العولمة وأزمة الهُويّة: قراءة نقدية فى تراث علم الاجتماع المعاصر
Globalization and the identity crisis: a critical reading in the heritage of sociology Contemporary
Khodor Farhat خضر فرحات([1])
ملخص
تهدف الورقة إلى التعرف على إذا ما كانت العولمة نتاج تحولات أم نتاج آيديولوجيّة، هل تعمل العولمة على تهديد الهُويات وبخاصة الهُويات الثقافيّة؟ وما أهم الهُويات في العالم؟
وتعتمد الورقة على نظرية العولمة _ مع موجاتها الثلاث _ كخلفيّة نظرية للوصول إلى إدراكات مستبصرة تتعلق بالعلاقة بين الهُوية والعولمة. وفي هذا السياق، تُطرح مجموعة من الافتراضات حول ما إذا كنا بحاجة إلى الانتقال من الإقصاء الاجتماعي إلى الاندماج الاجتماعي. كما تؤكد أهمية التمكين الاجتماعي للفئات الاجتماعيّة للفقراء والشباب والمهمشين. وتوصلت الدراسة إلى عدد من النتائج أكثرها أهمّيّة:
- إن العولمة ليس آيديولوجية، وإنّما هي عملية إعادة بناء موضوعي لكل من الاقتصاد والثقافات والنظم والمجتمعات.
- تعمل العولمة على الاستبعاد والإدماج في الوقت نفسه، إدماج كل شيء له قيمة واستبعاد كل ما ليس له قيمة.
- وأكدت أن عولمة رأس المال أو التجارة العالميّة لا تعتمد على وجود التكنولوجيا أو ريادات الأعمال فقط، وإنّما يعتمد تحقق الطابع الكوني على مبادرات الدول القومية في تحرير الاقتصاد وإزالة الحدود.
الكلمات المفتاحيّة: الهولمة، الهُوية، المجتمع الكوني والمحلي، علم الاجتماع.
Summary
The paper aims to identify whether globalization is a product of transformations or a product of ideology، does globalization threaten identities، especially cultural identities What are the most important identities in the world
The paper relies on the theory of globalization-with its three waves-as a theoretical background to reach clairvoyant insights related to the relationship between identity and globalization. In this context، a set of assumptions is put forward about whether we need to move from social exclusion to social integration. It also emphasizes the importance of social empowerment of the social groups of the poor، youth and marginalized. The study reached a number of results، the most important of which are:
Globalization is not an ideology، but a process of objective reconstruction of both the economy and cultures، systems and societies.
Globalization works to exclude and integrate at the same time، integrating everything that has value and excluding everything that has no value.
She stressed that the globalization of capital or World Trade depends not only on the existence of technology or entrepreneurship، but the achievement of universality depends on the initiatives of nation-states in liberalizing the economy and removing borders.
Keywords: holism، identity، cosmic and local society، sociology.
مقدمة
شهد العالم خلال عشرات السنين الأخيرة عمليتين متوازيتين تتعايشان معًا، العولمة من ناحية، وتأكيد الهُويات الثّقافيّة المتباينة من ناحية أخرى. وترتبط كلتا العمليتين ببعضهما، فكما ترتبط عملية تحقيق التّجانس الثقافي عادة بالعولمة، فإنّ العولمة تنطوي على تهديد للثقافات المحلية ولهُويات معينة. وقد بزغ مع هذا الخوف فقد المرجعيات الثقافيّة الّتي تدعم هويات الناس، الأمر الّذي كان من نتائجه نشوب الصراعات والنزاعات حول الهُويات المحلية والإقليميّة.
ويذهب مانيول كاستلز M.Castells في هذا الصّدد إلى أن العمليتين تحدثان في الوقت نفسه، وهو تزامن غير تاريخي، وعلى الرّغم من أنهما تحكمهما علاقات نسقية، فإنّها ما تزال علاقة غامضة تحتاج إلى توضيح.
وقد أكد البعض مبدأ الخصوصيّة الثقافيّة والعودة إلى الهُوية التاريخيّة للأسلاف، الّتي يصعب أن تندمج في الثقافة العالميّة، أو الثقافة الواحدة الّتي ينتمي إليها الجنس البشري(M.Castells.2010)
وهكذا أصبحت قضية العلاقة بين العوملة والهُوية الثقافيّة واحدة من الاهتمامات ذات الأبعاد المتعددة والمعقدة الّتي شغلت الباحثين، على الأخص في علم اجتماع العولمة، لأنّ التحديث والعوملة يُحدثان تحولات أساسيّة في جذور الهُوية وبنائها، وقيم الأسرق والمجتمع المحلي والأمة والجغرافيا، وكذلك في 2011)قيم الوسط الكوني ،et al،(A.Naz
وتهدف الورقة الحاليّة إلى تسليط الضوء على العلاقة بين العولمة والهُوية، على نحو يسهم في زيادة استبصارنا وفهمنا لها، ويطرح عدة قضايا جديرة بالبحث في المستقبل، وذلك من خلال الإجابة عن عدة تساؤلات:
- هل العولمة آيديولوجيّة أو تحولات متعددة؟ وهل تعمل على الاستبعاد أكثر من الاندماج؟
- هل هناك خوف من تهديد العولمة للهُويات الثقافيّة؟
- ما أشكال الهُويات المهمّة في العالم؟
- ما الاستجابات المتباينة الّتي أثارتها فكرة العولمة الثقافيّة؟ وكيف عبرت عن أزمة الهُوية؟
- ما الوسائل الخلّاقة في التعامل مع العولمة وتجنب التهميش في العالم العربي؟
وتستعين الورقة بما توافر في تراث علم اجتماع العولمة من نظريات ومفاهيم، وما تقدّمه الموجات الثلاثة لنظرية العولمة(المتحولون والمتشككون والتحوليون) من تفسير للمواقف المتناقضة من قضية العلاقة بين العولمة والهُوية، وتعتمد في هذا الصدد على مفاهيم مثل مركب الهُوية، وكأداة لنقد التيار السّائد بين الباحثين في العالم العربي الّذي يدعم النّتائج السلبيّة للعولمة على الهُوية الثقافيّة العربية وطرح تصور يوضح كيفيّة التعامل الخلاق مع العولمة في المستقبل. وتمثل الورقة دراسة استطلاعيّة تعتمد إلى حد كبير على منهج إعادة التحليل، وقراءة ما توفر في التّراث والدراسات السابقة في علم اجتماع العولمة حول هذه القضيّة. وتنقسم الورقة إلى عدة محاور:
الأول: يعرض الإطار التصوري للعلاقة بين العولمة والهُوية.
الثاني: يركز على أزمة الهُوية والمواقف المتناقضة في التراث من هذه العلاقة.
الثالث: يقدم توضيحًا للوسائل الممكنة في التعامل الخلاق مع العولمة.
وينتهي البحث بخاتمة تبلور مجموعة استنتاجات تجيب عما أثير من تساؤلات وتطرح خيارات للمستقبل.
أولًا: المفاهيم والإطار التصوري للعلاقة بين العولمة والهُوية
يستفيد البحث من نظرية العولمة وموجاتها المختلفة، ويستعين بمجموعة من المفاهيم الأساسيّة، ربما كان أهمها مفهوم العولمة، والجمع الكوني والمحلي والهُوية ومركب الهُوية.
- العولمة
يصعب حصر تعريف العولمة في تراث علم الاجتماع، ونتوقف هنا أمام بعضها، إذ يذهب مانويل كاستلز إلى أنّ العولمة ليست آيديولوجية بقدر ما هي عملية إعادة بناء موضوعي لكل من الاقتصاد والثّقافات والنّظم والمجتمعات. وتشير العولمة في الاقتصاد إلى نموذج من الاقتصاد يعدُّ كونيًّا، لأنّ نشاطاته الجوهرية(رأس المال وأسواق المال) قادرة على العمل بوصفها وحدة في الوقت نفسه ويوميًّا. وهو اقتصاد في جوهره كونيٌّ، لأنّ أسواق المال في حالة اعتماد كوني في ما بينها، وكذلك رأس المال والتجارة العالميّة، وإنتاج السلع والخدمات، والشّركات متعددة الجنسيّات، كلّها في جوهرها كونيّة، لأنّ الشّركات متعددة الجنسيات لا تستخدم إلا حوالي 200 مليون فقط من العمال، وذلك من إجمالي القوى العاملة في العالم والّتي تقدر بحوالي 3 مليارات عامل.
وكذلك يعدُّ كل من العلم والتكنولوجيا بوصفهما أساسًا لنمو الثروة والقوة، عناصر كونية، وقد تشكلت شبكات للعلم والتكنولوجيا في أنحاء العالم جميعها. وتُعدُّ الاتصالات أيضًا كونيّة، وهناك سبع مجموعات كبرى للاتصالات تتحكم في إنتاج 50% من المادة المرئيّة والمسموعة أو إذاعة الأخبار، وهذا لا يعني أنّ الثقافة والإعلام في جملتهما قد أصبحا كونيين، لأنّ هناك ما هو خاص ومحلي في كل ثقافة (M.Castells،2010).
وقد أسهمت عمليّة العولمة في نمو مجموعة من النّظم الدّوليّة تتحمل مسؤولية إدارة المشكلات الّتي تمثل منفعة عامة كونيّة، وهذا ما حدث في مجال البيئة والتّعامل مع حالة الدفء الكونيّة وآليات تجنبها، وأصبحت الأساليب كلّها ووسائل التّحكم في البيئة من قبيل النّفع العام الكوني. وتمثل حقوق الإنسان مجموعة قيم كونية وُقّعِ عليها كونيًّا وعالميًّا، ولقد أصبحت علاقة الاعتماد المتبادلة بين الأمم والبلدان والمجتمعات ظاهرة واضحة. والعولمة الحاليّة ليست هي العولمة السابقة نفسها، لأنّها بنيت على تكنولوجيا الاتصال والمعلومات الّتي عملت على تجاوز واختفاء المسافات بين البلدان، والعولمة في الوقت نفسه تعمل على الاستبعاد والإدماج، فهي تعمل على إدماج كل شيء له قيمة، ولذلك فالعولمة الاقتصاديّة بالتّحديد تعد عملية انتقائيّة، وهذا ما يدفع الدّول والحكومات ونشاطات الأعمال في البلدان كلها إلى الانخراط في هذه الشّبكة الكونيّة، لأنّ الوجود خارجها يعوق النّمو، والتنمية، وتوليد الثروة. كما يعني غياب إمكان الاستثمار في رأس المال والتكنولوجيا عن أيّ بلد، أو إقليم أو قطاع، زيادة احتمالات تهميشه عن الاقتصاد الكوني. وعلى الرّغم من أن هذا النّوع أو النّمط من العولمة الاستبعاديّة، قد وجد معارضة من جانب الرأي العام، فإنّه لا يمكن أقول إنّ العولمة سلبيّة كلها، لأنّه في حين تخلفت قطاعات أساسيّة في كثير من المجتمعات عن عملية العولمة، إلّا أنّ هناك قطاعات أخرى كثيرة استفادت من هذه العولمة على نحو يفوق المعتاد. وقد تكون العولمة إيجابيّة في المجالات الاقتصادية، ولكنّها سلبية في المجالات البيئية مثلًا(M.Castells،2010).
ولكي تتمكن الدّول من إدارة العولمة وتنخرط في شبكاتها، كان عليها أن تعمل على تشجيعها بالفعل، لأنّ عولمة رأس المال أو التّجارة العالميّة لا تعتمد فقط على التكنولوجيا أو استراتيجيات الأعمال لكي تحقق الطابع الكوني، وإنّما يعتمد ذلك أيضًا على مبادرات الدّول القوميّة في تحرير الاقتصاد أو التفكيك أو إزالة الحدود.
وتمثل الدّول الفاعل الأساسي في عمليات التّحرر والعولمة. ولقد شكل الاتحاد الأوروبي شكلًا جديدًا من الدّولة الّتي تعتمد على حكومات دولها القوميّة، لتعمل معًا على نحو أو آخر، وتتفاوض بشكل مستمر، وتتقاسم السّيادة حتى تتمكن من الحفاظ على مستوى معيّن من الاستقلال في علاقتها بالشّبكات الكونيّة لرأس المال والتكنولوجيا والتجارة العالميّة والإعلام. ونشأ عن ذلك بناء فوقي من النّظم العالميّة، كالناتو، ومنظمة الصحة العالميّة، ومفوضيّة البيئة وغيرها، وفي هذه الشبكة تتخذ القرارات السياسيّة وتجري المفاوضات وتُدار وكلّ ما يشير إلى أنّ الدّول القوميّة لم تختفِ مع العولمة، ولكن كان عليها لكي تبقى أن تتنازل عن بعض من سيادتها(M.Castells،2010).
- الجمع بين الكوني والمحلي
يذهب التّحوليون من أنصار الموجة الثالثة في نظرية العولمة، مثل هيلد وهاس ومارش إلى أنّ العولمة ظاهرة جديدة، وفي الوقت نفسه تعدُّ عملية تاريخيّة طويلة المدى، ويصعب أن تزيل ما يقف أمامها كله، وأنّها تنطوي على تحولات عميقة تشكل قوى دافعة مركزيّة تقف وراء التّغيرات الّتي تعيد تشكيل العالم، وأنّها تخلق صورًا جديدة من الثّقافة تجمع بين المحليّة والكونية. وكذلك أخذت النّشاطات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة تضرب جذورها في المحليّة والعالميّة. وهناك جوانب من الثقافة القوميّة(في الإعلام والسّينما والدّين والطعام والموضة والموسيقى) تختلط مع مدخلات من مصادر دوليّة، ولم تعد الثقافة القوميّة منفصلة عن الثقافة الدولية. فقد تبدأ بعض نماذج الموسيقى في تجمع محلي، ولكنها تنفصل عنه، بعد أن تُعزَفُ على نطاق كوني. وهكذا تخلق العولمة صورًا جديدة من الثقافة تجمع بين المحليّة والكونيّة(L.Martell،2007).
- الهُوية
ربما كان مصطلح الهُوية من المصطلحات الّتي ألصق بها معان كثيرة، إذ يعدُّها رامينس(1993) طابعًا مميزًا ينتمي إليه الفرد، أو يتقاسمه مع أعضاء جماعة كلّهم أو فئة اجتماعيّة. ويذهب هورويتس(2000) إلى أنّ الهُوية الثقافيّة هي هوية جماعة أو ثقافة أو فرد معين، مادام هذا الفرد يتأثر بانتمائه إلى الجماعة أو الثقافة الّتي ترتبط بمنطقة جغرافيّة معيّنة، إذ يتقاسم السّكان كثير من السّمات المشتركة مثل اللغة والدين والثقافة، وتعدُّ الهُوية نسقًا اجتماعيًّا يعمل شأنه شأن النّسق العضوي، ويتشكل من بناء وقيم ثقافيّة وقواعد ومعتقدات وممارسات من المتوقع أن يمتثل لها هؤلاء الأعضاء، وذلك كله في ما يرى جونز(2005). أمّا دنج(2005) فإنّه يذهب إلى أن الهُوية الثقافيّة تجيب عن تساؤلات من أمثلة من أنا؟ أين أنا؟ إلى أين أذهب؟ ماذا نملك فعلًا؟ مادام الناس يتصورون هُوياتهم من خلال ثقافتهم الّتي سوف تعرفهم وتحددهم) ، A Naz ، et al، 2011). وعموما، تعدُّ الهُوية في العلوم الاجتماعيّة العملية الّتي تسهم في تشكيل أو بناء المعنى لما يفعله الناس في حياتهم، أو يشعرون بكيانهم ويشيرون إلى شيء ما أكثر من أنفسهم. وعلى الرّغم من أنّ هذا المفهوم يعدُّ ثقافيًّا، فلا يمنع من أن يكون فرديًّا، لأنّ الفردية تمثل شكلًا من أشكال الهُوية. ومهما كانت أشكال الهُوية، فمن المؤكد أنّ الهُوية تُصوَّر بنائيًّا من خلال الخبرة الشخصيّة ذات الكثافة التاريخيّة والثقافيّة واللغويّة والإقليميّة. وفي ضوء ذلك، يمكن التمييز بين ثلاثة نماذج من الهُوية نستطيع ملاحظتها في الواقع. أولها: نموذج الهُوية الشرعيّة التي تُبنى تصوريًا من خلال الدولة ونظمها ومثال ذلك الهُوية الفرنسيّة، والجهود كافة الّتي أسهمت في تشكيل نموذج المواطن الفرنسي بوصفه نموذجًا ثقافيًّا، ومثاله أيضًا جهود الأمة الأمريكيّة، وكيف بنت تصوريًّا هوية قومية لا تقوم على مبادئ تقليديّة، وإنّما استندت على عناصر أساسيّة من التعدديّة الثقافيّة والإثنيّة الّتي أقرها الدّستور. وأطلق على النّموذج الثاني للهوية مصطلح الهُوية المقاومة، وهي نموذج للهُوية يشعر معه الجميع أنّهم مرفوضون ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ويعانون من ردود فعل تهميشيّة. وقد تعمل العولمة على جعل جماعات اجتماعيّة معينة تقاوم، لأنهم كمواطنون يمثلون أقليات، بمعنى أنه ليس لهم حقوق تمثلهم. ويطلق على النموذج الثالث للهوية بالهُوية المشروع.
وقد تُصوّر بنائيًّا استنادًا إلى التوحّد بعناصر إقليميّة أو تاريخيّة أو ثقافيّة معينة، مثال ذلك الحركات النّسويّة وغيرها، وهذه النّماذج الثلاثة للهُويات مختلفة جوهريًّا عن بعضها، ومن الخطأ الاعتقاد أنّه من السهل الانتقال أو التّحول من واحد منها إلى الآخر، فهي هُويات تنغلق على ذاتها(M.Castells.2010).
وتزيد نظرية الهُوية الاجتماعيّة عند كل من هنري جافل وجون تيرز الأمر وضوحًا وفهمًا للأسس الفلسفيّة والاجتماعيّة لأشكال التّمييز بين الجماعات، وتفسير الأشكال الجديدة من الانتماءات الّتي أخذت تتزايد في العقود الأخيرة. ويذهبان إلى أنّه لما كانت الثقافة تمثل عنصرًا مهمًّا في تشكيل الهُوية، اتجهت الأنظار نحو تشكيلات عديدة للهوية أحدها هوية ثقافية، والثانية هوية جماعيّة، والثالثة هوية سياسيّة. ويقصد بالهُوية الثقافيّة هُوية الجماعة أو الشّخص أو الثقافة، مادام الإنسان يتأثر بانتمائه إلى جماعة أو ثقافة ما، وأن الهُوية الثقافيّة تماثل الهُوية السياسيّة وتتداخل معها، ولكنها ليست مرادفة لها. وتنطوي الهُوية الاجتماعيّة على أربعة عناصر أو عمليات، طبقًا لنظرية الهُوية الاجتماعيّة هذه، أولها: عمليّة التصنيف لفئات، إذ غالبًا ما يميل الناس إلى وضع أنفسهم والآخرين في فئات، وتسمية بعضهم بعضَا في مقولات(مسلمون، أتراك، أمريكيون، لاعبو كرة القدم) بطرق تدلل على أفكار تخص هؤلاء الأفراد. وثانيها: الانتماء، إذ يميل الناس أيضًا إلى ربط أنفسهم بجماعات معينة(داخليّة وخارجيّة)، على نحو يسهم في تعزيز التقدير الذّاتي. وثالثها: المقارنة، وقد يتجه الناس إلى مقارنة جماعاتهم بجماعات أخرى، والتّعبير عن تفضيلاتهم المتحيزة تجاه الجماعة الّتي ينتمون إليها، وهو أمر يتضح في الآونة الأخيرة بين جماعات الشّباب. ورابعها: التمييز السيكولوجي، إذ يرغب الناس في أن تكون لهم هُوية متميزة عن هويات الجماعات الأخرى بشكل إيجابي(Culture Identity، Wikipedia).
- مركب الهُوية الاجتماعيّة
ومع زيادة الاعتراف أن الأفراد ينتمون إلى جماعات اجتماعيّة متعددة، لكل منهم هُوياتهم الاجتماعيّة المختلفة، أثير التساؤل حول الكيفيّة الّتي يمكن بها للأفراد الجمع بين هذه الهُويات، في الوقت الّذي ينحصرون داخل جماعاتهم الداخليّة. وهنا تقدم نظرية روكاس وبروير(2002) مفهم مركب الهُوية الّذي يمثل افتراضًا نظريًّا يفسر كيف أن مركب الهُوية الاجتماعيّة يعكس الدرجة الّتي يتداخل ويوجد بها الشخص في جماعات متباينة، في الوقت الّذي يتمتع فيه بالعضوية في جماعته الداخليّة. وأنّ العضوية في جماعات اجتماعيّة كثيرة ومتباينة(وهويات اجتماعيّة متعددة)، يمكن أن يشكل مركب هُوية اجتماعيّة أكبر، ويمكن أن يعزز ويدعم نمو هُويات اجتماعيّة كونيّة. وتبدو أهمية افتراض مركب الهُوية لصالح الانفتاح على التّغيّر والقيم الكونية والتقليل من النزعات المحافظة والمتسلطة، وتدعو إلى المزيد من التّسامح ومصالح التّنوع. ولذلك يعد مركب الهُوية الاجتماعيّة عاملًا حاسمًا يمكن التّعويل عليه وأخذه في الاعتبار عند تطبيق النّماذج السّيكولوجيّة الّتي تفيد في التقليل من ميول واتجاهات التّحيز والتعصب داخل المجتمع (Social Identity complexity، Wikipedia).
ثانيًا: أزمة الهُوية والمواقف المتناقضة في التراث من العلاقة بين العولمة والهُوية
يذهب (راجيه، 2001) إلى أنّ فكرة العولمة الثقافيّة قد استثارت عدة استجابات عديدة وعكست مضامين متناقضة، فجسدت ما يعرف باسم أزمة الهُوية، لأنّ البعض يفهم هذه الظاهرة على أنها أداة لإقامة وحدة عالميّة دمقراطية مبنيّة على ثقافة كونية، ثم التّعبير عنها بمصطلح القرية الكونية الّتي وسعت من نظم الاتصال. بينما لا يوافق فريق آخر من الباحثين على ذلك، ويزعم أنّ العولمة لم ينجم عنها هُوية اقتصاديّة وسياسيّة موحدة، وإنّما عملت العولمة الثقافيّة على تحطيم وهدم الهُويات القومية، وأن العولمة الثقافيّة الّتي يشهدها العالم اليوم ليست إلّا محصلة مساعي البشريّة وخبراتها، وأنّها لم تستفد من التنوع الثقافي، بقدر ما تمثل أحد مظاهر السيطرة والهيمنة لثقافات معينة ذات قوّة زائدة A.Naz)،et al،2011. (
وهكذا توافر في تراث علم اجتماع العولمة ودراسة العلاقة بين العولمة والهُوية قائمتان اثنتان للرأي، إحداهما تركز على التداعيات السلبيّة للعولمة على الهُوية، والثانية تهتم بالتداعيات الإيجابيّة.
- العولمة وتداعيات السلبيّة على الهُوية
تعمل العولمة على نقل السمات الثقافيّة من مجتمع إلى آخر، ما يتسبب في إصابة الثقافة المحليّة بالاضطراب، كما يذهب إلى ذلك بومان(1996). كما أنّ العولمة تعمل على خلق ثقافة كونية تندمج فيها الهُوية الّتي تميل إلى تحقيق الثقافة المتجانسة في كل أرجاء العالم، ما قد يساعد المعتقدات والقيم الثقافية المحليّة على أن تكون أكثر عالميّة. ويعدُّ هذا الغزو الثقافي تهديدًا قد يتسبب في مشكلات خطيرة بالنسبة إلى الدول المحافظة، لأنّ الانفتاح على سياق أجنبي يمكن أن يُحدِث تآكلًا للقيم التقليديّة والهُوية الثقافيّة الأصيلة. ويذهب (دالبي، 2007) إلى أنّ العالم سيتغير في جملته من خلال العولمة، ويتحوّل إلى مكان واحد وثقافة واحدة وهُوية وحيدة. ويتغذّى كل ما يميز الثقافة والمجتمع في اتجاه ثقافة كونية متجانسة. ويضيف(مارشال، 2005) أنّ العولمة تحدث تعددية ثقافية تتسبب في وجود صراع ثقافي بين السّمات الثقافيّة المحليّة، وبين تلك السمات الّتي تنتشر بفعل الثقافة الغربية. وعلى الرّغم من أنّ العولمة تعمل على تحقيق التكامل، فإنّ الصّراع الثّقافي هو الشكل الأكثر انتشارًا، والّذي عملت العولمة على تعجيله. وكان (ريتز،2000) قد أشار إلى تهديد العولمة للتّضامن الاجتماعي، وكيف أنّها أحدثت تغيرات في العواطف الجمعيّة الّتي يبديها أيّ مجتمع، وما يؤدي إلى الفردية وانتشار ثقافة المجتمع الغربي المهتمة بالسّوق. بينما ذهب (كوشلر،1986) إلى أنّ العولمة ما هي إلا من خلال الثقافة والسياسة والاقتصاد. والعولمة بوصفها أداة أيديولوجيّة نظر إليها على أنّها أداة قاسية في أيدي مراكز القوة في العالم الصناعي لغرض الهيمنة الكونيّة من خلال الليبراليّة الاقتصاديّة والاستعمار الجديد على بقية بلاد العالم تدريجيًّا A.Na z) ،et al،2011. (
وإذا كانت هذه الآراء تركز على التّداعيات السلبيّة للعولمة، وقد ظهر أغلبها في الحقبة ما بين(1986_2007)، فربما لأنّها آراء تنطلق من الموجة الأولى في نظرية العولمة، والّتي عبر عنها المتعولمون الّذين نظروا إلى العولمة بوصفها تكنس كل شيء في طريقها.
- العولمة وتداعياتها الإيجابيّة على الهُوية
وفي هذا الصدد ومن منظور العلاقة بين العولمة والهُوية الثقافيّة، ذهب هاوس(1966) إلى أنّ الهُوية الثقافيّة لا تحتم أن تكون فريسة سهلة للعولمة، ذلك أن الهُوية ليست في الواقع مجرد رابطة ذاتيّة ومجتمعيّة هشة، وإنّما هي بعدٌ مهم وهائل في الحياة الاجتماعيّة والنظم المتأصلة في شروط الحداثة.
وهناك عدد من المحللين للعلاقة بين العولمة والهُوية، من أمثال تيلو(2001) وكوران(2001) ودوتيك(2004) وغيرهم من بين من اهتموا بالمراجعة النقديّة لفكرة أن العولمة الاقتصاديّة تدعم الصراع الثقافي، قد زعموا أنّ الصراعات الثقافيّة توجد تقريبًا في كل مجتمع، سواء أكانت خبراته واسعة أم محدودة، وأنّه في الواقع يحتمل أن يكون لمثل هذه الصراعات تأثير أقل أو يندر أن يكون لها آثار مهلكة، خاصة في المجتمعات الّتي تنفتح على العولمة(A.Naz،et al،2011).
والواضح أن هذا الفريق من الباحثين الّذين طرحوا آراءهم في الحقبة من (1996-2004) يعبّرون عن موقف التّحوليين من اتباع الموجة الثّالثة في نظرية العولمة، والّتي أحلّت مفهوم الجمع بين الكوني والمحلي، محل مفهوم العولمة.
ولكن للأسف ظل هجاء العولمة والتحذير من مخاطرها على هويتنا الثقافيّة وعلى مصالحنا الاقتصاديّة هو المعلم الأساسي للخطاب وأسلوب التفكير، اللذين يهددان العرب بمزيد من التّراجع، وظل يمثل الاتجاه الأعلى صوتًا والأكثر ضجيجًا في أغلب المحافل العربية، وذلك نتاج للمنهج الّذي ينظر إلى العالم من ثقب الصراع مع الغرب، ويختزله في كتلة مصمتة يزعم أنّها كلّها معادية لنا وتتآمر عليها.
ففي دراسة للجابري عن “العولمة ومسألة الهُوية بين البحث العلمي والخطاب الآيديولوجي، تعريفات ومقارنات”، يذهب إلى أنّ العلاقة بين العولمة ومسألة الهُوية ليست من العلاقات البسيطة، بل هي علاقة تنطوي على مشاكل عديدة مترابطة، منها ما يخص مسألة الهُوية، ومنها ما يخص مسألة العلاقة بينهما. وقد تبدو إشكاليّة العولمة ومسألة الهُوية مثل النظرية الّتي لم تتوفر إمكانيّة صياغتها، فهي توتر ونزوع نحو النّظرية أو الاستقرار الفكري. والعولمة ترجمة لكلمة Globalization الّتي تفيد في معناها اللغوي التّعميم، تعميم الشيء وجعله شاملًا. وترتبط العولمة بهدفها الاستراتيجي، أيّ التصميم، فهي تهدد الهُوية، كما تهدد الأصالة، فالعولمة إذن نفي للوطن وإلغاء له، والوطن هو مجال الهُوية والأصالة(الجابري، محمد عابد، 2013).
ويقول (صادق جلال العظم) في مقالة “ما العولمة”، أنّها عقبة التحول الرأسمالي العميق للإنسانيّة جمعاء في ظل هيمنة دول المركز بقيادتها وتحت سيطرتها، وفي ظل سيادة نظام عالمي للتبادل غير المتكافئ. ورأى (محمد الأطرش) أن العولمة تعني بشكل عام اندماج أسواق العالم في حقول التجارة والاستثمارات المباشرة، وانتقال الأموال والقوى العاملة والثقافات والتقانة ضمن إطار من رأسمال حرية الأسواق، و خضوع العالم لقوى السوق العالميّة، ما يؤدي إلى اختراق الحدود القومية وإلى الانحسار الكبير في سيادة الدولة، وأنّ العنصر الأساسي في هذه الظاهرة هي الشركات الرأسماليّة الضخمة متخطية القوميات. أما (برهان غليون) فيرى أن العولمة تتجسد في نشوء شبكات اتصال عالميّة تربط جميع الاقتصاديات والبلدان والمجتمعات وتخضعها لحركة واحدة، وعمومًا هناك نزعة إلى الهيمنة الثقافيّة تجعل الهُويات المختلفة الّتي عادة ما تعبّر عن خصوصيات ثقافة راسخة نتيجة عمليات التّراكم التّاريخي في مواجهة مباشرة مع العولمة، والوطن العربي ليس بمنأى عن هذه التّأثيرات الّتي تهدد هويته، وتجعلها عرضة لمختلف المخاطر الناتجة عنها(بن عماره، 2013).
وهذا المنهج في الحديث عن الهيمنة يغفل أنّ العرب يعانون خطرًا أكبر وهو خطر التهميش، ذلك لأن هويتنا أقوى من أن تتآكل، وثقافتنا أكثر صلابة من أن تذوب، ولم يتمكن الاستعمار الاستيطاني من تذويب هوية أو ثقافة الفلسطينيين او الجزائريين مثلًا. واستمرار إدارة علاقتنا مع العالم وفقًا لمنهج الهجاء والتنديد والإدانة لم يعد يثمر نتائج إيجابيّة، ولذلك علينا أن نبحث عن بديل لهذه الرؤية التقليديّة، ولتكن رؤيتنا في تعاملنا مع العلاقة بين العولمة والثقافة منحازة إلى جانب الاتجاه العقلاني الّذي يفرض علينا البحث عن العوامل والمشكلات الّتي تكرس التهميش الّذي يهددنا(عبد الرازق، 2011).
ثالثًا: وسائل خلاقة في التعامل مع العولمة
لم تعد هناك ضرورة للخوف من العولمة على الثقافة أو الهُوية الثقافة، خاصة بعد توافر مصادر متعددة تدلل على أن هناك استمراريّة في الهُويات، وخاصة الهُويات الّتي تشكلت على أساس ثقافي، بوصفها عنصرًا جوهريًّا للمعنى لدى الناس. إذ تدلل بيانات المسوح المختلفة الّتي أُجرِيَت عن حقبات زمنية مختلفة، ومن أكثرها أهميّة بيانات المسح العالمي للقيم الّذي يجريه(رونالد إنجليهارت)، تدلل على استمراريّة هذه الهُوية. أضف إلى ذلك نتائج تحليل (نورس) لبيانات أخذها عن هذا المسح على مرحلتين بداية ونهاية العام 1990، وقارن فيه بين هويات على مستوى العالم في المجالات الإقليميّة والقوميّة والمحليّة، فوجد أن نسبة الّذين يعدُّون أنفسهم مواطنين عالميين لا تزيد عن 13%، أما نسبة من يُعدّون أنفسهم من هُوية قوميّة فبلغت 38%، وتشكل النسبة الباقية أو الأغلبية أولئك الّذين يعدُّون أنفسهم من هوية محليّة أو إقليميّة. وعندما تمت مقارنة البيانات طبقًا للمناطق الجغرافيّة، وجد أنّ المنطقة يسود فيها الهُوية الإقليميّة هي الأعلى وبلغت 61%، ما يدلل على استمراريّة وقوة هذه الهُويات(M.Castells.2010).
إذن فالخطر المهم هو خطر التهميش، وهو الّذي يتطلب منّا البحث عن وسائل خلاقة للتّعامل مع العولمة تجنبنا هذا الخطر. وربما احتاج ذلك إلى رؤية غير تقليديّة تستفيد من التّجارب العالميّة الناجحة، خاصة النّموذج الياباني، لأنّ اليابان من الشّعوب الّتي لم تخش العولمة أو تخف منها، بل تفاعلت معها، ولم يتأثر اليابانيون في خصائصهم الثقاقية بالغرب، بل وساعد إنجازهم الاقتصادي على توليد الثقة، وبزوغ النموذج الياباني بالاعتماد على توجهات خاصة تركز على المصلحة الوطنيّة من منظور جماعي، فالتصق اليابانيون بالمصلحة الوطنيّة وحافظوا عليها في كل مراحل مواجهاتهم لتحديات التنمية وتحديات التنافسيّة الدوليّة، من خلال توجهات جماعيّة وطنية أصيلة ومرنة. ويمكن لمسيرة التّعامل مع العولمة في عالمنا العربي أن تستلهم إيجابيات هذا النموذج وغيره، ولكن ذلك يتوقف على دور الدول القوميّة. وفي ضوء ما تأكد وانتهت إليه الموجة الثالثة لنظرية العولمة(التحوليون)، إنّ الدولة القوميّة لم تختفِ بعد، بل إن احتفاظ الدولة بقدر معقول من القوة يساعدها على الاندماج في المجتمع الدولي مع غيرها من الدول، وزيادة نصيبها من الاستفادة من فرص العولمة.
وربما كانت مشاكل العرب المهمّة في تعاملهم مع العالم، هي مشكلة المعرفة، لأنّ المعرفة أصبحت الأساس الأول في توليد الثروة والنمو، والتحدي هنا هو مدى القدرة على استيعاب الثقافة العالميّة المعاصرة، في التكنولوجيا والاقتصاد والعلم. وفي خضم الطلب على مجتمع المعرفة، صار لزامًا على الدول العربية أن تُعيد تقييم أوضاعها العلميّة والتكنولوجيّة بهدف التّغلب على مشاكل ومخاطر التّهميش، لأنّ المعرفة والدّراسة في المجالات العلميّة والتكنولوجيّة تمثل قاعدة أساسيّة للتنمية، خاصة وأن هناك مؤشرات على تدني معدلات القيد في هذه المجالات، أضف إلى ذلك تراجع التمويل وتزايد المشكات البيروقرطيّة في مجالات البحث العلمي، وتضاؤل الاهتمام بالصّناعة والاستثمار في الصناعات التكنولوجيّة المتقدمة. فإقامة مجتمع من المعرفة، هو الّذي يسمح بالاندماج في العالم والاستفادة من الفرص والمزايا الّتي توفرها العولمة، ومن ثم يعملف على تجنب خطر التهميش(عبد الرزاق،2011).
خاتمة
ربما كان من الضروري التوقف في هذه الخاتمة عند بعض الاستنتاجات الّتي قد تجيب عن بعض التساؤلات المطروحة في البداية، وتثري فهمنا للعلاقة بين العولمة والهُوية، هذه الاستنتاجات تتمثل في:
- إن العولمة ليست أيديولوجيا، وإنّما هي عملية إعادة بناء موضوعي لكل من الاقتصاد والثقافات والنظم والمجتمعات، وتطوِّر نموذج كوني للاقتصاد جعل نشاطاته الجوهرية قادرة على العمل بوصفها وحدة متزامنة، وفي حالة اعتماد متبادل، وتشكلت شبكات للعلم والتكنولوجيا كأساس لنمو الثروة والقوة على أساس كوني، ونمت نظم دوليّة ذات منفعة عامة دولية، وأصبحت علاقة الاعتماد المتبادلة بين الأمم والبلدان والمجتمعات ظاهرة واضحة، وعززت تكنولوجيا الاتصال والمعلومات من تجاوز واختفاء المسافات بين البلدان.
- وتعمل العولمة على الاستبعاد والإدماج في الوقت نفسه، إدماج كل شيء له قيمة واستبعاد كل ما ليس له قيمة، الأمر الّذي دفع الدول والحكومات إلى الانخراط في هذه الشبكة الكونيّة، لأن الوجود خارجها يعوق توليد الثروة والنمو والتنمية. أضف إلى ذلك أن غياب الاستثمار في رأس المال والتكنولوجيا عن أي بلد أو قطاع، يزيد من احتمالات تهميشه عن الاقتصاد الكوني. وبينما تخلفت قطاعات أساسيّة كثيرة في بعض البلدان عن عملية العولمة، فهناك قطاعات أخرى كثيرة استفادت منها على نحو يفوق المعتاد.
- لا تعتمد عولمة رأس المال أو التجارة العالميّة على وجود التكنولوجيا أو ريادات الأعمال فقط، وإنما يعتمد تحقق الطابع الكوني على مبادرات الدول القوميّة في تحرير الاقتصاد وإزالة الحدود. ولكي تتمكن الدول من إدارة العولمة، كان عليها أن تعمل على تشجيعها بالفعل. ولذلك فإن الدول تمثل فاعلًا أساسيًّا في عمليات الّتحرر والعولمة، ما يعني أن الدول القوميّة لم تختفِ مع العولمة، وكان عليها أن تتنازل عن بعض من سيادتها.
- يصعب أن تزيل العولمة كل ما يقف أمامها، لأنها تخلق صورا جديدة من الثقافة تجمع بين المحليّة والكونية، وأخذت النشاطات السياسيّة والاقتصاديّة تضرب بجذورها المحليّة، وأعيد ربطها بالإقليم في صور جديدة، ولم تعد الثقافات القومية منفصلة عن الثقافات الدوليّة، وتراجع الخوف من تهديد العولمة للهويات الثقافية.
- تعدُّ الهُوية نسقًا اجتماعيًّا يتشكل من بناء قديم وقواعد ومعتقدات وممارسات، يمتثل لها أعضاء النّسق. ويتصور النّاس هُوياتهم من خلال ثقافاتهم التي تعرفهم وتحددهم. وهي عملية تسهم في بناء معنى لما يفعله الناس من حياتهم ويجعلهم يشعرون بكيانهم. ولذلك، قد تأخذ الهُوية أشكالا متباينة، بعضها فردي تجسدها عبارات مثل “أنا البداية والنهاية لكل شيء”، وبعضها ما نلاحظه في الواقع من نموذج الهُوية الشرعية الّتي تُبنى تصوريُّا من خلال الدولة، مثل الهُوية الفرنسيّة، ونموذج الهُوية المقاومة الّذي يشعر معه البعض أنهم مرفوضون ثقافيًّا أو اجتماعيًّا أو سياسيًّا، ومن ثم يعانون من ردود أفعال تهميشيّة، وكذلك نموذج الهُوية المشروع، مثل الحركات النّسويّة. وربما ظهرت هناك أشكال أخرى للهوية بعضها ثقافية والأخرى اجتماعيّة والثالثة سياسيّة. وتنطوي الهُوية الاجتماعيّة على عمليات التّصنيف لفئات، والانتماء، والمقارنة، والتمييز السيكولوجي. ومع انتماء الأفراد إلى جماعات متعددة، ينمو مركب للهوية يعكس الدرجة الّتي يتداخل ويتواجه بها الشخص في جماعات متباينة، في الوقت نفسه الّذي يتمتع فيه بالعضوية في جماعته الداخليّة.
- أثارت فكرة العولمة الثقافية استجابات متعددة وعكست مضامين متناقضة وجسدت أزمة الهُوية. فالبعض عدَّها أداة لإقامة وحدة عالميّة، ولم يوافق فريق آخر من الباحثين على ذلك، وزعم أن العولمة لم ينجم عنها هوية اقتصاديّة وسياسيّة موحدة. وقد توافر في تراث العلم ودراسة العلاقات بين العولمة والهُوية قائمتان للرأي يركز بعضها على التداعيات السلبية للعولمة، ويهتم الآخر بالتداعيات الإيجابية.
- تتمثل التداعيات السلبية للعولمة على الهُوية في إصابة الثقافة المحليّة بالاضطراب والغزو الثقافي وتآكل القيم التقليديّة، وخلق تعددية ثقافية تتسبب في وجود صراع ثقافي بين الثقافات المحليّة والعالميّة، وهي أداة لفرض الهيمنة الكونية والاستعمار الجديد على بقية بلدان العالم. وتتمثل التّداعيات الإيجابيّة للعولمة الثقافيّة، في أن الهُوية تعدُّ بعدًا مهمًّا في الحياة الاجتماعيّة وليست فريسة سهلة أو رابطة هشة، وأن الصراعات الثقافيّة ليس لها آثار مهلكة في المجتمعات الّتي تنفتح على العولمة. والواقع أن الآراء الّتي تركز على التداعيات السلبيّة للعولمة على الهُوية، تستند إلى كتابات الموجة الأولى في نظرية العولمة، التي تعدُّها ظاهرة تزيل كلّ شيء في طريقها، بينما تنطلق الآراء التي تميل إلى التّداعيات الإيجابيّة للعولمة من كتابات الموجة الثالثة في هذه النظرية الّتي بلورت مفهوم الجمع بين الكوني والمحلي، ليحل محل مفهوم العولمة.
- يمثل خطاب هجاء العولمة والتحذير من مخاطرها على هُويتنا الثقافية معلمًا أساسيًّا واتجاهًا غالبًا في المحافل العربيّة، يعكسه نتاج دراسات تناولت العلاقة بين العولمة ومسألة الهُوية، وعدّها تعميمًا لنمط من الحياة على الكرة الأرضيّة كلها وتهديدًا للهوية والأصالة العربيّة، وهيمنة لدول المركز واندماجًا لأسواق العالم والثقافات في إطار الرأسماليّة، والوطن العربي ليس بمنأى عن التأثيرات الّتي تهدد هويتها.
- إن استمرار إدارتنا للعالم وفق منهج الهجاء والإدانة والتنديد لم يعد يثمر نتائج إيجابيّة، لأن هناك خطرًا أكبر نعاني منه هو خطر التهميش، والواقع أنّ هويتنا أقوى من أن تتآكل وثقافتنا أكثر صلابة من أن تذوب، وعلينا أن نبحث عن بديل لهذه الرؤية التقليديّة ينحاز إلى الاتجاه العقلاني، وضرورة البحث عن العوامل الحقيقية الّتي تكرس خطر التهميش الّذي تعانيه أمتنا العربية.
- هناك وسائل خلاقة للتفاعل مع العولمة قد تجنبنا خطر التهميش، نجدها في التجارب العالمية الناجحة مثل النموذج الياباني، وما ينطوي عليه من إيجابيات ما قد يلهمها في تعزيز دور الدولة القومية، واحتفاظها بقدر معقول من القوة يساعدها على الاندماج في المجتمع الدولي، والاستفادة من فرص العولمة. وبما أنّ المعرفة أصبحت هي الأساس الأول في توليد الثروة والنّمو، أصبح لزامًا على الدّول العربية أن تعيد تقييم أوضاعها العلمية والتكنولوجية، وتقييم مجتمع المعرفة الّذي يسمح بالاندماج في العالم، وتجنب خطر التهميش.
ولعل أكثر ما تثيره هذه الاستنتاجات أهمّيّة حول العولمة وأزمة الهُوية وسبل التّعامل الخلاق معها، وما قد يتطلب الاهتمام من جانب الباحثين لقضايا مثل: التّحول في السياسات من الاستبعاد إلى الاندماج ومسائل التمكين الاجتماعي وبناء قدرات الشباب على وجه الخصوص، وكذلك مشاكل الأمن الاجتماعي والاقتصادي للفقراء، وتنمية رأس المال النوعي بكل صوره الثقافية والاجتماعيّة والمعرفيّة، وكيف تسهم هذه القضايا في عملية التحول نحو اقتصاد المعرفة وأيضا نحو مجتمع المعرفة.
المراجع
أولًا: المراجع باللغة العربية
- محمود، سمايلي، وسعيد، بن عمارة(نيسان، 2013)، إشكالية الهُوية العربية في مواجهة تحديات العولمة، om77.net
- جلبي، علي عبد الرزاق، وأحمد، هاني خميس، (2011)، العولمة والحياة اليومية، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة.
- الجابري، محمد عابد، (2013) العولمة ومسألة الهُوية بين البحث العلمي والخطاب الآيديولوجي”تعريفات ومقاربات، minculture.gov.ma
ثانيًا: المراجع باللغة الأجنبية
- A، Naz، et al. (2011). The Crisis of Identity. Globalization and its Impacts on Socio-Cultural and Psycho Logical Identity Among Pakhtuns of Khyber Pakhtin Kura Pakistan، International Journal of Academic Research In Business and Social، April 2011. Vol: 1; No:1.
- Martell. (2007)، The third wave in Globalization theory. In: International Studies Review، Vol 9، NO،2، Summer، 2007.
- Castells، (2010)، Globalization & Identity. Quaderns de la Mediterrània 14، 2010: 89-98. <http://www.iemed.org/publicacions/quaderns/14/qm14_pdf/15.pdf>. Accessed: 1st January 2016.
- Culture Identity. 31 March 2010 >http : // en. Wikipedia org/wiki/ci<.
- Social Identity Complexity. 8 April 2010 > http : // en. Wikipedia org/wiki/ci <.
[1]– طالب دكتوراه في الجامعة اللبنانية الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعية، معهد العلوم الاجتماعيّة، اختصاص علم اجتماع سياسي.
PhD student at the Lebanese University, Institute of Social Sciences, specialization in political sociology.Email: Khodor.farhat.2014@gmail.com