كيمائيّة الثقافة والأدب والتحولاّت
أ.د مها خيربك ناصر*
تظهر المعاجم أنّ كلمة ثقافة مرتبطة من حيث المعنى والدلالة بالفعل “ثقف” الذي يفيد الحذق، والفهم، والفطنة، والمهارة، وحسن التعليم، والتقويم، والخلق المستمرّ.
وأنّ كلمة أدب مرتبطة من حيث المعنى والدلالة بثلاث كلمات “الأدب والدأب والأدَب”، أي الدعاء، والعجب، والدعوة إلى الطعام، وإلى المحامد، وترك المقابح، وإلى العمل الجيد، وإلى التحلّي بالظرف، وبالأخلاق الكريمة، وفق ما جاء في حديث الرسول (ص): “أدّبني ربّي فأحسن تأديبي“، فأفادت الكلمة، بالاستناد إلى ثلاثة: الأصول المتمايزة لفظًا، والمتّفقة دلالة، مفهوم العمل والسعي إلى إغناء الفكر من أجل التعايش وتطوير الحياة المؤسّسة على الأخلاق الحميدة التي تمنح أيَّ نتاج فكريّ قيمًا إنسانيّة، غايتها الأساس الدعوة إلى التحدي و إثبات الذات بالسعي الدائم والهادف إلى الخلق والتطوير.
تؤكّد الدلالات المعجميّة أنّ الثقافة، والأدب يتقاطعان في دلالة اصطلاحيّة تشكّل مركزيّة أساسًا للتثقيف، والتهذيب، والخلق، والسعي، والعمل، والتحسين، والتطوير، فلا ثقافة من دون أدب، ولا أدب من دون ثقافة، وبقدر ما تكون كيمائيّة الاندماج، والتوليد فاعلة بقدر ما يكون المنتج أكثر قدرة على التأثير والتأسيس، وعلى تكريس الهُويّة الثقافيّة المتمايزة التي تكتسب خصوصيّتها من قدرة الأدب على رسم الأطر الاجتماعيّة، والنفسيّة، والدينيّة، والسياسيّة، والحضاريّة لمجموعات بشريّة، لها قيمها، وعاداتها، وتقاليدها، ومعتقداتها، وأنماط تفكيرها، وأساليب عيشها، فيتقمّص هذا المنتج الروح الثقافيّة، ويلبسها حلّة أدبيّة جديدة تعبّر عن طبيعة الحَراك الاجتماعيّ، وعن المستوى الفكريّ، والعلميّ، والحضاريّ للأمّة.
استنادًا إلى ما سبق يمكن القول إنّ ضياع الهُويّة الثقافيّة ناتج من تعثّر الفعل الأدبيّ الإبداعيّ، وغياب الفعل الأدبيّ الإبداعيّ في أمّة من الأمم سببه تشويه الهُويّة الثقافيّة، وتهميش دورها الفكريّ، والحضاريّ، لذلك تسعى العولمة إلى إلغاء تنوّع الهُويّات الثقافيّة، وحصرها في ثقافة القرية الكونيّة المزعومة التي تفرض ولادة أدب من دون هُويّة ذاتيّة، فكثر الكلام على الأدب التفاعليّ الهادف إلى إلغاء الفرادة الإبداعيّة، وتحويل النصّ إلى مولود لقيط يفتقر إلى الانتماء والهُويّة، وإلى مختبر إبداعيّ واحد يحتضن عمليّة التفاعل الكيميائيّ بين مرجعيّات ثقافيّة، ومقولات أدبيّة تقدحها طاقات إبداعيّة. فيتمخّض عن هذا الفعل الكيميائيّ مولود أدبيّ/ فكريّ جديد على غير مثال، فتشكّل فرادته أصلاً يَعِدُ بولادة الجديد الأكثر قدرة على التحويل والتطوير. ممّا لاشكّ فيه أنّ الفرادة الإبداعيّة قادرة على فرض التحوّلات الفكريّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
** حائزة على دكتوراه دولة في اللغة العربيّة وآدابها، الجامعة اللبنانيّة، الاختصاص الدقيق: النحو العربيّ، والألسنيّة العربيّة، والنقد العربيّ الحديث، أستاذة الدراسات العليا، الجامعة اللبنانيّة، المعهد العالي للدكتوراه. عضو في: المجلس العالميّ للغة العربيّة (الهيئة الإداريّة، أربع دورات)، اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين (الهيئة الإداريّة)، المنتدى القوميّ العربيّ (الهيئة الإداريّة)، اتّحاد الكتّاب العرب، جمعيّة النقد الأدبيّ، الهيئة الاستشاريّة. مجلّة مقاربات، محكّمة، المغرب. الهيئة الاستشاريّ، مجلّة الاستهلال، محكّمة، المغرب. الهيئة الاستشاريّة، مجلّة الخطاب، محكّمة، الجزائر، الهيئة الاستشاريّة، مجلّة الجنان، محكّمة، الهيئة الاستشاريّة، مجلّة شؤون ثقافيّة، وزارة الثقافة اللبنانيّة. أمينة شؤون مجلّة إشارات الصادرة عن اتّحاد الكتّاب اللبنانيّين. الهيئة الاستشاريّة، مجلّة أوراق ثقافيّة، محكّمة، لبنان.
والحضاريّة، غير أنّ معظم ما يولّده الفعل الكيميائيّ التوليديّ التحويليّ من الجديد المغاير لا يجد مساحة بيضاء تحتضنه، على الرغم من كثافة المجلاّت التي تُعنى بالفكر، والأدب، والثقافة، وربّما كان السبب طغيان الشلليّة والعلاقات الشخصيّة التي تفرض التغييب، والتهميش، والإلغاء، وتلهث وراء عالميّة معولمة مزعومة.
ولذلك نرجو أن تتمرّد المجلّة الواعدة” أوراق ثقافيّة” على المألوف، فتلفظ أوراقُها كلّ نصّ لا يحقّق مفهوم النصّ ودلالته، أو لا يكون وليد تفاعل ثقافيّ، وأدبيّ في محراق إبداعيّ يعكس الجميل، والمضيء، والمتمايز الهادف إلى نشر معارف تحضّ على الحذق، والتهذيب، والتطوير، وإلى تكريس الهُويّة الثقافيّة المتمايزة لبنان. التي تكتسب خصوصيّتها من قدرة الأدب على الابتكار، والإبداع، والتجديد، وفرض التحولاّت حدثًا فاعلاً قادرًا على الكشف عن النتوءات، والتشوّهات، وعلى التقييم، والتقويم، والتحسين، من أجل خدمة الإنسان، وتحقيق أمنه وحرّيّته، وسعادته، وتعزيز انتمائه، والاعتزاز بهُويّته.