foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

القِصّة العراقيّة مسار التطوّر والتجديد

0

القِصّة العراقيّة مسار التطوّر والتجديد

وسام غازي*

تعدّ القِصّة من أهمّ الأشكال الأدبيّة الحديثة التي استأثرت بجهود الأدباء العرب بالحظّ الأوفر. فقد انتشر هذا الشكل من الأدب في العراق مع فجر النهضة الجديدة، بحيث استطاع أن يقاسم الشعر دولته. فالأدب العراقيّ الحديث إنّما هو في حقيقته شعر وقِصّة، لا شعر ونثر، إذ إنّ الأنواع الأدبيّة الأخرى، والنثريّة منها بصورة خاصّة، لا يلمس الباحث لها وجودًا يسترعي الاهتمام، بحيث تشاطر هذين اللونين من الأدب أهمّيّتهما في الأدب العراقيّ الحديث، فالمقالة في معظمها صحفيّة، أو سياسيّة، أو اجتماعيّة، كتبت في ظروف معيّنة، ونتيجة لحوافز سياسيّة، أو اجتماعيّة معيّنة، بأسلوب صحفيّ سريع، أفقدها القيمة الأدبيّة[1].

أبرز ما يلفت نظر الباحث في الأدب العراقيّ الحديث، أنّ هذين الفنين لم ينالا قدرًا واحدًا من اهتمام الباحثين، وظلّت القِصّة العراقيّة مهملة، وإذا استثنينا بعض المحاولات القليلة التي حاولت أن تلقي الضوء على بعض جوانب هذا الشكل المعتمة، فإنّ الباحث لا يكاد يظفر بدراسة واحدة وافية، حري بها تكون قد استقصت جوانب هذا الشكل، واستوعبت اتّجاهاته المتعدّدة، ودرست المؤثّرات التي أفضت إلى نشوئه، وتطوّره في العراق.

إنّ الاتّجاهات الثقافيّة في القرن التاسع عشر في العراق، تتوزّعها ثلاثة تيّارات ثقافيّة، أوّلها التيّار التقليديّ، وهو امتداد لتيّار الفكر العربيّ القديم، وثقافته العربيّة، بعيدة عن أساليب التعليم الغربيّ، فلا أثر للغات الأجنبيّة فيه، إنّما هي علوم الدين، وعلوم العربيّة، يتدارسها الدارسون في المسجد، والمدارس المتعدّدة، وأدباء هذا التيّار هم الذين استمدّوا ثقافتهم من موروثهم الحضاريّ، والفكريّ في شكله الأخير، الذي استحال إليه في عصور تدهور الحضارة العربيّة[2]. ويمثّل هذا التيّار أكثر أدباء هذا العصر، ولم يخرج عن إطاره أحد، إلاّ في أواخر القرن العشرين. وطبيعة هذا التيّار المحافظ تجعله أبعد التيّارات عن القِصّة الحديثة، لما نعرفه عنها.

أمّا التيّار الثاني فيغلب عليه الطابع الرسميّ، وجاءت به الدولة بعد إنشائها مدارس الرشديّة والإعداديّة، وعليها صبغة الأساليب الغربيّة، واللغة التركيّة في المقام الأوّل لأنّها لغة الدولة، ولم يكن منتظرًا لهذا التيّار الثقافيّ الذي نشرته المدارس الأميريّة العثمانيّة، أن يحمل إلى المجتمع تطويرًا في الأدب، وهو يعتمد لغة أجنبيّة، بعيدة عن جوهر العربيّة، وآدابها، إلاّ أنّ قيمته تنحصر في ما حمله إلى المجتمع العراقيّ من روح جديدة في طرز التعليم لم يكن لها وجود في الفترات السابقة من تاريخه، وقد أمدّت بعض المثقّفين بطاقة من الفكر تلتمس الأمور البعيدة، وتنفح بجهدها الفرديّ الأدب بظلال جديدة.

التيّار الثالث من تلك التيّارات هو الذي عملت على نشره البعثات التبشيريّة، وحظّ الثقافة الأجنبيّة في هذا التيّار أكبر، لما كانت تبذله هذه البعثات من محاولات لنشر اللغات الأجنبيّة المتعدّدة، مثل الإنكليزيّة، والفرنسيّة، والألمانيّة. وكان نمط التربية في هذه المدارس هو نمط المدارس الحديثة في البلاد الغربيّة. وكان منتظرًا لهذا التيّار أن يحمل للأدب العراقيّ فنّ القِصّة في بدايته الأولى، وأن يعمّ نشاطه نواحي متشعّبة من المجتمع، غير أنّ هذا النشاط انحصر نتيجة الاضطهاد الذي جوبه به، من السكان والدولة، في النواحي الدينيّة المحضة، من دون أن يتعدّاه، إلاّ في النادر إلى مجالات أخرى[3].

ولكن رأينا في أواخر القرن التاسع عشر، محاولة تبزغ إلى الوجود في تمثيل مسرحيّة، ترجمها عن الفرنسيّة من غير إشارة إلى مؤلّفها، نعوم فتح الله سحّار، ونشرت في مطبعة الدومنيكان في الموصل بعنوان “رواية لطيف وخوشابا”، وتقع في 83 صفحة، ولم تقتصر محاولاته على هذه المسرحيّة، فألّف، وترجم مسرحيّات أخرى عديدة عن الفرنسيّة، في الأخلاق والاجتماع.

إنّ القِصّة العراقيّة بين الحربين خضعت في تطوّرها لمؤثّرات جديدة، استجدّت بعد الحرب الأولى، حدّدت طابعها ورسمت مسارها، بنحو يميّزها عن طورها البدائيّ الأوّل الذي نهجت فيه نهجًا اجتماعيًّا جادًّا، ومن هنا جاء ارتباط المحاولات البدائيّة للقِصّة، بالمقال الاجتماعيّ الإصلاحيّ. لكن أكثر الباحثين الذين أرّخوا للقِصّة العراقيّة أغفلوا الإشارة إلى هذه المحاولات البدائيّة الأولى وانطلقوا جميعًا من نقطة واحدة، هي أنّ القِصّة العراقيّة بدأت بعد الحرب العالميّة الأولى، ولم يكن لها وجود قبلها، فهي تبدأ من محاولات محمود أحمد السيّد.

لقد شغلت قضيّة الأجيال في القِصّة القصيرة العراقيّة النقّاد والقصّاصين، خلال سبعينيّات وثمانينيّات القرن الماضي، فهناك من وجد في القِصّة القصيرة التي ظهرت في الحِقب الزمنيّة المتلاحقة تطوّرا طبيعيًّا، بسبب تأثّرها بموجات التجديد في الأدب العربيّ، والعالميّ التي برزت بقوّة بعد حقبة الأدب الكلاسيكيّ. وثمّة من أصرّ على تقسيم القِصّة على أساس الأجيال التي اقترنت بحِقب زمنيّة، فكانت تسمية جيل الخمسينيّات والستينيّات، وبعد ذلك جيل السبعينيّات، ومن ثَمَّ الثمانينيّات (من القرن الماضي). لكن هذا التصنيف توقّف عند ذلك الجيل، ولم تظهر تسمية واضحة للقصّاصين الذين ظهروا في الساحة الأدبيّة العراقيّة خلال العقد الأوّل من القرن الـحادي والعشرين[4].

إنّ مرحلة التأسيس المضنية التي انطلقت من العشرينيّات أثمرت في الخمسينيّات عن ولادة بنية قَصصيّة ناضجة على يد عبد الملك نوريّ في مجموعته “نشيد الأرض” وفؤاد التكرليّ في “الوجه الأخر”، لكن الأخير- أي التكرليّ – تميّز بتنقيّة السرد من ظلال الأيدولوجيا، ما أكسب تلك النصوص نضارة دائمة تجد تجسّدها في سرّ قراءتها على الرغم من غبار الزمن، وكأنّ ما يحصل لشخصيّاتها المقهورة في قصص.. العيون الخضر، موعد النار، الوجه الأخر وباقي القصص يحصل لحظة القراءة. هذه الذروة الفنّيّة التي أمسكت بلحظة أبديّة في بنيتها السرديّة كان من المفترض أن تدفع بالفنّ القصصيّ العراقيّ إلى مرحلة جديدة، لكنّها ظلّت شاخصة كمعلم فنّيّ وحيد[5]. وذلك بسبب التسيّس الحادّ للمجتمع العراقيّ في أعقاب وصول العسكر إلى السلطة في 14 تمّوز 1958، حين طغت الشعارات السياسيّة على مناحي الحياة وألسن العراقيّين، أعقبها تناحر دمويّ بين رؤوس السلطة العسكريّة انعكس سلبًا على النصّ الفنّيّ.

ويمكن القول إنّ التناحر اللا معقول ألقى ظلاله المعتمة على بنية السرد القصصيّ، حين انشغل العراقيّ وقتها بمحنة المحافظة على الكينونةـ خشية بطش السلطة، وكان ذلك لمدّة ليست بالطويلة، إذ سرعان ما استعاد جيل الستينيّات الذي شبَّ في لحظة انحسار الأحلام وتألقها بين واقع بحور الدم التي أغرقت القوى المتصارعة، وحلم ثورة تحقّق عدالة مستحيلة. وفي سنوات ضَعف السلطة العراقيّة النسبيّ (1964 – 1970) ولد جيل الستينيّات الأدبيّ المتمرّد متأثّرًا بأفكار “سارتر” و”كامو” الوجودية، وبأفكار “جيفارا”.

لكن لا بدّ من القول إنّ القِصّة القصيرة العراقيّة امتلكت إرثًا وتقاليدًا امتدّت عبر عقود طويلة منذ ثلاثينيّات القرن الماضي، فقد شهدت في العقود اللاحقة رفدًا مستمرًّا على صعيد كشفها عمّا يدور في الواقع من حَراك اجتماعيّ، وسياسيّ، واقتصاديّ، وقد كانت بسيطة وواقعيّة، وساذجة أحيانًا تفتقر إلى الكثير من مقوّمات السرد، وتقنيّاته، وآلياته المتطوّرة، الأمر الذي جعل بعضهم يصفها حتى ستينيّات القرن الماضي بأنّها ليست أكثر من “عرض حال”[6]. وما إن دخل العقد الستينيّ، بكلّ ما أفرزه من معطيات مُهِمّة على سبيل الاتّصال بالآخر العربيّ والعالميّ وجسامة الأحداث التي شكّلت حافزًا، ودافعًا قويًّا لدى القصّاصين العراقيّين لتجاوز الخطوط التي وضعتها القِصّة في العقود السابقة. فبدأ التجريب القَصصيّ يتّخذ وضعًا تأسيسيًّا للعديد من القصّاصين الذين ظهر منجزهم في هذا العقد، وعدّ واحدًا من الوسائل وربّما الغايات في أحيان أخر للتجاوز، وتأسيس خطاب قصصيّ جديد ينطلق من ردم هفوات ومستوى القِصّة السابقة، وتجاوزها بأساليب، وتقنيّات جديدة، بشكل استطاعت هذه الأساليب فرض تأثيرها على القِصّة العراقيّة لعقود لاحقة[7].

لعلّ من أسباب تقدّم القِصّة القصيرة المشهد الثقافيّ والمؤثّر هو استيعابها للتحوّلات الاجتماعيّة الخطيرة في البنية الاجتماسياسيّة العراقيّة، منذ ستينيّات القرن الماضي، وقدرتها على سحب المتقّي وإغرائه لتقدّم له ما هو معرفيّ وجماليّ حديث يتناسب ومستوى وعيه، الذي بدأ بالتشكّل على نحو واسع ومتقدّم باتّجاه المعرفة الممنهجة والشاملة. لذاـ كانت القِصّة القصيرة منسجمة مع خطاب الواقع ومعبّرة عنه بشكل يلبّي الحاجة النفسيّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة للمتلقّي العراقيّ[8].

نستطيع القول إنّ النصّ القَصصيّ العراقيّ انتقل أبعد في تأمّله بالشأن البشريّ، متخلّصًا من كلّ أدران الأيدولوجيا السياسيّة، التي أخذت طابع العشائريّة في بنية المجتمع العراقيّ، وذلك في نصوص “جليل القيسيّ” (صهيل المارّة حول العالم – 1968) و”محمود جنداريّ” (أعوام الضمأ – 1969) و”عبد الرحمن مجيد الربيعيّ” (السفينة والسيف – 1966) و”أحمد خلف” (نزهة في شوارع مهجورة – 1974) و”فهد الأسديّ” (عدن مضاع)  و”موسى كريديّ” (أصوات المدينة – 1968) و”عالية ممدوح” (هوامش السيّدة) و”محمد خضير” (المملكة السوداء – 1972) المكثّفة بنصوصها الثلاثة عشر، وكأنّها البوابة التي أفضت إلى تلك اللحظة الكامنة بين الحلم واليقظة.

لم يستمرّ الأمر طويلاً، فسرعان ما ساد خطابان أيدلوجيّان متناقضان تحالفا حلفًا شكليًّا طوال مرحلة السبعينيّات من القرن العشرين المنصرم؛ البعثيّ والشيوعيّ؛ حين طغى الخطاب الأيدولوجيّ على كلّ ما هو متأمّل وحقيقيّ، لينتهي بتناحر لا يختلف في جوهره عن تناحر أواخر الخمسينيّات وأوائل الستينيّات. سحق مطلق للرأي الآخر، وتسييس قسريّ لكلّ عراقيّ شاء أم أبى، فأتت الحروب كمحصّلة، وكنقطة تحوّل في حياة المجتمع العراقيّ المعاصر، والنص القَصصيّ العراقيّ، وما أعقبها من دمار، وتشديد الإرهاب، والهجرات الواسعة للكتّاب والمثقّفين. غير أنّ القِصّة العراقيّة ارتدت ثوبها المتقدّم المعروف بالواقعيّة الاشتراكيّة الانتقاديّة على يد فؤاد التكرليّ، نزار عبّاس، غانم الدباغ، عبد الله نيازيّ، أدمون صبري، مهديّ عيسى الصقر، غائب طعمة فرمان, وكانت الخمسينيّات بحقّ حِقبة، وازدهار، وتطوّر القِصّة العراقيّة، وتميّزها، وانتشارها على مساحة الوطن العربيّ وريادة القِصّة العراقيّة بتيّار الوصف التحليليّ المعتمد على المونولوج، والحوار، والوصف الداخليّ لأغوار النفس الإنسانيّة على يد القصّاص المبدع “عبد الملك نوريّ” في مجموعته القصصيّة “نشيد الأرض” التي صدرت في العام 1954 – كما مرّ معنا.

وجاءت الانتقالة المعاكسة خلال الستينيّات، والعالم كلّه يغرق حينذاك في أدب ما بعد الحرب العالميّة الثانية، مع التساؤل الذي روّجه عرّاب ومبتكر أدب الوجود “جان بول سارتر” وزملاؤه “سيمون دي بوفوار” و”البير كامو” و”صموئيل بيكيت”، فانتشرت هذه المدرسة بفضل ترجمات دار الآداب للمدرسة الوجوديّة، فانتشر الأدب الوجوديّ إبّان الستينيّات، وهي مرحلة تميّزت بصراع الإنسان مع ذاته، ومع العالم الخارجيّ، فاختبأ القاصّ الستينيّ خلف رموزه وأحجياته، وتغلّب الشكل على المضمون في كتابات أمثال سركون بولس، جليل القيسيّ، محمّد خضير، فهد الأسديّ، عبد الرحمن الربيعيّ، عبد الستّار ناصر، محمود جنداريّ، أحمد خلف، يوسف الحيدريّ وغيرهم.

أمّا فترة السبعينيّات والثمانينيّات فقد ولدت وترعرعت ناهلة من هذا الفيض الهائل من المدارس المتعدّدة فوجد القاصّ نفسه في الواقعيّة أكثر من الوجوديّة. بَيْدَ أنّ السبعينيّات والثمانينيّات لم تفرز أسماء يمكن عدّها ظاهرة في الأدب العراقيّ رغم وجود قصّاصين لهم حضورهم المؤشّر مثل أمجد توفيق، فرح ياسين، ثامر معيوف، وارد بدر السالم ـ ميسلون هادي، عبد الستّار البيصانيّ ـ حمد صالح… وغيرهم.

وقد لاحظ النقّاد أنّه في نهاية الثمانينيّات، بشكل خاصّ، انتقلت القِصّة القصيرة إلى تخوم جديدة حين اغتنت  بعض القصص ببناءات، ولغات، وابتكارات في السرد، غيّرت الكثير من مكوّناتها الأساسيّة حتّى إنّ الكثير من النقّاد اختلفوا في تجنيسها. فقد انتقلت فيها الشخصيّة القَصصيّة من ذلك الشكل المشخّص الذي يحاكي شخصيّات الواقع المعيش، إلى شخصيّة مجرّدة من الأوصاف، شخصيّة تنحو إلى تجسيد حلمي – فنّيّ يطمح إلى استشراف الشخصيّات المحدودة في القصص الواقعيّة، ورفع رتبتها إلى شخصيّة تلائم القصص الرؤيويّة  التي تنحو إلى تأسيس مدن اليوتوبيا، أو البناءات الحلميّة الأخرى[9]. وقد اغتنت تلك القصص بشواخص مكانيّة، وانتقالات في الزمن، وكذلك في لغة السرد التي استثمرت لغات مجاورة إلى اللغة الأدبيّة، وكلّ ذلك أدّى إلى نقلة نوعيّة تجريبيّة في السرد القصصيّ القصير بالعلاقة العميقة مع التحوّلات الكارثيّة التي أحدثتها الحرب العراقيّة – الإيرانيّة في البنية الاجتماعيّة والسياسيّة في العراق.

أمّا في بداية التسعينيّات، وبعد الأحداث الدامية في حرب الخليج، وعلى إثر إفشال انتفاضة آذار العام 1991، أصدرت “مجلّة الأقلام” عددًا تضمّن تسع قصص قصيرة تحت عنوان “من تجارب الطليعة، وفي العام نفسه أصدرت “دار الأمد” مجموعة أخرى من القصص القصيرة بعنوان “المشهد الجديد في القِصّة العراقيّة”، ضمّ اثنتين وعشرين قِصّة، كتبها قصّاصون عراقيّون، أغلبهم من جيل الشباب آنذاك. في معظم تلك القصص كان يجري خرق قوانين السرد القصير الذي تعرّض منذ نشأة القِصّة العراقيّة وإلى اليوم إلى تغيّرات جذريّة بالعلاقة الوطيدة مع تحوّلات الواقع المعيش. وقد اتّضح هذا التغيير في البنية الأساسيّة للقِصّة القصيرة ـ بتغليب هذا العنصر أو ذاك على بقيّة العناصر الأخرى المكوّنة للقِصّة[10].

ومن أهمّ التحوّلات في بنية قصص بداية التسعينيّات ميلها إلى تفتيت الحكاية، أو تلخيص أحداثها عبر منتجة قاسية تقطع حركة السرد، وتخلخل سياقاته، فتصبح الأحداث ووجهات النظر متداخلة، لا يفصل بينها سوى روابط شكليّة أساسها الفارزة التي تنظم هذا القطع، ولا تتحكّم في ربط أجزائه. وهذا ما يضفي غموضًا على الحدث، وعلى مكوّنات القِصّة الأخرى: الشخوص، الأمكنة، حركة الزمن، وبنية السرد. وهذه البنية هي من أهمّ الإشكاليّات في نزعة التجديد عبر مسيرة القِصّة القصيرة في العراق وانحرافاتها الكثيرة[11].

وإذا أردنا تكثيف النقد حول حقبة التسعينيّات، نرى أنّها تؤسّس لأبنية في الكتابة القصصيّة تستثمرّ التورية التي تخاطب مرويًّا له يفهم هذه التوريات، ويتعاطف معها. وبمعنى آخر فإنّ هذه السرود القصيرة تدخل ضمن الاحتجاج السياسيّ على الأوضاع اللإنسانيّة المفروضة على العراقيّين أيّام العهد الدكتاتوريّ البغيض. فهي تمثّل صرخة احتجاج  على هذا الجانب أساسًا، ولكنّها في سعيها لتسجيل موقف ضدّ الحرب، وضدّ التسلط وإرهاب أجهزة الدولة، فإنّها تؤسّس مثالها الجماليّ الذي يغتني من بلاغة التورية وبقية المجازات التي تضفي على سياقات هذه السرود غموضا شفيفا يستدعي قراءات متعدّدة ومتنوعة لأبنيتها التي انفتحت على تجريبية جادة تنتمي إلى الواقع التأريخيّ الذي أنتجها ثمّ تتمرّد عليه بانفتاحها التأويليّ والجماليّ باتّجاه مستقبل مقبل.

إذا انتقلنا إلى الحقبة الجديدة مع الألفيّة الثانية، سارت القِصّة العراقيّة القصيرة بالتوازي مع مثيلاتها في العالم العربيّ، وهي تخطو مسرعة نحو الميتا سرديّة. ففنّ القصّ من أكثر الفنون السرديّة عرضة للتحوّل في منظوره، وفي تمثلاته اللغويّة الشعريّة، وفي مرجعياتها الاستعاريّة، والتشكيليّة في سياقها الخبريّ، والتصويريّ، والسيميائيّ، حتّى في انفتاحه على الفنون الأخرى، وعلى تقاناتها، بوصف أنّ القِصّة هي “شكل متخصّص، له طرائق فنّيّة خاصّة، وأقرب إلى الشعر”؛ هذا ما قالته “نادين كورديمر”، من حيث حساسيّتها في صناعة اللقطة/ الجملة السريعة، وفي صياغة المفارقة، أو من حيث توظيفها للرمز، أو في تمثيل لعبة القصّ المتحوّلة.

وهذا ما يجعلها أكثر قدرة على امتلاك طاقة الإيحاء، والتركيز، والجزالة، والتعبير السينمائيّ السريع، وحساسيّة الذات الساردة إزاء ما هو توصيفيّ، وما هو استعاريّ في التعاطي مع الفكرة، الثيمة، الموضوع، وإزاء التواصل في لعبة التخيّل، وفي توظيف الحيل النسقيّة. هذ إضافة إلى مهارة القاصّ في السخرية من التاريخ، وفي التطاول على الحكاية عبر اختصارها، أو عبر إحالتها إلى مجال سيميائيّ أو رمزيّ، وعبر كسر إيقاعيّة الزمن فيها، من خلال صياغة ما يمكن تسميته بزمن المجال، وهو زمن لغويّ، افتراضيّ، استعاريّ، مخادع، وهو ما ورد في أراء “إدغار ألن بو”، الذي كان يشير إلى أنّ نجاح القاصّ يكمن في حيازته الأصالة، والبراعة، والتركيّز، ولمسة الخيال.

فكانت القِصّة العراقيّة إزاء تاريخ كبير ومتراكم من القصّ، على المستوى الواقعيّ الفنّيّ في الخمسينيّات، وعلى المستوى التجريبيّ في الستينيّات، وعلى المستوى الفنتازي والسحريّ في السبعينيّات، وهو ما يعني دفع لعبة القصّ إلى ما يشبه القطيعة السرديّة مع تاريخ القِصّة في واقعيّتها، حيث بات القصّاصون أكثر انخراطًا في التجريب، التي ابتدأ بها القاصّون جمعة اللاميّ، وجليل القيسيّ، وسركون بولص، ومحمّد خضير، إلى حيث مجاورة ما طرحه المصريّ إدوار الخرّاط بتسميته لهذا النوع من القصّ بالكتابة غير النوعيّة، تلك التي تمسّ التجنيس، والوظائف، والبنى، وكسر التوقّع، وصولاً إلى الأجيال الجديدة من القصّاصين، الذين عادوا إلى مهنة الحكواتيّ، حين وجدوا في الواقع أفقًا للفنتازيا، وفي الحياة كثيرًا من الاغتراب.

الحكاية الجديدة قد تصلح كدالّة تمثيليّة لقصص ضياء الجبيليّ العراقيّ، إذ تنشغل بتصميم المشهد السرديّ عبر المفارقة، لتحقيق حال الإدهاش، وكسر أفق التوقّع، وعبر ما ترصده أو تسردنه عين الكاميرا لتحفيز طاقة الدراما المشهديّة، في شحن الحدث، وفي إثراء دلالته، فضلاً عن ما ترصده عين الحكواتي الذي يعرف أسرار المدينة، وذاكرتها النفسيّة، والدينيّة، والطقوسيّة، والمثيولوجيّة، وهذا ما جعل تلك القصص تنطوي على استعارات وإشارات يحتشد فيها الفنتازي، والغرائبيّ، والطقوسيّ، والشعبويّ.

يثابر الكاتب العراقيّ ضياء جبيليّ على كتابة القصص، إلى جانب الرواية. آخر مجموعاته “لا طواحين هواء في البصرة” (دار سطور)، وفازت أخيراً بـ”جائزة الملتقى للقِصّة القصيرة” التي تمنحها سنويًّا الجامعة الأميركيّة في الكويت بالتعاون مع “الملتقى الثقافيّ”. يقدّم لنا جبيليّ قصصًا غزيرة تجاوزت السبعين، وضعها في فصول عدّة بحسب مواضيعها، يغلب عليها القصر إذ نادراً ما تزيد إحداها عن الصفحات الثلاث فيما أتى بعضها قصيراً جدًّا في نصف صفحة، تركّزت فيه الجرعة الجماليّة في سطور قليلة.

منذ البداية، يُحيلنا عنوان المجموعة الذي لم تحمله أيّ من قصصها، بالإضافة إلى الاقتباس في مقدّمتها “لا توجد طواحين هواء في البصرة/ أين أذهب بكلّ هذه الأوهام؟/ أقاتل من؟”، مباشرة إلى رواية “ثربانتس”. إنّها قصص من العراق، حيث لا يمكن لابن الرافدين أن يكون “دون كيخوته”، لا يسعه أن يهرب من ماضيه القريب ومن حاضره، ومن قلق مستقبله المبهم. هناك لا مجال لمقارعة الأوهام، لا وجود سوى للحقائق المفجعة، ولا مجال للشرود بعيداً عن الواقع الحزين. دوي انفجار السيّارة المفخخة إن لم يَطِر بالساهي إلى عالم آخر، فهو يعيده إلى واقعه الأليم. كذلك خلو الثياب في موضع الأطراف المبتورة، والنظر إلى الوجه المشوّه في المرآة، وربُّ العائلة الذي ذاب كالملح على الجبهات، أو في معتقلات النظام المنهار.

تستهلّ “حروب” فصول المجموعة، ونجد آثارها التي طالت كلّ نواحي الحياة، ووسمت تاريخ العراق الحديث في الفصول اللاحقة؛ من الحروب الداخليّة بين البعثيّين والشيوعيّين، إلى الحرب العراقيّة الإيرانيّة، فحرب الخليج، وصولاً إلى الغزو الأميركيّ. تتسلّل إلى الفصل المعنون “أمّهات” لتصيب جنديّات البيوت المقاتلات بصبر اللواتي لا تنتهي الحرب بالنسبة إليهنّ أبدًا. هنَّ المنتظِرات العودة التي لن تحصل لأبنائهنّ، جالسات أمام صور طفولتهم، وسيلتُهنّ الوحيدة المتبقيّة لرؤيتهم.

في فصل “أطفال”، نقف أمام بساطة هؤلاء في التعامل مع الأحداث الكبرى، السياسيّة والعسكريّة، التي تزلزل البلد المأزوم، والمنطقة برمّتها، وتفسيرهم النابع من فهمهم الخاصّ لها، والتي أصابت بعضهم بعاهات دائمة، جسديّة ونفسيّة. ليلى ذات السنوات الأربع هي التي أوقفت القصف الأميركيّ بطائرات الشبح الرهيبة، لأنها استعاضت عن إطفاء الأضواء عند سماع هدير الطائرة بإيقاد شمعة لأنّ “الأشباح تخاف من النور”، فيما تنتظر سوزان بفارغ الصبر وصول رئيس جزر القمر إلى بغداد لحضور مؤتمر القِمّة العربيّة، أملاً منها في أن يحمل معه شيئًا من ضوء القمر القادم منه ليبدّد عن المدينة ظلمة التقنين الكهربائيّ.

نعيش النهايات المأسويّة في فصلي “حُبّ” و”نساء”، فبلد الحروب والأشلاء لا يجيد أن يصل بالحبّ إلى نهاياته السعيدة، وتكون النساء الحلقة الأضعف دائماً، فهنّ يتعرّضن للخيانة، وللقتل مرّة بدعوى الشرف، ومرّة أخرى بدافع الشهوة بعد الاغتصاب، وأيضًا للهجر من عشّاقهنّ اللعوبين بعد أن يحصلوا منهنّ على ما يبتغون، ويتركوهنّ فرائس اليأس والحسرة، يذبن في دموعهنّ.

ويستمرّ “شعراء” ضياء جبيليّ في أداء دورهم الرومانسيّ في حياة العشّاق حتّى بعد موتهم، من خلال قصائدهم وحضورهم الرمزيّ، في قصص يغلب عليها القِصَر واللغة المقتصدَة. يستخدم الكاتب بعض الشخصيّات الشهيرة، الحقيقيّة والخياليّة، كأبطال في قصصه من خلال إعادة صياغته لأحداث حياتهم، كقِصّة انتحار فيرجينيا وولف التي تفشل هذه المرّة، وتبادل كلّ من فلوبير وتولستوي لبطلتيهما المنتحرتين، إيما بوفاري وآنا كارنينا، ما يغيّر مصير إحداهما، بالإضافة إلى الأرق الغريب، والمتزامن لكلّ من جميلة بوحيرد وبريجيت باردو.

والبقيّة من قِصصه المتنوّعة التي لم تحوها الفصول الستة الأولى، وضعها الكاتب في فصل أخير حوى قصصًا “متفرّقة”، في محاولته الإحاطة بالتاريخ الحديث لبلد الأغاني الحزينة، والحضارات المنهوبة من المتاحف، وقد أفقدت غزارة الأحداث التي احتوتها القصص فرادتها، ما دام الموت بتنوّع طرقه صار عاديًّا ويوميًّا ومتجوّاً في الشوارع المزدحمة.

المصادر والمراجع

  1. حمد عبد الإله، نشأة القِصّة في العراق 1908 – 1939، دار الشؤون الثقافيّة، ط3، 2001.
  2. حميد المختار، مختارات من القِصّة العراقيّة الحديثة، منشورات وزارة الثقافة، ط1 2013.
  3. سلام إبراهيم، السرد العراقيّ وتطوّره التاريخيّ (القِصّة القصيرة)، الحوار المتمدّن، العدد: 4779 – 2015 /4 /16.
  4. عبد عليّ حسن، القِصّة القصيرة العراقيّة وخطاب الواقع، موقع الناقد العراقيّ، https://www.alnaked-aliraqi.net/article/53694.php، تاريخ الزياة 8/7/2019.
  5. جميل الشبينيّ، من ملامح التجريب في القِصّة العراقيّة القصيرة، مجلّة الناقد العراقيّ الإلكترونيّة، https://www.alnaked-aliraqi.net/article/1999.php

 

 

** إجازة في اللغة العربيّة وآدابها من الجامعة العربيّة، ماستر في اللغة العربيّة وآدابها في الجامعة الإسلاميّة، أستاذ في التعليم الثانويّ، وأستاذ جامعيّ في مكتب اللغات، الجامعة اللبنانيّة. مصحّح ومدقّق لغويّ، كاتب وشاعر.

[1] – أحمد عبد الإله، نشأة القِصّة في العراق 1908 – 1939، دار الشؤون الثقافيّة، ط3، 2001، ص 32.

[2] – المرجع نفسه، ص 38.

[3] – المرجع نفسه، ص 40.

[4] – حميد المختار، مختارات من القِصّة العراقيّة الحديثة، منشورات وزارة الثقافة، ط1 2013، ص 28.

[5] – سلام إبراهيم، السرد العراقيّ وتطوّره التاريخيّ (القِصّة القصيرة)، الحوار المتمدّن – العدد: 4779 – 2015 /4 /16.

[6] – عبد عليّ حسن، القِصّة القصيرة العراقيّة وخطاب الواقع، موقع الناقد العراقيّ،

https://www.alnaked-aliraqi.net/article/53694.php، تاريخ الزياة 8/7/2019.

[7] – سلام إبراهيم، السرد العراقيّ وتطوّره التاريخيّ (القِصّة القصيرة)، مرجع سابق.

[8] – المرجع نفسه.

[9] – جميل الشبينيّ، من ملامح التجريب في القِصّة العراقيّة القصيرة، مجلّة الناقد العراقيّ الإلكترونيّة، https://www.alnaked-aliraqi.net/article/1999.php

[10] – المرجع نفسه.

[11] – المرجع نفسه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website