توظيف الموروث الجاهلي في «قصيدة الجبل» لابن خفاجة الأندلسي – دراسة تناصيّة-
د. عزيز الأشقر*
يُعدّ التناصّ من الظواهر النقدية التي أخذت مساحة واسعة عند النقاد، فتناولها الكثير بالدرس والتحليل على اعتبار أنّ من سمات النص الشعري أنه لا ينغلق على القراءة النقديّة الأولى، بل يستقبل كلّ قراءة، من أيّ باب تأتيه، ما يزيده غنىً وعمقًا، فالتناصّ بما يحمله من استحضار النصّ الغائب، سواء أكان النص قديمًا بالنسبة إلى الحالي أم معاصرًا له، فإنه يضفي عليه تماسكًا وجماليّة، ما يجعله أقرب إلى ذهن المتلقّي وأكثر رسوخًا. وعلى الرغم من أنّ بعض النقاد العرب تحدّثوا عن مفهوم التناصّ تحت عنوان السرقات الشعريّة، أو إغارة بعض الشعراء العرب على بعضهم الآخر([1])، قائلين «مَنْ أخذ معنى بلفظه كما لو كان سارقًا»([2])، بَيْدَ أنّ ذلك لا ينفي أنّ التناصّ، وآلياته تَقنية من تَقنيات إنجاح العمل الأدبي نثرًا وشعرًا، لا سيّما أنّ النقد الحديث يذهب إلى عدّ «كلّ نصّ ليس إلّا نسيجًا جديدًا من استشهادات سابقة»([3])، بمعنى آخر فإنّ النص الحديث في عصره إنّما يُبنى على ما سبقه من نصوص أخرى تتلاقى في ذهن الكاتب لتشكّل نصًّا حديثًا أخذ مرتكزاته ممّا سبقه من نصوص أخرى.
ويمكن القول إنّ الشعر العربي زاخر بالتناصيّات الدينيّة التي تتعالق مع الكتب السماويّة، وكذلك بالتناصيّات الأدبيّة المتعالقة مع الشعراء الأقدمين الذين سبقت نصوصهم النص الشعريّ الحاضر. وقد تأثّر الشعراء الأندلسيّون، كسواهم من الشعراء العرب بالنصوص التي سبقت نصوصهم، ذلك أنها دخلت في ثقافتهم المشرقيّة ووجدانهم الأدبي والفكري، ما أدّى إلى استحضار الموروث الشعري الجاهليّ بشكل لافت. ويُعدّ ابن خفاجة الأندلسي (هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبدالله بن خفاجة الهواري الأندلسي الجزيري، المولود في جزيرة شَقْر سنة 1058 – 1138م (450ه – 533ه)، ورث عن أهله المزارع والبساتين والحدائق فعاش منذ طفولته بين أحضان الطبيعة التي كان لها الأثر الأبرز في شعره) من الشعراء البارزين في العصر الأندلسي الذين سبروا الذات إلى معانٍ إنسانيّة عميقة، عبر تبادل الرؤى والحالة النفسيّة الواحدة بينه وبين مظاهر الطبيعة. ولا بدّ من الوقوف عند قصيدة الجبل، موضوع دراستنا، بحيث مرّ بجبل فتخيّله رجلًا معمّرًا قد شهد عهودًا وعصورًا منذ القدم، فعرف الطيّب والخبيث، وميّز بن الناسك واللّص من خلال محاكاة الجبل الذي أمسى معادلًا دلاليًّا لشخصه، إذ هما يلتقيان بسمات مشتركة كالكبرياء والشموخ والهمّة العالية، وطول العمر والوقار، فوظّف هذه القصيدة خير توظيف للتعبير الفنيّ عن حالة نفسيّة إنسانيّة.
ومن ثَمَّ، فإننا سنتناول في هذه الدراسة مظاهر التناصّ في قصيدة الجبل لابن خفاجة الأندلسي مع الشعر العربي الجاهليّ، سواء ارتبط هذا التناصّ بالمعلّقات أم بأشعار الصعاليك على غرار الشنفرى، وتأبّط شرًّا، وعروة بن الورد، وعليه فإنّ الإشكالية التي تُطرح هي: ما هو مفهوم التناصّ الأدبي، وما هي مظاهره في قصيدة الجبل لابن خفاجة؟ ومن ثَمَّ هل اعتمدت بائيّة ابن خفاجة الزخارف الفنيّة عينها التي اعتمدها الشعراء الجاهليون؟
ولمعالجة الإشكاليات المطروحة، قسِّمت هذه الدراسة إلى أقسام أربعة أساسيّة: مفهوم التناصّ ومظاهره في الشعر الأندلسي (أولًا)، التناصّ والعبور النفسيّ (ثانيًا)، التناصّ في وصف الرحلة الطرديّة (ثالثًا)، والتناصّ في صورة الجبل (رابعًا).
أمّا المنهج المعتمَد في هذه الدراسة فهو المنهج الوصفي التحليلي الذي يبيّن مواضع التناصّ الأدبي مع الشعر الجاهلي من خلال عرض النصوص الشعريّة المتعلّقة بها ثم تحليلها بهدف فهم جزيئاتها ومكوّناتها، وإظهار التناصّ الحاصل فيها.
أولًا: مفهوم التناصّ ومظاهره في الشعر الأندلسي
يطرح هذا البحث التناصّ بوصفه آليّة تُستثمَر نقديًّا لصياغة النصوص الشعريّة وتحديد بنياتها المعرفيّة، وبذا سنعمد إلى استبعاد الخوض في تاريخ دخول هذا المصطلح إلى مدوّنة النقد العربي الحديث، كما استبعاد الوقوف على تعريفاته الكثيرة التي حفلت بها دراسات النقد الحديث المعرّبة. ومع ذلك، لا بدّ من الوقوف على مفهوم التناصّ بصفته مدخلًا يُعتَمَد عليه في هذه الدراسة التحليليّة، ومن ثَمَّ فإنّ المعنى اللّغوي لهذا المصطلح يعود في الأصل إلى الجذر اللّغوي (نَصَصَ)، نصّ: رفع الشيء. نصّ الحديث ينصّه نصًّا أي رفعه. وكلّ ما أُظهِر فقد نُصّ([4]).
أمّا اصطلاحًا، فقد عُرف التناصّ، بأنّه «تعالق النصوص (الدخول في علاقة) مع نصّ حديث بكيفيّات مختلفة»([5])، بمعنى امتزاج النصّ الحالي مع بعض النصوص السابقة في علاقة رُسِمَتْ في ذهن الكاتب أو الشاعر، كذلك عُرِّف التناصّ بأنه «اعتماد نصّ من النصوص على غيره من النصوص النثرية أو الشعرية القديمة أو المعاصِرة الشفاهيّة أو الكتابيّة العربيّة أو الأجنبيّة، ووجود صيغة من الصيغ العلائقيّة والبِنيوية والتركيبيّة والتشكيليّة والأسلوبيّة بين النصَّيْن»([6])، وبذلك فإنّ التناصّ يعني تشكيل نصّ جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، بحيث يصبح النصّ المتناص خلاصة لعدد من النصوص التي تمحو الحدود بينها، وأُعيدت صياغتها بشكل جديد، بحيث «لم يبقَ من النصوص السابقة سوى مادتها، وغاب الأصل فلا يدركه إلّا ذوو الخبرة والمران»([7]).
ولعلّ التعريف الأبرز للتناصّ هو الذي أرسته جوليا كريستيفا التي اختارت أعمال “باختين” ركيزة لطرحها النظري حول التناصّ([8])، بحيث رأت أنَّ التناصّ يتكامل مع علم الدلالة التحليلي ويتفاعل معه وفق مبدأ المرجعيّة كمنبع للدلالة والنصّ كإنتاجيّة توليديّة لها، وتوصلّت إلى أنّ «كلّ نص هو امتصاص أو تحويل لوفرة من النصوص الأخرى»([9]).
أما الشعر الأندلسي، فيخضع كسواه من الأشعار لعوامل، أو مرجعيّات نستشفّ من خلالها التعالق النصي، وآليّة التصارع والانزياح والمجاورة والتجاوز، فلا يمكن إغفال المرجعيّة التاريخيّة التي تُعدّ رافدًا مهمًّا لصور صالحة للتوظيف التحليلي، والفنّي بما تحمله من تفاصيل للأحداث، وطرح الصراعات، والمعضلات، لا سيّما لجهة التأثّر بأيام العرب في الجاهليّة وأخبارهم. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المرجعيّة الدينية، التي لها أهميّتها البارزة بعدّها المعتقَد الذي يعتنقه الفرد، فيصبح جزءًا من ذاته، ويمسي المساس به مساسًا بالذات، لأنّ المرجعيّة الدينيّة «نابعة من احتوائها على القرآن الكريم، وعلى النصوص التي تستلهم الخطاب المقدّس أن تقيم معه علاقة تضافر وتعضيد وأن تنظر إليه نظرة احترام وتبجيل»([10]). ومن ثَمَّ، فقد كان للتناصّ الديني في الشعر الأندلسي منزلة عالية لانتشار الإسلام في بلاد الأندلس، وتأثّر الشعراء بألوان كلام القرآن الكريم ذي الفصاحة والبيان. أمّا المرجعيّة الأدبيّة، وهي أهمّ رافد للتناصّ في الشعر الأندلسي، وأوسع مرجعيّة بعدّها تخصّ الأجناس الأدبيّة وأنواعها المتعدّدة، فلا يمكن إغفالها كذلك، ومن ثَمَّ فإنّ التعالق والتداخل الذي يحدث بين النصوص الشعريّة أكبر بكثير من تداخله مع الأجناس الأدبية الأخرى كالقصّة والخطابة([11]).
ومن هنا يمكن القول إنّ المرجعيّات الأساسيّة للتناصّ الشعري قد توافرت بشكل وافر في الشعر الأندلسي عمومًا، وفي شعر ابن خفاجة الأندلسي بشكل خاصّ لما كان له من عمق ثقافة، إلى جانب تأثّره بأمور وقف عندها الشاعر الجاهلي، على غرار الطبيعة التي هام بها وبثّ آلامه وأشجانه فيها، واستمدّ منها صورًا لازمت خياله ووجدانه، ومن ثَمَّ فقد انتقلت هذه الصور عبر الموروث العربي للشعر إلى الأندلس حيث الطبيعة الجبليّة، والرياض، والحدائق، والأزهار، فقام تفاعل بين الصورتَيْن فجاءت صور ابن خفاجة مزيجًا من واقعه وموروثه، لا سيّما إذا وقفنا عند طرائق التعليم في العصر الأندلسي بحيث كان يُصار إلى تلقين النماذج المختارة من عيون القصائد العربيّة، وحفظ الأساليب العربيّة البليغة، فأمست القوالب الشعريّة القديمة تجري على لسان الأندلسيّين، ودخلت في موروثهم الثقافي، ومخزونهم العلمي، فغلّبت على أشعارهم صورًا جاهليّة ارتجلتها البديهة الأندلسيّة، ما خلق نوعًا من التعالق بين النصوص سواءً على المستوى البِنيوي أم على المستوى الشكلي، وبالتالي لم يتمكّن الشاعر الأندلسي من الإفلات من عقال المرجعيّات المذكورة سلفًا، فجاءت قصائد الزهد، والتصوّف متأثّرة بالمرجعيّة الدينيّة، وصور الغربة أو الغزل أو النظرة إلى الموت متأثرّة بالمرجعِّيَتَيْن التاريخيّة والأدبيّة الجاهليّة، وهو ما ينسحب على المفردات، والتعابير، والإيقاع بحيث جاءت النصوص الشعريّة الأندلسيّة، وقصيدة الجبل بشكل خاص مرتبطة بالقصيدة الجاهليّة أيّما ارتباط، مضمونًا وشكلًا على النحو الذي سنتطرّق إليه لاحقًا في هذه الدراسة.
ثانيًا: التناصّ البِنيوي في قصيدة الجبل ونظريّة طقوس العبور
إنّ طقوس العبور هي تلك الطقوس التي تعبّر عن انتقال شخص ما، أو مجموعة أشخاص من مكانة اجتماعيّة معيّنة إلى مكانة اجتماعيّة أخرى)[12](، من خلال خطوات، أو إجراءات تنطوي عادة على مراسم احتفاليّة، وطقوس شعائريّة([13]). ويتكوّن كلّ طقس عبور من ثلاثة أجزاء، أو ثلاث مراحل: أولاها: الفراق، أي انقطاع العابر عن مكانته السابقة في المجتمع، وثانيهم:ا الهامشيّة، أو العتيبيّة، وهي مرحلة وسطيّة يقضيها العابر على هامش المجتمع بين المرحلتَيْن السابقة واللاحقة، فلا يملك العابر أيّ مكانة اجتماعيّة معيّنة إنما يعيش خارج المجتمع، والمرحلة الثالثة: هي إعادة التجمّع، أو إعادة الاندماج بحيث يحرز العابر في هذه المرحلة مكانة ثابتة، متمتعًّا بالحقوق المترتّبة لهذه المكانة([14]). أمّا تطبيق نظريّة طقوس العبور ذات الأساس الأنثروبولوجي على بِنية القصيدة العربيّة فينطلق من كون بِنية القصيدة الجاهليّة تقوم على الشكل الثلاثي المؤلّف من ثلاثة أقسام: النسيب فالرحلة، ومن ثَمَّ الغرض الذي من أجله نُظِمَت القصيدة فخرًا أو مدحًا، ومن ثَمَّ فإنّ قالب القصيدة يجسّد بِنية طقسيّة محدّدة تمثّلها طقوس العبور، بحيث يجسّد النسيب الطور الأول أو الفراق، وتجسّد الرحلة طور الهامشيّة، أو العتيبيّة، في حين أنّ القسم الأخير من القصيدة يمثّل طور إعادة التجمّع في المجتمع أو إعادة الاندماج فيه.([15])
وتطبيقًا لهذه النظرية، فإنّ الأبيات الستّة الأولى من معلّقة امرئ القيس تجسّد «انقطاع الشاعر عن الماضي وفشل الخصب والعلاقات الاجتماعيّة»([16])، والقرائن الدالّة على ذلك هي بكاء الشاعر، تحوّل المنزل والحبيب إلى ذكرى.
أمّا المغامرات العاطفيّة مع أمّ الحويرث، وعنيزة التي تبتدئ من البيت السابع فتمثّل الهامشيّة بعدّ أنّ هذه العلاقات الموقّتة غير منتجة كونها ليست قائمة اجتماعيًّا على رابطة الزواج، وبالتالي فهي تفتقر إلى النضج، وتمثّل طور المراهقة، ولذلك فقد كان وصف الليل، والذئب، وقطع القفر دلالة على تيه العابر. أمّا حضور الفرس، المرتبط بمجالَيْ الصيد والحرب، فينذر بطور إعادة الاندماج في المجتمع، فتنقلب منزلة العابر من الهامشيّة المراهقة إلى منزلة الرجولة.
وإذا كانت تنطبق هذه النظرية على معظم القصائد الجاهليّة بعدّها تتشابه من حيث البناء بطريقة أو بأخرى، فإنّ شعر الصعاليك يخالف البِنية الشعرية الثلاثيّة التقليديّة بعدّه قد ألغى الفخر القَبَليّ وإن اشتمل على النسيب والرحيل. ولهذا العدول البِنيوي مدلول طقسيّ، إذ يعني إجهاض طقس العبور لانعدام الفخر القَبَليّ الذي يمثّل طور إعادة الاندماج في المجتمع، وهو ما يُعرف بالعبور المبتور([17]).
وبالعودة إلى قصيدة الجبل لابن خفاجة، نلحظ أنّها تقيم علاقة تماثليّة مع شعر الصعاليك في عصر ما قبل الإسلام، بحيث يمكن مقاربة هذا التماثل البِنيوي من خلال نظرية «طقوس العبور» انطلاقًا من «العبور المبتور» الذي يعكس مدلول البِنية الطقسي، بحيث يستحيل على الشاعر – العابر اجتياز طور الهامشيّة أو العتيبيّة، ويبقى محاصرًا في رحلته التي لا تفضي به إلى أي مكان، وهي حال ابن خفاجة في قصيدته التي استهلّها بالكشف عن تعبه من السفر من خلال القسم «بعيشك»، مظهرًا تعثّر رحلته القائمة من الشرق نحو الغرب([18]):
بعيشِكَ هلْ تدري أهْـــــــــوجُ الجنائبِ تَخُبُّ برَحلـــــــــــــي أمْ ظُهورُ النَّجائبِ
فَمَا لُحْتُ في أُولى المشارقِ كوكبًا فأشرَقتُ حتَّى جِئْتُ أُخرى المغاربِ
أمّا بعد هذا السفر المضني، فنرى الشاعر يرتاح على قمّة جبل ليكمل رحلته بعد أن أجلى خطاب الجبل بعضًا من همومه، بَيْدَ أنه يبقى عالقًا في رحلة عقيمة من غير هدف أو غاية، وبذلك يمسي الشاعر محاصرًا في طور الهامشيّة، حصارًا لا مخرج منه([19]):
وقلتُ وقدْ نَكَّبْتُ عنْهُ لِطِيَّةٍ سلامٌ، فإنَّا منْ مقيمٍ وذاهبِ
إنّ غياب طور الاندماج الذي من شأنه أن يعيد الشاعر إلى واقعه، إلى المنظومة الاجتماعية التي يبتغي العبور إليها، حمله إلى استخدام عبارة «طيّة» التي تعود به إلى هذه الحلقة المفرغة من السفر العقيم. إنّ غياب التجمّع الشعوري في مجتمعه يضعه في هامشيّة أبديّة، تلك الهامشية التي تميِّز شعر الصعاليك الذين فقدوا أيّ ارتباط بمجتمعهم القَبَليّ من غير إيجاد مجتمع بديل يعبرون إليه، وهو ما يقودنا إلى القول إنّ تناصًّا بِنيويًّا واضحًا قائمًا بين قصيدة الجبل وأشعار الصعاليك، ومن ثَمَّ فإنّ للعدول البِنيوي في قصيدة الجبل كما في قصائد الصعاليك مدلولًا طقسيًّا يبرز تيه هؤلاء الشعراء، والقلق الوجودي الذي يحيط بهم، ويعكس واقعهم النفسي إلى جانب الواقع الاجتماعي، وبالتالي فإنّ القصيدة في احتفائها بطور العتيبيّة، أو الهامشيّة تُبرز النزعات المضادّة للقيم القَبَليّة الاجتماعيّة، وهي تبرز، عند ابن خفاجة، نزعاته المعارضة لقيم مجتمعه وواقع عصره.
ثالثًا: التناصّ في وصف الرحلة الطرديّة
تستحضر بائيّة ابن خفاجة لاميّة الشنفرى على المستوى المعجمي، وهو استحضار يتجاوز الصدفة بحيث يبدو التشابه واضحًا لجهة المفاتيح الأساسيّة المستخدَمة في القصيدتَيْن، لا سيّما عند وصف ابن خفاجة رحلته التي تبدو بعيدة لا حدود لها، يقول([20]):
وحيدًا تهاداني الفيافي فأَجتلي وجوهَ المنايا فيْ قناعِ الغياهِبِ
ومن ثَمَّ تبدو سلبيّة الشاعر بارزة من خلال استخدامه الفعل «تهاداني»، بحيث يفقد الشاعر كلّ حافز أو قدرة، فالصّحراء نفسها هي التي تقرّر رحلته بعد أن فقد الشاعر زمام نفسه، وبالتالي فقد هيمنت البيئة القاسية على الشاعر نفسيًّا، وأرهقته جسديًّا، وهو ما عبّر عنه في البيت السابق مستخدمًا كلمة «جنائب» أي الرياح الجنوبيّة التي تتقاذفه، وتفقده تمالك الذات، ما أدّى إلى هيمنة جوّ من الكآبة، والحزن على الأبيات الستّة الأولى من القصيدة.
كذلك الأمر، فإنّ استخدام الشاعر الفعل «تهاداني» يحيلنا إلى لاميّة الشنفرى، التي يستخدم فيها الفعل نفسه عند وصف رحلته في الصباح وهو يتضوّر جوعًا، يقول([21]):
وَأَغْدو على القوتِ الزهيدِ كَما غدا أَزَلُّ تهاداهُ التَّنائِفَ أَطْحَلُ
إنّ مشهد الصيد في لاميّة الشنفرى يبدو قاحلًا، لا رجاء منه، يحيط به الجوع والألم واليأس، وبالتالي يبدو متعالقًا مع مطلع بائيّة ابن خفاجة حيث تهرب الفريسة من الذئاب، فأمسى الصيد عبئًا ثقيلًا، فتماثلت ذئاب الشنفرى وابن خفاجة لجهة النحول والهزال، كما تشابهت لجهة سير الذئاب مجتمعة في انحدارها عن الجبل، يجمعها اليأس والقلق والجوع.
وعلى غرار بائيّة ابن خفاجة حيث حضور الشاعر السلبي، فإنّ الذئاب اليائسة والمنهكة القوى في لاميّة الشنفرى، التي تمثّل الشاعر نفسه لجهة الجوع والألم، تسير في الصحراء تائهة يقودها الجوع، ومن ثَمَّ، فإنّ هذه الحركيّة الدائمة في مشهد عبثيّ جامد لا هدف يُرجى منه أو نتيجة تتحقّق، إنما تشكّل تناقضًا ضدّيًّا مع المشهد الأخير في اللاميّة، حيث يقف الشاعر ساكنًا هادئًا على قمة جبل يحيط به الصمت من كلّ صوب.
إنّ عمليّة الصيد والمطاردة وضعت الشاعر في أسفل الدرك النفسي والاجتماعي، بَيْدَ أنه يستعيد زخمه ونشاطه فيستمرّ في الحركة إلى نهاية القصيدة، وبالتالي يمسي المدلول النفسي لتركيب القصيدة واضحًا إذا ما وقفنا عند وقوع عمليّة المطاردة في منتصف القصيدة، إذ قد تمّ تأطير هذا المشهد بشكل لا واعٍ، ليُظهر حالة الشاعر الذي يعيش في قلق دائم ومستمرّ، وفي صراع، وجوع، وتنقّل لا ينتهي، ليتوَّج في خاتمة القصيدة بهدوء نفسيّ مطلق على قمّة جبليّة منعزلة، بعيدة عن البشر الذين تسبّبوا له بمعاناته التي لا تنتهي، وجراحه التي لا تندمل.
من جهة أخرى، لا بدّ من الإشارة إلى صورة الذئب في لاميّة الشنفرى، فهو رماديّ، يرافق الشاعر أنّى تنقّل، وهو يشكّل الصورة المركزيّة في القصيدة، بحيث يترافق، وقومه بحثًا عن قوت يبعد عنه عضّة الجوع، وبالتالي يمكن القول إنّ الذئب معادلٌ فنيّ للشنفرى، تعاونت عناصر الطبيعة مع الظروف الاجتماعيّة على سحقه، فلجأ إلى جسد الأرض يستقي الحنان وينشد الأمان، لكنّه فوجئ بالغدر والحرمان، بحيث بقي الذئب في القصيدة عصيًّا عن صيد أيّ فريسة. أمّا الذئاب الأخرى المرافقة فهي معادل فنيّ ونفسيّ للصعاليك المحرومين المعذَّبين، وهي صورة لرمز الكائنات المحرومة في صراعها مع الزمان. وبذلك نرى الشاعر في قصيدته يتعاطف مع الذئاب التي تعوي عندما يعوي وتتبعه كيفما اتّجه.
ومن ثَمَّ، فإنّ تعاطف الشنفرى مع الذئاب يعكس حالته النفسيّة، إذ آثر الانضمام إلى قوم جديد وجد في أحضانه القيم الإنسانيّة التي لم يجدها في قبيلته بين أهله([22]):
وليْ دونَكُمْ أَهْلُون سِيْدٌ عَمَلَّـــــــــسٌ وأَرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفـــــــــــاءُ جَيْألُ
هُمُ الأهلُ لا مُسْتَودَعُ السرِّ ذائعٌ لديهِمْ ولا الجَاني بماجرًّ يُخذَلُ
إنّ الشاعر الذي يقارن بين مجتمع أهله ومجتمع الوحوش، قد فضلّ هذا على ذاك، إذ إنّ مجتمع الوحوش لا يفشي الأسرار، ولا يخذل بعضه بخلاف مجتمع أهله، وبالتالي فإنّ مشهد الذئاب يتفرّد به شاعرنا، بحيث إنّ هزالها دليل على القوة لا الضعف وطباعها مأمونة أكثر من طباع البشر.
من هنا، تتَّضح براعة الشنفرى في القدرة على رسم ملامح حياة الذئاب، وإتقان عرض صفاتها الحسيّة التي تنبئ بما تنطوي عليه نفوسها، وهو كذلك ما ذهب إليه تأبّط شرًّا الذي يصف في إحدى قصائده حياة التشرّد وندرة الطعام، فكلّ من الذئب، وتأبّط شرًّا يعوي من عضّة الجوع، وكأنّ كلًّا منهما يشكو حاله إلى الآخر، يقول([23]):
ووادٍ كَجوفِ العَيْرِ قفرٌ قِطْعَتُهُ بهِ الذئبُ يَعوى كالخَليعِ المُعيَّلِ
فقلْتُ لهُ لمَّا عوى: إِنَّ شاننـــــا قلـــــــبكَ الغِنى إنْ كنْتَ لمَّا تَموَّلِ
كِلانا إذا ما نــــــــــالَ شيئًا أَفَاتَهُ ومَنْ يَحترِثْ حِرْثِي وَحِرْثَك يُهزَلِ
إنّ حالة الحلوليّة، أو الاتّحاد مع الذئب في نمط العيش وأسلوبه (حرثي وحرثك) تجسّد غربة الشاعر ووحدته إذ يمثّل الذئب رمزًا من رموز القوة والمعاناة في آن، قوّة في التصدّي لمصاعب الحياة والبحث عن القوت والطعام، ومعاناة الحياة الفرديّة، وما يلاقيه من منغّصات، سواء من الطبيعة، أو من بني جنسه، وقد اشتركت هذه الخصائص بين الشاعر والذئب. فالذئب قد تحوّل إلى مرآة للذات، فيقع كلّ منهما موقع الآخر وتتبدّل صفاته، فيغدو الذئب «كالخليع المعيَّل» وهي صفة إنسانيّة بينما يعوي الإنسان كالذئب في وادٍ كَجوف العير، وهي صفة حيوانيّة. فالذات إذًا تراوغ وتختفي خلف قناع ضمير المتكلّم، فإذا كان الذئب يعوي فإنّ الشاعر يقابل هذا العواء بالصراخ شاكيًا وحدته، وعزلته في هذه الحياة.
بالعودة إلى بائيّة ابن خفاجة، فإنّ صورة مماثلة يرسمها الشاعر بحيث يصادف ذئبًا رماديّ اللون في البادية، فيتطوّر نوع من التعاطف بين الشاعر، والذئب في سياق القصيدة، وقد صوّر الشاعر الذئب الرماديّ على أنّه «شخص أطلس»، وهي صورة قد ترمز إلى الفجر عند انبلاجه، يقول([24]):
فَمَزّقتُ جَيبَ اللَّيلِ عنْ شَخْصِ أَطْلَسٍ تطلَّعَ وضّاحَ المَضاحِكِ قاطِبِ
إنّ التنافر بين المعنى المباشر للون الرمادي «أطلس» والمعنى البعيد المنسوب إلى الذئب يشير إلى اعتماد لغة رمزيّة تحتوي أبعادًا متنوّعة، وتحتمل معاني متعدّدة، فإذا كانت الرؤية الأوليّة تشير إلى الفجر الذي يكشف عن نفسه عندما يعوي الذئب، فإنّ المعنى الذي يرمي إليه الشاعر هو ذاك الضوء الناتج عن انبلاج الفجر، الذي من شأنه أن ينهي معاناة الذئب الذي استسلم لقدره. وبالتالي، فإنّ ذئاب الشنفرى، وابن خفاجة تجمعها قواسم مشتركة عديدة مثل عزاء الرفقة، وانتظار الفجر، وكذلك اليأس الذي تسلّل إلى قلوب الذئاب الجائعة، بالإضافة إلى الخطر الذي يحدق بها من كلّ صوب.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ صورة ارتباط الذئاب بالفجر قد أوردها الشنفرى في لاميّته عند وصف مشهد الصيد، حين يشبّه الشاعر نفسه بالذئب الذي يشرع في البحث عن قوت يسدّ جوعه عند الفجر([25]):
وَأَغْدو عَلى القوتِ الزَّهيد كمَا غَدا أزلَّ تهاداهُ التَّنائفَ أَطْحَلُ
إنّ الشاعر الذي يصف خروجه باكرًا إلى الصيد قد استخدم فعل (غدا) مَرَّتين: مرّة لذاته وأخرى للذئب، كما نلحظ من جهة أخرى أنّ الذئب الرماديّ الذي ذكره ابن خفاجة في بائيّته (أطلس) يتماهى وذئب الشنفرى (أطحل).
ومن ثَمَّ يمكن القول إنّ ما كان يشكّل مجموعة صور منفصلة غير مترابطة في لاميّة الشنفرى (الذئب/ اللون الرمادي/ الفجر/ الجوع…)، قد عمد ابن خفاجة إلى دمجه ليشكّل صورة متكاملة: فاللون الرمادي يشير إلى الذئب الذي بدوره يشير إلى الفجر، وبالتالي أمست سلسلة من الصور المنفصلة تشكّل صورة واحدة، تنتهي باتّحاد الذئب والفجر. ولا بدّ في أثناء وصف رحلة الصيد تلك، من الوقوف عند مشهد الليل الذي يصفه ابن خفاجة([26]):
وليلٍ إِذا ما قُلتُ قَدْ بادَ فانقَضى تَكَّشَفَ عَن وَعْدٍ مِنَ الظَنِّ كاذِبِ
سَحَبتُ الدَّياجي فيهِ سُودَ ذَوائبِ لِأعتَنِقَ الآمالَ بيـــــــــــضَ تَــــــــــرائِبِ
إنّ هذا الليل الطويل الذي لا ينقضي حاملًا في ثناياه المعاناة والألم يتشابه وليل امرئ القيس الذي يقول([27]):
ولَيْلٍ كَمَوجِ البَحرِ أَرخَـى سُدولَهُ عَلَيَّ بِأنواعِ الهُمـــــــــــــــــــــــومِ لِيَبْتَلي
فَقُلتُ لَــــــــــــــهُ لَمَّا تَمَطَّـــــى بِصُلبِهِ وأَرْدَفَ أَعْجَــــــــــــــــــــازًا وَنَاءَ بِكَلْكَلِ
ألا أَيُّها اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلي بِصُبْحٍ، وما الإصْباحُ منكَ بِأمثَلِ
فَيا لكَ من لَيْلٍ كأَنَّ نُجومَــــــــــــــــــهُ بِأَمْــــــــــــــــــراسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَندَلِ
لقد تناصّ ابن خفاجة مع أبيات امرئ القيس التي تمتاز بروعتها في تشبيه وحشيّة الليل بأمواج البحر، التي تختبر بمدّها وجزرها ما عند الشاعر من الصبر والجوع، فيُعَدّ هذا الوصف الوجداني نابضًا بالعاطفة والرّقة، بحيث استحال سدول الليل همًّا، وامتزج ليل النفس بليل الطبيعة، فانتقلت ظلمة الليل من الطبيعة إلى النفس. إنّ أبيات ابن خفاجة قد تماهت مع أبيات امرئ القيس بطريقة إيحائيّة ترمز إلى توظيف التجربة الشعريّة وتكثيف الألفاظ، واستعمال لغة شعريّة تكون متناصّة مع لغة غيره من الشعراء. أمّا بعد انتهاء الرحلة، فقد لجأ ابن خفاجة في قصيدته إلى استخدام لفظة «طيّة» (الطيّة: النيّة التي انتواها الشاعر، وهي السَّفر في هذا السياق)، وهو لفظ استخدمه كذلك الشنفرى حاملًا أبعادًا نفسيّة عميقة المدى في القصيدتَيْن، بحيث استهلّ لاميّته بالحركة دلالة على انطلاقته نحو قبيلة جديدة تحتضنه (الذئاب)، حيث يسود قانون جديد يقوم على المساواة والتعاون، يستهلّ قصيدته بالقول([28]):
فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيلُ مُقْمِرٌ وَشُدَّتْ لِطِيّاتٍ مَطَايَا وَأرْحُلُ
إنّ استخدام «طيّات» يشير إلى أنّ الشاعر قد حدّد أهدافه وغاياته، وتتمثّل بالخروج من قبيلته والابتعاد عنها، فاستعدّ لقراره باحثًا عن مكان يخلو من النفاق والغدر، حيث يمكن استعادة القيم والفضائل العربيّة المهدورة بفضل الممارسة القَبَليّة، فيقوم الشاعر بمغامرته ليلًا واصفًا عمليّة المطاردة والصيد، متحدّثًا عن جوعه وألمه وقلقه ليصل أخيرًا إلى قمّة جبل حيث يجد الهدوء والسكينة.
ومن ثَمَّ، فإنّ استخدام كلمة «طيّة» يقدّم للمتلقّي بِنية سرديّة تنتقل من بداية رحلة الشاعر في مستهلّ القصيدة وصولًا إلى قمّة الجبل في نهايتها، وبالتالي تشير إلى الطبيعة الهادفة والإيجابية لتلك الحركة. أمّا في قصيدة الجبل، فقد أورد الشاعر كلمة «طيّة» في ختام بائيّته، حيث يودّع الجبل نحو هدف (طيّة) لا يدركه سواه، يقول([29]):
وقلتُ وَقَد نَكَّبتُ عنهُ لِطِيَّةٍ سَلامٌ فإنّا مِن مُقيمٍ وَذاهِبِ
إنّ لاستخدام كلمة «طيّة» في البيت الأخير من القصيدة مدلولًا نفسيًّا واضحًا، بحيث يختار الشاعر التحرّك والانتقال عوضًا عن السماح لعناصر الطبيعة أن تحرّكه قسرًا، وبالتالي فقد اختار الشاعر بنفسه اتّجاه حركته وشكلها، إلّا أنه خلافًا للتسلسل التقليدي، وخلافًا للاميّة الشنفرى الذي انطلق في رحلته في مطلع القصيدة، فإنّ ابن خفاجة يشرع في رحلته في نهاية القصيدة. إنّ هذا الانقلاب في التسلسل الزمني للأحداث يشير إلى منظور جديد حول البِنية السرديّة للقصيدة التقليديّة، بحيث يعيد ابن خفاجة السرد التقليدي في قالب جديد حول «طيّة» غير محدّدة، ما يوحي بتحرّك متعمّد غير تلقائي نحو مستقبل مجهول، يعكس التشوّش الشعري الذي رافق العصر الأندلسي بشكل عام.
رابعًا: التناصّ في صورة الجبل
تُعدّ الجبال من الأماكن التي حظيت بالتقديس عبر الحضارات المتتابعة، إذ وقف أمامها الإنسان مبعثر المشاعر، فشكّلت له مصدر إلهام ووحي، كما كانت قممها ملجأ الكهّان والعرَّافين، فحظيت بالاحترام والتبجيل كونها مسكن الآلهة وموطنها، وكونها نقطة التواصل بين العالمَيْن العلوي والأرضي([30]). وقد أفرد الشاعر الجاهلي للجبل صورًا خاصّة في شعره مستمَدّة من واقعه فرآه لابسًا قطعًا من القماش ويرتدي عمامة على غرار جبل ثبير في معلقة امرئ القيس([31]):
كأنّ ثَبيرًا في عَرانين وبلِهِ كبيرُ أناسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ
يشكّل استحضار ابن خفاجة مشهديّة الجبل من الموروث الشعري الجاهلي لفتة انعكاسيّة للتقليد، إذ من خلاله يخاطب ابن خفاجة إحدى العناصر الرئيسة للذاكرة الشعريّة العربيّة. ولدراسة صورة الجبل عند ابن خفاجة لا بدّ من الاطلاع على صورة الجبل في الشعر الجاهلي بشكل عام بحيث يغدو بالإمكان قراءة التحوّلات التي أرساها ابن خفاجة في توظيفه الصور التقليديّة الموروثة. وبالعودة إلى شعر الصعاليك فقد ورد في أشعارهم سرد لحكاياتهم عن تربّصهم بأعدائهم، وعن مغامراتهم فأشاروا إليها بالوصف الدقيق وأسموها «المراقب» أي أعالي الجبال وقممها، حيث يصوّر الشاعر أعلى الجبل ويتّخذه مرقبة يعجز الآخر أن يصل إليها ليستقلّ بشخصيّته وفرديّته، فالصعلوك حين يصوّر الارتقاء إنما يصوّر ارتقاء نفسه على الآخر، ويرى في هذه المرقبة تعبيرًا عن تساميه وهو يعيش حاضره من غير أن يلتفت إلى الماضي كما فعل الباكون على الأطلال([32])، وبالتالي فإنّ وصف الجبل والمرقبة هو تعبير عن واقع حياة الصعلكة، وتجسيد التثبّت بالحاضر وإلغاء الماضي ونسيانه واندماج في الطبيعة الحيّة، بحيث يعوّض الشاعر الصعلوك في المرقبة ما افتقده في القبيلة من حماية ودفء وانتماء. ومن ثَمَّ، نرى في لاميّة الشنفرى، أنّ الجبل يشكّل «الطيّة» التي ينتوي الشاعر الوصول إليها، حيث يصل إلى الراحة والعَزاء في أحضان قمّة الجبل([33]):
فألحَقْتُ أُوْلاهُ بأُخـــــــــــــــــــــــــــراهُ مُوفِيًا علــــــــــــــــــــــــــــــــى قُنَّةٍ أُقعي مِرارًا وأمثُلُ
تَرودُ الأَراوِي الصُّحْمُ حَولي كأَنَّها عَــــــــــــــــــــــــذَارى عَلَيْهِنَّ المُلاءُ المُذَيَّلُ
ويركُدْنَ بالآصَالِ حَولِي كـــــــــــأنّني مِنَ العُصْمِ أدفى يَنتَحي الكِيحُ أعقَلُ
يُلحظ من خلال الأبيات الأخيرة انتشار جوّ من الهدوء والسكينة في تناقض بارز مع الحركة الدائمة التي اتّصفت بها معظم أجزاء اللاميّة. فالشاعر ينظر (موفيًا) إلى الأرض الواسعة التي اجتازها مشرفًا عليها من قمّة جبل، جالسًا حينًا (أقعي) وواقفًا حينًا آخر (أمثلُ)، فهو يراقب المكان بسكينة وهدوء من غير القيام بأيّ حركة، شأن الوعول الساكنة حوله (يركدن) وبحيث أصبح الشاعر جزءًا من بيئة الوحوش، وإنْ كان هو أخطر وحوشها. كذلك الأمر، فإنّ صورة الوصول إلى قمّة الجبل حيث الملاذ الآمن والراحة قد تطرّق إليها تأبّط شرًّا في قصيدته([34]):
يا عيدُ ما لَكَ مِنْ شَوقٍ وإيـــــراقِ وَمَرِّ طَيفٍ على الأهـــــــــــــــوالِ طَرّاقِ
وقُلَّةٍ كَسِنانِ الرِّمح بـــــــــــــــــــــــــــــارِزَةٍ ضَحيانَةٍ في شُهورِ الصَيفِ مِحراقِ
بادَرْتُ قُنَّتَها صَحبي وَما كَسِلوا حتّـــــــــــــــــــــــــــى نَمَيْتُ إِليها بَعدَ إِشراقِ
فبعد أنْ طاردته الأهوال والمخاطر بمختلف أشكالها، ورافقته الأشباح المرعبة (طيف، طرّاق) ناهيك عن مطاردة الأعداء يرافقه أصدقاء أشدّاء، يجد نفسه أخيرًا يتسلّق قمّة جبل، وهو على غرار الشنفرى، لا يجد الهدوء إلّا على القمّة حيث يستكين، فاستخدم كلا الشاعرَيْن لفظة «قنّة» للدلالة على أعلى قمّة الجبل، بَيْد أنّ الجبل في شعر تأبّط شرًّا يبدو صامتًا يقبع تحت أشعّة الشمس، يخلو من الرفقة البشريّة بعد أن سابق الشاعر رفاقه وأمسى وحيدًا قادرًا على الانخراط في لحظة وجدانيّة تخوّله تقويم ذاته وما مرّ به من أهوال في أثناء رحلته، والتطلّع إلى المستقبل في ظلّ انتقادات أخصامه([35]):
لِتقْرَعَنَّ عليَّ السِّنَّ مِنْ ندمٍ إِذا تذكَّرتَ يَوْمًا بَعْضَ أَخلاقي
إنّ تهديد الشاعر أخصامه ولومه إيّاهم على سوء عشرتهم التي ستؤدّي إلى فَقْدهم الشاعر وغيبته عنهم شكّلا المشهد الأخير من قصيدة تأبّط شرًّا، وبالتالي فقد توقّف عن الترحال والانتقال في القصيدة بعد وصوله إلى قمّة الجبل التي كان يصبو إليها. وبالعودة إلى قصيدة ابن خفاجة، فإنّ جبله تحيط به هالة من التأمّل العميق، تحمل المشاعر بعيدًا من الرياح والأهوال والأخطار، كما يلفّ هذا الجبل سكونًا لا يتبدّل ولا يكسره أيّ صوت([36]):
وَقورٌ على ظَهرِ الفَلاةِ كَأَنّهُ طوالَ الليالي مفكِّرٌ في العَواقِبِ
من جهة أخرى يبدو الجبل الذي يقاوم عناصر الطبيعة والصامد في وجه غضبها في حالة تعارض مع حالة ابن خفاجة، وهو الإنسان الرقيق الهشّ الذي حطّمته الأهوال وتقاذفته الرياح الجنوبيّة([37]):
بِعيشِكَ هل تَدري أهوجُ الجَنائِبِ تَخُبُّ بِرَحلي أَمْ ظُهورُ النَجائِبِ
أمّا رفيق الشاعر الأوحد ومعينه فهو سيفه القاطع والقتود التي ترافقه([38]):
وَلا جارَ إلّا مِن حُسامٍ مُصَمَّمِ ولا دارَ إلّا في قُتودِ الرَّكائِبِ
وعند وصول الشاعر إلى سفح الجبل تعود القمّة وحيدة هادئة تتأمّل في مصيرها المحتوم وتناجي الغد المنتظَر، وبصورة أدقّ تناجي الشاعر نفسه وتستشرف غده. لقد قلب ابن خفاجة قاعدة الحوار في قصيدة الجبل، بحيث نرى الجبل يغوص في تفكير ذاتيّ عميق، في حين أنّ الشاعر يستمع إلى حكمة الجبل وهدايته بكلّ صبر، وبصمت وهدوء مطلَقَيْن، وبالتالي فإنّ الطبيعة الأحادية لهذا الخطاب تعكس واقعًا سعى الشاعر إلى إبرازه: إنّ خلود الجبل من جهة، وغياب أيّ دور إيجابي للشاعر في هذا الحوار لجهة الاشتراك فيه سؤالًا أو رأيًا، يحيلنا إلى القول إنّ هذه المناجاة إنّما تشكّل شكوى مستمرّة وحلقة من العذاب والألم والقلق لا نهاية لها، سمعها الشاعر وأراد بثّها إلى المتلقّي.
ومن ثَمَّ، فإنّ ابن خفاجة قد عكس في هذا المشهد صورةً نمطيّة تناقلها الشعر الجاهلي، متمثّلة بالجبل الذي يكرّر مناجاته وحكمه أبدًا منذ ما قبل مجيء الشاعر وسيستمرّ طويلًا بعد رحيله، بَيْدَ أنّ صوت الجبل لا يُسمع إلّا عند وصول الشاعر إلى قمّته، وبالتالي لا حضور للجبل إلّا بحضور الشاعر، فيمسي خطاب الجبل هو خطاب الشاعر نفسه، يلقيه الجبل في عمليّة تشخيص، وبالتالي نخلص إلى أنّ الشاعر والجبل وعملية التأمّل، كلّ تلك العناصر، تشكّل كلًّا متكاملًا، فتمسي الأصوات المتباينة والمشاهد المتعارضة في الأجزاء السابقة من القصيدة صوتًا واحدًا ذا هدف واحد، ما يعكس التماثل الواضح بين صور القلق واليأس التي بثّتها القصائد الجاهليّة وتلك التي أطلقها ابن خفاجة في بائيّته.
من جهة أخرى، يصف ابن خفاجة الهدوء والسكون اللذين يلفّان الجبل ويشير إلى السحب التي تحيط بقمّته وإلى ومضات البرق التي تنبعث منها والتي من شأنها أن تخرق هذا السكون، يقول([39]):
يلُوثُ عليهِ الغيمُ سُودَ عَمائمٍ لَها في وَميضِ البرقِ حُمرُ ذَوائبِ
يستحضر الشاعر، عند ذكره «وميض البرق»، صورة شائعة في شعر ما قبل الإسلام، تتمثّل «بالشيم» أي النظر إلى البرق مع ترقّب المطر. وعلى غرار قصيدتَي الشنفرى وتأبّط شرًّا، يختم امرؤ القيس معلّقته بمشهدٍ على قمّة الجبل يصف فيه سيل الأمطار الذي ينصبّ من الجبال والآكام فيقتلع الشجر العظام، في ظلّ نفحة شعريّة تأمّلية عميقة الأبعاد من غير حضور الشاعر ليمسي المشهد الأخير من معلّقته تأمّلًا في الموت وتفكّرًا في الحياة([40]):
فَأَضْحَى يَسُحُّ المَاءَ حولَ كُتيفَةٍ يكُبُّ على الأذقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ
كذلك الأمر، يصف امرؤ القيس في معلّقته مجلسًا مع رفاقه، حيث يراقبون صواعق العاصفة التي تقترب منهم، ويستشرفون مكان هطول المطر([41]):
قَعَدْتُ لهُ وَصُحُبَتي بينَ ضَارجٍ وبينَ العُذَيْبِ بعد ما متأمِّلي
على قَطَنٍ بالشَّيمِ أيمنُ صـوبِهِ وأيسَرُهُ علــــــــــــى السِّتارِ فَيَذْبُلِ
إنّ هذا التصوّر يلبّي حاجة نفسيّة أساسيّة، إذ يتساءل الشاعر وصحبه عن مكان نموّ أغنى المراعي عند محاولتهم تنبّؤ مكان تساقط الأمطار، لا بل قد يتيح هذا المطر المرتقب للشاعر ورفاقه أن يتوقّعوا التوزّع الموسمي للقبائل البدويّة الساعية إلى الماء والكلأ، يقول([42]):
وألقَى بِصَحْراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ نُزُولَ اليَمَانِي ذِي العِيَابِ المحمَّلِ
نرى الشاعر في البيت الأخير قد شبّه نزول المطر بنزول التاجر اليماني، وشبّه النبات الناشئة عن هذا المطر بالثياب التي نشرها التاجر عند عرضها للبيع، إظهارًا لعظمة المطر الذي أنبت الكلأ وضروب الأزهار وألوان النبات.
وتجدر الإشارة إلى أنّ مشهد البرق وتساقط الأمطار لا يكتمل إلّا بوجود الصحب، فالشاعر يتمتّع برفقتهم للمرّة الأخيرة قبل انقطاع كلّ منهم إلى قومه وقبيلته، ما يشير إلى تماهٍ في الصورة والمشاعر مع مشهد الوقوف على الأطلال حيث الدمّن والآثار، وحيث يغيب الأحبّة، ومن ثَمَّ يرمز الشاعر في تصويره الرفقة والصّحب الذين يترقّبون المطر إلى اقتراب أجل الرحيل وانقطاع التواصل مع أحبّة له، ما يُظهر البُعد الرثائي الذي يحيط بالنسيب، فهو يتعدّى غياب الحبيبة إلى الإيذان بالانفصال عن حلقة اجتماعيّة أكثر اتّساعًا. كذلك الأمر، فإنّ عروة بن الورد، يستهلّ قصيدته بمجلس خمريّ مع صحب يقضون الليل يتأمّلون البرق في تهامة([43]):
أَرِقتُ وصُحبَتي بِمَضيقِ عُمقِ لِبَرقٍ في تِهامَةَ مُستَطيرِ
إنّ عروة بن الورد يتماهى مع واقع حال الشنفرى وتأبّط شرًّا، فهو وإنْ لم يكن جالسًا على قمّة جبل، بَيْد أنه ينظر وصحبه من مرتفع في الحجاز إلى الأراضي الساحليّة المنخفضة، ومن ثَمَّ، كما هي الحال في مشهديّة الجبال الأخرى، يسيطر على الشاعر إحساس بالكآبة والحزن، فيستحيل النسيب مطلعًا شعريًّا تقليديًّا يتساءل فيه الشاعر ما إذا كان سيتساقط المطر حيث تسكن حبيبته سلمى التي فارقته([44]):
سَقى سَلمى، وأينَ ديارُ سَلمى إذا حلّتْ مُجاورةَ السَّريرِ
إِذا حَلَّتْ بأَرْضِ بَنـــــــــــــــي عليّ وَأَهْلـــــــــــي بَيْنَ إِمَّرَةٍ وكِيْرِ
وبالعودة إلى بائيّة ابن خفاجة، نرى أنّ العناصر المذكورة سابقًا، من تأمّل البرق والأمطار برفقة الصحب، يستحضرها الشاعر ليعيد تشكيلها لتكوّن مشهدًا واحدًا متكاملًا، بحيث يصادف الشاعر ذئبًا، يرمز إلى انبلاج الفجر، لتتّحد لاحقًا صورة الذئب مع شخصيّة الصاحب الذي يرافق الشاعر في رحلته، ليمسي الشاعر والذئب في مشهد لاحق يتأمّلان نجمًا متّقدًا في السماء([45]):
رأيتُ بهِ قِطْعًا مِنْ الفَجْرِ أغْبَشًا تَأمَّلَ عَنْ نجْمٍ تَوقَّدَ ثاقبِ
إن صورة الصداقة الحميمة بين الشاعر والذئب تتكامل مع التعاطف الذي أظهره الشنفرى في لاميته مع عالم الوحوش، كما تتماهى من جانب آخر مع صورة الصّحب الذين يشاهدون البرق سويًّا ويتوقّعون مكان هطول المطر، في معلّقة امرئ القيس وقصيدة عروة بن الورد، لتكشف التعالق القائم بين هذه النصوص وتظهر وجود صيغة علائقيّة بِنيوية فيما بينها.
أمّا على المستوى التركيبي، فإنّ المصطلح الذي استخدمه ابن خفاجة في قصيدته للدلالة على التفكّر والتّعمق في أثناء مراقبة النجم هو الفعل «تأمّل»، وقد سبقه إليه امرؤ القيس في معلّقته باستخدام اسم المفعول المشتقّ منه «متأمَّل»، عند قوله «بَعْدَ ما متأمَّلي»([46]). في الواقع، لقد حصر«جينيت» علاقة النص الجديد بالبنى الأصليّة المتوارثة في علاقات ثلاث، تتمثّل بإنجاز مضمون كان يشكّل في تلك البنيات وعدًا (المماثلة والمشابهة)، أو تحويل معنى قائم والذهاب به إلى ما هو أبعد (المماثلة والانحراف)، أو خرق معنى، أو شكل قائمَيْن محاطَيْن بهالة من القدسيّة، واللامساس فيقلبهما، أو يطرح ما هو ضدّها ويكشف فراغها (التنافر والمخالفة)([47]). وانطلاقًا من ذلك نرى أن التناصّ بين هذه النصوص مبنيّ على طريقة المماثلة، والمشابهة التي تقوم على المعارضات، بحيث جاء في القاموس «عارضته بمثل ما صنع أي أتيتَ إليه بمثل ما أتى وفعلتَ مثل ما فعل»([48])، فنرى ابن خفاجة يعارض شعراء الجاهليّة فيجاريهم في اللفظ نفسه، أو في المعنى نفسه، بحيث نجد أنّ القصائد الأولى أضحت في نسيج القصيدة الثانية بحكم ربط معانيها بسابقاتها ناهيك عن الأسلوب والألفاظ المستخدمة، إلى جانب كون قصيدة الجبل تعكس ملامح القصائد الجاهليّة السابقة التي ذكرنا، معتمِدة على آلية الاجترار، والامتصاص بإعادة إنتاج النصّ، وصياغته من دون محاولة تحطيم النص الأول، لا بل التكامل معه والتعارض مع أجزائه. وينتقل ابن خفاجة بعد هذا التأمّل إلى وصف قمّة الجبل الشاهقة التي تجاور السماء في العلو والارتفاع([49]):
وأرعَنَ طَمَّاحِ الذُؤابةِ بَاذخٍ يُطاولُ أَعْنانَ السَّماءِ بِغارِبِ
يبقى أن نشير إلى التناصّ في مفهوم الجبل بحدّ ذاته. فإذا كان الجبل في شعر ما قبل الإسلام مكانًا للتأمّل الذاتي والهدوء، والهروب من الواقع الأليم، كما كان مكانًا يشاهد فيه الجاهليّ قوى الطبيعة من برق ومطر، فإنّ جبل ابن خفاجة يحمل بُعدًا آخر إضافيًّا، فهو يشير بجماده إلى «الأطلال» التي كانت تؤرّق بال الجاهلي، بحيث يُسقط هذه الصورة بما تحمله من أبعاد نفسية واجتماعيّة على الجبل، فنرى الجبل في بائيّة ابن خفاجة صامتًا أخرس([50]):
أَصَخْتُ إليهِ وهوَ أخرسُ صَامتٌ فحدثَّني ليلُ السُّرى بالعَجائِبِ
إنّ الوصف أعلاه يتعالق مع صورة الجبل في معلّقة لبيد بن ربيعة بحيث رآه أخرس([51]):
فَوَقَفتُ أَسأَلُها، وكيفَ سُؤالُنَا صُمًّا خوالِدَ ما يَبِينُ كَلامُهَا؟
إنّ الشاعر يقف يسأل الطلول عن قطّانها وسكّانها، ثم قال: كيف سؤالنا حجارة صلابًا لا يظهر كلامها([52])، وبالتالي نرى التشابه بين صورة جبل ابن خفاجة صمتًا وصمًّا مع طلول لبيد، كما نرى من جهة أخرى تشابه صورة هذا الجبل مع القبر الأصمّ الذي يتطرّق إليه طرفة بن العبد في معلّقته([53]):
تَـــــــرى جُثْوَتَينِ مِـــــــــــــــــــــن تُرابٍ صَفائِحُ صُمٌّ مِن صَفيحٍ مُنَضَّدِ
إنّ طرفة بن العبد يرى قَبْرَيْ البخيل والجوّاد متماثلَيْن، كومة من التراب عليهما حجارة صمّاء، وهي صورة متكاملة مع جبل ابن خفاجة الأخرس والصامت، بَيْد أنّ ابن خفاجة لم يرَ في الجبل مجموعة صخور جامدة مشابهة لتلك التي استفاض في وصفها الشعراء الجاهليّون، وشكّلت قصائدهم التي أمعنت الوقوف على الأطلال ووصف الآثار والدّمن، ووصف الجماد والموت اللذين يحيطان بالمكان، ومن ثَمَّ نرى جبل ابن خفاجة يتحدّث، ويقدّم إجابات عن تساؤلات وجوديّة لطالما حيّرت الشعراء الجاهليّين وأرّقت نفوسهم، فقدّم ابن خفاجة «جبله» على أنه شخصيّة مركزيّة في الشعر العربي، لا بدّ من الركون إليها والأخذ من عبرها وحكمها، فتخطّى التساؤلات القديمة التي قوبلت بالصّمت إلى إجابات واضحة مباشرة.
إنّ التناصّ القائم بين جبل ابن خفاجة وجبل الشعراء الجاهليّين يقوم على أساس المماثلة والانحراف بحسب تصنيف «جينيت» لعلاقة النص الجديد بسابقه، بحيث سار ابن خفاجة مع النص السابق شكلًا ومضمونًا، غير أنه انحرف عنه إلى مقصديّة جديدة أو غرض مختلف، بحيث «يسلك الشاعران طريقًا واحدًا، فتخرج إلى موردَيْن مختلفين، وهناك يتبيّن فضل أحدهما على الآخر»([54])، ومن ثَمَّ فإنّ جبل ابن خفاجة الناطق المتحرّك البعيد من الجمود يشكّل انحرافًا عن مسار القصائد الجاهليّة التي رأت في الجبل موتًا، في حين ذهب ابن خفاجة إلى تصويره حكيمًا عميقًا، يحمل الإجابات التي يسعى إليها الإنسان في عمق وجدانه. وعلى الرغم من التميّز أو التفرّد الذي يحيط بجبل ابن خفاجة، بَيْد أنه لا بدّ من القول إنّ أبعاد الجبل لا تحمل أيّ تجديد، فبعيدًا من الجانب النفسي الذي أثارته قصيدة الجبل في خاتمتها لجهة الهدوء الذي خيّم على المشهد العام، فإنّ مراقبة النجوم والمطر والبرق واللجوء إلى قمّة الجبل على غرار الصعاليك، بالإضافة إلى الآثار الصامتة والصخور الجامدة المشابهة للأطلال التي وصفها الجاهليّ في جميع أشعاره، كلّ تلك العناصر تُظهر قصيدة الجبل صدى للقصائد الجاهليّة، وامتدادًا متكاملًا لقصائد الجاهليّين مضمونًا وأسلوبًا. غير أنّه في قراءة تأويليّة لخاتمة هذه القصيدة، نرى أن جبل ابن خفاجة، الذي يرمز إلى الشاعر بحدّ ذاته، يدرك ذاته، ويدرك أنه يكرّر الصورة النمطيّة التقليديّة التي أرستها القصيدة الجاهليّة، كما أنّ زائري هذا الجبل هم أنفسهم على مرّ الزمن، سواء أكانوا من النسّاك أم المنبوذين من الصعاليك الذين عبّروا عن تجاربهم ونقلوا خبراتهم الحياتيّة في أبياتهم الشعريّة التي أصبحت تتكرّر بصور متعدّدة وأشكال متنوعة، من هنا يمكن عدّ تناصّ قصيدة الجبل مع الشعر الجاهلي إنما هو إِظهارٌ للتكرار الذي حفلت به القصيدة العربيّة، والجمود في النظرة إلى الموضوعات الوجدانيّة المقلقة، فجاءت قصيدته دعوة إلى إخراج الجبل من صورته النمطيّة، ومن المفهوم الشعري العربي التقليدي. إنّ الجبل، أي ابن خفاجة، يتكلّم داعيًا بطريقة غير تصريحيّة إلى اعتماد موضوعات شعريّة جديدة، أو مقاربتها بطريقة تجديديّة، وما يدعّم هذه القراءة التأويليّة للمرسَلة التي ابتغى الشاعر إيصالها هو السّؤال حول دوافع لجوء ابن خفاجة إلى اعتماد صور نمطيّة متكرّرة قديمة في عصرٍ عُرِفَ عنه بالجماليّة الشعريّة والجدّة في الموضوعات.
لائحة المصادر والمراجع
1- ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة الرسالة، القاهرة، ج3، 1959.
2- ابن خفاجة الأندلسي: ديوانه، تحقيق عمر فاروق الطبّاع، دار القلم للطباعة والنشر، بيروت، لا ت.
3- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، ج14.
4- أبو مصلح، عدنان: معجم علم الاجتماع، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2006.
5- البياتي، بدران عبد الحسين: التناصّ في الشعر الأموي، رسالة دكتوراه، جامعة الموصل، 1989.
6- أنجينو، مارك: مفهوم التناصّ في الخطاب النقدي الجديد، ترجمة أحمد المديني، دار الشؤون الثقافية العامّة، بغداد، ط1، 1987.
7- بارت، رولان: نظرية النص، ترجمة محمّد خير البقاعي، مجلّة العرب والفكر المعاصر، العدد3، 1988.
8- تأبط شرًّا: ديوانه، تحقيق علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1984.
9- خليف، يوسف: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار المعارف، ط3، لا ت.
10- الزّوزني، الحسين بن أحمد: شرح المعلّقات السّبع، مكتبة المعارف، بيروت، ط1، 2004.
11- ستيتكيفيش، سوزان: القصيدة العربيّة وطقوس العبور، مجلّة مجمع اللّغة العربية، دمشق، مجلّد 6، ج1، 1985.
12- الشنفرى: ديوان الشنفرى، تحقيق إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، ط2، 1996.
13- العاني، شجاع مسلم: الليث والخرافة المهضومة، دراسة في بلاغة التناصّ الأدبي، مجلّة الموقف الثقافي، بغداد، العدد الثالث، 1998.
14- عبّاس، محمود جابر: استراتيجيّة التناصّ في الخطاب الشعري العربي الحديث، علامات في النقد، نادي جدّة، جدّة، السعوديّة، 2002.
15- عروة بن الورد: ديوانه، تحقيق محمّد نعناع، مكتبة العروبة، الكويت، ط1، 1995.
16- عزّام، محمّد: النصّ الغائب، تجليّات التناصّ في الشعر العربي، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2001.
17- القرطاجني، حازم: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمّد الخواجة، ط3، بيروت، 1986.
18- القيرواني، ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، دار الجيل، ج2، ط5، 1981.
19- مفتاح، محمّد: تحليل الخطاب الشعري، «استراتيجية النصّ»، دار التنوير للطباعة والنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1985.
20- نعمة، حسن: موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994.
21- Stekevych Suzanne, A paradigm of passage Manqué, Journal of the American Oriental Society, Vol 1 de, N4, (Oct-Dec 1984).
22- Turner Victor, The Ritual Process: Structure And Anti Structure, Ithaca, New York, 1977.
23- Van Genner Arnold, The Rites of Passage, Chicago, 1960.
* دكتوراه دولة في اللّغة العربيّة وآدابها، مدير ثانويّة الزلقا الرسميّة.
([1]) حازم القرطاجني: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمّد الخواجة، دار الكتب الشرقيّة، تونس، ط3، 1966، ص 189.
([2]) ابن رشيق القيرواني: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، دار الجيل، ج2، ط5، 1981، ص 281.
([3]) رولان بارت: نظرية النص، ترجمة محمّد خير البقاعي، مجلّة العرب والفكر المعاصر، العدد3، 1988، ص 96.
هو أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الفتح بن عبدالله بن خفاجة الهواري الأندلسي الجزيري، المولود في جزيرة شَقْر سنة 1058 – 1138م (450ه – 533ه)، ورث عن أهله المزارع، والبساتين، والحدائق فعاش منذ طفولته بين أحضان الطبيعة التي كان لها الأثر الأبرز في شعره.
([4]) ابن منظور: لسان العرب، دار ص ادر، بيروت، ج14، ص 270 – 271.
([5]) محمّد مفتاح: تحليل الخطاب الشعري، «استراتيجية النصّ»، دار التنوير للطباعة والنشر، الدار البيضاء، المغرب، 1985، ص 119.
(3) محمود جابر عبّاس: استراتيجيّة التناصّ في الخطاب الشعري العربي الحديث، علامات في النقد، نادي جدّة، جدّة، السعوديّة، 2002، ص 266.
(4) محمّد عزّام: النصّ الغائب، تجليّات التناصّ في الشعر العربي، منشورات اتحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2001، ص 29.
(5) بدران عبد الحسين البياتي: التناصّ في الشعر الأموي، رسالة دكتوراه، جامعة الموصل، 1989، ص 14.
(6( مارك أنجينو: مفهوم التناصّ في الخطاب النقدي الجديد، ترجمة أحمد المديني، دار الشؤون الثقافيّة العامّة، بغداد، ط1، 1987 ص 102.
([10]) بدران عبد الحسين البياتي: التناصّ في الشعر الأموي، ص 263.
(3) Victor Turner! The Ritual Process: Structure And Anti Structure, Ithaca, New York, 1977, p94 – 95.
([13]) عدنان أبو مصلح: معجم علم الاجتماع، دار أسامة للنشر والتوزيع، الأردن، ط1، 2006، ص 302.
(1)Arnold van Genner, The Rites of Passage, Chicago, 1960, p38 – 45.
(2) سوزان ستيتكيفيش: القصيدة العربيّة وطقوس العبور، مجلّة مجمع اللّغة العربية، دمشق، مجلّد6، ج1، 1985، ص 59 – 60.
([16]) سوزان ستيتكيفيش: المرجع نفسه، ص 73.
([17]) Suzanne Stekevych, A paradigm of passage Manqué, Journal of the American Oriental Society, Vol 1 de, N4, (Oct – Dec 1984) p661.
(5) ابن خفاجة الأندلسي: ديوانه، تحقيق عمر فاروق الطبّاع، دار القلم للطباعة والنشر، بيروت، لات، ص 47. الجنائب: رياح الجنوب. النجائب: النوق.
([19] ) ابن خفاجة الأندلسي: ديوانه ، ص 49. الطيّة: السفر.
([21] ) الشنفرى: ديوان الشنفرى، تحقيق إميل بديع يعقوب، دار الكتاب العربي، ط2، 1996، ص 63. الأزلّ: صفة للذئب القليل اللحم. التنائف: الصحارى. أطحل: الذي في لونه لون رماد بين الغبرة والبياض. والمعنى: يُشبّه الشاعر نفسه بذئب نحيل الجسم جائع ينتقل بين الفلوات بحثًا عن الطعام.
([22] ) الشنفرى: ديوانه، ص 59. الأرقط: الذي فيه سواد وبياض. زُهلول: خفيف. السيّد: الذئب.
([23]) تأبط شرًّا: ديوانه، تحقيق علي ذو الفقار شاكر، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1984، ص 182 – 184. والشعر منسوب إلى امرئ القيس، انظر الديوان، ص 372، وشرح المعلّقات السبع للزوزني ص 110 – 112. الخليع المعيَّل = الخليع: المقامر، المعيَّل: كثير العيال.
(2) ابن خفاجة: ديوانه، ص 48. المضاحك: جمع مضحك: ثغر. القاطب: العابس. الأطلس: الذي في لونه غُبرة إلى سواد.
(3) الشنفرى: ديوانه، ص 63، أطحل: لونه كلون الرماد بين الغُبرة والبياض.
(2) الزوزني: شرح المعلّقات السبع، مكتبة المعارف، بيروت، ط1، 2004، ص 29 – 30.
([28]) الشنفرى: ديوانه، ص 58. والمعنى: لقد قُدِّر رحيلي عنكم، فلا مفرّ منه، فتهيّؤوا له.
([29]) ابن خفاجة: ديوانه، ص 49.
(2) حسن نعمة: موسوعة ميثولوجيا وأساطير الشعوب القديمة، دار الفكر اللبناني، بيروت، 1994، ص 37.
(3) الزوزني: شرح المعلّقات السبع، ص 43. والمعنى: يخال امرؤ القيس كبيرًا في أوائل مطر هذا السحاب سيّد أناس قد تلفّف بكساء مخطّط، فشبّه الجبل بالرجل.
(4) يوسف خليف: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار المعارف، ط3، لا ت، ص 190 – 191.
(1) الشنفرى: ديوانه، ص 72 – 73. القُنّة: الجبل المنفرد المستطيل في السماء.
(2) تأبط شرًّا: ديوانه، ص 137 – 138.
(1) المصدر نفسه، ص 47. الجنائب: رياح الجنوب. النجائب: النوق.
(2) المصدر نفسه، ص 48. القتود: خشبة الرّحل.
(3) ابن خفاجة: ديوانه، ص 48. يلوث: يعقد، يربط.
(4) الزوزني: شرح المعلّقات السبع، ص 42. الأذقان: مستعار في البيت للشجر.الدوحة: الشجرة العظيمة. الكنهبل: شجر البادية.
(1) المرجع نفسه، ص 41. ضارج والعُذيب: موضعان. القَطَن: جبل وكذلك الستار ويذبل جبلان. الصوب: المطر.
(2) المرجع نفسه، ص 44. الغبيط: الأكمة. البعاع: الثقل. العياب: الثياب.
([43]) عروة بن الورد: ديوانه، تحقيق محمّد نعناع، مكتبة العروبة، الكويت، ط1، 1995، ص 32. تهامة: أرض منخفضة بين ساحل البحر والجبال في الحجاز واليمن.
([44]) المصدر نفسه، ص 33. السرير: موضع في بلاد كنانة. بنو عليّ: قوم من كنانة. إمَّرَة: اسم منزل في طريق مكّة من البصرة. كير: جبل في أرض غطفان.
([45]) ابن خفاجة: ديوانه، ص 48.
(2) الزوزني: شرح المعلّقات السبع، ص 41.
([47]) شجاع مسلم العاني: الليث والخرافة المهضومة، دراسة في بلاغة التناصّ الأدبي، مجلّة الموقف الثقافي، بغداد، العدد الثالث، 1998، ص 85.
([48]) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر بيروت، لا ت، مادة عَرَض.
(5) ابن خفاجة: ديوانه، ص 48. الأرعن: الجبل. الذؤابة: بمعنى قمة الجبل. أعنان السماء: السّحب. الغارب: الظهر.
([50]) المصدر نفسه، ص 48. أصخت: استمعت.
(1) الزوزني: شرح المعلّقات السبع، ص 160.
([52]) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
(3) المرجع نفسه، ص 64. الجُثوة: الكوّة من التراب.
([54]) ابن الأثير: المثل السائر في أدب الكاتب، تحقيق أحمد الحوفي وبدوي طبانة، مطبعة الرسالة، القاهرة، ج3، 1959 ، ص 24.