اللسانيّات الخطابيّة بين مساحة النصّ وفضاءات التواصل
تقاطعات تداوليّة في نتاجات المدوّنات الأدبيّة التأويليّة
La linguistique discursive, entre espace textuel et espaces de communication – des intersections pragmatiques dans les productions des blogs littéraires interprétatifs.
Dr.Ali Naser eldineد. علي ناصر الدين([1])
مستلخص
يؤمن العمل اللسانيّ بمبدأ التواصل، ومن يتأمّل في الحركة اللسانيّة، منذ ابتكارها، على يد دي سوسير، يلحظ اللازمة التواصليّة- الوصفيّة في خضمّ دراساتها التّطبيقيّة، ومن هذا المنطلق كانت الرؤيا اللسانيّة للنصوص بشكل عام قائمة على الإمكانات اللغويّة التي تتيح لأيّ نصّ أن يستحيل خطابًا، شريطة أن يلتزم مسارات التلقّي المعهودة في المجتمع الذي يتوجّه إليه، وفي هذا المبحث إجابة عن إشكاليّة أثر التداول وتأويلاته المنفتحة في الحفاظ على أبعاد خطابيّة النصّ، وذلك في مطالعة تطبيقيّة على بعض من الأعمال الشعريّة المعاصرة.
الكلمات المفتاحيّة: اللسانيّات- الخطاب- النصّ- التواصل- المتلقّي- التأويل- التداوليّة- النصّ الأدبيّ- الإبداعيّة التعبيرية.
Résumé
Le travail linguistique croit au principe de la communication, et quiconque contemple le mouvement linguistique depuis ses débuts avec De Saussure, remarque l’impératif communicatif-descriptif au sein de ses études appliquées. Par la suite, la vision linguistique des textes en général reposait sur les capacités linguistiques qui permettent à tout texte de se transformer en discours, à condition toutefois, qu’il adhère aux voies habituelles de réception dans la société à laquelle il s’adresse. Dans cette recherche, grâce à une étude appliquée de quelques-unes des œuvres poétiques contemporaines, nous apportons une réponse à la problématique concernant l’impact de la délibération et de ses interprétations ouvertes dans la préservation des dimensions rhétoriques du texte.
Mots clés:
Linguistique- discours- texte- communications- destinataire- interprétation- pragmatisme- texte littéraire- expression créative
توطئة
إنّ العلوم محكومة بالتغيّر والتطوّر كلّما تقدّم الزمن أو العصر عليها، وهذا ما ينعكس تلقائيًّا على العلوم الإنسانيّة والقطاعات الأدبيّة بأشكالها ومجالاتها وتخصّصاتها كافّة، ولهذا الأمر جوانبه المنطقيّة، على قاعدة أنّ اللغة بنت المجتمع والاستعمال، بمجرّد ما انتهى مجتمعها أو تنافى استعمالها انتهت هي على الإثر.
وقد شهد العالم كثيرًا من اللغات التي اندثرت باندثار حضارتها أو قوّة مجتمعها، وانعدام التداول فيها مع مرور الزمن، كاللغة السنسكريتيّة أو الفرعونيّة أو الكنعانيّة القديمة، وهذا منعكس أيضًا على الثقافات الغربيّة التي عدّلت كثيرًا من مساراتها اللغويّة، فانتهت لغات لتحلّ عوضًا عنها لغات أخرى.
ومن خلال هذه الفلسفة حملت اللسانيّات مبادئها ومنطلقاتها لتدلّ على نفسها، ويحصل عندئذ تعديل في النظرة العامّة للعلوم، وتطوير في المنهج وإجراءاته وقواعده الأساسيّة، وتطفو على السطح أساليب جديدة في الدرس الذي يبحث عن الأصل في الأمور والأهداف، وبطبيعة الحال إنّ اللغة وسيلة نطقيّة بغرض تيسير الأمر التواصليّ على الناس، ولدراستها دراسة مجدية كان لا بدّ للسانيّات أن تقحم المزيد من الإجراءات المراعية للتفاصيل الوصفيّة، أي تدرس اللغة بذاتها ولذاتها بمعزل عن أيّ إسقاطات أخرى، فكان المنهج اللسانيّ الوصفيّ رائدًا ومعينًا في هذا المجال، ” الألسنيّة أو اللسانيّات أو علم اللغة، هي العلم الذي يتّخذ من اللغة موضوعًا لدراسته. هذا العلم يدرس اللغة دراسة علميّة تقوم على الوصف الموضوعيّ، ومعاينة الظواهر اللغويّة بعيدًا عن النزعة التعليميّة والأحكام المعياريّة.”([2]).
ومن خلال هذه الرؤية اللسانيّة، أخذت العلوم اللغويّة والأجناس المتوافرة بتخصيص جزء مستقلّ من النظريّات التي تخدم مساراتها وتحديث النظرة إلى نقدها وتحليلها، وكان للنصّ نصيبًا وافرًا، فاستقلّ باللسانيّات النصيّة، أو نظريّة اللغة النصّيّة، وفي بحثنا هذا نقارب قضيّة المبنى والمعنى (زيادة مبنى زيادة معنى) لمزيد من الوقوف على هذه المعادلة التي تسهم في إظهار النتائج التحليليّة، وتعين على ضبط النقد والتحليل، وتساعد على بناء النصّ بناء منطقيًّا لسانيًّا. وعلى صعيد بحثيّ من الممكن للإشكاليّة أن تتجلّى في التساؤلات الآتية:
كيف يستحيل النصّ خطابًا؟ وأيّ موقف للتداوليّة إزاء هذا الوضع؟
إلى أيّ مدى تنمّ التداوليّة عن معايير مجدية في التحليل الأدبيّ؟ وما موقف التأويل وكينونته على صعيد التلقّي إبّان عمليّة النقد والتحليل؟
أوّلًا- النصّ والخطاب من المنظور اللسانيّ التقعيديّ.
والنصّ من منظور لسانيّ هو إنتاجٌ مترابطٌ، متَّسِقُ ومنسجِمٌ، يتكوّن من ملفوظات تُعدُّ عرضةً للشرح بصرف النظر سواء أكانت مألوفة أو غريبة. فعلى أساس دراسة لغة النص تصبح العناصر اللغويّة جميعها داخل النصّ عرضَةً للتحليل والمعالجة وصولاً إلى تفسيرها وربطها في سياقها. واللسانيّات النصّيّة تعِدّ أنّ “النصّ عمليّة تفاعلٍ في واقعه الاجتماعيّ، يجري بواسطتها تبادل المعاني، معنى ذلك أنّه نوع من الحوار بين المتخاطبين باللغة.”([3]) ويرتبط النص عندئذ حكمًا بسياقٍ واضح يُحَدّد مجاله أي الموضوع الذي يتناوله المشاركون في تداولهم، كذلك يجري العمل على تحديد نوعه لضبط فنّيّاته وبنيته التي أُلِّف على أساسها فيُعمل على بحث جنسه الأدبي سواء أكان سردًا أو وصفًا أو تقريرًا… أيضًا يعتني اللسانيّون عند نظرهم في النص، بالمشاركين في تداوله والنظر في ماهيّتهم وطبيعة العلاقة الرابطة بينهم، فالناس تتواصل بحسب مناسبة هذا التواصل. وعليه يشكّل النصّ أداةَ جذبٍ للمشاركين أو المتلَقّين المعنيّين فيه، ويفترض في تلك الحالة أن يجري التفاعل بين العناصر كافّة. هذا التفاعل التواصليّ قد يؤدّي إلى سياقٍ اتّصاليّ، بموجبه تتثبّت العناصر النصيّة وتتفاعل أكثر فأكثر. وبشكلٍ عام يرى اللسانيّون أنّ النص رموزٌ لا يُحرّكها سوى السياق الاتّصالي التفاعليّ بين المتلَقّين، ومن دون هذا الشرط الأساسيّ يُستبعدُ النصّ من دائرة الشيوع أو الاكتمال الوظيفيّ لدى متلَقّيه. ” فالنصّ متعدّد المعاني بشكلٍ مُطلق، لأنه يستحيل الاتّفاق على معنى أو معيار متجاوز. ولذا فإنّ هناك معانٍ بعدد القُرّاء، فهو مجرّد مجال عشوائيّ للعب الدوال ورقصها والشفرات المتداخلة، فالمعاني التي يتوصّل لها القرّاء لا يربطها مركز واحد وليست مستقرّة، إلى أن يتبدّد المعنى ويصبح البحث عنه نوعاً من العبث النقديّ”([4]).
لقد أصبحت اللسانيّات من المعالم التي يعتدّ بها في خضمّ الدراسات الحديثة، وباتت اللغة بموجب هذا المدّ اللسانيّ مدعاة للتأمّل، وذلك لما أفرزه من تطوير في مسارات اللغة، وتحديث النظرة إليها بحسبانها أداة التواصل البشريّ، وأنّها تأتي بغرض دلاليّ لإرسال رسائل يتلقّفها المتلقون المعنيّون ويحاكون أفكارها وطموحاتها. وعلى الإثر بات لكلّ لغة من اللغات أنظمتها وتقنيّاتها وخصائصها التي تسير عليها، هذه التقنيّات قد تختلف بين لغة وأخرى على أساس خصوصيّة اللغات الكونيّة، ولكنّها تجتمع على أساس أنّ اللغة الإنسانيّة تحمل قيمة تواصليّة، وهذه القيمة هي أعلى المهمات وأرقاها على الإطلاق.
وعلى هذا الأساس كانت المسارات الوصفيّة جاهزة وحاضرة لبناء النظريّة النصّيّة، وقد كانت النظرة على نحو من العلميّة والبعد من المعياريّة للوصول إلى نتائج أمينة مرضية للطرفيْن: النصّ والباحث أو الناقد الذي يتصدّى إلى مهمّة نقده، ومن هنا تسلّلت المبادئ والخصائص لبناء ما بات يُعرَف باللسانيّات النصّيّة، “إنّ الخطة الأولى في البحث اللغويّ العربيّ أدركت بصورة تنمّ بنفسها عن نفسها تكراريّة الظاهرة اللغويّة، وافترضت بشكل واع نهاية الجمل الأصليّة أو النواتيّة تاركة القياس للمتكلّم لإنتاج صيغ وجمل أخرى خاضعة للعلاقات الممكنة الكامنة في ذلك الترابط المتضامن بين كافة عناصر هذا التركيب أو ذاك.”([5])
ومن أبرز المسائل التي أثارتها النظرية النصّيّة، أو اللسانيّات النصّيّة قضيّة زيادة مبنى- زيادة معنى، على أساس أن تصل الأمور إلى التكافؤ بعد تأمين هذه المعادلة التوازنيّة بالنسبة إلى مبدأ الاختيار انتقالًا إلى محور التأليف النصّيّ.
ثانيًا- النصّ والخطاب في الاصطلاح التطبيقيّ
لغة النص تركيبة تتشكّل منها مدوّنة تتّجه في مفاهيمها، وأهدافها نحو متلقٍّ تجمعه بها خصائص مشتركة تُسَهّل الفهم عليه؛ وإنّ اللغة عماد هذه الخصائص وأساسها. مع العلم أنّ للغة أشكالًا وميّزات تجعلها منضوية إلى مقامات اجتماعيّة؛ مقامات قد تدخل في صميم اهتمامات الفرد الذي يتلقّاها من خلال النصّ أو لا؛ المهمّ أنّها تحدث العنصر المحرّك لقوام حواريّ يتولّد من خلال المرسلة التي تفعم بلغتها والمستويات كافّة فتنمّ عن غرض مروم ومتّجه نحو فئة ما من فئات المجتمع؛ هذا الغرض قد يكون تعلّميًّا أو أدبيًّا أو اجتماعيًّا… أو خليطًا بين مختلف المسارات المنفتحة بين بعضها بعضًا لسدّ الحاجة التواصليّة. والحاجة التواصليّة هذه تحتاج إلى مفهوم التماسك النصّيّ وبلورته داخل المرسَلة لتحقيق الهدف المراد، ” إنّ مفهوم التماسك النصّيّ المركزيّ بالنسبة إلى علم لغة النصّ قد فهم فهمًا نحْويًّا محْضًا، فهو لا يَسِم في هذا الاتجاه البحثيّ اللغويّ النصّيّ إلّا العلاقات النحْويّة- الدلاليّة بين الجمل أو بين عناصر لغويّة (مفردات وضمائم إلخ…) في جمل متعاقبة.”([6]) نلاحظ أنّ مفهوم التماسك النصّيّ كان مقتصرًا في البداية أو عند باكورة تكوّنه على العوامل النحويّة التي تشكّل عناصر اللغة وتؤمّن الترابط المنطقيّ الأصوليّ السليم لها… لكنّ هذه النظرة لم تستمر طويلًا في التّداول، وسرعان ما نشأت الحاجة إلى الالتفات نحو العصر الحديث إلى أين ينحو، فكان على إثر هذا الالتفات أنْ برز مفهوم التواصل ليعدّل من تعريف التماسك وخصوصيّته التحليليّة فيمسي النصّ مرسَلة تواصليّة بحتة، ” يستفسر علم لغة النصّ عن الأغراض التواصليّة التي يمكن أن تستعمل فيها النصوص في مواقف تواصليّة، أو استعملت فيها فعلًا أيضًا؛ بإيجاز: إنّه يدرس الوظيفة التواصليّة للنصوص.”([7]) هكذا وبهذه الوتيرة جرى تغيير المفهوم النحويّ للتماسك ومن ثَمّ للنصّ عبر معادلة التواصل والفعل اللغويّ الذي يميز النصّ بالتداول عن غيره من النصوص. وعليه يصبح التواصل ميدان العمل اللغويّ النصّي والبحث ينصبّ – من خلال التحليل- على استجداء القيمة التواصليّة للنصوص.
تهتمّ اللسانيّات النصّيّة إلى حدّ بعيد بمسألة الأسلوبيّة، ومن هذه الأسلوبيّة يحصل العبور نحو القيمة التواصليّة لنصّ من النصوص، وفي كثير من الأحيان ما يُعَدّ التناص معبرًا أساسيًّا لما بات يوسم بنظريّة نحو النصّ.
وفي سياق متّصل تبدو نظريّة نحو النصّ من أحدث نظريّات الغرب في النظر إلى النصّ وفنونه، وهي متضمّنة قواعد تركيبيّة، تحتاج إلى دقّة ومعايير مخصّصة إبّان تطبيقها، فقواعد التركيب هذه نظرية نحوية عُمِل على تطويرها واستندت إلى خمسة لوازم رئيسة مدرجَة كالآتي:
- كون التركيب على مستوى الوحدة المنفردة هو الذي يمثّل القاعدة النحويّة. إذ يحتكم التركيب إلى معالم تنظيميّة تدير النتوج النصّيّ العامّ.
- إنّ التراكيب تعدّ ترميزات سياقيّة، على أن تهذّب العلاقة بين البنية السطحيّة والبنية العميقة أي المعنى. وذلك وضع يعدو المفهوم التقليديّ كالنظر في صوتيّات المقام وحسب مثلًا.
- حتميّة أن تحتوي التراكيب على تطريزات نحويّة تنمّ عن معان متجدّدة.
- لزوميّة أن تتأطّر التراكيب مجتمعة في نظام تشبيكيّ، كأن يصار إلى أبعاد تصنيفيّة في العلائق واتّصاليّات الجزء بالكل.
- وهكذا تصبح اللغة بحصيلة نهائيّة قائمة على استعمالها لوعيها ومعرفتها.
إذن قواعد التركيب مبنية فقط على تراكيب على مستوى الجملة، بمعنى: “يُقال إنّ لها معنى مستقلًا عن العناصر المعجمية التي تنشئها وتدعمها. على النقيض من ذلك، فإن القواعد الإدراكية مفتوحة لجميع أنواع التراكيب والكلمات والجمل. تركز قواعد التركيب على الخصائص الشكلية للتركيب، بينما تركز القواعد الادراكية على المبادئ الادراكية التي تحفز تكوينها.”([8])
هذه النظريّة من النظريّات المحسوبة على الإدراكيّات المعرفيّة المتطوّرة أو المعدّلة، وهو ما يتّسم باللسانيّات الإدراكيّة، وبالأصل تقوم على اكتسابيّة المرء للمعارف اللغويّة من محيطه اللغويّ، على أساس أنّ هذا الأمر لبّ المعرف اللسانيّة وأصالتها، شريطة أن يقترن هذا الوضع بالاستعمال والتداول في محيط حيويّ.
ويحسب المنظّرون لهذا الطرح بأن الثقافة واقترانها لغويًّا لهي من الأشياء البدهيّة، ولا دخل للإنسان مباشرة بصنعها، بل الإنسان هو الذي يقوم بتفعيلها ليس إلّا، وهكذا تتكوّن الثقافة البشريّة، كأن يعمل الإنسان إلى تحريك هذا الجماد فيغدو تداولًا ثقافيًّا…
وهكذا فإنّ نشوء اللغة في أطر ثقافيّة قد لا يحصل بشكل مخطّط له أو متواضَع عليه، بقدر ما هو عمليّة انتقائيّة تخيّريّة، غير جبريّة، كأن يتّخذ ما يفيده ويجافي ما يضرّه مثلًا، وذلك كلّه يبدو في حلقة نفعيّة يقود مسارها الاستعمال، ومن هنا يبدو في اللغة هذا الجوّ العقلانيّ التداوليّ النفعيّ، هي ثقافة الوصفيّة التي أشاعتها بالأصل العلوم اللسانيّة ونادت بها، وعلى الرغم من عدم تبجّح هذا المسار بأنّه يقود الأنساق الثقافيّة وآليّاتها الثقافيّة، فإنّه قد قدّم تنظيرًا تطبيقيًّا غير محسوس أو ملموس حيال هذا الأمر.
ثالثًا- التداوليّة في ميزان الخطاب والتلقّي والتأويل
وفي سياق رابط للتداوليّة بنظريّة التحليل الخطابيّ، فإنّ التداوليّة معنيّة بالشأن التواصليّ النصّيّ، وذلك بمعزل عن جنس هذا التواصل أو نوع هذا النصّ من أصله، وهكذا يكون البحث في دلائل إنتاجيّة للتراكيب، كأن توحي الصور داخل النصّ بمدلولات أعمق ممّا هو ظاهر في حقيقتها، وذلك بمعزل عن دراسة مسألة الأنا الكاتبة، أو ذاتيّة الكاتب، حينما عزم على وضع هذه الملفوظات أو تلك التراكيب دونًا عن الأخرى أو ما يوازيها لغويًّا، وأمّا عن الأسباب والكوامن والدّوافع فهذا خطاب تأويليّ قد يقيّد المدوّنة النصّيّة، ما يعيد ثقافة المعيار مقابل الوصف إلى سطح التّحليل من جديد.
وعلى هذا النحو قد تحمل التداوليّة شيئًا من الصّرامة في قوانين التّحليل، وقد لا يعنيها كثيرًا بال المخاطَب أو المتلقّي، وما يمكن أن يفسّر نصوصه مؤوّلًا إيّاها، ومن هذا المنطلق تخرج نظرات مناهضة، وإنّما مناهضتها نابعة من ثقافة المتلقّي العربيّ وأيديولوجيّته الدفينة ثقافيًّا، وهو ما ينبغي أن تحترس منه الأوساط الثقافيّة العربيّة والتنبّه إليه، ويمكن تفنيد هذا الوضع بنقطتيْن كالآتي:
الأولى: قد يؤخَذ الوضع الجامد الذي ارتضته التداوليّة في لغة النصوص، وقد تحرم المتلقّي والمرسل على حدّ سواء من أحقّيّة السجال التاريخيّ أو الشعوريّ، وهو أمر تُعنى به الفلسفة التأوليّة عامّة.
الثاني: قد يُقَيَّد المسار التأويليّ، أو يحتكم إلى مواريث متعارف عليها في النظر إلى النصوص وتفنيدها تركيبيًّا وبلاغيًّا ونحويًّا وصرفيًّا، وهو ما يعرقل الأجهزة العليا للمسارات الثقافيّة وإنتاجيّتها لنصوص موازية.
إنّ النصّ هو أرقى أو أرفع حالة تتبلور فيها اللغة الإنسانيّة وتتوضّح المرامي بدقّة، ولمّا كان النصّ على هذا النحو من الأهميّة، وجب على اللسانيّات أن تهتمّ به وتولي من أجله نظريّة خاصّة، وتقنيّات ومستويات فكانت الدراسات الموسومة اليوم باللسانيّات النصّيّة.
ويشجّع العلماء مشدّدين في دعوتهم إلى دراسة النصّ مقترنًا بسياقه، وعلى ضوء هذا التّشديد نشأت مبادئ (تحليل الخطاب)، إذ تبرز رؤية “هاليداي ورقية حسن” اللذين يعرّفان النصّ أنّه: “وحدة لغويّة في الاستعمال وهو ما يقتضي بنظرهما ارتباط الخطاب بسياقه.”([9])؛ وهذا ما يستوجب مراعاة السياق عند تحليل النصّ أو الخطاب.
وبمحصّلة لهذه الآراء نجد أنّ الخطاب وحدة تلفّظيّة تشتغل في عمليّة التواصل. وقد أخذت الدّراسات الخطابيّة تتشعّب وتزدهر حتّى غدت هي أبرز الأولويّات في الدراسات اللسانيّة؛ اعتمادًا على ما قدّمه هاريس haris (1952) وغيره على سبيل المثال لا الحصر. وأخذ الخطاب يتسلّل إلى مختلف العلوم الإنسانيّة الأخرى، حتى اختلفت أساليب تناوله بحسب الحقول المعرفيّة التي تعمد إلى دراسته، مثل علم الاجتماع أو الفلسفة وغيرها من المسارات المدمجة. ومن هذا المنطلق كان واجبًا التمييز بين الدراسات المتعدّدة التي تتناول الخطاب بحسب روحيّته المعرفيّة.
وأحيانًا ما تكتنف الخطابيّة بأساليب الهَيْمنة التي تمرُّ عبر ما يسمى بالخطاب؛ خطاب يجعلك تحبُّ أشياء من دون أن تشعر، حتى وإن كانت هذه الأشياء تُبعدك من وطنك وتجعلك تعيش في وطن أو أوطان أخرى لا تربطك بها سوى اللُّغة، وهذا مثلًا ما يبدو في دراستنا التي تراقب لغة من النصوص الأدبيّة والشعوريّة العالية، في حراك تأويليّ يسعى إلى شدّ الناس إليه.
ولا يفوت الدراسات إيلاء أهمّيّة إلى السياق في تحليل الخطاب بوصفه قرينًا لقصديّة الرسالة التي يبثّها المرسِل. فالخطاب حسب ميخائيل باختين (Mikhail Bakhtine) مقرون بفهم الآخر، وعليه أن يحظى بالقيمة التفاعليّة، وهو مضادّ للسكونيّة. “أي أنّ المتلقّي أو القارئ يحلّل الخطاب الموجّه إليه ويشكّل المعنى، أي معنى التلفّظ وسياق هذا التلفّظ المشكّل لدلالته.”([10])
وهكذا فإنّ الخطاب مبنيّ على التواصل بطرفيْه: التأثير والتأثّر، وأمّا عن الجانب التأثيري فإنّه نابع من قصديّة المرسِل، وأمّا عن التأثّر فهي وظيفة المتلقّي الذي من دونه لا يستحيل الخطاب خطابًا. وعلى هذا الأساس يغدو الخطاب تلك ” الصياغة لفكرة مقصودة، في نتاج لغويّ وفق ما تقتضيه القواعد اللغويّة، للغة معيّنة، ومن الضروريّ ضبط صحّة التأليف اللغويّ وسلامته، ليجري بعد ذلك إرسال الخطاب في الهواء إلى المتلقّي، إذا كانت الرسالة منطوقة، أو تُدَوّن في المدَوّنة الكتابيّة.”([11]) وقد عزلت النّظريّة الخطابيّة المتلقّي عن الجمود، وحوّلته إلى شريك في المنتَج الكلاميّ، وأصبح ينوّع على النص ويضيف إليه المعطيات… وعلى هذا الأساس تؤمّن نظريّة التلقّي تشعّبيّة المسارات السّياقيّة لأيّ خطاب يطرح، ومن هذا المنطلق تكون رسالتنا خير دليل على حتميّة المتلقّي، فهو وقود الحراك الذي ندرس مادّته الخطابيّة.
ويحصل التداخل الخطابي – التفاعليّ ويتخذ ذلك الشكل التحليليّ المتعدد ممثلًا لإعادة تشكل مستمرة تدفع فيها المعرفة الخاصة بتشكيلة خطابية، ولا تخلو الأمور من حاجة إلى الوعي الأيديولوجيّ الذي يتكوّن في لحظة ما أو موقف تداوليّ حسّاس، وكلّما كان هذا الموقف التداوليّ مؤثّر في الحضارة والتاريخ استحضر التفاعلات، وأخذ يتّسم بروحيّة الماضي والحاضر والمستقبل وما بينها في إعادة إنتاج الزمن.
تؤدّي اللغة أدوارًا حاسمة في التدليل على الثقافات المجتمعيّة وتعديلاتها الطارئة، بما يضمن إعادة إنتاجها على وجه الخصوص. فللغة سياق ذو نفع وجدوى ولا ينبغي به الخواء أو الفراغ. ومن هنا تقف اللغة في سياقاتها ونسج خطابها على خاطر الأنساق الثقافيّة والأيديلوجيّة، وتحترم الواقع الاجتماعيّ الذي أنتجها. وحينما نتحدّث عن لغة تداوليّة، فإنّها لغة حيثيّة تعاصر التغيير الطارئ على مستوى البنى الثقافيّة موضوع الكلام، ومن هنا فإنّ المظاهر الخطابيّة، أو الظواهر التداوليّة اللغويّة، يُناط بها خبر الكشف عن الأيديولوجيّات وخطاب التغيّرات الثقافيّة، وذلك من خلال ترسيخ لازمة أنّ الخطابات مرآة المجتمعات، ولا بدّ أن تركن في إنتاجيّتها إلى تلك البنى الثقافيّة، وفي هذه الحالة توضع اللغة في الميزان، وتعطى شرعيّة في خطاب ما، كما هي عرضة لسحب هذه الشرعيّة منها في خطاب آخر. “وهذا يعني ضمنيًّا أن هناك حاجة إلى الخطاب واستخدامه من مجموعات اجتماعيّة مختلفة في سياقات الاستحواذ والمحاججة والصّراع الأيديولوجي وسياسات الإقناع بالإضافة إلى تلك السّياقات المتعلقة بنقل الأيديولوجيات بين أعضاء مجموعة تضامنية؛ والتي يدافعون عنها أو يخفونها عن أعضاء خارج تلك المجموعة التضامنية.”([12])
وهكذا فإنّ أعمال تحقّق اللغة لا تتمّ إلا من بمعيّة الخطاب وقوانينه، ما يدلّ على “أنّ أعضاء المجموعات الاجتماعية المختلفة يمكنهم التعبير “ممارساتيًّا” عن أيديولوجياتهم أو الدّفاع عنها أو إضفاء الشّرعية عليها في سياقات التفاعل. وهكذا، يؤدي الخطاب دورًا محددًا في إعادة إنتاج الأيديولوجيات. في سياق هذه المناقشة، يمكن تعريف الأيديولوجيات ببساطة على أنها أساس التمثيلات الاجتماعية التي يتقاسمها أعضاء مجموعة اجتماعية معينة”([13]) .
وعمومًا على سبيل الاستخلاص، فإنّ الأيديولوجية كالخطاطة تخدم منافع المجموعة؛ وهي إطار مشترك للأعراف الاجتماعيّة التي تنظم التمثيلات والممارسات الاجتماعيّة للمجموعات وأعضائها وتنسقها، والتي تشتغل بحسبانها وسيلة للتحكم بتلك الممارسات الثقافيّة؛ التي يرتقي إنتاجها بتمثّلها خطابًا.
رابعًا – عيّنات تطبيقيّة
وعلى سبيل التطبيق كان اختيار كتاب “حديقة الستّين”([14])، وانتخاب أجزاء من قصيدته الموسومة بـ”كلام هو الحب”([15]). ننقل في هذا المجال عيّنات عشوائيّة للتحليل، وذلك لعدم الرغبة في الشطح التحليليّ، ولأنّ هذا التحليل يأتي من باب تسويغ النظريّة المقترحة.
“لم تكوني قصيدةً،
كنتِ فضاء لها وترابا، وماء
ولستُ أنا الوعد بينكما…
بل أنا الوعد إنْ جئتماني معًا.”
على أساس قانون زيادة مبنى زيادة معنى تتجلّى إمكانات خطابيّة في هذه القصيدة، وعلى ما يبدو أنّ هذه الإمكانات الخطابيّة تفرضها طبيعة اللغة المستعملة، ثمّ البناء المدلوليّ الذي اكتسبه المركّب اللغويّ عقب الزيادة المبنويّة.
ومن الواضح أنّه في البداية كان التركيب محدودًا تصريحيًّا بالنفي، ومن المعلوم أنّ بناء النفي لا بدّ في القصائد أن يلحق به على الإثر مبنى من التأكيد، على أن يكون التأكيد داحضًا للسابق مؤكّدًا اللاحق وهذا ما يحكم المقام السياقيّ بزيادة المبنى حتمًا، ومن هنا استدرج التّركيب النصّيّ الفعل الماضي الحتميّ ليختزل القصيدة في معالم حياتها كالفضاء والتّراب والماء، أي عناصر الحياة والنموّ، هذا المبنى الزائد يتيح على سبيل المثال أمام المتلقّي أن يدرك (بل) الإضرابيّة، كأن يؤوّل في رأسه (بل كنتِ…) ومن هذا المنطلق تحصل أوّل زيادة في البنى نتشي بزيادة في المدلولات والمعاني.
وعلى النّسق ذاته يكون الانبناء للقصيدة، فيبدأ ببنية النفي مجدّدًا، ولكن هذه المرة يختار تركيب (لست) ويقوم بالنّفي على أساسها، هذا النفي قد حفّز الجهاز التواصليّ، وأمّن بعدًا اتّصاليًّا في القصيدة، وباتت الأمور إخباريّة تصريحيّة، أيّ أن يعبر إلى البوح التصريحيّ لاحقًا.
وقد تحقّق البوح التّصريحيّ بزيادة البنى مجدّدًا لزيادة المدلولات والمعاني، ثمّ حضرت (بل) الإضرابيّة وتحقّقت بعد أن كانت مقدّرة في التقدير، وتجلّت ذاتيّة الشاعر أيضًا، فصرّح بأناه رأسًا ومباشرة، وذلك بعد أن أمّن معادلة المثنّى، أيّ إيقاعيّة المثنّى التي غمرت ذاتيّة الشاعر وأنتجتها بشكل تآلفيّ بين القصيدة وحضور المحبوبة، على أساس أنّ اجتماعهما يبعث على الوعد والأمل بين الطرفيْن، وبذلك يحصل التكافؤ النصّي، وتخدم البنى معانيها وصولًا إلى غرض الشاعر الرئيس.
” تغيب القصيدة حين تغيبين،
لا تسأليني إذا عدتِ ثانية:
كيف حال قصائدي؟
عودي بها، مثلها… فجأةً.”
وفي هذه المقطوعة الثانية من القصيدة يستمرّ الشاعر في قانون تنظيم البنى لتشي بالمعاني داخل القصيدة، ومن هنا كان القول المبني على ذكر الحدث وتهيئة الجوّ الاستنتاجيّ، وقد عاد إلى إيقاع النهي هذه المرّة ليردّ على المبنى الأوّليّ في المقطوعة الأولى، ثمّ يصرّح بالاستفهام، فهو قد تلمّس أنّ حرف الاستفهام يغني عن ثلاثة ملفوظات: الذاتيّة، والتعبيريّة الإنشائيّة، ثمّ التوجّه نحو الطرف الثاني، أي الطرف التكامليّ، ومن هنا يعود إلى حيرة القصيدة ويتمّها، أو تنافيها بغياب المحبوبة، ليتماهى التركيب مع النتيجة ويدعم الأمر بنية المعنى، فلا بنية للقصيدة من دون بنية المحبوبة.
وبهدف المزيد من التوضيح وضبط النتائج لا بدّ من عمل تحليليّ يسهم في إرساء البعد الاستنتاجيّ على النظريّة المتناولة، فكانت العيّنة التحليليّة من كتاب “حديقة الستّين”([16])، وهي قصيدة “نباتات الشرفة”([17]) على أن يكون التحليل لبعض من المقاطع الواردة في القصيدة.
عيّنة ثانية
يتضمّن هذا الشق من البحث محاولة تطبيقيّة إضافيّة، ويقتصر التطبيق على بعض من العيّنات التي سندرسها على نسق قانون زيادة مبنى زيادة معنى، وأوّل العيّنات تكون كالآتي:
” على الشرفات تعيش النباتات حائرةً،
وإذا ذبلت فهي تذبل من فرط حيرتها.
ربّما فرحت مرّةً،
ربّما عطشت مرّةً،
ربّما أزهرت دون قصد.”
في بداية العمل البنيويّ لهذا النصّ يتجلّى بوضوح مفهوم التلاعب البنيويّ، أو التقديم والتأخير، وهو ما يومئ إلى معادلة معنويّة مهمّة في بال الشاعر، ومن الملاحظ أنّه، وبغرض ضمّ الموضوع، نواة التواصل، أمام المجتمع، كان أن اختار نباتات الشرفة، وهي من المسائل المتكاثرة بغرض الزينة، وبالتالي فإنّ من لا يمارس هواية تربية هذه النباتات، فإنّه يبصرها أنّى اتّجه، وعلى ما يبدو أنّ قصد الشاعر هو المدينة، ذلك لأنّه قال “نباتات الشرفة”، وليزيد من التعبير البنيويّ الذي يوحي بدلالة الحيرة كان أن زاد مبنى الحيرة على المعنى، ليوائم بين مدلول الضياع، وما يؤكّد هذه المعادلة إرفاقه البنية بالذبول، وإضافة الحيرة إلى الفرط، ما يحتّم دلالتها المعجميّة أمام المتلقّي، والملحوظ أنّ الشاعر فضّل المكوّن الشرطيّ كزيادة بنيويّة، ثمّ أجاب عن هذا الشرط بفاء الجزاء، وبهذا يكون قد ضاعف مدلول الحيرة بمنسوب ثلاثيّ، وهذا ما دلّت عليه البنى التركيبيّة.
وعلى الرغم من تفضيله تقليص البنية رقميًّا، أي بمفهوم الموجود العدديّ، فإنّه عاد ليوازيها بمتكرّر ثلاثيّ للملفوظ (ربّما)، وكانت دلالة العشوائيّة في حراك النباتات عندئذ هو الذي يؤمّ الضعف البنيويّ بالعدد وحسب، ذلك لأنّ الصدف والحيرة حالات تأتي سريعة على عجل، ولا يكاد المرء يدركها إلّا إذا تفحّص وانتبه، ومن هنا كانت حالة تأمّل الشاعر في هذه النباتات. واستكمالًا للعمل التحليليّ تكون هذه العيّنة الثانية من القصيدة عينها:
“بنايات بيروت عالية،
فالبيوت معلّقة،
والأزقّة تسلكها الحرب في ثقة،
ليس يعلو سوى الخوف،
والحرب هانئة
-إنْ صحت أو غفَتْ- ”
على الأساس نفسه الذي مضى به الشاعر يستكمل حالة الحيرة والتناقض، ولكنّه هذه المرة يدعم البنى لتكشف معنى الخوف والرعب والارتباك والقلق الذي يصيب الإنسان المتأمّل في المدينة، حاله كحال نباتات الشّرفة الضائعة عن وطنها الريفيّ، كذا هو الشّاعر تائه في هذه المدينة.
وعلى سبيل التطبيق نختار قصيدة من قصائد الشّاعر جودت فخر الدين، وهي تنتمي إلى الشعر الحديث، ونوع القصيدة النثريّة تحديدًا.
عيّنة ثالثة
لمزيد من الدعم التحليليّ على صعيد البحث، هذه عيّنة شعريّة من كتاب “حديقة الستين”، وعنوانها “قصيدة نثر ثانية”([18])، ويكون التطبيق مقتصرًا على بعض العيّنات منها نظرًا لتمايز هذه القصيدة عن أخواتها من حيث جنسها الأدبيّ.
“طبيعتي بعيدة مثل البراري.
وديعة مثل الحدائق.
خجولة مثل ورود على وشك الذبول.
طبيعتي هي الجموح.. في داخلي.
هي الجموح (مُقَيَّدًا) في داخلي.
طبيعتي ليست هنا،
إنّها في الأقاصي،
في الطبيعة كلّها…”
لا شكّ أنّ المتلقّي أمام قصيدة تحمل في طيّاتها عصارة زمن بعيد، أو تأمّلات في سيرة حياة الشاعر، سيرة حاول اختوالها واختزانها بمفاهيم متماسكة، كأن يحاكي الطبيعة بشخصيّته (طبيعتي)، وحري بالذكر أنّ التناص يقوم على أساس الشيفرة المعنويّة، وقد يكون تناصًّا حاصلًا على الصعيد الجماليّ، فمن مجاز القول أن يقول الفرد، طبيعتي ويقصد بها الشخصيّة، إذ إنّ الملفوظ قد أصبح أعمّ وأشمل في مدارك الناس وشيفرتهم التواصليّة، ثمّ يتّصل الكاتب بصورته الشعريّة، أي الملفوظ فوق الطبيعيّ الإبداعيّ، ويستثمر التصوير، فتارة يُبعِد مسافته من مسافة الآخرين، وتارة أخرى يقرّبها إلى حدود الانجذاب، ثمّ يعبّر عن انكفائه وخجله، ولكنّه خجل المنكسر، كأن ينحني انحناءة وردة تكاد تموت، وهي صورة ترتقي إلى مستوى الرومنسيّة أكثر من مستوى الطبيعة وتصويريّاتها في الملفوظ التواصليّ، ولمزيد من الدقّة والأمانة، كي لا يقولون عنه متناصّين بتناصّ مضاد أنّه يلتحف لحاف القدّيسين، وهذا من مبالغات الناس في ردودهم، فقد استدرك طبع الغضب، وهو طبع البشر الطبيعيّين، ولكنّه الغضب المحبوس أو المسجون في بوتقته الداخليّة، وأجرى كما الحصان (جموح)، ثمّ كبت الغضب وشعر بالحيلولة واللامحدوديّة مع الطبيعة، فلا شخصيّة واضحة له أو طبيعة، لقد اختصر شخصيّته في تواصليّة المبهم غير المفهوم أو المألوف، أو حتى هو ذاته لا يقدر أن يميزها.
وعلى جميع الأحوال تبقى هذه القصيدة من القصائد النثريّة وهو نمط من أنماط الشعر الحديث، ولعلّ الشاعر قد استثمر هذا الجنس الأدبيّ المتجدّد ليفتكّ من الوزن فيعبّر عن شخصيّته بانسراح، وإنْ حافظ في تواصليّة نصّه على توزيع أو نسق يليق بالإيقاعيّات الشعريّة.
خلاصة
وفي ختام القول إنّ قانون اللسانيّات الخطابيّة وربطها تداوليًّا، من القوانين المجدية والمهمّة والملهمة في سبيل إيجاد منطق للقصائد، ولا سيّما الحديث منها، فهي قصائد متناسقة إيقاعيًّا وبلاغيًّا لتنمّ عن موقف أو معادلة شعوريّة يتّصل بها الأديب مع جمهوره.
لا يختلف اثنان في عالم اليوم أنّ اللسانيّات النصّيّة تفيد التحليل والعمل النقديّ وهي تؤمّن اللازم من أجل الخلوص إلى نتائج تحليليّة، نتائج تبدو منطقيّة ومسوّغة بدليل من اللغة النصّيّة، وهذا ما يضمن النتائج بشكل مؤكّد ودقيق.
تجربة اللغة النصّيّة، أو التحليل على أساس اللسانيّات النصّيّة من التّجارب المهمّة للمرء الذي يجرّبها، وقد يرتاب الإنسان حيالها بداية الأمر، ولكن مع النتائج التطبيقيّة تضحي الأمور أكثر رصانة واتّزانًا، ويتشجّع الباحث لمزيد من المقاربة والدراسة.
وعلى جميع الأحوال فإنّ قانون زيادة مبنى زيادة معنى من القوانين المهمّة التي تفيد في توضيح المرسلة ضمن شكل تفاعليّ، يخلّص النقد من جموده والتحليل من تعليب النتائج.
لا جرم أنّ تحليل النصّ على هوى اللسانيّات النصّيّة يكشف أمام المتلقّي عن نتائج جديدة، نتائج قد لا تفضي بها النظريّات التقليديّة السابحة في رحاب دراسة النصّ الأدبيّ، ومن هذا المنطلق كانت محاولتنا إنجاز التحليل اللسانيّ لهذا النصّ الشعريّ، وقد أفضى التحليل إلى قيم تواصليّة ملهمة وجديدة.
لقد تطوّرت الأحوال ولم تعد اللسانيّات ذلك الدخيل المخيف الذي يدعو إلى الريبة وأن يجنّبه الأكاديميّون العرب في مجال العلوم الإنسانيّة، وهو ما يتوانى عن إثبات نفسه كمعادلة تحليليّة مجدية ونافعة جدًّا في مجالها الحيويّ.
وكانت هذه القراءة اللسانيّة النصّيّة لنصّ شعري لتثبت جدوى هذه المعادلة وأهمّيّتها في استلال نتائج تواصليّة من النصّ مع الجماهير القارئة. وفي نهاية المطاف لا يخطئ الباحث إذا ما حاول أن يجرّب ما يطرأ من نظريّات معاصرة في مجاله التخصّصيّ، فيستزيد علمًا ومعرفة.
المصادر والمراجع
- فخر الدين جودت ، حديقة الستين، دار رياض الريس، بيروت، ط1، 2016.
- دايك فان ، نحو النص، تر: سعيد البحيري، دار توبقال، تونس، ط1، 1998.
- تيودوروف تزفيطان ، المبدأ الحواريّ، تر: فخري صالح، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1996.
- الحسن رقية ، مدخل إلى علم النصّ ومجالات تطبيقه، بيروت، 2010.
- حماوند زكي ، مدارس الفكر اللسانيّ الحديثة، المشورات الثقافيّة، الجزائر، 2019.
- برينكر كلاوس ، التحليل اللغويّ النصّيّ، تر: سعيد حسن بحيري، مؤسّسة المختار، مصر، ط1، 2005.
- مرتاض عبد الجليل ، مباحث لغويّة في ضوء الفكر اللسانيّ الحديث، منشورات ثالة، الجزائر، ط1، 2003.
- عطيّة أحمد عبد الحليم ، جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابيّ، بيروت، ط1، 2010.
- بوقرة نعمان ، لسانيّات الخطاب، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 2012.
- كريديّة هيام ، أضواء على الألسنيّة، دار المنشورات الجامعيّة، بيروت، ط1، 2008.
[1]– أستاذ اللسانيات العربية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية الجامعة اللبنانية وجامعات خاصة أخرى، ورئيس قسم اللغة العربية في مركز علوم اللغة والتواصل كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة الجامعة اللبنانية. إيميل: nasereddine.ali@gmail.com
Docteur en linguistique arabe à la Faculté des Lettres et Sciences humaines, à l’Université libanaise et dans d’autres universités privées. Chef du département de la langue arabe au Centre des sciences du langage et de la communication de la Faculté des Lettres et Sciences humaines, à l’Université libanaise
[2] -هيام كريديّة، أضواء على الألسنيّة، دار المنشورات الجامعيّة، بيروت، ط1، 2008، ص: 11.
[3] – نعمان بوقرة، لسانيّات الخطاب، دار الكتب العلميّة، بيروت، ط1، 2012، ص: 22.
[4] -أحمد عبد الحليم عطيّة ، جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابيّ، بيروت، ط1، 2010، ص: 164.
[5] -عبد الجليل مرتاض، مباحث لغويّة في ضوء الفكر اللسانيّ الحديث، منشورات ثالة، الجزائر، ط1، 2003، ص: 9.
[6] – كلاوس برينكر، التحليل اللغويّ النصّيّ، تر: سعيد حسن بحيري، مؤسّسة المختار، مصر، ط1، 2005، ص:24.
[7] -م ن، ص: 25.
[8]– زكي حماوند، مدارس الفكر اللسانيّ الحديثة، ص: 45.
[9] – رقية الحسن، مدخل إلى علم النصّ ومجالات تطبيقه، ص: 75.
[10] – تزفيطان تيودوروف، المبدأ الحواريّ، تر: فخري صالح، المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1996، ص: 68.
[11]– م ن، ص: 68.
[12] – فان دايك ، نحو النص، 1998، ص6
[13]– دايك، م س، ص: 8.
[14]– جودت فخر الدين، حديقة الستّين، دار رياض الريّس، ط1، بيروت، 2016.
[15]– جودت فخر الدين، حديقة الستين، ص: 29.
[16]– جودت فخر الدين، حديقة الستّين، دار رياض الريّس، ط1، بيروت، 2016.
[17]– جودت فخر الدين، حديقة الستين، ص: 87.
[18]– جودت فخر الدين، حديقة الستين، دار رياض الريس، بيروت، ط1، 2016، ص: 147.