foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

طيف التوحّد بين ذاتيّة الطفل وذاتيّة الأمّ  

0

طيف التوحّد بين ذاتيّة الطفل وذاتيّة الأمّ  

د. مالك العنبكيّ*

إهداء

إلى السيّدة كريستين يارنت، أهدي بحثي هذا، لأنّك مكّنت ابنك التوحّديّ من أن يكون أهمّ عالم فيزياء على الصعيد العالميّ، من كوب ماء كان يملؤه، ويعكس به ضوء الشمس على جدران بيته، كحركة نمطيّة، تشغله لساعات.

إنّها الثقافة الاستثنائيّة، والأمومة المتفانية في هذه الحياة.

لكِ مني كلّ التقدير والاحترام، وإلى شخصكِ الكريم الرفعة والتميّز.

إلى تلك الأمّ التي سمحت لنا بأن نعرف أكثر عن ابنها، تحيّة احترام وتقدير، خصوصًا عندما سافرت إلى خارج لبنان، وأنّ طفلها الذي قد اجتاز المرحلة الابتدائيّة، هو ثمرة لانفتاح ذاتها على ذاته.

انقطعت الأخبار، ولكن أرجو أن يكون الطفل، وأهله سعيدين حيثما هم.

أجمل وصفٍ لطفل توحّديّ من قبل والدته:

التوحّد هو بلّورة من الكريستال، دخلها ابني لتعزله عنّي وعن العالم، وكأنّه من كوكبٍ آخر. فلا نظرة من عينه لعيني، ولا إشارة تصحبني فيها إصبعه، لا لعبة يشاطرها معي الخيال، لا قبلة أشعر بها بطعم الدنيا.

كم تمنّيت أن أكسر تلك البلّورة لأُخرج صغيري منها، أهزّه بعنف لعلّهُ يعود من منفاه التوحّديّ، عندها يأستُ وقرّرتُ أن أخترق البلّورة، وأدخل عالم التوحّد، بحثًا عن ابني.

المقدّمة:

لا شكّ في أنّ التطوّر العلميّ، في مجال العلوم العصبيّة Neurological Science والعلوم النفسيّة Psychological Science، مكّن المتخصّصين من إدراك الكثير من المشاكل التربويّة والتحصيليّة، التي يعاني منها الأطفال، من أهمّ هذه المشاكل هي مشكلة الطفل التوحّديّ.

لو رجعنا إلى التاريخ البعيد نسبيًّا لعام 1747م، لوجدنا مقالات، ومذكرات مارتن لوثر، التي جُمعت في كتاب عنوانه The Table Talk . هذه المذكّرات تتحدّث عن قصّة صبيّ عمره 12 عامًا، كان يُعاني من التوحّد الشديد، ولكن مارتن لم يدرك ذلك، وظنّ أنّ الصبيّ امتلكه الشيطان، ووصفه على أنّه (كُتلة بلا روح)، بعدها انتُقد كثيرًا على هذا الرأي.

ثمّ جاءت قضيّة “هوف بلير” التي تعدّ أقدم قضيّة طُرحت في المحاكم، والتي وثّقت التوحّد، حيث أقام شقيق بلير دعوى لبطلان زواجه لكي يحصل على إرثه عام 1747م، قيل في أسباب الدعوى أنّ بلير غريب ومنعزل.

بعدها جاءت قِصّة موغلي وهو صبيّ غابة بولونيا المتوحّش عام 1998م، وهي غابة في ضواحي باريس، حيث عثرت عليه الشرطة بعد بلاغ من إحدى السيّدات على أنّ هناك صبيّ غريب يمشي على أربعة أطراف قد صادفته عند ممارستها الرياضة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* رئيس قسم العمل الصحّيّ الاجتماعيّ، الجامعة اللبنانيّة، كلّيّة الصحّة العامّة، الفرع الرابع.

وُجد هذا الطفل في كهف تحت رعاية كلبة أنثى، عندها استلمته إحدى المؤسّسات الاستشفائيّة، وقامت بتطبيق برنامج سلوكي ابتكاريّ هدفه تمكين هذا الطفل من اكتساب شيء من اللغة وبعض من المهارات الاجتماعيّة، إلى أن قال أحد المعالجين في هذه المستشفى قولًا شهيرًا نصّه: “لا يوجد طفل متوحّش، هناك طفل توحّديّ”.

أمام تلك الإرهاصات الأوّليّة التي حاولت فهم بعض الأطفال غريبي الأطوار، سواء كانت حقيقتهم توحّديّة أم غير ذلك من الحالات الانعزاليّة، وبعد مرور حوالي 323 سنة من العام 1577م إلى العام 1900م، وهي الفترة الزمنيّة التي استغرقناها نحن معشر البشر وخصوصًا المتخصّصين لكي نفكّر في هذا النوع من الاضطراب.

نحن اهتدينا إلى مصطلح التوحّد Autism، عندما حاول الطبيب النفسيّ “بلويلر” وصف أحد أعراض اضطراب الفصام العقلي، والذي أُطلق عليه مرض الإعجاب بالنفس عام 1915م، ونحن نقول إنّه حدث التباس لدى العالم بلويلر ما بين مصطلح الاستغراق والنرجسيّة المضخّمة.

أضف إلى أن مصطلح Autism والمشتقّ من الكلمة اليونانيّة Autos التي تعني النفس، حيث إنّ مريض الفصام يستغرق في خيالاته وأوهامه الذاتيّة، والتي تجعل من إدراكه لمثيرات العالم الخارجيّ، إدراكًا ضعيفًا إن لم نقل معدومًا، خصوصًا أثناء النوبة الفصاميّة الحادّة Acute Schizophrenic. وفي رأيي، إنّ هذا الالتباس لا زال يراود البعض من المتخصّصين في علم النفس المرضيّ، خصوصًا أنّ مسألة السببيّة الحاسمة التي تفسّر اضطراب التوحّد، لا زالت ضعيفة.

استعار هانز إسبرجر من بلويلر عام 1978م، هذا المصطلح، عندما حاضر يومًا في علم نفس الطفل Child Psychology، وقال فيه تسمية اليوم اضطرابات الطيف الذاتويّ Autism Spectrum Disorder (ASD)، ويُعرف في بعض من أطيافه بمتلازمة إسبرجر. بعدها توالت الدراسات في هذا الاضطراب وأطيافه.

يتّضح ممّا تقدّم، الفهم المتدرّج من قِبل المتخصّصين، خصوصًا في موضوع علم نفس الطفل والوظائف النمائيّة لديه، حيث كان تطوّرًا مهمًّا وإن كان بطيئًا في بداياته الأولى، وذلك لأنّ حركة الاكتشاف، والتشخيص لم تكن فاعلة قبل القرن العشرين، ولكنّها نشطت في منتصفه، عندها رأينا تلك الأطياف المتعدّدة للتوحّد، ومنها اضطراب Ret الذي هو اضطراب نمائيّ حادّ نراه في السنة الأولى من حياة الطفل، واضطراب Asperger، وهو اضطراب نمائيّ تراجعيّ يظهر أحيانًا في عمر الخمس أو الستتّ سنوات من عمر الطفل، ثمّ يبدأ بخسارة بعض ما اكتسبه من وسائل التواصل تدريجيًّا، كاللغة والتعابير الانفعاليّة، وبعض المهارات الاجتماعيّة، وبعض مهارات اللعب مع الأطفال. وهناك اضطرابات يمكن أن أسمّيها تائهة من ناحية التصنيف بين طيف التوحّد، واضطرابات التخلّف العقليّ مثل اضطراب الطفولة اللااندماجيّ ( DSM 4+5 وكذلك ICD10). (APA, 2003)

إنّ أغلب المصادر التشخيصيّة في علم النفس، تؤكّد على أنّ طيف التوحّد هو ضمن مجموعة الاضطرابات النمائيّة الشاملة، التي تتمحور أعراضها بتلك المشاكل في اللّغة، المعرفة، والمهارات الاجتماعيّة. مع تأكيدنا على وجود تمايز في بعض الأعراض، من توحّديّ إلى آخر، ولكن المشترك من الأعراض هو الأساس.

  1. أهمّيّة الموضوع:

من خلال ما تقدّم، نجد أنّ الالتباس في الفهم الحاسم لاضطراب التوحّد لا زال قائمًا، وإن كان ذلك بدرجة أقلّ مقارنة بالقرون الماضية (Me part Land ,J.C, 2012)، على أمل أن يُخفّف هذا البحث النوعيّ شيئًا من هذا الالتباس. كذلك فإنّ مسألة انتشار اضطراب التوحّد وغيره من الاضطرابات النمائيّة التي كانت مدار بحث من قِبل الكثير من العلماء (Fomhonn ,E, 2002)، حدت بنا إلى البحث في منظومة من منظومات التوحّد ألا وهي الأسبرجر.

إنّ تأهيل هذا النوع من الاضطراب يعتريه شيء من الالتباس، ناتج عن مشكلة الدقّة في التشخيص، وكذلك الخلط الذي يحصل في بعض المؤسّسات التي تُعنى بذوي الاحتياجات الخاصّة من ناحية البرامج المقدّمة. حيث نجد أنّ البرنامج التربويّ الذي يُقدّم إلى أطفال متلازمة داون مثلًا هو نفسه المُقدّم إلى الأطفال التوحّديّين. وهذا ما تمّ لمسه لدى بعض المؤسّسات التي عملنا ودرّبنا طلابنا فيها.

كذلك فإنّ الأهمّيّة أيضًا هي في ظهور حركة لدى بعض التوحّديّين، في أن يتركهم الباحثون وشأنهم، لأنّهم قادرون على تنظيم وجودهم في هذه الحياة. لذا، نشأت منظمة دوليّة من أشخاص ترفض النظر إلى التوحّد على أنّه مرض، بل عدّهم أشخاصًا لهم طريقتهم في العيش في هذه الحياة.  (Solomon, A, 2008)

  1. أهداف البحث:

يمكن تلخيص أهداف البحث في ثلاث نقاط أساسيّة:

  1. محاولة فهم أكثر لأحد الجوانب، وتحديدًا العلّيّة، أو السببيّة لبعض أطياف التوحّد، وتحديد اضطراب إسبرجر Asperger.
  2. محاولة تأطيريّة للعلاقة بين الأمّ وطفلها التوحّديّ، لأنّ الأمّ أقرب إلى الطفل، وبالتالي فإنّ عمليّة التأهيل مبتدؤها الأمّ.
  3. إعطاء الثقة للمتخصّصين النفسيّين ليكونوا حاضرين في ميدان تأهيل الطفل التوحّديّ، من خلال إشراكهم بالخبرات التي تمّ اكتسابها من قِبلنا في هذا الميدان.
  4. الدراسات ذات العلاقة:

لا شكّ في أن أغلب الدراسات السببيّة الحديثة عن طيف التوحّد تُركّز على الجانب الوراثيّ البيئيّ، أمّا الدراسات التي لها علاقة بالجانب النفسيّ والتربويّ الاجتماعيّ للتوحّد فقد بقيت في موقعها القديم، أي منذ عصر الالتباس ما بين التوحّد، والفصام العاطفيّ، أو الوسواس القهريّ، أو الحركيّة الزائدة ADHD في البعض من الدراسات.(Fein D, and others; 2005,35)

أمّ الدراسات التي لها علاقة بالأمّ وطفلها التوحّديّ، فقد ركّزت على أمراض الأمّ أثناء فترة الحمل، ومدى تأثيرها على إصابة الطفل بالتوحّد. ومهما يكن من أمر، فإنّ الدرسات السببيّة الوراثيّة والعضويّة تركّز على الخلل الذي يصيب الجهاز العصبيّ المركزيّ، وهناك دراسات تحدّثت عن منظومة الكروموسومات الناتج عن الخلل في ترتيب الجينات الوراثيّة (Johansson M; and Others, 2006,48) . وقد أكّد على ذلك مكتشف أحد أنواع طيف التوحّد، وتحديدًا اضطراب إسبرجر، الطبيب هانز إسبرجر، حيث لاحظ انتشارًا دالًّا على هذا الاضطراب في عائلات الأطفال التوحّديّين، وتحديدًا اضطراب إسبرجر، بملاحظته لبعض الأعراض البسيطة، ولكنّها مشابهة لأعراض هذا الاضطراب لدى آباء التوحّديّين، منها صعوبات بسيطة في مهارات التواصل الاجتماعيّ وبعض الصعوبات اللغويّة.(Johansson M,2006)

هناك دراسات تؤكّد على الاختلال السيروتينيّ الوظيفيّ في المخّ، وهو أحد الموصلات المُهِمَّة في الدماغ، أضف إلى أن دراسات أخرى تؤكّد على تعدّد حجم الدماغ لدى التوحّديّين مقارنةً بأمثالهم من الأطفال الأسوياء.

أمّا الدراسات التي بحثت في الجانب السببيّ البيئيّ، وأثره في حدوث التوحّد، نذكر منها تلك التي تحدّثت عن دور السموم في ازدياد هذا الاضطراب، وخصوصًا المبيدات التي ترشّ على الخضروات، وتحديدًا مادّة DDT. (المجلّة الأمريكيّة لعلم النفس، 2018، AJP). هذه الدراسة أُجريت عام 2007م على الأمّهات اللواتي يسكنّ قرب المناطق الزراعيّة المرشوشة بالمبيدات الحشريّة وقد شملت عيّنة 465 طفلًا، وكان التركيز على فترة الحمل ومساره في تلك المزارع البيئيّة الزراعيّة. استخلصت الدراسة أنّ الأمّ الحامل التي تسكن بالقرب من المناطق الزراعيّة التي يتمّ فيها رشّ المبيدات الحشريّة، وقد أكلت هذه الأمّ الحامل من هذه المنتوجات المرشوشة، هناك احتمال أن يتأثّر الجنين، خصوصًا في الثمانية الأسابيع الأولى من الحمل، بنسبة ترتفع بستة أضعاف مقارنةً بالأمّهات اللاواتي حبلن في أماكن بعيدة عن هذه المناطق الزراعيّة المرشوشة بالمبيدات، ولم يتناولن من الخضروات المعالجة بمادّة DDT. لهذا فقد حُظرت هذه المادّة الكيميائيّة في بعض دول العالم.

كذلك في الجانب البيئيّ، هناك دراسات عن الموادّ الحافظة في البعض من المعلّبات الغذائيّة، وأخرى لها علاقة باللقاحات التي تُعطى باكرًا للطفل، ولكن منظمة الأغذية العالميّة لم تؤكّد الدراسات الأولى، وكذلك منظّمة الصحّة العالميّة لم تؤكّد الدراسات الثانيّة، على الرغم من وجود دراسات لها علاقة بالتلوّث الهوائيّ لا يسع المجال لذكرها.

هناك دراسات يمكن تسميتها بالبينيّة، أي إنّها لا تنتمي إلى الدراسات الوراثيّة، أو البيئيّة، أو النفسيّة الاجتماعيّة، منها دراسة صادرة عن جامعة آيوا الأمريكيّة، نُشرت في المجلّة العلميّة الإلكترونيّة (Jama Network Open) عن بعض الأمراض التي يصاب بها التوحّديّين، مقارنةً بالأطفال الأسوياء من أعمارهم، التي وجدت أنّ أمراض الحساسيّة التنفسيّة، والجلديّة، والغذائيّة تتوارد لدى هؤلاء الأطفال مقارنةً بالأطفال الأسوياء.

هذه الدراسة أُجريت على آلاف الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 3 إلى 17 سنة، وعلى فترةٍ زمنيّة ممتدّة من العام 1997م إلى العام 2016م، حيث وجدت أنّ أطفال التوحّد لديهم حساسيّة لبعض الأطعمة بنسبة 11.28% مقارنة بحساسيّة الطفل العاديّ التي تُقدّر نسبتها بـــ 4.25%، كذلك فإنّ نسبة 18.73% من التوحّديّين يعانون من حساسيّة تنفسيّة مقابل 12.08% من الأطفال العاديّين. وأنّ نسبة 16.81% من التوحّديّين لديهم حساسيّة جلديّة مقارنةً بـــ 9.84% من العاديّين.

المشكلة في هذه الدراسة أنّها لم تحسم في ما إذا كان الجهاز المناعيّ هو السبب في حدوث التوحّد، أم أنّ التوحّد هو السبب في ضعف الجهاز المناعيّ.

أمّا الدراسات النفسيّة عن التوحّد، فقد تمحورت في الدراسات السببيّة، والدراسات التأهيليّة، فالأولى كانت دراسات تحليليّة نفسيّة للعلاقة بين التوحّديّ وأمّه، ونذكر في ذلك دراسات العالمة النفسيّة ميلاني كلاين، التي قدّمت في موضوع التوحّد، عبر مقالٍ نُشر في ثلاثينيّات القرن الماضي تحت عنوان “أهمّيّة الرمز في تكوين الأنا”، هذا المقال كان خلاصة متابعة لطفل توحّديّ يبلغ من العمر أربع سنوات، حيث أكدّت على أهمّيّة الرموز الذهنيّة في حياة الأطفال، ومنهم الأطفال التوحّديّين. (Klein, M, 1947).

إنّ الطفل الذي تابعته ميلاني، كان لا يبالي بغياب أو بوجود والدته، شحيح العواطف، لم يظهر أيّ اهتمام لمن حوله أو لبيئته. ميلاني كانت متفاجئة باللامبالاة، التي يبديها هذا الطفل للأشخاص من حوله أو للأشياء، ولكن كان يهتمّ وينتبه وينبهر، على حدّ قولها، بالقطارات، وقبضات الأبواب، وأقفاله،ا وإلى فتح الأبواب، وإغلاقها على أنّها تُعبّر عن اختراق القضيب في جسد الأمّ، فالأبواب وفتحاتها تمثّل المداخل والمخارج الخاصّة بجسد الأمّ، بينما تمثّل قبضات الأبواب قضيب الأب.

نحن لا نتّفق معها على هذا الاستنتاج، ولكن نتّفق على مسألة أهمّيّة الرمز في تكوين الأنا، لأنّه مُكوّن ذهنيّ، وهذا ما يفتقده التوحّديّ، وأنّ السلوكيّات التي يقوم بها الطفل هي من النوع النمطيّ المشخّص عالميًّا من قبل المتخصّصين.

أمّا (1971) Winnicott فتحدّث عن تجارب الانفصال التي يعيشها البعض من الأطفال الذهانيّين والتوحّديّين، الذي يصيبهم بما سمّاه بقلق الزوال الأوّليّ، حيث يسبب معاناة شديدة لهؤلاء الأطفال تتمثّل بتجارب الانفصال، سواء كان هذا الانفصال عن الواقع في بُعده الذهانيّ، أو الانفصال عن حضن الأمّ في بُعده التوحّديّ. إنّ قلق الانفصال الأوّليّ قد يؤدّي إلى العزلة، وهذا الأمر سيعيق حتمًا التطوّر في النموّ لدى الأطفال الذين يعانون، ومنهم التوحّديّين. إنّ أفكار Winnicott وتحليله النفسيّ لهذه الاضطرابات نؤيّدها، وفقًا لخبرتنا في هذا المجال، “مجال للعلاج النفسيّ مع الذهانيّين، والأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة”.

نزيد على ما ذُكر أعلاه، أنّ الأطفال التوحّديّين ربّما يعيشون تجارب الهجر، وخصوصًا هجر حضن، أو ذات الأمّ، الذي يمكن أن نسمّيه الهجر النفسيّ. وتأتي هنا أسئلة عدّة في هذا المجال، من المسؤول عن ذلك؟ الأمّ أو التوحّديّ أم كليهما؟ من المبتدئ في الهجر ومن خبره؟ سنحاول الإجابة عن ذلك، مع اللاحق من الأفكار.

أمّا في خصوص الدراسات التأهيليّة للتوحّديّين فهي كثيرة، منها الدراسات الإيطاليّة التي صدرت عن قسم علم النفس والعلوم المعرفيّة في جامعة Trento الإيطاليّة، التي ركّزت على أهمّيّة اللّعب بين الأمّ والتوحّديّ في تطوير المهارات الحركيّة، والمهارات، والمعارف الاجتماعيّة. الدراسة كانت مقارنة بين ثلاث مجموعات، 25 توحّديًّا، و25 تناذر داون، و25 طفلًا سويًّا. حُلّلت النتائج إحصائيًّا وأكّدت على أهمّيّة اللعب وأهمّيّة الأمّ في تطوير نشاط الطفل كمًا ونوعًا. (Ariana Bentenuto and Others, 2016).

نحن نؤكّد على أهمّيّة اللعب ما بين الأمّ وطفلها التوحّديّ لأنّه يُعزّز التماس الحسي الجسدي، وهو نافذة من نوافذ التواصل التي يفتقدها. كذلك فإنّ اللعب يُبعد توجّه الطفل نحو السلوك النمطيّ ذي الحركة النمطيّة المكرورة، أضف إلى أنّه يُعزّز الثقة بين الطفل وأمّه. ونؤكّد أكثر على أهمّيّة التدريب الإيقاعيّ القائم على الموسيقى الإيقاعيّة في تعزيز انتظام حركة الطفل التوحّديّ، وهذا “التكنيك” التأهيليّ يمكن أن يكون في المنزل، أو في مدارس الدمج.

لقد صدر عن هيئة الإرشاد، والأبحاث الأمريكيّة عام 2001م، بحثًا يتعلّق في مهارة التدريب الإيقاعيّ وأهمّيّته في تعديل السلوك لدى التوحّديّ خصوصًا السلوك النمطيّ غير المقبول اجتماعيًّا.(National Research Council, 2009). ذهبت دراسات أخرى في إبراز أهمّيّة العلاج الفيزيائيّ للطفل ذي الطيف التوحّديّ (Shefali Sabharajak,2013). وهناك دراسات أكّدت على العلاج باليوغا للأطفال التوحّديّين (Koenig KP; and others, 2012).

لا نريد الاسترسال في ذلك، ولكن هذه الإبحاث كلّها كانت تحاول تحسين نوعيّة الحياة لهذه الفئة من الأطفال، وهي حتمًا مفيدة في ذلك. وما التجربة التأهيليّة في مدينة كاليفورنيا التي استشعرت ذلك التزايد لهؤلاء الأطفال، إلاّ خطوةً مُهِمَّة في الفهم والتنظيم الشموليّ لوظيفة التوحّديّين. (Groan LA; and Others, 2002)

  1. إشكاليّات البحث:

يمكن تحديد إشكاليّتنا في التساؤل المحوريّ هو في ما إذا كان اضطراب التوحّد ناتجًا من عدم تمكّن ذات الطفل التوحّديّ من إدراك ذات الأمّ لسببٍ أو لآخر.

يتبع هذا التساؤل تساؤلات فرعيّة في ما إذا كان التوحّد حالة من حالات الانكماش الأوّليّ الناتج عن بعض ردّات الفعل الأوّليّة، على وضعيّة من المعاناة البدائيّة؟ وهل التوحّد، نوع إسبرجر، ناتج عن الهجر النفسيّ البدائيّ الذي عايشه الطفل في الشهور الأخيرة من الحمل ولحدود السنة الخامسة بعد الولادة؟ وإذا كان ذلك، فمن المسؤول؟ الأمّ أم التوحّديّ أم كليهما؟ أي من المُبتدئ في الهجر ومن خبره؟

أمّا في خصوص مسألة التأهيل، فالتساؤل هو في مسألة الصعوبة التواصليّة التي يجدها الكادر المتخصّص في بناء علاقة بينه وبين التوحّديّ، فهل هذا ناتج عن ذلك التاريخ من الفشل الذي عاناه التوحّديّ في إدراك حضن الأمّ والانتماء إليها؟

  1. المنهج المتّبع:

هذه التساؤلات سنحاول الإجابة عنها من خلال خبرتنا العياديّة النفسيّة على مدى سنوات في مستشفى دار العجزة الإسلاميّة، وخبرتنا أيضًا مع اتّحاد المقعدين، والجمعيّة اللبنانيّة لذوي الاحتياجات الخاصّة في جنوب لبنان التي أصبحت حاليًّا تحت اسم جمعيّة التمكين لذوي الاحتياجات الخاصّة. معزّزين الخبرة العلاجيّة الميدانيّة بنموذج حالة لطفل توحّديّ من نوع اضطراب إسبرجر، كان يبلغ من العمر سبع سنوات عندما تابعناه مع بقيّة التوحّديّن الذين كانوا متواجدين في مركز تمكين لذوي الاحتياجات الخاصّة، وهذه الحالة هي من أرشيف الباحث.

منهجنا هو منهج البحث النوعيّ العياديّ، مع الاستناد على القاعدة المعرفيّة العياديّة في هذا النوع من الحالات.

  1. التحليل المفاهيميّ للمعطيات الميدانيّة:

في المؤسّسات التي عملنا بها، كنّا مسلّحين بأدوات تشخيصيّة لذوي الاحتياجات الخاصّة، أمّا في خصوص اضطراب التوحّد وبقيّة الاضطرابات، فكانت وسائل التشخيص تستند إلى الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات العقليّة DSM-3-R)  النسخة الثالثة المنقّحة(، مع التصنيف الدوليّ العاشر للأمراض ICD-10، واختبارات طيف التوحّد (مراجع سابقة).

إنّ الحالة التي سنطرحها في هذا البحث هي من مجموع خمس عشرة حالة توحّديّة، أو ذات طيف توحّديّ، منها أربعة حالات انطبقت عليها معايير تصنيف إسبرجر عن الأنواع الأخرى لطيف التوحّد. كما أنّ اختيارنا لهذه الحالة هي إضافة لانطباق معايير تشخيص الإسبرجر، هو في ذلك التعاون الخلاق الذي أبدته والدة هذه الحالة، وإلى تلك الثقافة التي تمتلكها في الوصف الدقيق لتاريخيّة نشوء طفلها التوحّديّ وتطورها.

طفل يبلغ من العمر ثماني سنوات، ينتمي إلى أسرة متوسّطة الحال، لديها طفلتين وطفل ثالث، بالإضافة إلى الطفل موضوع التماسنا، هذا الطفل هو الأكبر بين أخوته، حيث أخته من بعده تصغره بثلاث أو أربع سنوات. الأمّ هي التي تهتمّ برعايتهم التامّة، أمّا الأب فهو يعمل خارج لبنان منذ ثماني سنوات، وهو كان يحضر إلى لبنان مرّة كلّ سنة. لذا يمكننا القول، إنّ الطفل لم يتمكّن من العيش تحت كنف والده، حتّى في الثلاثة أشهر الأولى من الولادة لم يكن الأب موجودًا.

نشأ الطفل كأقرانه من الأطفال، واكتسب اللغة، والحركة، والتواصل كغيره من الأقران، ودخل المدرسة الابتدائيّة بعمر السادسة، أمّا في عمر السابعة فقد بدأ لديه تراجع في ما اكتسبه من لغة ومهارات تواصل، ولكن ليس تراجعًا كليًّا إنّما ملحوظًا ودالاًّ، وبدأ بعدها تراجعه المدرسيّ في اكتسابه لبعض المعلومات الحسابيّة، وكذلك ظهر لديه سلوك منمّط، وهو هزّ الجسم إلى الخلف وإلى الأمام. أُجريت له بروتوكولات التشخيص كافّةً، وتمكّنّا من استخلاص  منظومة الأعراض التالية:

أوّلًا: الضَعف في مهارات التواصل الاجتماعيّ، يترتّب عليه خلل في فهم الآخر، وخلل في التواصل الإيمائيّ (التواصل بالنظر)، تقلّبات بالعواطف، أو عواطف سطحيّة، لديه التباس في عيش الفرح أو الحزن (مشاعر سطحيّة).

ثانيًا: لديه ضَعف في الوظائف الحياتيّة اليوميّة، وتحديدًا المهارات اللازمة لكي يتحرّك باستقلاليّة، وكذلك في إنجاز بعض الوظائف الجسديّة (حمل أو نقل شيء…).

ثالثًا: حركات مكرّرة، وهي أنماط سلوكيّة (يُحرّك الجسد إلى الأمام وإلى الخلف ولفترةٍ من الزمن).

رابعًا: لديه مخزون من اللغة يمكّنه من التعبير عن بعض الاحتياجات، ولكن هذه الاحتياجات يمكن أن يعبّر عنها الأطفال الذين يصغرونه بثلاث أو أربع سنوات بسهولة. كذلك في لغته أحيانًا شيء من التسارع، أو شيء من المخارج الصوتيّة المُتشنّجة. يستخدم مفردات قليلة في التواصل مثلًا، إذا أراد أن يشرب، يُسمع أمّه كلمة ماء فقط، ولا يقول: ماما أريد أن أشرب، أي استخدامه للجمل ضَعيف جدًّا، لكن لديه مخزون من الكلمات – المفردات. وهي ميزة أساسيّة لإسبرجر.

خامسًا: الإدراك لديه نسبيّ، أي إنّه غير معدوم، ما يعني أنّ الذي اكتسبه من قدرات إدراكيّة لم يخسرها كلّها كبقيّة أطياف التوحّد. وهذه ميزة أساسيّة للإسبرجر.

إنّ الملاحظة العياديّة، هو أنّ هذا الطفل يدرك الأشياء من حوله، ولكنّه غير قادر على التواصل معها، وهذه مسألة مُعقّدة لدى التوحّديّ، نوع إسبرجر.

سادسًا: تقلّبات في المزاج، وفي المشاعر، ناتجة عن ضَعف قدرته على التعبير عمّا يشعر به، وخصوصًا عن الأشياء التي يحبّها.

التفسير:

إنّ الطفل موضوع البحث، كانت فترة الحمل للأمّ به طبيعيّة، وكذلك الولادة. وُلد بصحّةٍ جيّدة لا يشكو من أيّ أمراض فارقة سوى تلك التي يُصاب بها الأطفال. تواصله اللغويّ كان جيّدًا، وكان يألف حضن أمّه.

مرّ هذا الطفل بحالات انفعاليّة شديدة عندما أنجبت أمّه أخته الأصغر منه، وذلك بعد مرور أربع سنوات من عيشه في أحضان أمّه منفردًا، ويكاد أن يكون وحيدًا معها في المنزل، وذلك بسبب سفر الأب (سنتطرّق لاحقًا إلى مسألة الاستحواذ، والمنافسة على حضن الأمّ).

اضطرّت الأمّ للعمل بعد ولادة طفلتها، فأوكلت مَهّمَّة الاعتناء بأولادها إلى جدّتهم من ناحية الأب. تعترف الأمّ ببعض التقصير تجاههم، ولكن لا شكّ في أنّ ذلك قد أثّر على وضع ابنها النفسيّ. بعدها التحق ابنها بالمدرسة، وتمّ تسجيله في الصفّ الابتدائي الأوّل بعمر الستّ سنوات. هنا شكلّت له هذه المرحلة الانتقاليّة أزمة، حيث كان يرفض الذهاب، ويعبّر عن ذلك بالبكاء، والتشبّث بملابس أمّه. تقول الأمّ إنّ هذا الأمر “عاديّ”، ويحصل عند أغلب الأطفال، ونحن نقول ذلك، ولكن لنا رأينا العياديّ أيضًا.

عندما تعمّقت بالحوار مع الأمّ سائلًا إيّاها عن حوادث صادمة، أو مفاجئة قد تعرّض لها طفلها،أجابت بعد صمتٍ “يومًا كنتُ أنتظر ضيوفًا على العشاء، وقبل وصولهم حاولت أن أرتّب ستارة الصالون فسحبتها بسرعة محدثةً صوتًا، وكان طفلي بجواري، فصرخ مذعورًا محاولًا الهروب من غرفة الصالون إلى غرفته، فأمسكته واحتضنته، لكنّه كان يرتجف، وبعد أن هدأ طلب النوم في فراشه دون الرغبة في تناول العشاء مع الضيوف. فذهب ونام طيلة الليل بهدوء. وعند استيقاظه صباحًا، شعرت أنّ ابني قد تغيّر، يميل إلى السكوت، قليل النظر إليّ، يحاول الهرب من حضني، وطلباته قليلة. كان ذلك عندما كان يبلغ من العمر ست سنوات ونصف، إلى أن ساء وضعه في عمر السبع سنوات والتقيته في عمر الثماني سنوات”.

بعد هذا الحادث، أصاب الطفل تراجعًا في مهارات التواصل، وكذلك في اللغة، والإدراك، ولكن بصورةٍ أقلّ، والانحدار في منظومات النموّ كان تدريجيًّا. خلال فترة ستة أشهر بعد هذه الحادثة، لم يتمكّن الاختصاصيّون من تشخيصه بدقّة، إلى أن تمّ تشخيصه في عيادة أحد النفسانيّين بالتوحّد، وأضفت له تشخيصًا هو التوحّد – نوع إسبرجر، بعد تطبيق الاختبارات ذات الصلة.

لا شكّ في أنّ الصوت الذي أحدثه سحب الستارة، كان المُفجّر، ولكنّه لم يكن السبب. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل التوحّديّين كانوا قد مرّوا بصدمات سابقة غيّرت مسارهم النمائيّ مثلما قد حصل مع هذا الطفل؟

حاولنا البحث في المصادر والمراجع المتخصّصة بالتوحّد (Shattuck, PT, 2006)، لم نجد للصدمات مكانًا في التفسير السببيّ، ولكن وجدنا دراسات عن حساسيّة التوحّديّ حيال بعض المثيرات الضوئيّة، والصوتيّة، أو المثيرات التدخليّة.

إنّ تفسيرنا يستند إلى التشخيص العياديّ الملتمس من حياة هذا الطفل، وعلى قواعد الاستناد المعرفيّ، كمفهوم ميلاني كلاين عن قلق الانسحاق، أو الفناء الوجوديّ الذي يعاني منه بعض الأطفال (مصادر سابقة). وكذلك ما جاء به Winnicot عن قلق الزوال الأوّليّ، حيث تقاربت أفكاره مع أفكار كلاين (نجد ذلك في الكثير من كتبه). وبما جاء به( Roussillon R,2003) في فكرته عن عودة الطفوليّ عند تفسيره لمفهوم بعض الاضطرابات النفسيّة.

انطلاقًا من أنّ بعض التصنيفات الفارقيّة التي تؤكّد على وجود أعراض القلق والاكتئاب لدى التوحّديّ ذكر ذلك، Kanner, 1943))، مكتشف التوحّد عندما شرح الاضطرابات الانفعاليّة عند الاطفال التوحّديّين، وكذلك آخرون. وبما أنّ اضطراب إسبرجر غالبًا ما يحدث بعد العام الرابع للطفل، عندما يكون قد اكتسب شيئًا من مكتسبات النموّ، وبما أنّ هذا الاضطراب يحدث أيضًا عند الراشدين.

وانطلاقًا من ذلك كلّه، يمكننا أن نتحدّث عن القلق في البِنية الشخصيّة لهذا الطفل التي تفجّرت في هذا الحادث العرضيّ (سحب الستارة). إنّ المنطق النفسيّ العياديّ، يقول إنّ تاريخيّة هذا الطفل قد مرّت بمنعطفين أساسيّين، ولكنّهما خاضّين (شديدين). منعطف الولادة والتنشئة بلا حضن الأب، وما للأب من أهمّيّة في بناء ذات الطفل، وتلبية حاجاته من الأمان، التي مهما حاولت الأمّ أن تُعوّض، فهي غير قادرة، أو قد تعوّض جزئيًّا. وهناك احتمال أن تكون قد تأسّست فجوة، أو فراغ في بِنية هذا الطفل وشخصيّته. أمّا المنعطف الثاني فهو في ولادة أخته عندما كان يبلغ من العمر أربع سنوات، هذه الولادة التي أزعجته كثيرًا. وهنا يمكننا التحدّث عن قلق الانفصال القهريّ عن حضن الأمّ الذي امتلكه هو وحده مدّة أربع سنوات دون منازع حتّى من الأب نفسه (لغيابه)، عبّر الطفل عن ذلك بصراحة، ولكن بعد ذلك صمت وكبت، حتّى الأمّ في بعض أقوالها صرّحت بأنّ طفلها كثير المشاجرة مع أخته التي حلّت محلّه، ولكنّه على علاقة لا بأس بها مع أخته الأصغر وأخيه. ولدى سؤالها عن التصرّفات التي يلجأ إليها مع أخته غير الشجار، قالت الأمّ إنّ الشجار خفّ مع الوقت، ولكنّ العلاقة بقيت باردة، ويتجنّب اللعب معها. إذًا من نتائج (احتلال) أخته لحضن أمّها، هو في شعوره أنّه مطرود ومكبوت، لذا فهو حتمًا يكون قد تألم نفسيًّا على فترة الأربع سنوات اللاحقة. ثمّ دخل في منظومة شخصيّة سلوك التجنّب، وهذا السلوك مقدّمة لميول العزلة، أو الانكفاء نحو الذات لدى هذا الطفل التي هي غير ناضجة حتمًا.

هذان المنعطفان العالقان في شخصيّته، شكّلا له منظومة من الأطياف القلقيّة، منها قلق الانفصال عن رحم الأمّ، يتبعه قلق الاتّصال بالأب عندما يأتي زائرًا، وقلق الحرمان من الأب في السنوات الثلاث الأولى من عمره، ثمّ قلق هجر حضن الأمّ القسريّ بولادة أخته، الذي يتضمّن أيضًا مشاعر الحرمان. هذه المنظومة من الممكن أن تكون قد جذّرت في ذات الطفل ميول الانفصال عن المحيط، والانكفاء نحو الذات، وهذه هي الإرهاصات الأوّليّة لأعراض التوحّد. السؤال هنا ما علاقة الحادث المُفجّر(حادث سحب الستارة)؟ نقول: إنّه مجرّد صاعق إن صحّ التعبير، فجّر مخزون شخصيّته المُثقل بالتساؤلات المقلقة (كان يسأل أمّه عن ابيه أين هو؟ متى يأتي؟).

تكلّم في هذا الأمر Roussillon عن عودة الطفوليّ، هذه العودة الناتجة عن الشعور بالحرمان، والمعاناة المؤلمة، ومن ثَمَّ الإحباط. وبما أنّ ذلك ينطبق على الطفل القلقيّ، والطفل مشروع الفصام العاطفيّ المستقبليّ، ولكن ربما ينطبق على بعض أطفال طيف التوحّد، وخصوصًا أطفال إسبرجر، الذين اكتسبوا شيئًا من الخبرات، ومن ثَمَّ خسارة بعضها. إنّ الصدمة التي جعلت الطفل يرتدّ وينكص (من النكوص) هو في حدّ ذاته محاولة لحماية الذات من شرّ المعاناة التي أحدثتها المنظومة القلقيّة في شخصيّته. إذًا هي بحدّ ذاتها، محاولة انكماش أوّليّة ناتجة من بعض ردّات الفعل الأوّليّة، على وضعيّة المعاناة التي عاشها الطفل، وهذا جزء من الإجابة على إشكاليّتنا الفرعيّة الأولى.

أمّا في مسألة الإشكاليّة التي تتحدّث عن الهجر النفسيّ البدائيّ (مصطلح شخصيّ أي إنّه مصطلح مبتكر)، فقد وجدنا أنّ الأمّ في طبيعتها قليلة الكلام، وقد يكون الطفل، عندما كان جنينًا، قد افتقر إلى المنبّهات المطمئنّة، وهو في عمر الثمانية أشهر في رحم أمّه. أغلب الأبحاث الحديثة تؤكّد أنّ الجنين لديه ردّات فعل، أو استجابات لصوت الأمّ وبعض الأصوات من حوله في المراحل الأخيرة من الحمل. أضف إلى أنّ الأمّ لم تكن قادرة على احتواء أثر غياب الأب عن المنزل، أو الإجابة المطمئنة عن أسئلته المتكرّرة، ما جعل الأب في ذهن الطفل بعالم المجاز المحيّر والدائم، وهذا وضع نفسيّ متعب لذات الطفل، ومربك لخبراته الفكريّة. نجد مقاربات لهذه الأفكار، في المقال الذي نشره وولف وزميله نوب (Wolf LC; Nob S, 1989)، في دوريّة التوحّد، عن التأثيرات النفسيّة للإحباط الذي يعيشه الأبوان مع أطفالهم التوحّديّين.

لهذا، فإنّ الطفل قد اختصر عالمه بعالم الأمّ، وأذاب ذاته بذاتها، وهذا أمر مفهوم عند الطفل الوحيد مثلًا، وهو وحيد في بداية الأربع سنين من عمره. هذه الوحدة الذاتيّة قد هُدّدت بمجيء أخته الأصغر منه. نجد ذلك عند الطفل العاديّ، فكيف بالنسبة إلى طفل فاقد الأب. نعم، إنّ انفصاله العاطفيّ القسريّ عن مملكة حضن الأمّ، ربما شكّل له صدمة عاطفيّة مهّدت استباقيًّا لحالة النكوص، التي يتميّز بها طفل الإسبرجر، وهي حالة من الخسارة لما اكتسبه من قدرات تكيفيّة في بداية حياته، ثمّ توالت مشاغل الأمّ وإنجابها، وتكفّل جدّتهم بالتربية المؤقّتة، كلّ ذلك مهّد لتكوين ذات مُهدّدة، وغير مطمئنة وربّما يائسة. وما كانت صدمة الستارة، إلاّ صاعقًا مفجّرًا لمجموعة من التراكمات.

إنّ تراجع الإسبرجر إلى وضعيّة نكوصيّة أوّليّة، هو في حدّ ذاته سلوك حماية، ولكن حتّى هذا السلوك لم ولن يسعفه، لأنّ ذاته التي لجأ إليها بحدّ ذاتها هي ذات منتقصة التكوين، وضعيفة الإدراك لمتطلباتها الحياتيّة، هي ذات حتمًا تعاني من الهجر النفسيّ. هذا الأخير يستحيل أن يمكّن الذات من إدراك ذوات الآخرين، وحتّى الأقربين، مثل ذات الأمّ مثلًا. ومن هنا، يمكن تفسير إشكاليّات التواصل لدى التوحّديّ. لأنّ ذلك يشكّل له خللًا في إدراكه لمهارات التواصل الاجتماعيّ، ناتج عن خلل في إدراك احتياجات ذاته هو.

كذلك فإنّ ما تقدّم، يفسّر الضَعف في إنجازه لوظائفه الحياتيّة اليوميّة، لأنّ الانسحاب الذي حصل لديه، كان انسحابًا شبه كلّيّ، وهجرًا شبه دائم، وما تبقى لديه من شظايا الواقع هي فواصل من هنا، ونقاط من هناك، وبعض الكلمات والجمل، وشيء من الإدراكات التي يجب العمل على تطويرها في البرامج التأهيليّة لهؤلاء الأطفال. (راجع في هذا الخصوصSallow Go; Grouper, TD, 2005 حيث تحدّثا عن العلاج المُكثّف للأطفال التوحّديّين).

إنّ الاستنتاجات من التحليلات السابقة للأحداث التي مرّ بها الطفل والتي أدّت به إلى هذه الحالة، تؤكّد إشكاليّتنا الرئيسة وهي أنّ اضطراب التوحّد، وتحديدًا نوع إسبرجر، ناتج عن ذلك الضَعف في الإدراك بين ذات الطفل، وذات أمّه، مضاف إلى ذلك ذات الأب الغائبة التي أثّرت على قدرة الأمّ من أن تُقدّم ذاتها لطفلها، وبوضوح ليس تقصيرًا، ولكن انشغالها في رعاية حياة كريمة وتأمينها لأخوة هذا الطفل.

أمّا في خصوص الإشكاليّة التي لها علاقة بالتأهيل، وتحديدًا بتلك الصعوبة التي يجدها المتخصّص في بناء العلاقة مع الطفل التوحّديّ. فنحن وبناءً على المعطيات الميدانيّة، نرى أنّ الطفل التوحّديّ غير قادر على إدراك ذات الأمّ، من الصعوبة عليه أن يُدرك ذوات الكادر المتخصّص. لقد تحدّث بشوك وزميله (Pshuk, NG, Stukan LV, 2015) عن العلاقة المستقبليّة ما بين الأمّ وطفلها التوحّديّ، التي نُشرت في المجلّة الأوروبيّة للطبّ العقليّ، الذي تؤكّد عليه في مسألة التأهيل الناجح الذي يبدأ من الأسرة وتحديدًا الأمّ.

لهذا، وانطلاقًا من هذه الفكرة، يمكن القول إنّ وجود الأمّ في حياة الطفل، وخصوصًا التوحّديّ بأطيافه، مهمّ جدًّا في عمليّة التأهيل التي يجب أن تُقدّم إليهم. إنّ الأمّ بضمّها، وشمّها، ولمسها لطفلها التوحّديّ، وتكرار ذلك، يساعد في الحقيقة طفلها على تنظيم حواسّه لكي يُدرك بيئته بشكلٍ أفضل. إنّ تقنيّة تنظيم الحواس (مصطلح خاصّ) المبتكرة من قبلنا، ووفق الخبرة المُكتسبة في الميدان، مُهِمَّة جدًّا في تمكين التوحّد من الإدراك السليم لما يحيط به من أحداث، مستفيدين من نوع إسبرجر الذي يملك مخزون من الإدراك لكي ننمّيه تأهيليًّا.

إنّ الالتماس، الحسّيّ، الّلغويّ واللّمسيّ من قِبل الأمّ لطفلها، يُمكّن الأخير من إدراك ذاته أيضًا، خصوصًا في مسألة ما يُحبّ وما لا يُحبّ، متى يشعر بالأمان، ومتى لا يشعر به، أو متى يشعر بالخوف، ومتى لا. إنّ الشعور بالأمان مع الأمّ، أمام بعض المثيرات من حوله، سيُخفّف حتمًا بعض ردّات الفعل الفجائيّة حيال المثيرات المُفاجئة وغير القادر على تفسيرها. ومثال ميدانيّ على ذلك، القائم على الخبرة التي جعلتنا نبتكر هذه الوسيلة. إنّ لعبة كفّك بكفي بين الطفل والأمّ مُهِمَّة جدًّا في التأهيل، لأنّ بعض التوحّديّين ينزعجون جدًّا عندما نمدّ لهم يدنا للمصافحة، حيث تتولّد لديهم ردّات فعل عصبيّة، ولقد تمّ استخدام هذه التقنيّة البسيطة في تعزيز التواصل بين الطفل وأمّه، بينه وبين أخوته.

  1. الخلاصة:

إنّ العمل مع الأطفال التوحّديّين، وبكل أطيافهم، هو عمل بحاجة إلى صبر، ومعرفة، وميدان ابتكاريّ. كذلك، فهو بحاجة إلى تضافر جهود منظومة من الكوادر، وخصوصًا الكوادر المجاورة للطبّ. إنّ الخبرة الميدانيّة تمكنّنا من القول إنّ كلّ متخصّص، وكلّ أب وأمّ، يعيش مع طفل توحّديّ، يمكنه إدراك أهمّ القنوات في تعزيز التواصل بينهم وبين التوحّديّ، وإدراك القدرات الخاصّة، والذكيّة لدى البعض منهم، ومن ثَمَّ جعلهم يسيرون في مدارك الحياة، وهناك أمثلة كثيرة عن العلماء الذين برزوا وكانوا من المتوحّدين.

إنّ الإدراك القائم للذات، مهمّ في التوازن النفسيّ للكائن البشريّ في مراحله العمريّة شتّى. وهو مهمّ للطفل في تأسيس منظومات أوّليّة إدراكيّة لحاجاتهم. وهو مهمّ أكثر وأكثر للطفل التوحّديّ، لإنّ إدراك ذاته يعني تعرّف حاجاتها، ودوافعها، والمساحة التي تفصلها عن ذوات الآخرين. تُحدّثنا خبرة التوحّديّين وسيرهم الذاتيّة، لتي تؤكّد أهمّيّة اكتشافهم لذواتهم، وحاجاتهم، من خلال المُكتشف من ذات الأمّ، أنّ ذات الأمّ المُدرَكة من قبل الطفل، نعدّها، ووفقًا لخبرتنا في هذا الميدان، أولى خطوات التكيّف للطفل السويّ، والتوحّديّ. وكذلك أوّل تشكّل لمفهوم الآنيّة (إدراك المكان والزمان) وهو أمر مهمّ جدًّا في تعزيز منظومة الإدراك، التي يُعدّ أيّ قصور بها، عائق أمام عملية تأهيل الطفل التوحّديّ، وغيره من الأطفال.

لذا، نحن نرى أنّ مبتدأ التأهيل، والتمكين هو الأمّ، وتحديدًا الأمّ ذات الثقافة الجيّدة، التي تُدرك مسؤوليّتها جيّدًا، والتي لا تُحبط بإنجاب طفل توحّديّ، بل يُشكّل لها هذا الإنجاب تحدّيًا. إنّ أهمّيّة الأمّ، في تمكين الطفل من اختبار ذاته عند تماسه لذات الأمّ، عظيمة. ونحن نرى أن مبتدأ التأهيل، والتمكين هو الأمّ.

  1. التوصيات:

لا شكّ في أنّ العمل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخصوصًا مهمّ، وأنّ وريقات البحث التي قدّمناها، هي جزء بسيط من عالم هؤلاء الأطفال. لذا يمكن أن نُحدّد التوصيات بالآتي:

  • أهمّيّة إدراك الأبوين لمشاعرهم، خصوصًا أمام الإحباط الذي يولّده التشخيص، وأمام البعض من السلوكيّات النمطيّة عند ابنهم التوحّديّ.
  • أهمّيّة النظر إلى التوحّديّ، وخصوصًا نوع إسبرجر، من المنطلق المعرفيّ، وليس من منطلق الإعاقة، وذلك لأنّ الميدان علّمنا أنّ هؤلاء الأطفال قد يكونون مبدعين في مستوى ذكائهم، ولكنّهم فاشلون في المهارات الاجتماعيّة، وهذا ما يعيق المعرفة بقدراتهم العقليّة.
  • انطلاقًا من الخبرة، فإنّ التوحّديّ يحبس الكلام، والأمّ خير من يفكّ أسر ذلك. لغة الأمّ مُهِمّة للجنين، فكيف هي بالنسبة للطفل التوحّديّ. إنّ مناغاة الأمّ، وترنيماتها، وترداد أغانيها مهمّ جدًّا لتمكينه من إدراك الكلام.
  • إنّ مسألة إدراك المسؤوليّة الأسريّة الجماعيّة، حيال وجود طفل توحّديّ بينها، مهمّ في عمليّة التأهيل، والتمكين لهؤلاء الأطفال.
  • أهمّيّة إدراك الكوادر المدرسيّة، في المدارس التي تُعنى بدمج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصّة، ومنهم التوحّديّ، والاستفادة من الأبحاث التي قام بها الكثير من المتخصّصين في هذا المجال، ومنهم Gillis وزميله Butter (Gillis, JM, Butter AC, 2007).

المصادر:

  • American Academy of Pediatrics, (2005), Understanding Autism Spectrum Disorder.
  • American Journal of psychiatry, (2018), V1, 175 (11).
  • American Psychiatric Association, (2003): Diagnostic and Statistical Manual of Mental Disorders.
  • Arianna Bentenuto and Others, (2016): Mother – Child Play, Department of Psychology and Cognitive Science, University of Trento, Italy.
  • Chakrabarti, S, Fombonne, E, (2001): Prevasive Developmental Disorders in Factor DC; Forman N l; Kardash, H; (1989): Brief Report: A comparison of DSM- III and DSM- III- R Criteria for Autism, Journal of Development Disorder, 19, 637.
  • Fein D, and Others, (2005): Pervasive Developmental Disorder can evolve into ADHD, Autism Development Disorder, 35, 525 –
  • Fomhonn, E, (2002): Epidemiology of Autistic Disorder and Other Pervessived Development Disorder, Child Psychology 43, 289…
  • Gillis JM, Butter RC, (2007): Social Skills Intervention for Preschool with Autism, Journal of Early and Intensive Behavior Intervention, 4(3), 532 –
  • Goldson, E, (2004): Autism Spectrum Disorders, adv. Pediatry 51: 63 –
  • Groan LA, and Others, (2002): The Changing Prevalence of Autism in California, Autism Dev Disorder, 32.
  • Johansson, M, (2006): Autism Spectrum and Underlying Brain Pathology, Dev Med Child Neurol, 48: 40 –
  • Kanner, L, (1943): Autistic Disturbances of Affective contact, Nervous Child Journal, 2: 217.
  • Kart JS, Van Hecker AV, (2012): Parent and Family Impact of Autism Spectrum Disorder, Clinical Child and Family Psychology, 15 (3).
  • Klein, M, (1947): Envy and Gratitude, Hogarth Press, London, Volume 3.
  • Koenig KP, and Others, (2012): Efficacy of Get Ready to Learn Yoga Program Among Children with Autism, The American Journal of Occupational Therapy, 66 (5).
  • Mc Part land, JC, and Others, (2012): Sensitivity and Specificity of proposed DSM – 5 Diagnostic Criteria for Autism Spectrum Disorder, Journal of the American Academy of Child and Adolescent psychiatry, 51, P.P: 368 –
  • National Research council, (2001): Educating Children with Autism, National Academies Press, Washington DC.
  • Pshuk, NG, Stukan LV, (2015): Features Relation of mother to Child with Autism Disorder, European Psychiatry, Volume 30, P. 586.
  • Roussillon, R, (2003): La Séparation et la Chorégraphie de la présence, in Barbier, J, Porte Ramonville – Saint – Agnès, Eres.
  • Sallow Go, Groupner, TD, (2005): Intensive Behavioral treatment for Children with Autism, AM/ Mental Retard, 10: 417 –
  • Shattuck, PT, (2006): The Contribution of Diagnostic Substitution to the Growing Administrative Prevalence of Autism, Pediatrics, 117.
  • Shefali Sabharanjaki, (2013): Physical Therapy in Autism Spectrum Disorder, Research in Development Disabilities, 33 (4).
  • Solomon, A, (2008): The Autism Rights Movement, New York archives.
  • Syracuse Herald Journal (16 August 1999): Learning to live with Autism.
  • Volkmar F, Chawarska K, (2005): Autism in Fancy and Early Childhood, Annul Rev Psychology, 56: 315 –
  • Winnicott, DW., (1971): Collected Papers Through Pediatrics to Psychoanalysis, Tovistock, London.
  • Wolf LC, Noh S, (1989): Psychological Effects of Parenting Stress on Parent of Autistic Children, Journal of Autist, 19: 157-166.

World Health Organization, (1993): International Classification of Disease – 10.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website