أن يصبح صوتًا فِلسطينيًّا، وإن كان وحيدًا ليصارع على المكان؛ بهدف دحض الرواية الإسرائيليّة، والتغطية الإعلاميّة الأمريكيّة المساندة لإسرائيل. وبسبب مواقفه هذه تعرّض “سعيد” للحرب في نيويورك؛ لنستعيد من خلالها قوّة هذا الصوت الصادح، لا من أجل فِلسطين فحسب، بل من أجل المظلومين، والمضطهدين، والمشرّدين، والمنفيّين؛ ما كلّفه أن يوصف حينئذٍ بــ”بروفيسور الإرهاب”، خصوصًا بسبب محاولاته الحديث عن الصهيونيّة، وربطها بالاستعمار على فِلسطين.

على الرغم من الإشكاليّات الحقيقيّة الّتي تمرّ بها معالجة كتب السيرة الذاتيّة/ المذكّرات، إلّا أنّ “خارج المكان”، حملنا معه في رحلة من البحث والتحقيق، في حياة مفكّر ومناضل فِلسطينيّ، ظلّ لديه شغف دائم للصراع مع المكان، ليس للدفاع عن أفكاره فحسب، بل للدفاع عن قضيّته وقضايا المضطهدين؛ بوصفه إنسانًا متعدّدًا ومتجدّدًا، ومنتميًا إلى سؤال الضحيّة. هذا هو إدوارد سعيد كما رثاه محمود درويش، المتشبّع بالقيم الكونيّة والنزعة الإنسيّة، وهذا هو المثقّف، الّذي ظلّ باحثًا عن هُويّة متعدّدة، ومركّبة، ومتفاعلة مع الآخر، وهذا هو الكتاب الّذي ارتحل مع سيرة سعيد ومذكّراته، وقدّم لنا رؤية دراميّة، وروائيّة لصراعه مع المكان، وشعوره الدائم بأنّه خارج المكان.

المصادر والمراجع

  1. دوايت رينولدز، ترجمة النفس إلى السيرة الذاتيّة، دار الفرات، بيروت – لبنان، ط1، 1999، ص 91.
  2. ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت – لبنان، الطبعة 15، 1990.
  3. فرانسوا دوس، “التحدّي البيوغرافيّ.. كتابة الحياة”، ترجمة دار الساقي، بيروت – لبنان، 2010.
  4. إدوارد سعيد، خارج المكان، ترجمة فوّاز طرابلسيّ، دار الآداب، بيروت لبنان، 2000.
  5. لقاء صَحفيّ مع إدوارد سعيد أجراه الكاتب فيليب لوبات، ترجمة جابر طاحون، مجلّة المنصّة الإلكترونيّة، 2018.

** إجازة جامعيّة في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة اللبنانيّة، ماستر في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة الإسلاميّة في لبنان، أستاذة في التعليم الثانويّ، أستاذة جامعيّة في مكتب اللغات للجامعة اللبنانيّة، وأستاذة في لجنة الامتحانات الرسميّة اللبنانيّة، تشارك في مشروع إعداد الكتب التربويّة في مؤسّسة إنتراتال مركز التعاون الخليجيّ.

[1] – دوايت رينولدز، ترجمة النفس إلى السيرة الذاتيّة، دار الفرات، بيروت – لبنان، ط1، 1999، ص 91.

[2] – ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت – لبنان، الطبعة 15، 1990.

[3] – المصدر نفسه.

[4] – المصدر نفسه.

[5] – فرانسوا دوس، “التحدّي البيوغرافيّ.. كتابة الحياة”، ترجمة دار الساقي، بيروت – لبنان، 2010، ص 69.

[6] – إدوارد سعيد، خارج المكان، ترجمة فوّاز طرابلسيّ، دار الآداب، بيروت لبنان، 2000، ص 14.

[7] – المصدر نفسه، ص 145.

[8] – المصدر نفسه، ص 146.

[9] – المصدر نفسه، 149.

[10] – المصدر نفسه، ص 150.

[11] – لقاء صحفيّ مع إدوارد سعيد أجراه الكاتب فيليب لوبات، ترجمة جابر طاحون، مجلّة المنصة الإلكترونيّة، 2018.

[12] – إدوارد سعيد، خارج المكان، مصدر سابق، ص 212.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website