foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

الجذور التّاريخيّة للمشكلة السّكانيّة في البلدان النّامية

0

الجذور التّاريخيّة للمشكلة السّكانيّة في البلدان النّامية

The historical roots of the population problem in developing countries

Dr. Hussein Badran د ـ حسين بدران(1)

تاريخ الإرسال:18-4-2024                  تاريخ القبول:30-4-2024

تحميل نسخة PDF

الملخّص: يعالج هذا البحث مسألةً إشكاليّةً شغلت العالم خلال القرن العشرين، ولا زالت تبعاتها تثقل كاهل الدول التي اصطُلح على تسميتها بالدّول النّامية،  أو المتخلّفة والتي تقع بمعظمها في القسم الأوسط، والجنوبي من الكرة الأرضية – في مقابل دول الشّمال التي اصطُلح على تسميتها بالدّول المتقدّمة- وهي مسألة النموّ السكّاني الانفجاري الذي شهدته هذه الدول خلال القرن العشرين، في وقت كانت وتيرة نموّها الاقتصادي لا تزال بطيئة أو ضعيفة، الأمر الذي أوقع تلك الدول في عجزٍ كبير ومنعها من تحقيق التنمية المنشودة لشعوبها. وبعد تعريف المشكلة السكّانية يحدّدُ زمن وقوعها في البلدان النامية، ويعطي أمثلة عن بعض نتائجها. ثم يقارن الواقع المعيشي بين دول العالم قبل القرن الثامن عشر، ليستدلّ على ضعف الفوارق بين الدول النامية والمتقدّمة، ويعرض للمراحل التّاريخيّة التي عاشتها البلدان النّامية قبل وقوعها في المشكلة السكّانية، ليبيّن دور الاستعمار الأوروبي في التأسيس لهذه المشكلة، ويشير إلى أنّ حلّها لا يكون فقط في معالجة الجانب المرتبط بارتفاع معدّل النموّ الطبيعي للسكّان في البلدان النامية، بل في تحقيق التحرّر الاقتصادي وترشيد استغلال مواردها بهدف تحقيق تنمية مستدامة لشعوبها.

كلمات مفتاحية: المشكلة السّكانية، الاستعمار، الدول النامية، الرّسماليّة، عولمة الاقتصاد.

Abstract: This research delves into a critical issue that preoccupied the world throughout the 20th century and continues to burden developing or underdeveloped nations, primarily concentrated in the Earth’s central and southern regions. In contrast to the developed nations of the north, these countries witnessed an explosive population surge during the 20th century, while their economic growth remained slow or weak. This disparity plunged these nations into a deep deficit, hindering their pursuit of sustainable development for their people.

The research begins by defining the population problem, identifying its emergence in developing countries, and providing examples of its consequences. It then contrasts the living standards of nations before the 18th century to highlight the narrow gap between developing and developed countries. Furthermore, it examines the historical phases experienced by developing nations prior to the population crisis, exposing the role of European colonialism in laying the groundwork for this issue. Finally, it emphasizes that addressing the population explosion necessitates not only controlling high natural population growth rates in developing countries but also achieving economic liberation and rationalizing resource utilization to attain sustainable development for their citizens.

Keywords: The population problem, colonialism, developing countries, capitalism, globalization of the economy.

_________________________________________

1- أستاذ مساعد في قسم التاريخ – كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية.

Assistant Professor – Department of History – Faculty of Letters and Human Sciences – Lebanese University.

مقدّمة:

شهدت العديد من دول العالم النامية –لا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين- سلسلة من الأزمات والمصاعب التي أغرقت شعوبها بالفقر، والعوز والجهل وصولًا إلى المجاعات التي أودت بحياة الكثير من السكّان (كما حصل في الصومال وأثيوبيا وغيرها من الدول الفقيرة)، وغرقت تلك الدول –بمعظمها- في أزمات اقتصادية عميقة جعلت حكومات تلك الدّول في موقع العاجز عن النهوض بأعباء شعوبها وعن تأمين احتياجاتهم الإنمائية، وجعلت الغالبية العظمى من تلك الشّعوب تعيش في ظروف مأساوية، وعادة ما ترافقت تلك الأزمات مع ارتفاع مضّطرد في معدّلات النموّ الطبيعي للسكّان في تلك البلاد، الأمر الذي جعل منظّري المالتوسية –الجديدة- يلقون باللوم على هذه الزيادة السّكانية كمسؤول رئيس عن تلك الأزمات، ويرسمون مستقبلاً قاتماً للبشرية –وفق تقرير “حدود النموّ الصادر عن مجموعة “نادي روما”- ويتوقعون أن تفشل الموارد الطبيعية والزّراعيّة في تأمين احتياجات السكّان خلال القرن الحادي والعشرين، ويفترضون أن الحلّ يكمن في التخلّص من مشكلة الاكتظاظ السكّاني.

لكن ومن أجل فهم سليم وواقعي للمشكلة السّكانية -التي عانت منها ولا تزال الكثير من البلدان النامية – لا يمكن النّظر إليها من منظار ديموغرافي بحت، أو من منظار بيئي يربط بين أثر البيئة المحيطة والنموّ السّكاني، بل لا بدّ من الأخذ بالحسبان الأثر الذي أدّته العوامل السياسيّة، والتّاريخيّة على اقتصاديات تلك البلدان حتى أوصلتها إلى حدّ العجز عن القيام بمتطلبات النهوض بواجب التنمية السليمة والمستدامة لتحقيق رفاه شعوبها. وهذا ما دفع للبحث عن إجابات للتساؤلات الآتية: هل تعود المشكلة السكّانية فقط إلى الخلل في التوازن بين النموّ السّكاني ووفرة الموارد اللازمة لاحتياجاتهم؟ ما كان دور الاستعمار في التأسيس لهذه المشكلة؟ وكيف ساهمت مراحل تطوّر الاستعمار في التسبّب بها وتعميقها؟

 1-تعريف المشكلة السكانية وزمان تمظهرها في البلدان النّامية

يختلف معدّل النموّ السكاني بين بلد، وآخر خلال حقبة زمنية واحدة نظرًا لارتباط هذا المعدّل بمجموعة من العوامل المؤثرة (اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، سياسية، تاريخية..) ويختلف هذا المعدّل أيضًا في بلد محدّد –زيادة أو نقصانًا- من زمن إلى آخر وذلك بسبب التغيّر الذي يطرأ على بعض العوامل المؤثرة أو كلّها. ولم يكن من اليسير تقدير النموّ السّكاني العالمي في مراحل التاريخ القديم والوسيط، وحتى الحديث في بداياته، وذلك لغياب الوثائق ذات الصلة، لكنّ الأمر بدأ يتغيّر منذ أواخر القرن السابع عشر بعد اهتمام بعض البلدان بتقدير أعداد سكانها ونموّهم. وقد دلّت تقديرات الدّراسات السكانيّة الصادرة عن الأمم المتحدة على أنّ هذا النموّ، قد سجّل أرقامًا متغيّرة مع الزمن بين البلدان التي يطلق عليها اليوم بلدانًا نامية، والبلدان المتقدمة وذلك وفق ما يظهره الجدول أدناه:

معدّل النمو السكاني السنوي في البلدان النامية والبلدان المتقدمة (بحسب التصنيف الحالي) بين عامي 1750م و1900م (U. N.: Department of Economic and Social Affairs, World Population Situation 1970, p.7)

المدّة الزمنية النموّ في البلدان المتقدمة (بالألف) النمو في البلدان النامية (بالألف)
1750 – 1800 4 4
1800 – 1850 7 5
1850 – 1900 9 2

يتضح من خلال الجدول أن القسم الثاني من القرن الثامن عشر، لم يسجّل أي فوارق بين البلدان التي صُنّفت لاحقًا نامية أو  متقدّمة، ويبدو أن تأثير الثورة الصّناعيّة والعلميّة في أوروبا كان واضحًا على معدلات النموّ السكاني فيها خلال القرن التاسع عشر، فبفضل التقدم الطبي وحملات التلقيح ضد الأمراض المعدية، تجاوزت هذه المعدّلات أضعاف ما كانت عليه معدلات النموّ في البلدان المتخلّفة، وشهدت أوروبا في المرحلة الممتدة بين عامي 1850 و1900م قفزة واضحة في عدد السّكان الذي ارتفع من حوالي 274 مليون نسمة إلى حوالي 423 مليون نسمة، وهي زيادة شكّلت ضغطًا كبيرًا على اقتصاديات تلك الدول، واستغلّ الرأسماليون هذا التزايد الذي أدّى إلى ارتفاع الطلب على العمل، ما انعكس سلبًا على ظروف العمال الذين كانوا مضطرين للعمل يوميًا بين 12 و15 ساعة، وبلا أيام عطل، وبأجور زهيدة جدًا إذ قُدّر أجر العامل ب8 شلنات في الأسبوع في حين كانت متطلبات الحياة الضرورية للأسرة تفوق 14 شلنا أسبوعيًا، وأدّى ذلك إلى ظواهر اجتماعية سلبية كانتشار الفقر والتسوّل والسرقة وتشغيل الاطفال (هيلبرونر، 1979، ص 192). كما اندلعت عدة اضطرابات في الدّول الأوروبيّة ناتجة عن تلك الأوضاع الاجتماعية لا سيما العام 1848م، وتمحورت مطالبها حول تحسين ظروف طبقات العمال والطبقات الكادحة( رمزي زكي، المشكلة السكانية، 1984م، ص 76). لكنّ حدّة هذه المشكلة في أوروبا حينها لم تصل إلى ما وصلت إليه حال البلدان النّامية لاحقًا، لا سيّما أن الدول الأوروبية حينها كانت في مرحلة التوسّع الاستعماري، الأمر الذي أتاح لها اللجوء إلى حلول –غير أخلاقية- تمثّلت باستغلال موارد المستعمرات من جهة، وتشجيع الهجرة نحو تلك المستعمرات كحلّ لمشكلة فائض السكان من جهة ثانية( رمزي زكي، ص67).

ويشير الجدول إلى تراجعٍ لافت في مستوى معدّلات النموّ في البلدان المتخلّفة خلال القسم الثاني من القرن التاسع عشر والذي يبدو أنه عائدٌ لمجموعة من الأسباب من بينها:

– العوامل المُناخية كموجات القحط والجفاف التي تسبّبت أحيانًا بارتفاع معدلات الوفيّات، بفعل المجاعات التي ضربت بعض تلك البلدان، ومن الأمثلة البارزة على ذلك المجاعة التي حصلت في الصين بين عامي 1876م و1879م والتي أدّت إلى موت حوالي 13 مليون مواطن صيني، والمجاعة التي وقعت في الهند في المدّة ذاتها والتي تسببت في تفاقمها السياسة الاستعمارية البريطانية في الهند –إضافة إلى الظروف المُناخية المذكورة- والتي نتج عنها وفاة ما يقرب من 9 ملايين مواطن هندي. (رمضان، مدونة في موقع العربية نت، بتاريخ 28 أبريل 2021، الفقرة الأولى).

-انتشار الأوبئة والأمراض المعدية والفتاكة، كالملاريا التي كانت مسؤولة عن عدد كبير من الوفيات في الهند خلال وبعد المجاعة المذكورة.

-تجارة الرّقيق التي نشطت خلال القرن التاسع عشر من غرب أفريقيا نحو أميركا (لا سيما الشمالية منها) وما رافقها من ظروف غير إنسانيّة عاشها الرقيق وأدّت إلى وفاة الملايين منهم، وقدّر عدد الرقيق الذين نُقِلوا من أفريقيا بين عامي 1600م و1810م بحوالي 11360000(بامهدي وعافية، 2021-2022، ص 62).

-السباق الاستعماري بين الدول الغربية للسيطرة على البلدان الضعيفة، وما نتج عن ذلك من صدامات وحروب في تلك البلدان.

لكن ومع بداية القرن العشرين برزت ظاهرة سكّانية في معظم البلدان التي أطلق عليها لاحقًا مصطلح البلدان النّامية، أو البلدان المتخلفة، وتمثّلت هذه الظاهرة بالازدياد الكبير والسّريع في أعداد السّكان إلى الحدّ الذي أوقع تلك البلدان في ما اصطلح على تسميته بالمشكلة السّكانيّة، والمشكلة السكّانية هي “تناقض يقوم بين السّكان وبين النّظام الاجتماعي السائد، إذ يعجز هذا النظام عن أن يوفّر لهؤلاء السّكان متطلبات الحياة، من غذاء وكساء ومأوى وتعليم وعمل”، وتؤدّي المشكلة السكانية إلى حصول ضغط شديد تفرضه “الأعداد المتنامية للبشر على وسائل الانتاج، والأرض، والدخل القومي، وفرص التوظّف والمواد الغذائيّة، وعلى المساكن ووسائل المواصلات وإمكانات التعليم والعلاج” (زكي، 1984، ص 267). والمشكلة السّكانية تظهر عندما يتزايد السكان في بلد ما دون أن تتوافق هذه الزيادة مع زيادة متناسبة في المرافق التّعليميّة والصحيّة وفي النمو الاقتصادي الذي يعجز عن تحقيق مستوى لائق لمعيشة أولئك السكان( رفو،2018 ، ص1، www.b-sociology.com).

صحيح أن المشكلة السكّانية هي خلل في التوازن بين موارد بلد ما واحتياجات سكّان هذا البلد، أو بين معدّلات النموّ السكّاني ومعدّلات النموّ الاقتصادي في بلد محدّد، وهو خلل يؤدّي إلى انخفاض في مستوى معيشة هؤلاء السكّان، وأنّها عادةً ما تحصل عندما يطرأ انخفاض سريع في معدّلات الوفيات مع بقاء معدّلات المواليد مرتفعة، لكنّ هذا الخلل يقع في حالة  ضعف بنية الاقتصاد المحلّي وعجزه عن تطوير قوى الإنتاج، وزيادة حجم المداخيل وتوفير البنى التحتيّة التّعليميّة والصّحيّة المناسبة وعن توفير فرص العمل الكافية، والمناسبة لتوظيف هذه الزيادة السكانية المضطردة. وعليه فالمشكلة السكّانية لا تنتج فقط عن الزيادة الكبيرة والسريعة في معدلات النموّ السكّاني في بلد ما بل أيضًا عن طبيعة الاقتصاد الهشّ والضّعيف في البلد الذي يعاني من تبعات هذه المشكلة، وهذا ما أشار إليه “جواهر لال نهرو” خلال وصفه لحال كل من الصين، والهند بقوله “فهاتان الكتلتان السكانيتان الهائلتان تبقيان عبئًا كبيرًا ونقطة ضعف خطيرة إلّا إذا نُظِّمتا بشكل صحيح ومنتج” (نهرو، 1989، ص 386).

وينتج عن المشكلة السّكانية تدنً في مستوى معيشة السّكان لجهة المسكن والملبس والصّحة والتعليم والغذاء..، تشير إليه سنويًّا التقارير الصادرة عن المنظّات الدولية، فقد قدّرت اليونيسف عدد الأطفال الذين ماتوا كلّ سنة في البلدان النّامية بسبب الجوع وسوء التغذية بحوالي 12 مليون طفل خلال العقد ما قبل الأخير من القرن العشرين، وعلى الرّغم من تراجع العدد السنوي لوفيات الأطفال في بدايات القرن الحالي لكنه استمرّ مرتفعًا جدًّا إذ بلغ حولي 6.3 مليون طفل، ويذكر تقرير اليونيسف أنّ نصف وفيّات الأطفال دون 5 سنوات يقع في بلدان أفريقيا الواقعة جنوب الصّحراء، وثلثها يقع في بلدان جنوب شرق آسيا(اليونيسف، تقرير 18أيلول 2018،  https://www.unicef.org/ar/)، كما ذكر مكتب العمل الدولي أن عدد الأطفال العاملين في تلك البلدان كان يقدّر بحوالي 100 مليون طفل في العام 1980، وكثير منهم كانوا يمارسون أعمالًا في بيئات غير سليمة، كما أنّ نصيب الدّول النّامية من الدخل العالمي بلغ حينها حوالي 11% فقط في وقت يشكل سكانها أكثر من 75% من سكان العالم، وارتفعت هذه النّسبة إلى 28% العام 2009(البنك الدّولي، بتاريخ21/7/2010، https://blogs.worldbank.org/ar/opendata/19788) وهي حصّة آخذة في الارتفاع بحسب بيانات البنك الدولي لعام 2023، وكذلك عانت تلك الدول من ارتفاع كبير في نسبة الأميّة بين سكّانها.

ومن الأمثلة الخاصة عن الأثر السلبي للمشكلة السكانية ما واجهته الهند خلال المرحلة ذاتها، فالهند التي قدّر عدد سكّانها بحوالي 600 مليون نسمة نهاية السبعينيات من القرن العشرين، كانت بحاجة إلى تأمين فرص عمل سنوية لحوالي 8 ملايين فرد كي تنجح في مواجهة مشكلة البطالة، وعانى سكانها من مشاكل كبيرة في تأمين المأوى السليم وأنّ حوالى 80 بالمئة من سكّانها عانوا من ندرة المياه الصالحة للشرب، إضافة إلى ارتفاع نسبة الأمية بين السّكان والتي قدّرت بحوالي 55%.(برانت،1981م، ص23-55). وعلى الرّغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها الهند لتجاوز آثار هذه المشكلة، إلّا أنّ نتائجها استمرت مع بداية القرن الحادي والعشرين، إذ استمرّ معدّل الزيادة السكّنية مرتفعًا وقدّر بحوالى 16 بالألف، حتى احتلت الهند المرتبة الأولى عالميًّا في عدد السكّان والذي قدّر بـ 1.417 مليار نسمة بحسب تقدير البنك الدولي لعام 2022، (البنك الدولي، https://data.albankaldawli.org/indicator/SP.POP.TOTL)، ولا تزال الهند تعاني من مشكلة تأمين ملايين الوظائف لجيل الشّباب الذي تزيد نسبتهم عن 30% من مجموع السكان بحسب تقدير إدارة الشؤون الاقتصادية التابعة للأمم المتحدة (موقع يورونيوز، بتاريخ 25/4/2023)، ومن مشكلة تأمين البنى التحتيّة الكافية، والمناسبة لهذا العدد الكبير منهم ولا يزال حوالى 35% من السكّان يعيشون تحت خطّ الفقر. وتنتشر في المدن الهندية الكثير من أحياء الصّفيح التي يسكنها الفقراء والتي لا تتوفّر فيها البنى التحتيّة اللازمة، وتكفي رؤية مشاهد ركاب القطارات الهندية الذين يتسلّقون أسقف تلك القطارات للاستدلال على ضعف قدرة البنى التحتيّة الهندية على تلبية احتياجات هذا العدد المتزايد من السّكان، وعلى الرّغم من المسار التصاعدي الكبير والواضح  الذي سلكه معدل الدخل الفردي السنوي للهنود إلّا أنّه بقي محدودًا وذلك وفق ما يظهره الجدول أدناه:

تطوّر الدخل الفردي في الهند بين عامي 1960 و2022 بالدولار الأميركي

(البنك الدولي، عبر الرابط  (https://data.albankaldawli.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD?locations=IN

1960 1970 1980 1990 2000 2010 2022
83 112 224 368 442 1350 2410

وهذه المعدلات تبقى أقل من المستويات الكافية لتأمين مستوى معيشة لائق للمواطنين الهنود.
ولمّا كان التوزع الجغرافي للبلدان التي تعاني من النتائج القاسية للمشكلة السكانية والتي تصّنف اليوم بالبلدان النامية (أو المتخلّفة)  يجعلها تنتمي بشكل أساسي إلى القسم الجنوبي من الكرة الأرضية، في مقابل البلدان المتقدمة والتي لا تواجه هذا الضغط السكاني والتي توجد بمعظمها في القسم الشّمالي للكرة الأرضيّة (باستثناء أوستراليا، نيوزيلندا..)، فقد بات العالم عمليًّا مقسومًا بين قسمين اثنين عالم الشمال الذي يتنعّم باستغلاله لمعظم ثروات الكوكب، وعالم الجنوب الذي تضمّ أراضيه معظم خيرات وثروات الكوكب، لكن مجموعة من العوامل التّاريخيّة والثّقافيّة والإداريّة حرمته من استغلالها لما فيه صالح شعوبه، وقد بات من الشائع استعمال المصطلحين المذكورين في تقارير ووثائق الأمم المتحدة التي عادة ما تشجّع على مزيد من التعاون في سبيل تحقيق التنمية البشرية لا سيما في الجنوب، فنهضة الجنوب برأيها تتيح “فرصًا جديدة لمزيد من الفعالية في تأمين السلع العامّة ولحلّ القضايا الكثيرة التي يتخبّط فيها العالم اليوم”. ( الأمم المتحدة: تقرير التنمية البشرية 2013، ص 9، https://www.un.org/ar/esa/hdr/pdf/hrd13/overview.pdf).

2-الواقع المعيشي والتنموي في العالم قبل القرن الثامن عشر

لم تختلف كثيرًا مستويات المعيشة وأنماط الانتاج بين معظم بلدان العالم قبل القرن الثامن عشر، فقد كان النّمط السائد في الإنتاج الزراعي هو النمط القائم على تحقيق الاكتفاء الذاتي، والمعزول بنسبة كبيرة عن مؤثرات العالم الخارجي، وكانت وسائل الانتاج متماثلة أيضًا، وكان نموّ الانتاج يتناسب ببطئه مع الزيادة السكانيّة الطبيعيّة التي اتّصفت بالبطء في تلك المرحلة.

وعلى صعيد الانتاج الصناعي أيضاً لم تكن هناك فوارق يعتدّ بها بين دول آسيا ودول أوروبا لجهة أنماط ووسائل الانتاج، وإن كان هذا التّشابه لم يصل إلى حدّ التطابق، فقد بقيت هناك بعض الفروق النوعيّة والكمّية في الانتاج، وهذا ما جعل حصة أوروبا لا تتجاوز نسبة 35% من الانتاج العالمي. وفي معرض مقارنته لحالها قبل الاستعمار الإنكليزي لها وبعده يصف “نهرو” الواقع الاقتصادي للهند بأنها كانت تمتلك صناعات حرفيّة على درجة عالية من التطوّر ومن الجودة، إلى حدّ جعل البحرية البريطانية تستخدم في أسطولها بعض السفن المصنوعة في الهند، وأنّها كانت تصدّر منتجاتها إلى دول أوروبا وغيرها من دول العالم. كما كانت تمتلك نظامًا للبنوك على درجة رفيعة من التنظيم، كما يصف ازدهار اقتصاد مقاطعة البنغال الهندية في مرحلة ما قبل الاستعمار بقوله “لا شكّ بأن البنغال كانت مقاطعة غنية ومزدهرة قبل قدوم البريطانيين” (نهرو، الجزء الثاني، 1989م، ص 16).

ويصف العديد من الباحثين الغربيين (ومن بينهم بنيامين هيجنز، فيرا آنستي، جونر ميردال..) واقع بلاد آسيا قبل مرحلة الاستعمار، بأنها لم تكن أقلّ تقدّمًا عن دول غرب أوروبا بل “إن جزءًا كبيرًا من هذه المناطق، كان يسبق الغرب في مجال جودة المنتجات وتنوّعها وأيضًا في الفنون الإنتاجية المستخدمة” ( زكي، 1984م، ص272).

يستدلّ مما سبق أن معظم البلدان التي عانت من آثار المشكلة السكّانية خلال القرن العشرين، وأُطلق عليها مصطلح “البلدان المتخلّفة”، لا ينطبق عليها هذا الوصف تاريخيًّا، ولا يصحّ الادّعاء بأنها لطالما كانت على هذه الحال، قبل أن تقع ضحيّة للاستعمار الأوروبي ولغزوه الاقتصادي لها، فمعظم تلك البلدان كانت تتشابه في أن لديها تنوّعًا في الانتاج يراعي احتياجات مجتمعاتها وهو إنتاج يستهدف أساسًا تحقيق الاكتفاء الذاتي لها (رمزي زكي، أزمة الديون الخارجية، 1978، ص 180-181)، كما أن بعض الأمثلة السابقة دلّت على مستوى التقدّم الاقتصادي الذي شهدته تلك البلدان قبل مرحلة الاستعمار والذي كان يتقدّم على ما شهدته الدول الأوروبية (قبل الثورة الصّناعيّة) في العديد من الجوانب، وإنها إنما وقعت في المشكلة السكانية وعانت من آثارها عندما اجتمع فيها الشرطان الآتيان: الأوّل هو الارتفاع الكبير في معدّل النموّ الطبيعي للسكان، والثاني هو تصدّع وهشاشة البنية الاقتصادية المحلية التي تشوّهت بفعل الاستعمار، والاستثمارات الغربية في تلك البلدان، أو بفعل فساد بعض الإدارات والسلطات الحاكمة في تلك البلدان.

3-التفسير الشائع للمشكلة السكانية من وجهة نظر الدول المتقدمة

    منذ بداية ظهورها في أوروبا تحوّلت المشكلة السّكانية إلى موضع اهتمام، ودراسة العديد من الباحثين الذين حاولوا تشخيص أسبابها، واقتراح العلاجات لها، وكان من بين أبرز النظريات التي ظهرت حينها نظرية مالتوس والتي لا يزال العديد من الباحثين يتمسّك بروحيتها.

نشر”روبرت مالتوس” القس الإنكليزي خلال سنوات متعاقبة مجموعة من المؤلّفات كان أولها سنة 1798م بعنوان “مقالة حول مبدأ السّكان”، نشر فيها مجموعة آرائه حول العلاقة بين السّكان، والموارد والتي يبدو أنه تأثر في تكوينها بآراء كتاب سابقين مثل جيمس ستيورات صاحب كتاب “مبادئ الاقتصاد السياسي” الذي ربط فيه بين زيادة السّكان ومدى توافر الموارد الغذائية،  ويبدو أنّه تأثر بالظروف التي عاشتها إنكلترا في تلك المرحلة من نمو مشكلة البطالة، وانخفاض أجور العمال وارتفاع الأسعار، ويستند مالتوس في رؤيته على مبدأ أن الغذاء ضرورة لاستمرار حياة الإنسان وكذلك الميول بين الجنسين، وأن المشكلة السكانية سببها أن قدرة السّكان على التّناسل هي أكبر من قدرة الأرض على إنتاج مستلزمات عيشهم، وهو بذلك يرجع السبب إلى قانون طبيعي (وفق رأيه) ويرى أن كلّ الآثار الناجمة عن المشكلة السكانية “لا صلة لها بالنظام الرأسمالي ولا بطريقة الحكم أو بسوء توزيع الثروة”(زكي، 1984م، ص 22-25).

لكن العديد من الباحثين المعاصرين لمالتوس، أو المتأخّرين عنه انتقدوا نظرته التّشاؤمية حول الزيادة السكّانية، ومن بينهم هنري جورج (1839-1897) الذي وعلى الرّغم من كونه من الاقتصاديين الكلاسيكيين، إلّا أنه رفض نظرية مالتوس، وكان في طروحاته شديد الدفاع عن الفقراء وناقدًا ” للمظالم الاجتماعية التي انطوى عليها النظام الرأسمالي” وقال في كتابه “الفقر والتّقدم” أن “السبب الرئيس لانخفاض الأجور والفقر والبؤس ليس هو السكان وتزايدهم، وإنّما هو الظلم والاضطهاد الواقع عليهم، وكان يرى أن الزيادة السّكانيّة من شأنها أن تؤدي إلى زيادة تقسيم العمل، وزيادة حجم الإنتاج ورفع مستوى المعيشة إذا كان هناك عدالة اجتماعية في التوزيع” (زكي، 1984م، ص 88).

وعندما أصيبت البلدان النامية بظاهرة المشكلة السكّانية –لا سيما في أواسط القرن العشرين – حاول العديد من الاقتصاديين الغربيين ومن بينهم “هارفي ليبنشتين” صاحب نظرية “التوازن عند حد الكفاف”، و”ريتشارد نيلسون” صاحب نظرية “المصيدة السكّانية” إحياء المالتوسية خلال محاولتهم تفسير ظاهرة الفقر، والتخلّف التي سادت معظم دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والتي كانت بمعظمها من المستعمرات المحرّرة حديثًا، عادّين أنّ النموّ السكّاني الكبير في تلك البلدان المتخلّفة كان السبب الرئيس في فقرها وتخلّفها، وأهملوا بشكل كبير الظروف التاريخية والسياسية التي عاشتها تلك البلدان قبل تحرّرها من براثن الاستعمار، كما أغفلوا أنّ تلك البلدان قبل أن تقع بيد الاستعمار كان لديها بنية اقتصادية مرنة متناسبة مع واقعها الاجتماعي والسياسي، وأن الناتج القومي فيها كان ينمو ببطء متناسب مع معدّلات النموّ السكّاني المنخفضة، ولم تكن تواجه حينها ما اصطلح عليه بالمشكلة السّكانية(زكي، أزمة الديون الخارجية، 1978م، ص 180-181). لذلك جرى التركيز في تلك المرحلة على تسويق الحلّ المفترض لهذه المشكلة والمتمثل بخفض معدلات النموّ السكّاني في البلدان النامية.

4-المراحل التاريخية التي أسّست لظهور المشكلة السكانية في البدان النامية

أ-مرحلة ظهور الرّسماليّة التجارية في أوروبا: في الوقت الذي كان النظام الاقطاعي فيه مسيطرًا في أوروبا لقرونٍ عديدة، حقّق كبار تجّار أوروبا –لا سيما بعد  القرن الرابع عشر الميلادي – أرباحًا طائلة بفعل النشاط التجاري مع الشرق الذي اشتهر بوفرة منتجاته كالحرير والتوابل  والبخور، وبفعل حركة الاتجار بالانتاج الحرفي داخل أوروبا، وترافق ذلك مع تحسّن كبير في جودة السفن التجاريّة التي باتت أكثر قوة ومتانة وسعة.

ولمّا كانت التجارة مع الشرق شبه محتكرة من تجّار إيطاليا (تجّار جنوة والبندقية)، وذلك بفعل الاتفاقات التّجاريّة الخاصة مع سلاطين الدولة المملوكيّة التي كانت تمرّ عبرها ممرات التجارة بين الشرق والغرب المهمّة حينها، وما نتج عن ذلك من ارتفاع في أسعار بضائع الشّرق في أوروبا، انطلقت من أوروبا سلسلة من العمليات الاستكشافيّة التي تهدف للوصول إلى جزر التوابل وغيرها، دون المرور في مصر المملوكية (علي، 1913، ص 7-نسخة إلكترونية عن موقع مكتبة نور: https://www.noor-book.com –pdf)، وبفعل هذه الاكتشافات تعرّف الأوروبيون إلى بلاد جديدة، ووصلت طواقم سفنهم إلى معظم أنحاء العالم، وبدأت إلى جانب العمليات التجارية الشرعية بعمليات قرصنة ولصوصيّة لثروات تلك البلدان من ذهب وفضة وكنوز تاريخية وصولًا إلى خطف السكان الأصليين –لا سيما الأفارقة- وبيعهم كعبيد، واستفاد الأوروبيون في تلك العمليات من تفوّق سفنهم ونوعية تسليحهم، وترافق ذلك مع بداية حركة استيطان أوروبي في البلدان المستكشفة حديثا لا سيما في قارة أميركا، وأدّت هذه العمليات إلى عدّة نتائج:

– تزايد الثروات بيد الرّسماليّة التجارية الأوروبية وتراكمها، في مقابل تناقص ثروات الشّعوب، والبلدان التي كانت عرضة لتلك العمليات. وقد قدّر الباحث الألماني “إرنست كومل”  كميات الذّهب التي نُهبت من بلدان أميركا الوسطى والجنوبيّة بين القرنين الرابع عشر والسّابع عشر بحوالي 6 مليارات و227 مليون مارك ذهبي(زكي، 1984م، ص 276).

-الثبات النّسبي للبنى الاقتصاديّة في البلدان المستهدفة، فأمام هذه المكاسب الهائلة التي حقّقوها لم يكن الأوروبيون حينها بحاجة إلى إجراء أيّ تعديل جوهري على البناء الاقتصادي في تلك البلدان، بل كانوا يكتفون باستخدام أساليب القوة، والخداع والسّلب لفرض سيطرتهم على تلك الثروات، وأحيانًا كانوا يتحالفون مع جماعات محليّة داخل تلك البلدان استفادت من تعاونها مع الأوروبيين، وتحوّلت إلى رأس حربة بيدهم يستخدمونها لإخضاع الجماعات المحليّة الأخرى ونهبها.

*بداية تحوّل في أنماط الانتاج في الاقتصاد الأوروبي ، فكان من مظاهر ظهور الرّسماليّة التجارية تحوّل مبكر للعمل الزراعي في انكلترا من الزراعة المعيشيّة إلى الزراعة التّجارية فبعد رواج تجارة الصوف الإنكليزي ازدادت مزارع تربية الأغنام وبذلك جرى الاستغناء عن جهود عدد كبير من الناس في مزارع بات يكفيها “عدد قليل من الرّعاة” (زكي، 1984م، ص 24).

خلاصة القول إنّ مرحلة ظهور الرّسماليّة التجارية في أوروبا –لا سيما في غرب أوروبا- أدّت إلى خسارة البلدان المستهدفة لثروات طائلة، كان يمكن أن تشكّل أساسًا لتقدّمها وفي المقابل تراكمت في أوروبا كميات كبيرة من الثروات، ورؤوس الأموال الناتجة عن التجارة الشّرعية أوعن عمليات النهب واللّصوصية، الأمر الذي مهّد السبيل أمام استثمار هذه الأموال في مشاريع انتاجية جديدة.

ب-مرحلة تشكّل الرّسماليّة الصّناعيّة في أوروبا: مهّدت الرّسماليّة التجارية الطريق أمام ظهور الرّسماليّة الصّناعيّة في دول غرب أوروبا أواخر القرن الثامن عشر، وقد ترافق تشكّل هذه الرّسماليّة مع تغيّرات ونتائج داخل أوروبا منها:

– تغيّر في البنى الاقتصادية في بلدان غرب أوروبا بعد الإنجازات العلميّة، والتّقنيّة الصّناعيّة التي أدّت إلى اعتماد الآلة في العمل الصناعي كبديل عن العمل اليدوي الحرفي، فخلال مرحلة التحوّل الاقتصادي من الرّسماليّة التّجارية إلى الرّسماليّة الصّناعيّة “تعاظم الدور الذي يقوم به الانتاج السلعي الذي يعتمد على التخصّص وتقسيم العمل، والإنتاج بغرض التبادل. وحقّق رأس المال توسّعًا ضخمًا في الصناعة، وﺗﻌدّدت المنتجات وﺗﻌاظم ﺑـﺸـﻜـﻞ ﻣﺤﺴﻮس اﻻﺳﺘخدام الموسّع للتكنولوجيا في مجال اﻹﻧﺘﺎج. وﻛﻞ ذلك ﻋضدﺗﻪ ﻣﻨﺠﺰات اﻟثورة اﻟﺘﻲ حدثت ﻓﻲ ﻣﺠﺎل الطاﻗﺔ واﻟﻨﻘﻞ والمواﺻﻼت. وﻛﺎن ﻣﻦ ﻧﺘﻴﺠﺔ ذلك أن تعدّدت المصانع المعتمدة ﻋﻠﻰ اﻵﻻت وﻧﺸﺄت المناطق اﻟﺼﻨﺎﻋﻴﺔ اﻟﻜﺒﺮى. وﺑﺎﺧﺘﺼﺎر تمت اﻟﻐﻠﺒﺔ ﻟلدّور الحاكم واﻟﻘﻴﺎدي الذي أﺻﺒﺢ ﻳﻘﻮم ﺑﻪ رأس المال اﻟﺼﻨﺎﻋﻲ ﻓﻲ اﻟﻨﺸـﺎط اﻻﻗـﺘـﺼـﺎدي”. (زكي، ص 18). عُرِف ﻫﺬا اﻟتطوّر اﻻﻗﺘﺼﺎدي بالثورة الصّناعيّة التي بدأت بالظهور في انكلترا قبل انتقالها إلى البلدان المجاورة، “فقلبت أسس كيانها الاقتصادي”(هيز، 1950، ص6).  ولأنّها أدّت إلى زيادة الانتاج بشكل كبير وخفّضت كلفة هذا الانتاج -بالمقارنة مع العمل الحرفي- تحوّلت الصّناعة إلى أحد قطاعات الاقتصاد المهمة في غرب أوروبا، وتطلّع أصحاب رؤوس الأموال فيها للاستثمار في هذا القطاع المربح.

– تراجع تأثير النظام الاقطاعي وضعفه في مقابل نموّ الطبقة البرجوازية (طبقة الأغنياء الذين حققوا ثرواتهم بفعل جهدهم التجاري أو الحرفي)، وكانت هذه الطبقة قد نجحت في حسم الصراع مع طبقة الإقطاعيين (النبلاء وملّاك الأراضي) وذلك على الصعد كافّة؛ أكان ذلك من ناحية التفوّق في مراكمة الأرباح ورؤوس الأموال أو لناحية التحكّم بالسلطة السياسية، إذ “دانت السلطة للطبقة المتوسّطة “البرجوازية”، وتمتعت بالسيطرة في أوروبا منذ أواسط القرن التاسع عشر تقريبًا، (شكري، 2012م، ص 8) إلى الحدّ الذي مكّنها من توجيه قرارات السلطة السياسية لخدمة مصالحها الاقتصادية وبذلك قُضِي على مؤسسات وعلاقات الإنتاج الإقطاعيّة.

-عانت الدول الأوروبية في تلك المرحلة من ظاهرة النمو السكاني الانفجاري، فالتقدم العلمي الذي انعكس تحسّنًا في مستوى الرعاية الصّحية أدّى إلى تراجع معدّلات الوفيات في وقت كانت معدلات المواليد لا تزال مرتفعة، الأمر الذي استغلّه الصناعيون إلى أبعد حد من خلال “تشغيل الأطفال والأحداث بين سن الخامسة والتاسعة للعمل داخل المصانع بأجور زهيدة جداً، ولساعات عمل طويلة” (زكي، 1984م، ص 19). وازداد توحّش الرّسماليّة الصّناعيّة داخل الدول الأوروبية في استغلال العمّال الذين كان عليهم العمل في مصانع الرأسماليين لساعات عمل طويلة، وحتّى في المصانع التي كانت كانت تدفع الأجر على القطعة، وليس على الساعة لم يكن أجر العامل العادي يكفيه لسد احتياجاته الضرورية (ريو، 1975، ص 199-201)، وهذا أدّى إلى زيادة كبيرة في تراكم ثروات الرأسماليين من أصحاب المصانع بفعل ارتفاع أرباحهم التي حقّقوها بعد تخفيض كِلف الانتاج.

ج-مرحلة السباق الاستعماري للهيمنة على البلدان الضعيفة: كانت حركة الاستعمار الأوروبي، قد بدأت تتضّح معالمها وتنمو مع حركة الكشوفات الجغرافية، وخصوصًا استعمار قارة أميركا التي تقاسمتها كل من إسبانيا والبرتغال وبريطانيا وفرنسا، أيّ أنّ هذه الحركة كانت متزامنة مع  مرحلة ظهور الرّسماليّة  التّجارية، لكن بعد ظهور الرّسماليّة الصّناعيّة في أوروبا عانت الصناعة الأوروبيّة من مشكلة وفرة وتراكم الإنتاج والحاجة إلى تأمين أسواق خارجية واسعة لتصريفه بعد أن ضاقت الأسواق الأوروبية بحجم الإنتاج الصناعي المتزايد، وكذلك من مشكلة الحاجة إلى المزيد من الموارد الطبيعيّة الضروريّة لعمليات التصنيع، وإلى جانب تعاظم أثر هاتين المشكلتين على مستويات أرباح الرأسماليين الصناعيين، بدأت بعض الاضطرابات العمّالية بالظهور وكانت ناتجة عن الواقع المأساوي الذي كان يعانيه عمال المصانع، فبدأت الضغوط الرّسماليّة على السّلطات في الدّول الأوروبيّة لتسريع حركة الاستعمار بوصفها الحلّ المناسب لهذه المشكلات، ويلخّص الكلام الصادر عن البريطاني “سيسل رودس” أحد المسؤولين عن حرب البوير في جنوب أفريقيا نظرة الساسة الأوروبيين للاستعمار بقوله تعليقًا على الاحتجاجات العماليّة التي شهدتها بريطانيا “إنّ فكرتي التي أتعلّق بها، فيها الحلّ للمشكلة الاجتماعية، وهي أنّه إذا أردنا أن نُنقذ الأربعين مليونًا من أهل المملكة المتّحدة من حرب أهليّة دموية، فيجب على ساستنا الاستعماريين أن يستحوذوا على أراض جديدة يستوطنها السكّان الذين يفيضون عن الحاجة، ولتهيّئ أسواقًا جديدة للبضائع التي يتنتجونها في المصانع والمناجم” (هيلبرونر، ترجمة راشد البراوي، 1979، ص 222).

وبالفعل أخذت حركة الاستعمار بالنموّ بشكل متسارع بعد ظهور الرّسماليّة الصّناعيّة، التي سعت إلى تأمين أسواقٍ تجارية لمنتجاتها من جهة وإلى تأمين الموارد المتوفرة في المستعمرات -أكانت موارد طبيعية أو زراعية- من جهة ثانية، وتحوّلت إلى حركة تنافسيّة بين الدول الأوروبية لا سيما خلال القرن التاسع عشر خصوصًا بين فرنسا وبريطانيا (التي كانت تتصّف بأنها الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس لكثرة مستعمراتها المنتشرة على كامل الكرة الأرضية)، ويظهر الجدول أدناه المدى الذي وصلته حركة الاستعمار الأوروبي خلال القرن التاسع عشر (Brown, 1976, p.185).

السنة المستعمرات( البريطانية –الفرنسية-الألمانية –الروسية)
المساحة التقريبية (مليون ميل مربع) العدد التقريبي لسكان المستعمرات(مليون نسمة)
1830 2.3 126
1860 2.7 148
1876 18.5 298
1900 28 511

 

د-مرحلة عولمة الاقتصاد وأثرها السّلبي على اقتصاديات البلدان الخاضعة للاستعمار: قبل خضوعها للاستعمار الأوروبي وتأثرها بنتائجه السلبية، كانت البلدان النامية تعيش في حالة من التوازن بين مستوى تقدّمها الاقتصادي، والاجتماعي من جهة ونموّها السّكاني من جهة أخرى، لكنّ عوامل عديدة أثّرت في هذا التوازن بعد وقوعها ضحية للاستعمار ومنها:

  • إرادة الدول الاستعمارية وسعيها لتحويل هذه المستعمرات إلى أسواق تستهلك منتجاتها الصّناعيّة، لا سيما في ظلّ وجود فجوة كبيرة بين القدرة الانتاجية الكبيرة لقوى الإنتاج في الدول المستعمِرة في مقابل ضيق الأسواق الاستهلاكيّة المحليّة وغير الكافية لتصريف هذا الانتاج، “فبعد قيام الثورة الصّناعيّة، كثر أنتاجها وتراكم بالمصانع والمخازن ولم تستطع الأسواق المحليّة أن تستوعبه، … لم تجد الدّول الأوروبيّة الصّناعيّة حلًّا إلّا الاستعمار” (بو عزيز، 2009، ص10) وكذلك من أجل سرقة موارد المستعمرات وثرواتها الطبيعيّة بوصفها المواد الأوّلية اللازمة لاستمرار نموّ القطاع الصناعي في الدول الاستعمارية.

ويصف نهرو ما أصاب الهند في تلك المرحلة بقوله ” خُلِق فراغ لا يمكن ملؤه إلّا بالبضائع البريطانية ما أدّى إلى بطالة متزايدة بسرعة وإلى الفقر، ثم جرى بناء الأنموذج الكلاسيكي للاقتصاد الكولونيالي العصري، فأصبحت الهند مستعمرة زراعية خاضعة لانجلترا الصّناعيّة، تقوم بتوفير المواد الخام وتهيئ الأسواق للبضائع الصّناعيّة القادمة من إنجلترا”(نهرو، الجزء 2، 1989م، ص 20).

  • تصدير رؤوس الأموال من أوروبا نحو المستعمرات، وهي حركة نتجت عن تكرّر حصول أزمات اقتصادية دورية في أوروبا -ولا سيما بريطانيا- ألحقت أضرارًا بالغة بالقطاعات الانتاجية، “وازدادت الأزمة شدة مع ظهور الميول الاحتكارية، التي سمحت للمنشآت الكبيرة أن تهيمن وتزيح من أمامها المنشآت المتوسطة والصغيرة”(زكي، 1984م، ص 77)، وبذلك شعر الكثير من الرأسماليين بأن لا قدرة لهم على استثمار أموالهم داخل أوروبا بسبب المنافسة وانخفاض الأرباح المتوقّعة، وباتوا أمام خيارين: الأوّل إيداع أموالهم في البنوك والتي كانت فوائدها منخفضة حينها وهي عملية لا تدرّ عليهم الأرباح التي يأملونها، والثاني تصدير رؤوس أموالهم إلى المستعمرات لاستثمارها في تأسيس مؤسسات انتاجية وذلك بسبب وجود احتمالات عالية لتحقيق أرباح كبيرة، في وقت كانت المستعمرات تعاني خلاله من ندرة رؤوس الأموال فيها بعد أن كانت عرضة للنهب خلال مرحلة ظهور الرّسماليّة التجارية، وتشكّل ظروف الاستثمار فيها عامل جذب لأي مستثمر نظرًا لانخفاض أسعار الأراضي فيها (مقارنة بأوروبا)، ووفرة الموارد الطبيعية فيها، وانخفاض أجور العمال.. وبذلك نشطت حركة تصدير رؤوس الأموال في القرن التاسع عشر نحو بلدان آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، ويظهر الجدول التالي تقديرات رؤوس الأموال التي جرى تصديرها من بريطانيا (كنموذج عن هذه الحركة) إلى بعض مستعمراتها.(Cairncrosss,1953, p.209)
المدّة الزمنية رؤوس الأموال المصدرة (مليون جنيه)
1871-1880 266
1881-1890 561
1891-1900 286
1901-1910 721

وترافقت حركة تصدير الأموال مع تنام في حركة الهجرة إلى تلك المستعمرات من بريطانيا التي خرج منها خلال تلك الحقبة ما يقرب من مليوني مهاجر، وحتى بدايات القرن العشرين كان حجم رؤوس الأموال التي استثمرها الرأسماليون الأوروبيون في البلدان المستعمرة في تزايد مستمر، إذ قُدّرت في العام 1913 بما قيمته 44000 مليون دولار. (Brown,1976, p 171)

وقد ترتّب عن حركة الاستثمار تلك العديد من النتائج على البنى الاقتصادية في المستعمرات، فقبل هذه المرحلة كانت اقتصاديات البلدان الخاضعة للاستعمار تتّسم بالتوازن بين مقدّراتها واحتياجات مجتمعاتها، لكنّ الحال بدأ بالتغيّر بعد هذه الحركة إذ بدأ التشوّه يصيب اقتصاديات المستعمرات، وكان من نتائج ذلك:

 -تحطيم الاقتصاد المحلّي: فقد تغيّر الهدف من عملية الانتاج في البلدان التي وقعت ضحية للاستعمار، فبعد أن كان الانتاج يهدف إلى تأمين احتياجات السوق المحلّي تحوّل إلى هدف تأمين احتياجات السوق الخارجي إضافة إلى المحلّي، وقد حصل ذلك من خلال التوسّع الكبير في انتاج مواد خام زراعيّة أو منجميّة محدّدة تلبية لمتطلبات الصناعة والاستهلاك في الدول الرّسماليّة الغربية، أيّ أنّ الانتاج الذي كان متنوعًا بتنوّع احتياجات السّوق المحلّي بات يركّز على عددٍ محدّد من السلع المخصّصة للتصدير أو المتناسبة مع احتياجات مصانع الرأسماليين الغربيين.

ففي قطاع الزراعة وبعد أن كانت الزراعة المعيشيّة تؤمن احتياجات السّكان المحليّين، جرى التركيز على زراعة بعض الأصناف التي كانت مطلوبة للتصنيع أو التصدير (القطن، الكتان، الشاي، التبغ…)، واعتمدت سلطات الاستعمار أساليب انتهازية وقاسية لتحقيق مآربها ففي السودان مثلا أسّس البريطانيون مشروع “الجزيرة” لزراعة القطن، ولكنهم كانوا بحاجة إلى اليد العاملة الرخيصة، ولم تجذب الأجور الزهيدة مزارعي المنطقة للعمل في هذا المشروع إذ كانت زراعتهم المعيشيّة تؤمن لهم احتياجاتهم، فعمد البريطانيون إلى الضغط من جهة على رؤساء القبائل ومن جهة ثانية إلى فرض ضرائب نقديّة على السكّان وضريبة على القطعان، فاضطر الكثيرون للعمل مقابل أجرٍ ونجح هذا المشروع في تدمير الزّراعة المعيشيّة في المنطقة (جلال الدين، لا تاريخ، ص 90-92). وبذلك  تراجعت مساحات الأرض التي كانت تخصّص للزراعات الغذائية من حبوب وفواكه متنوعة، ومن الأمثلة عن مستوى هذا التّراجع أن معظم دول آسيا وأفريقيا تحوّلت إلى مستورد للحبوب من أوروبا وأميركا لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية. (world bank: world developing report,1981, p.13)

  • تفكّك الروابط بين القطاعات الانتاجية داخل البدان النامية: فتوجيه الاستعمار للاقتصاد المحلّي نحو إنتاج سلع محدّدة لم يكن له آثار إيجابيّة تذكر على سلسلة الانتاج المحليّة، ولم يحقّق أي تكامل بين أطرافها، كما أنّ المستثمرين عملوا على بناء بنًى تحتية ضرورية لإنجاح استثماراتهم كإنشاء خطوط المواصلات (سكك حديد، طرق، موانئ..) ومؤسّسات خدمية (بنوك، شركات تأمين..)، غير أنّ هذه البنى كانت مشاريع ملحقة بالاستثمارات الأجنبيّة، وتخدم مصلحتها بشكل رئيس، هذا ما جعل هذه البنى تتحوّل إلى ما يشبه الجزر فهي من جهة مستوى تقدّمها تغاير واقع البلد الذي نشأت فيه، ومن جهة اتساقها لا تتكامل مع قطاعات الانتاج في البلد المضيف بل تتكامل مع المشروع الرأسمالي الذي أسّسه المستعمرون.

ومن الأمثلة البارزة عن هذه النتيجة ما عانته الجزائر بفعل الإدارة الاستعمارية الفرنسيّة التي وفّرت وسائل النقل لتسهيل الوصول للمراكز الاستيطانية، فتسبّبت بذلك في إحداث خللٍ في المجتمع الجزائري وأدّت إلى خلق توجّهات جديدة في البناء الاقتصادي، كما تعمّدت السيطرة على الأرض الزراعية وتمليكها للمستعمرين الفرنسيين، الذين قاموا بزراعتها مركّزين على “المنتوجات التجارية والحيوية والتي كانت السوق الفرنسيّة بحاجة ماسة إليها، من دون مراعاة لاحتياجات الجزائريين … ووجهت الانتاج (الصناعي) بما يخدم مصالح المستعمرين والهدف وراء ذلك ربط الجزائر اقتصاديًا بفرنسا، …وسيطر المستعمرون على المبادلات التجارية الداخلية والخارجية بمساعدة البنوك والشركات الفرنسية الكبرى، وأصبح الاقتصاد في كل المستعمرة مرتبطا بالاقتصاد والسوق الفرنسي”. (طعبة، 2019-2020، ص192).

– تراجع الحرف التقليدية وتنامي البطالة: سمحت سياسة الأبواب المفتوحة التي اعتمدها الاستعمار في إدخال منتجاته الصّناعيّة إلى المستعمرات، وهي منتجات نجحت في منافسة السلع المحلية الحرفية بسبب جودتها من جهة، وبسبب انخفاض سعرها ربطا بانخفاض كلفة تصنيعها من جهة أخرى، فأدّى ذلك إلى انهيار القطاع الحرفي في المستعمرات، وتحوّل الكثير من العاملين فيه إلى عُمّال في مصانع الرأسماليين الأجانب أو إلى عاطلين عن العمل، فساهم ذلك في تحكّم الرأسماليين بالأجور بعد أن ازداد الطلب على التوظيف، وفي مثال عن هذا الواقع كان سكّان بتسوانا قبل الاستعمار البريطاني لها يتمتّعون بالاكتفاء الذاتي… وكان هناك حرفيون متخصّصون يقومون بصنع ومقايضة أدوات وأوعية معينة … ومنذ مجيئ الأوروبيين انهار هذا الاكتفاء الذاتي القديم” (ورديس، 1971، ص 60).

– تراكم أرباح الرأسماليين المستعمرين: حقق الرأسماليون أرباحًا طائلة من هذه الاستثمارت بفعل الفارق الكبير بين كلفة الانتاج وبين الأسعار التي باعوا بها سلعهم، لكن هذه الأرباح لم تتحوّل إلى جزء من الناتج المحلّي للبلد، بل ذهبت إلى جيوب المستثمرين الأجانب أي عادت بدورها إلى أوروبا فأدّى ذلك إلى مزيد من الاستنزاف لثروات المستعمرات وحرمت البلدان الخاضعة للاستعمار من ثروات كان يمكن أن تشكّل منطلقًا لتنميتها، ويصف “نهرو” مستوى النهب الذي تعرّضت له الهند بعد معركة “بلاسي” بوقت قصير (وقعت عام 1757م)، ناقلًا كلام الكاتب الأميركي “بروك آدمز” قوله”إن تدفق الثروات الهندية الذي زاد من رأس مال الأمة البريطانية زيادة كبيرة، لم يؤدّ فقط إلى تنمية طاقاتها المخزونة، بل إلى مضاعفة مرونتها” ويُعِدّ أنّ تلك الغنائم مهّدت لانطلاق ركب الثورة الصّناعيّة في بريطانيا (نهرو، الجزء 2، 1989، ص 18).

– نمو طبقة برجوازية محلية مرتبطة بالاستعمار: عملت معظم الفئات الثرية في البلدان النامية (البرجوازية الناشئة)على الاستفادة من الوضع المستجد، ولمّا كان الاستثمار في مجال الصناعة حينها حكرًا على الرأسماليين الغربيين دخل قسمٌ من الأثرياء المحليّين في مجال الاستثمار في الخدمات المالية، والتجارية والأعمال العقارية لا سيما ذات الصلة بالاستثمارات الأجنبية، وقام الاقطاعيون باستغلال أراضيهم في إنتاج السلع التي تصلح للتصدير أو للتصنيع، وبذلك ارتبطت مصالح البرجوازية في المستعمرات بمصالح المستعمرين، الذين ما لبثوا أن استفادوا من أبناء هذه الطبقة في إدارة شؤون البلاد، واستلام السلطة فيها ما ضمن للمستعمر استمرار نفوذه، ومصالحه بعد خروج جيوشه من هذه المستعمرات، وهكذا استمرّ نزف الموارد والثروات من البلدان (النامية) حتى بعد مرحلة خروج الجيوش الأجنبية منها. ويكفي الإشارة كمثال عن ذلك إلى إقرار الرئيس الفرنسي “جاك شيراك” عند كلامه عن علاقة فرنسا بمستعمراتها الأفريقية السابقة إذ قال إنّ الكثير من الأموال التي في جيوب الفرنسيين سنويًّا أتى من استغلال أفريقيا لقرون (قناة العالم، فيديو تم استرجاعه بتاريخ 10/4/2024،عبر الرابط 2022،lalam.ir/news/6433133/ https://www.a).

وحتى في مراحل ما بعد التحرّر خضعت معظم الدول النامية “لشروط التقسيم الجديد للعمل الدولي، الذي تخطّط له وتنفذه الشركات العملاقة الدولية النشاط، ما أدى إلى تعميق تبعيتها وإلى تعقيد وترسيخ الآليات الجديدة لتخلفها ونهب مواردها وثرواتها.” (زكي، 1984م، ص 12)

وبذلك يمكن القول إنّ أسباب تدهور الوضع الاقتصادي في الدول النّامية عند وقوعها ضحية للمشكلة السكانيّة، لم يكن قد نتج عن أسباب تتعلّق حصرًا بعجز تلك البلدان عن إدارة مواردها، أو لفقرها بالموارد، بل يتمثّل السبب الرئيس بحركة الاستعمار، واستغلاله الجائر لموارد تلك لبلدان وربط اقتصادها باقتصاد الدولة المستعمِرة واحتياجاتها، وذلك إضافة إلى تآمر أو جشع بعض السلطات الحاكمة في تلك البلدان والتي تكوّنت في الغالب من المنتفعين من الاستعمار، كل ذلك حرم هذه البلدان من الفرص العادلة في تحقيق النموّ الاقتصادي السليم والتنمة البشرية المتوازنة.

هـ-مرحلة النمو السكاني الانفجاري في البلدان النامية: قبل أن تصل البلدان النامية إلى مرحلة النمو السكاني الانفجاري لا سيما في القرن العشرين، كانت معدلات النموّ السكاني في تلك البلدان منخفضة نسبيًّا، فصحيح أن معدلات المواليد كانت مرتفعة لكن أيضًا كانت معدلات الوفيات مرتفعة، كما تميّزت المرحلة الأولى من دخول المستعمرين بارتفاع إضافي لمعدلات الوفيات بسبب أعمال القتل التي مارسها المستعمرون، وبسبب الأمراض المعدية والقاتلة التي نقلوها إلى السكان المحليين (عمدًا أو عن غير عمد)، لكنّ تلك معدلات الوفيات عادت للانخفاض في معظم المستعمرات وذلك وفق تسلسُل الظروف الآتية:

-مرحلة استقرار المستعمرين الأوروبيين: عندما قرّر المستعمرون الأوروبيون الاستقرار في المستعمرات، واستثمار أموالهم فيها بمشاريع صناعية وتجاريّة، عمد المستعمرون إلى تأمين ظروف ملائمة لهذا الاستقرار، ففرضوا في البداية الاستقرار الأمني بالقوّة العسكرية من جهة ومن خلال استغلال جماعات محليّة وتجنيدهم لحفظ الأمن والنظام، ويشير “نهرو” إلى سعي البريطانيين في الهند لخلق طبقة محلية مصالحها متطابقة مع مصالح البريطانيين، وينقل عن الحاكم البريطاني “وليم بنتنك” كلامه عن عملية “خلق كتلة كبيرة من حائزي الأرض الأغنياء ذوي المصلحة العميقة في استمرار السيطرة البريطانيّة والذين يهيمنون هيمنة كاملة على جماهير الشعب”(نهرو، الجزءالثاني، 1989م، ص28)، وكان من نتائج استقرار الأوروبيين واستثماراتهم أن قاموا بتوظيف أعداد من العمال المحليين في المصانع والمزارع والمرافق التي أسّسوها، وعلى الرغم من محدودية الأجور التي كانوا يحصلون عليها إلّا أنّها ساهمت جزئيا في تأمين دخل مستقر حسّن من قدرتهم على تأمين رعاية صحية مقبولة، كما أن المستثمرين الأوروبيين عملوا على تحصين أنفسهم صحيًّا من خلال تحصين العاملين لديهم من الأمراض المعدية فساهم ذلك مع الوقت في تخفيض معدّلات الوفيات عما كانت عليه.

مرحلة التقدم العلمي والطبي: بدأ التقدم العلمي في مجال العلوم الطبية يتسارع منذ بداية القرن العشرين، فقد جرى اكتشاف المضادات الحيوية وتطوّر الطب الوقائي وإنتاج اللقاحات وإنتاج أدوية جديدة تعالج العديد من الأمراض التي كانت مستعصية قبل ذلك، كما تحسّن إنتاج واستخدام المبيدات الحشرية لمواجهة آفة الحشرات التي كانت تنقل الأمراض المُعدية كالملاريا وغيرها، وقد نتج عن استفادة البلدان النامية من هذا التقدّم العلمي والطبي أن انخفضت معدلات الوفيات فيها بشكل كبير في الوقت الذي كانت فيه معدلات المواليد لا تزال مرتفعة، مع العلم أن مستويات التقدّم في مستويات النمو في تلك البلدان، كانت تختلف باختلاف ظروف تلك البلدان، ولعلها لم تكن شاملة لكل المناطق فيها أو الفئات الاجتماعية لكن ذلك لم يمنع تحقيق نتائج واضحة. ففي مثال عن ذلك انخفض معدّل الوفيات في الهند من 40.4 بالألف عام 1921 إلى 20.9 بالألف العام 1960 بفعل إجراءات السلامة العامة ومكافحة الأمراض الوبائيّة (world Population Conference, 1965, p.3).

– مرحلة التحرّر من الاستعمار: بعد نيل معظم البلدان المستَعمرة استقلالها استمرّ التزايد الكبير في معدلات النمو السّكاني فيها،  وذلك بفعل استمرار الانخفاض في معدّل الوفيات في مقابل حفاظ معدّل المواليد على مستوياته المرتفعة، وذلك في وقت كان اقتصادها لا يزال منهكًا وغير متوازن، ولم تنجح تلك البلدان في تحسين استثمار مواردها المتبقية وذلك إمّا بسبب استمرار خضوعها لنفوذ المستعمرين السياسي والاقتصادي، وإمّا بسبب سوء الإدارة  المحلية وفسادها أو ربما تبعيتها للمستعمرين، في وقت كانت فيه الرعاية الصحّية مستمرة في التحسّن فساهم ذلك في استمرار ارتفاع معدلات النموّ السكاني لكن في ظل استمرار انخفاض نسب التنمية البشرية.

ويظهر من خلال التقديرات الإحصائية السّكانية للأمم المتّحدة أن نموّ السّكان في البلدان المتخلفة أو النامية خلال القرن العشرين كان استثنائيّا ولذلك وُصِف بالنموّ السّكاني الانفجاري، فبعد أن كان يقدّر بحوالي مليار نسمة في بداية القرن العشرين، تضاعف إلى مليارين في بداية النصف الثاني من القرن المذكور ثم ارتفع إلى أكثر من 4 مليارات قبيل نهاية القرن   (The World Population situation in 1980, p4) ، وفي العالم ككل وصل العدد إلى 8 مليار في أواخر العام 2022، (موقع الأمم المتحدة للشؤون السكانية https://www.un.org/ar/global-issues/population  بتاريخ 23/3/2024، الفقرة الثانية).

استنتاجات:

– صحيح أن الدول الأوروبية قد شهدت خلال القرن التاسع عشر نموًّا سكّانيا سريعًا، لكنّه كان نتيجةً متناسبة مع التّقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي حصل حينها في أوروبا، أمّا النموّ السكّاني الكبير الذي شهدته الدول المتخلّفة خلال القرن العشرين فلم يكن كذلك، بل كان ناجماً عن الظروف التاريخية التي شهدتها تلك البلدان ووقوعها تحت تأثير الاستعمار مباشرة أو بشكل غير مباشر، الأمر الذي خلخل بُناها الاقتصادية، وشوّه المسار التقليلدي للنموّ السكّاني فيها.

– إن المشكلة السكّانية التي عانت منها -ولا تزال- مجموعة كبيرة من الدول المتخلفة لا تعود فقط إلى العوامل الديموغرافية ومعدلات النمو الطبيعي لسكانها بقدر ما تعود إلى أسباب اقتصادية تاريخية المنشأ، تمثلت بتعرّض اقتصاديات وثروات تلك البلدان للنهب والاستغلال الجائر من قبل مجموعة من الدول الاستعمارية الغربية التي تنعّمت ولا تزال بتلك الثروات. وأدّى دورها السلبي إلى سلسلة من المشاكل التي أرهقت المستعمرات، ويصف “نهرو” ذلك بقوله “نشأت مشكلاتنا الكبرى كلها تقريبًا خلال الحكم البريطاني ونتيجة مباشرة للسياسة البريطانية: مشكلة الأمراء، مشكلة الأقليات، ..انعدام الصناعة وإهمال الزراعة، التخلّف المفرط في الخدمات الاجتماعية، وقبل ذلك مشكلة الفقر المأساوي للشعب”(نهرو، الجزء الثاني، 1989، ص 30).

– في مقابل المالتوسية الجديدة التي تحمّل البلدان النامية وزر المشكلة السكّانية ومظاهرها (كالتخلّف، والفقر، والبطالة، والإسكان والتلوّث..)، ظهرت آراء مقابلة (كمجموعة باريلوتشي في الأرجنتين) التي أصدرت دراستها تحت عنوان “كارثة أم مجتمع جديد؟” وحاولت رسم الطريق النموذجي للمجتمع البشري في سعيه لتأمين احتياجاته الرئيسة (الغذاء، المسكن، الصحة والتعليم)، وعدّت أن المشكلة التي يواجهها العالم طبيعتها اجتماعية وسياسية، وأن مواجهتها لا تكون بتقليل النموّ السكّاني، إنما من خلال التغيير الجذريّ في الأنظمة الاجتماعية والسياسية للعالم.

– إن الخروج من المشكلة السكّانية وحلّ تبعاتها لا يجب أن ينحصر بوضع علاجات للارتفاع في معدّل النّمو السكاني وعده المشكلة الرئيسة، لا سيما أن النموّ السكّاني قد يكون في بعض الحالات ضرورة لتأمين استمرارية فتوّة المجتمع وتزويده بالفئات المنتجة، بل يجب وضع علاجات تتمحور حول تحقيق التنمية الاقتصادية من خلال:

– الاستثمار الأمثل لموارد البلاد بالاعتماد على طاقاتها الذاتية مع إمكان الاستفادة من الخبرات الخارجية.

– تحرير اقتصاديات البلدان النامية من التبعية المطلقة للخارج، ومن التبعية للدائنين.

– تحرير إدارات البلدان النامية داخليًّا من الفساد الذي يمنع تحقيق العدالة الاجتماعية، والهدر الذي يتسبّب في تلف الموارد وضياعها.

المصادر والمراجع

-الكتب والأبحاث العربية:

1- بو عزيز، يحيى: الاستعمار الأوروبي الحديث في إفريقيا وآسيا وجزر المحيطات، دار البصائر، الجزائر، 2009.

2- جلال الدين، محمد العوض: بعض قضايا السكان والتنمية في السودان والعالم الثالث، مركز الدراسات والبحوث الإنمائية، دار جامعة الخرطوم، لا تاريخ.

3- رفو، علياء: المشكلة السكانية، بحث ضمن مادة المشكلات المجتمعية، الجامعة المستنصرية-كلية الآداب، 2018.

4- زكي، رمزي: أزمة الديون الخارجية، رؤية من العالم الثالث، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1978.

5- زكي، رمزي: المشكلة السكانية وخرافة المالتوسية الجديدة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، كانون الأول 1984.

6- سامية، بامهدي وجميلة، عافية: تجارة الرقيق في إفريقيا من القرن 15م إلى 19م، مذكرة مكملة لنيل شهادة الماستر في التاريخ، جامعة أحمد دراية أدرار – الجزائر، 2021-2022.

7- شكري، محمد فؤاد: الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الأول)، مؤسّسة هنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، 2012.

8- طعبة، حورية: السياسة الاقتصادية الاستعمارية الفرنسية في عمالة قسنطينة 1870-1945م، أطروحة دكتوراه، جامعة أحمد دراية، أدرار، 2019-2020.

9- علي، محمد حمدي: الاكتشافات الجغرافية من القرن الخامس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر، الطبعة الأولى، المطبعة الجمالية بالقاهرة، 1913، نسخة إلكترونية عن موقع مكتبة نور: https://www.noor-book.com –pdf

الكتب الأجنبية

10- Brown, Michael B.: The Economics of Imperialism, Penguin Modern Economics, 1976.

-11 Cairncross, A.K.: Home and Foreing Investment 1870-1913, Cambridge University Press, Cambridge,1953.

-12world Population Conference: Land Resources and Agricultural Growth ,Belgrade 1965, Paper A.

المنشورات الرسمية (للمنظمات الدولية):

13-الأمم المتحدة: تقرير التنمية البشرية 2013، https://www.un.org/ar/esa/hdr/pdf/hrd13/overview.pdf

14-الأمم المتحدة: السلام والكرامة والمساواة على كوكب ينعم بالصحة، تم عن الاسترجاع عن موقع الأمم المتحدة للشؤون السكانية https://www.un.org/ar/global-issues/population  بتاريخ 23/3/2024.

15-البنك الدولي: البلدان النامية تزيد نصيبها من الناتج العالمي، مدوّنة من قبل فريق بيانات البنك الدّولي بتاريخ21/7/2010، نقلا عن الموقع الرسمي للبنك الدولي https://blogs.worldbank.org/ar/opendata/19788

16-البنك الدولي: تقارير متعددة عن الموقع الرسمي للبنك الدولي عبر الروابط الآتية:

https://data.albankaldawli.org/indicator/SP.POP.TOTL

https://data.albankaldawli.org/indicator/NY.GDP.PCAP.CD?locations=IN

17-اليونيسف: طفل دون سن الخامسة عشرة يموت كل خمس ثوان –تقرير للأمم المتحدة، 18أيلول 2018، نقلا عن الموقع الرسمي لليونيسف https://www.unicef.org/ar/

-United Nations, Department of Economic and Social Affairs, World Population Situation 1970, New York 1971.

18-United Nations, Department of Economic and Social Affairs, World Population situation in 1980. New York 1981

19-world bank: word developing report 1980, Washington DC,1981.

المراجع المترجمة

20- برانت، فيلي: الشمال والجنوب، تقرير اللجنة المستقلة المشكلة لبحث قضايا التنمية الدولية، ترجمة زكريا نصر، سلطان أبو علي، جلال أمين، الكويت 1981م.

21- ريو، جان بيير: الثورة الصّناعيّة 1780-1880، منشورات وزارة الثقافة –دمشق، 1975.

22- نهرو، جواهر لال: اكتشاف الهند، الجزء الثاني، ترجمة فاضل جتكر، الطبعة الأولى، الهيئة العامّة السورية للكتاب، 1989.

23- هيز، كارلتون ج.: الثورة الصّناعيّة، تعريب: أحمد عبد الباقي، الطبعة الأولى، 1950، مطبعة العاني، بغداد.

24- هيلبرونر، روبرت: قادة الفكر الاقتصادي، ترجمة راشد البراوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1979.

25- ورديس، جاك: جذور الثورة الأفريقية، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، الهيئة المصرية العامّة للتأليف والنشر، القاهرة 1971.

محتويات مواقع انترنت (مقالات)

-26طه عبد الناصر رمضان: هكذا قتلت مجاعة 9 ملايين هندي خلال عامين، مدوّنة في موقع العربية نت، بتاريخ 28 أبريل 2021.

27-متجاوزة الصين: الهند البلد الأكثر اكتظاظاً في العالم، تقرير منشور على موقع يورونيوز بتاريخ 25/4/2023.

28-قناة العالم: فيديو تم استرجاعه بتاريخ 9 نوفمبر، 2022،alam.ir/news/6433133/ https://www.a بالفيديو-شيراك-يعترف-جزء-كبير-من-أموالنا-جاء-نتيجة-إستغلالنا-لافريقيا.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website