“خيزران البيك”
د. زينب طحان*
طلباته لا تنتهي، من الصباح حتّى المساء. اليوم قرّرت “ضحى” عدم طاعة أخيها الذي يكبرها بستّ سنوات، ويظنّ نفسه بمسدسه المشكول على خاصرته أنّ حزبه المسلّح يضحي عنوان رجولته المزيّفة، رجولة شابّ قصير القامة، نحيف كالقضيب، بلون بشرته الأسود وعينيه الصغيرتين في تجويف وجهه المستطيل، يوحي بأّنّه ذلك “السريلنكيّ الأسود”، الصفة التي يطلقها عليه كلّ من يراه حين يحاولون مقارنته بجمال ضحى وبياض بشرتها. اليوم ستعلن عصيانها، وليكن فعلاً ابن “السيرلنكيّة”.
“يمكنك خدمة نفسك بنفسك، لدي امتحانات…”
كانت كافية هذه اللهجة الرافضة القويّة أن تشعل فتيل معارك لم تنتهِ إلاّ بعد مرور عشرين عامًا… يومها مُزّقت كتبها، فهي التي تدفعها إلى هذا التمرّد… الكتب والمدرسة تفسد البنات… هكذا كان يقول لها أبوها، الذي أعلن وهو يقف عند حافة مدخل البيت يهمّ بالخروج إلى عمله، في ذلك الصباح:
- أسماء… لا تخلّي ضحى اليوم تروح ع المدرسة…”.
وما إن سمعت ضحى بهذا القرار، حتّى انتفض كلّ جسمها، وبحركة غير إراديّة منها قفزت إلى طاولة الزجاج الأنيق والمرتّب التي تعشقها والدتها وراحت تهزّها بعنف… تكسر الصحن الأول، وتلاه الثاني فالثالث… وعلا الصراخ…
- شو عم تعملي يا بنت ال…
- إذا بدّك ضلّ بالبيت، ولا صحن رح خليلك بهالقومندينة…
- أي… أنا بفرجيك…
ولحقتها بعصا الخيرزان الذي تخبئه لهذه المَهَمّات… ولطالما أكل من لحم “ضحى” الطريّ، وكان يترك بصماته لشهور… وما إن رأته يلوح في فضاء الغرفة حتّى ركضت محاولة الاختباء خلف أيّ شيء يحميها… فكان أمامها السرير. أسرعت تطوي جسمها الصغير تحته، وفجأة توقفت عن الحركة، ولم تعد تأبه إلى لسعات الخيزران التي تنتظرها، وانتبهت أمّها إلى توقفها المفاجئ هذا، وصرخت “ضحى” بأمّها:
- “حرامي… حرامي… يا أمّي تحت التخت”.
- شو عم تقولي؟!!!… عم تكذّبي عليّ حتّى تفلتي من الأتلة؟!!!
علت الابتسامة وجه “ضحى” وهي تمسك بخيزران قديم أثريّ في بيت “البيك” الذي ستجري المقابلة معه بعد قليل، بينما فريقها كلّه منشغل بترتيب الإجراءات…ويتقدّم أحدهم ليسألها:
- دكتورة… وين بتحبّي يكون مقعدك؟!…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الآداب والعلوم الإنسانيّة، قسم اللغة العربيّة.