القاصّ محمّد الكاظم والواقع العراقيّ
صباح محسن كاظم*
تفرّد القاص “محمد الكاظم” بمجاميعه القصصية التي يدونها بتقنية التجريب بلغة بليغة تمتح من الواقع الذي يمور بالتناقضات طوال العقود التي عاش بها الشعب العراقي بمرارة الاستبداد، والحرب، والسجون زمن الفاشستية والدكتاتورية من 1963 – 2003 هذا المخاض التاريخيّ العسير الذي فقدت الأمهات الأبناء، والزوجات ترمّلن بالحروب العبثية، عاصر تلك التحولات، ثم عهد الحرّيّة الذي حمل معه جرائم الحرس القديم، ورجال العهد البائد، وهم يفخّخون المساجد، الجامعات، الأسواق. بعد القتل السري بالسجون والمثارم البشرية بالتواطؤ مع السلفيين المؤدلجين بالكرا هية والتكفير. لذلك قصص “محمد الكاظم” تتفاعل مع تلك الآلام والمحن بطبيعة عمله الإعلامي في فضائيات عدّة بعد هجرة العراق إلى 12 بلدًا هاربًا من البطش بالتسعينيات جعلت تجربته تختمر فضلًا عن دراسته الأكاديمية باللغة العربية جعلت من قلمه ينتج تلك القصص التي فازت بجائزة الدولة في العراق. و جوائز عربية عدّة. له مجاميع قصصية عدّة (ومنها طواسين زرقاء/ 12سبتمبر/ وطن عيار 7.62 ملم/ لا تقولي لأمي إن مير قد وصل – العرقنامه – العين التي تراقبنا – ظ) له رواية (شارع الأرامل). ونال جوائز محلية وطنية عدّة، وعربية ومنها (جائزة الشارقة للإبداع العربي 2009، وجائزة الروائي الطيب الصالح العالمية 2013، وجائزة الإبداع العراقي عام 2015).
بنية السرد
((لا تقولي لأمي: أن “مير” لم يصل)) من المجاميع القصصية التي صدرت للقاص والروائي للمبدع محمد الكاظم، والتي تميزت بالفرادة الإسلوبية الموشاة بالتهكم من الدكتاتورية، وكتاب السلطة، وكتاب التقاير بإسلوب مدهش، ومحكم وسطوة استدراج المتلقي إلى مناطق الاشتغال التي أرادها الماهر “الكاظم” ليشركه من خلال الحكي والسرد أزمنة لا يمكن نسيانها، برَع بالتنفيذ الوصفيّ لجمله القصصية، جعلت من قصصه ذات موضع اهتمام بما احتوته من التجريب في تقنيات السرد القصصي غير المترهل المحسوب، وبصور عاشها الشعب العراقيّ بواقعية ليست “فنتازية”، أو بتغريب لا يمتّ إلى الواقع بشيء. أحد نصوص هذه المجموعة التي كتبها بعناية فائقة عن الضحايا، والأبرياء الذين سيقوا للمقاصل، والسجون، والفناء بسبب كتابة التقارير، وأنا أقرأ تلك القصص كأنه أعيد شريط أصحاب الزيتوني من الأعضاء الذين همّهم اليوميّ كتابة التقارير الحزبية عن شعبنا المظلوم، بكل مدرسة، بكل دائرة، بالأسواق، بالأزقة وأتذكر كل مدّاحي السلطة هؤلاء الذين لبسوا أقنعة متعدّدة اليوم، وللأسف يتصدرون المشهد الثقافي، والمؤسسات بشكل غريب في ثنايا قصص “الكاظم” حكايا هؤلاء الذين تعرفهم مدنهم بالأسماء. م/ تقرير ص23: ((أفق بغداد ملبد بدخان له ملمس الكفن، وحيطانها اصطبغت بلون الهباب، للطعام مذاق الحنوط، وللماء طعم بصاق صباحيّ لزج. والخرائب التي تركها القصف الأخير تقف كفزاعات بثياب سوداء يتصاعد منها دخان بطيء الحركة. كانت أسراب ذباب تطنّ حول جثة حيوان دهسته عربة عسكرية، وغراب يزعق فوق سطح بناء قريب، وامرأة مسنّة تنبش برميل القمامة القريب بحثا عن طعام.)). ص27: ((كان هناك ثمانية رجال، ما يعني أن مسؤول الأمن سيستلم ثمانية تقارير عصر هذا اليوم عن هذه الجلسة، علاقتنا الطويلة بالحزب جعلتنا نفهم أن المسؤول الأمني سيبحث أولًا عمن لم يكتب تقريرًا في الحادثة، ويحمّله مسؤوليّة الخيانة، لأنه قليل الاكتراث بالعناصر المعادية، ولا يساعد الجهات الأمنية في إالقاء القبض على الجواسيس وأصحاب التعليقات المغرضة…)) كما تتداعى الأحداث القصصية بقصص المتناثرين، أو القصص التي لا تكتمل أبدًا. ()ص 31 – 54)). كعداد الوقت، وتسارع الأحداث رغم الحكايا القصيرة جدًا، لكنّ مضمونها يُعبّر عن الوحدات الزمنيّة حاملة الدهشة. وقصّته التي سمّيت المجموعة باسمها “لا تقولي لأمّي إن “مير” لم يصل”. ((ص56 – 92)).
البؤرة المركزية
كتبها ببراعة قصصية بحبكة اجتماعية، وسايكولوجية، وتاريخية تعبّر عن الهمّ الجمعيّ إبّان المحنة العراقية المستمرة، والانفجارات، وقطع الأشلاء، وموقف الأمم المتحدة للمعونات، والضحايا كم مأساة مرت بالبلاد من حرب الـ8 سنوات ليومنا هذا توّجته تلك القصة المأسوية التي عبّر بها من خلال حبكة السرد على الضمير المخرب، وفقدان الإنسانية، والقتل الوحشي من أيتام البعث، والسلفيين، ومن يموّلهم، وينفذ تلك الجرائم التي جعلت الأرصفة، والأسواق مصبوغة بدم الأبرياء. ص56: ((لحسن الحظّ إنّي فقدت يدًا واحدة في الانفجار، غيري كان حاله أسوأ، رأيت بعيني أشلاء البشر، وهي تتناثر من حولي، لقد قالوا إن عشرة أشخاص قتلوا في الانفجار، لكنني رأيت أكثر من عشرين شخصًا على الأرض. وكانت الدماء تملأ الـ…)).
التبئير والحداثة بالسرد
تغوص قصص المبدع “محمد الكاظم” بثنايا الواقع لتشير إلى جغرافية المكان الذي لا يغادره البؤس، والقرف، والموت باستخدام الحفر باللامرئي، وهو يغوص في خفايا الأحداث بذهول في المبنى الحكائي الضاغط بصراع التضاد بين من يريد الحياة، وبين من يصادرها بالرصاص، وبكسر الأزمنة، وتهديم الأسوار ليفضح كل المكائد التي ضحاياها عمال المساطر، والباعة، والفقراء فالتجريب بالمجموعة باستخدام التقنيات الفنية وفق التكنلوجيا الإعلامية والتقنيات الطباعية الحديثة بالإعلام يستل، ويضمن القصص الشريط بالأنباء لحوادث طازجة بمناطق ساخنة أخرى (إيميل، رسائل الكترونية، نت، العاجل المرئي وغيره) وبواقعيّة مستلّة من شريط أخبار في قناة فضائية يضمنه النص من خلال تحريك الحدث، وعنصر الإثارة، والتشويق بالنص، في بنية الزمكان، والثيمة السردية التي أتقن حبكها بمهارة وظفّها بمخيّلته الواسعة في النصّ فقد أبهرني بنصوص مكتبة بمجلّة محلّيّة في الناصريّة عام 2000 بقدرته المهارية التي صقلتها التجربة لتتوج بتلك القصص الفائزة في العراق، والإمارات، والسودان، وغيرها،
لذلك طبعت دار الورشة تلك القصص بطبعة رابعة لفوزها بجائزة الإبداع العراقي. كما أصدرت طبعة جديدة من مجموعته القصصية “وطن عيار ٧.٦٢ ملم” الحاصلة على المرتبة الأولى في جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع. تلك القصص الموشّاة ببراعة السرد بـ156 صفحة عبر فيها عن الحصار التسعيني الذي هرس العظام، وأكل شعبنا النخال، وحتى علف الحيوانات بسبب جرائم صدام وحزبه الدموي، فيما المطبلون من لاعقي البوت الأصفر يمجدون الطاغوت تلك القصص إدانة لوحشية النظام، وتعبير عن هموم المجتمع طوال 13 عامًا من أقسى الحصارات وانهيار العملة وغلاء الأسعار، والهروب الجماعي من الجيش، والهجرة، والبحث عن لقمة العيش بكرامة، طحين الكمّيّة المخلوط بالرمل، وفضلات الحيوانات. وظّف ذلك في قصص واقعية مؤلمة (البحر كوّيس. يا ريّس لكن شمخي انتحر) من وكذلك ((من أين يأتي الموز ياتشيكيتا ص 33 – 60))، وقصص ((Sepember -98-61 ص 12)).
((صراخ سانت كاترين، وهي تغادر ميناء العقبة كان أشبه بعويل مسخ يلد، ما جعل صورًا هلامية مترسبة في قعر مخي المتخم بالروايات العربية تتطاير في فضاء الميناء الملبد برائحة القطران، والديزل، وعرق المسافرين، فسفينة جبرا إبراهيم جبرا، وسفينة عبد الرحمن منيف، وسفينة الطيب صالح التي هرب أبطالها من شرق المتوسط تقافزت أمامي مثل الضفادع على رصيف المغادرين…” (ص5 – 31). قصص تنزّ منها الآلام للعراقي الباحث عن الأمان تستفز الذاكرة، حين نتأمل اليوم باسترخاء مرارات الحصار نقول كيف إنتهت المحنة !!كل قصص المجموعة تمتح من الواقع العراقي دوّن تزويق بل بواقعية موشاة بسحر السرد، وصدق التعبير، فلم يضع أحمر الشفاه على فم القرد ليجمله لذا جاءت تلك القصص بالحقائق التي تدمغ صناع الموت ربما العرب لايعرفون تفاصيلها لذلك لليوم وبعد 18 عامًا يمجدون الصنم ويسمون عهده بالعهد الجميل رغم امتلاء الزنازين المظلمة بآهات الأبرياء وأنينهم، ولم يعرفوا المثارم البشرية التي تطعم أسماك دجلة أشلاء الضحايا الأبرياء. تلك المجموعة الفائزة بجائزة الطيب صالح كان لها الصدى الواسع لتطبع خمس طبعات: في قصة ما زال هناك بعض الأحياء (ص 137) “كان الضباط يشعرون بأنهم تورطوا في تلك الحرب التي لا تريد أن تنتهي، لكن أحدًا منهم لم يكن يجرؤ على أن يرفض القتال، في المقابل كانوا يعبّرون عن استيائهم بطريقة أو بأخرى، فمنذ أن قرأ الضابط اسمي على الأوراق المرسلة إليه من دائرة التجنيد قرر إرسالي فورًا إلى خطّ النار المتقدّم لأكون على تماس مع الموت. كأنّه يريد الانتقام بطريقة هادئة من الاسم وصاحبه…”.
الخاتمة الرصد بالسرد
تجربة المبدع “محمد الكاظم” رصد حياة الشعب بصدق هو سر تفوّقه بإدانته لسياسة الترويع، لقد كان اللهاث من الآخرين – إلاّ تجارب تناولتها بدراسات نقدية سابقة – لتمجيد قصص الحرب والقائد الخاسر بكل الحروب لأغراض مادّيّة من مكارم الفتات، فيما كان صوت “محمد الكاظم” المعادل الموضوعي بين الأدب المؤدلج وصوت الشعب من خلال رصد السرد لمحنة القاع الاجتماعي، والفقراء، وكل المظلومين بحروب عبثيّة، وحصارات مؤلمة نجح برصدها بأمانة السارد الذي يهمه ضياء الحقيقة ليس سواها.