foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

السيرة الشعبيّة العربيّة: رؤى من الماضي وتطلّعات الحاضر

0

السيرة الشعبيّة العربيّة: رؤى من الماضي وتطلّعات الحاضر

Arab Folk Biography: Visions from the Past and Aspirations for the Present

 Dr. Mohamad Ahmad Hammoud.  د. محمّد أحمد حمّود[1]))

 

ملخّص

تتناول الدراسة موضوع السِّير الشعبية العربيّة، وعلاقتها بالأدب الشعبي، والتي تٌطلق على مجموعة من الأعمال الروائيّة الطويلة، ذات سمات فنيّة متشابهة، وذات أهداف ورؤى فنية متماثلة، إذ تكون في مجموعها صنفًا أدبيًّا متميّزًا. وتستند الدراسة إلى نشأة السير العربيّة وارتباطها بحياة الناس وتاريخهم وحضارتهم، والتي تنطلق من شخصية البطل والأخلاق النبيلة والفروسيّة والتي منها ما يجنح قليله إلى الواقع وكثيره إلى الخيال. وهي رصد للسير الشعبية من حيث رواجها الشعبيّ، وتأصيل لعادة الاستماع إلى رواتها وشعرائها في المناسبات والاحتفالات المتعدّدة، فضلًا عن كيفية تناقلها وتدوين أيامها ومراحل تأليفها وتجميعها، وما يرتبط بالمأثور الشعبي لأبطالها وأشكالها التعبيرية بين النثر والرواية وتوظيف الأساطير والحكايات الخرافية فيها، والمواقف الشعرية التي أتت بها لإبراز أبطالها وأفعالهم. هي محاولة للإضاءة على هذا الفنّ العربيّ الشعبيّ، وارتباطه بتيار الحياة الشعبية المتدفّق والمستمرّ، وما يضاف إليه باستمرار من مكتسبات جديدة وخبرات جديدة تضاف إلى التراث المتبقّي فتثريه، وتطوّر فيه ما يجعله مستمرًّا في الوجود والحياة.

الكلمات المفاتيح : السير الشعبيّة ـ الأدب الشعبيّ ـ السيرة النبوية ـ التراجم ـ الوجدان الشعبي ـ المجتمع العربي ـ الفولكلور ـ الرواية ـ أبطال الملاحم ـ الأسطورة ـ القصص الشعبي ـ الحكايات ـ المأثور الشعبي ـ الطبقات المحرومة ـ الطبقات الثرية ـ الأشكال التّعبيريّة ـ أخبار الأمم السّالفة ـ البطل ـ الأسماء ـ الخرافات ـ الرسائل ـ الأمثال ـ الشعر ـ ديوان العرب ـ التصوير الشعري.

Abstract

The study deals with the topic of Arab folk biographies, and their relationship to popular literature, which refers to a group of long fictional works, with similar artistic themes, and similar artistic goals and visions, so that they are a distinct literary genre. The study is based on the origins of Arab biographies, and their connection to people’s lives, history, and civilization, which stems from the personality of the hero, noble morals, and chivalry in reality and imagination. It is, therefore, a credit to popular biographies in terms of their popularity, and rooting for the habit of listening to their narrators and poets on various occasions, as well as writing them down, compiling them, transmitting them, expressive forms, and employing fairy tales and legends in them to highlight their heroes and their actions. It is an attempt to shed light on this folk art, and what is added to it of new acquisitions and experiences to the remaining heritage, enriching it, which makes it continuous in existence and life.

The keywords: Popular biographies, popular literature, biography of the prophet, translations, the popular conscience, Arab society, the folklore, the novel, epics heroes, the legend, the popular stories, the anecdotes, popular adage, the disadvantaged classes, the wealthy classes, expressive forms, news of the former nations, the hero, names, the fables, the letters, the paranormal, proverbs, the poetry, Arab court, the poetic imagery.

تمهيد

يُطلق لفظ السيرة في الأصل على ما نسمّيه اليوم بالتراجم، فالسيرة هي قصّة حياة، ومعنى الكلمة متسلسل من الطريق أو المسلك وأصلها جميعًا سير أو سلك، وصيغة الجمع لسيرة أو سير.

والسيرة الشعبية تمثّل عالمًا إبداعيًّا فسيحًا، و” ذلك لما امتلكته من خصوصيّات ومزايا فنيّة وشكليّة ومضمونيّة، سهّلت لها استقطاب العديد من الأشكال الفنيّة والأدبيّة في حركة تناغم وتفاعل سلسة مرنة لا يمكن فهم فوارقها ومزاياها إلّا من خلال النظرة المتفحّصة الناقدة والدقيقة”(1) ، وقد أولع العرب سابقًا بالأنساب ومن هنا كان اهتمامهم في تآليفهم الأولى مُنصبًّا على السيرة والمغازي، “أمّا السير فهي رصد لأيامهم ومعاركهم التي شغلت حياتهم قبل الإسلام”(2)  .

ويرى الدكتور عبد الحميد يونس أنّ الأصل في مصطلح سيرة  هو السيرة النبويّة، ويقول في تعريف المصطلح أنّها: “هي الترجمة المأثورة للنبيّ (ص)، ثمّ أصبحت تدلّ على ترجمة الحياة بصفة عامة”(3)، ومن المفيد أن نتوقّف عند استعمال المؤرّخين المسبق لمصطلح ( سيرة ) في تأليفهم عن أخبار العرب في ما عرف بالسير والمغازي. ويقول: ” كان من الطبيعي أن يحتفل الإبداع الشعبي بسيرة النبي محمد (ص) وهي محفوظة ومردّدة في البيئات وفي العواصم وبخاصّة في الاحتفال بالمولد النبوي أو الهجرة أو الإسراء والمعراج”(4) . فالسّير هنا تصف واقعًا شعبيًّا موجودًا، بل أصلًا تاريخيًّا ولو أنّ الرؤية هذه تبقى ناقصة وفيها أوجه كثيرة للاختلاف ، فنشأة السير الشعبية العربية هي أيضًا من اجتذاب الوجدان الشعبي لبعض الشخصيات التي عملت على تحقيق القيم الدينيّة والقوميّة والاجتماعيّة.

1 – نشأة السيرة الشعبية وأفق الرواية

نشأت  السير العربية في ظروف صعبة وعاشت حياة أكثر صعوبة لارتباطها بحياة الناس وتاريخهم وحضارتهم وامتداداتهم الاجتماعية والثقافية؛ لذلك وجدنا السير تنطلق من شخصية بطلة نافذة في وجدان المجتمع العربي بأخلاقها النبيلة وفروسيتها وبطولتها وغيرها من المزايا والصفات التي تحرص السيرة على نقلها وغرسها في نفوس المتلقّين.

وقد انتشرت طائفة من السير الشعبية يقوم محورها على بطل أو مجموعة الأبطال، وهذه السير دُوّن بعضها وطُبع ونُسب تأليفها إلى مبدع واحد أو أكثر، ومع ذلك ظلّت تُنشد وتُردّد على الجماهير في المناسبات العامّة.

فالسير ليست مقصورة على الواقع ، ولكنها تجنح في أكثر حلقاتها إلى الخيال، ومن هنا كانت هذه الدراسة من باب رصد السير الشعبية من حيث رواجها الشعبي، ومن حيث تأصيل عادة الاستماع إليها وإلى رواتها وحكائيها وشعرائها في المناسبات والاحتفالات الشعبية والدينية المتعددة، ولو أنّ هذا الرصد لا يحدّد لنا مرحلة إبداعها في الضمير الأدبي العربي والضمير العربي على السواء.

ولتحقيق أهداف السيرة المتعدّدة، ومنها هدف إيجاد النموذج القدوة في المجتمع العربيّ عمد رواتها إلى الاستعانة بجملة من الفنون والعلوم التي أعطت لنصوص السيرة المصداقية والقابليّة، “ولعلّ أهم تلك العلوم، التاريخ والأنساب، ومن أبرز الفنون الشعر والخطابة والتراسل… وهي مجتمعة تشكل كيان السيرة” (5)

فقد يكون الأمر أنّ العرب عرفوا السير وتناقلوها، ودوّنوا فيها أيامهم وأخبار حروبهم، كما دوّنوا فيها أنسابهم وسير أبطالهم وملوكهم. فالسير الشّعبية العربية التي تحت أيدينا إلى الآن ليست تسجيلًا تاريخيًّا لحياة فرد أو لحياة قبيلة أو لحياة فئة، بل هي عمل إبداعي يعتمد على الخيال والصياغة الروائيّة والرؤية الفنية للبطل والأحداث. ولقد امتلأ الأدب العربيّ بكتب السير والتراجم للأفراد والمجتمعات، ” وحُظيت هذه المكتبة بكتب سير الوزراء والقضاة والولاة والكتّاب، كما حُظيت بسير الملوك والشعراء والمسافرين وكلّها كانت أقرب إلى كتب التراجم منها إلى كتب التاريخ، كما أنّها أبعد ما تكون من السير الشعبية كفنّ متميّز” (6).

فالسير الشعبيّة ليست تاريخًا كما تُحاسب كتب التاريخ ، وليست تراجم تُحاسب كما تُحاسب كتب التراجم ، وهي في الوقت نفسه ليست ملاحم شعرية، إذ إنّ الشعر فيها أداة وليس أصلًا، كما أنّ بناءها الفنيّ ليس بناء الملاحم، وتكوين أبطالها يختلف اختلافًا جذريًّا عن تكوين أبطال الملاحم، ولا يضيف إليها في شيء أن نستعير لها اسم فنّ ازدهر في بيئة أخرى وعند شعوب غير شعبها، “فهي من الناحية الشعبيّة لا تخضع خضوعًا كليًّا لقوانينها الفنيّة، وهي لا تخضع خضوعًا كليًّا لقوانين الرواية وإن كانت تأخذ القالب الروائي دون التزام بحبكة موحّدة(7) .

2 ـ الأدب الشعبي

ومن هنا كان استعمال بعض المثقفين والدارسين المتخصّصين مصطلح الأدب الشعبي استعمالًا غير دقيق حتى اختلط الأمر فيه، لذا نرى لزامًا أن نوضح قبل الغوص في مجالي الرواية والشعر توضيح بعض الغموض في هذا المصطلح:

ففي تصوّر البعض أنّ الأدب الشعبي مصطلح يُطلق على الأدب المكتوب بالعاميّة ، فكلّ ما كتب العامية عندهم هو ( فولكلور) أو أدب شعبي، وبهذا جمعوا في مفهوم واحد بين مصطلحين متغايرين، وإن كانا متداخلين، “هما مصطلح الأدب الشعبي، ومصطلح الفولكلور الذي نحبّ أن نستعمل بدلًا من مصطلح المأثور الشعبي”(8) . فالأدب الشعبي مصطلح يُطلق على المعطى القولي المرتبط بالذات الجمعيّة والمعبر عنها، “ولكنّه معطى قولي دخله التنظيم والترتيب وخضع للقواعد الفنيّة، واندرج في أشكال فنية محدّدة لها قواعدها وأصولها، وخضع لنوع من الحرفية التي تحقق لها انسجامًا في الشكل  وفي الموضوع معًا. وهو مع كلّ ذلك لا يتجزّأ من المأثور الشعبي“(9) .

والأدب الشعبي يعبّر عن ذات جمعيّة هي ذات المجموع كلّه، فقد اختاره وتبناه، وكتبه باللغة المشتركة التي تكفل له أن يحطّم حاجزيّ الزمان والمكان جميعًا، وينبغي لنا أن ندرك أنّ الأدب الشعبيّ يبدأ في إبداعه من الفرد ثمّ ينتهي إلى المجموع، لأنّ الأدب لا يكتب نفسه، بل يبدعه الأفراد، ولكن حين يكون إبداع الفرد معبّرًا عن غيره بقدر ما هو معبّر عن نفسه، وحين يصبح هذا الغير متسعًا تدريجيًّا ليشمل المجموع، يتبنّى هذا الانتاج، ويتناقله أفراده.

وفي هذا التناقل يكبر ويتضخّم بالإضافات والتراكمات التي تأتيه من التداول من ناحية ومن إضافة الرواة المتعدّدة، وتفاعلهم مع المتلقّين بأذواقهم المثيرة من مكان إلى مكان، ومن زمان إلى زمان، ومن ناحية أخرى، “ومع هذا فهذا العمل يظلّ دائمًا منطلقًا للتعبير عن القضايا المعاشة، كما يظلّ دائمًا هو الأداة الصالحة للإسقاطات السياسيّة والاجتماعيّة، وللتضمينات العقليّة والوجدانيّة، وللتسجيل المستمرّ والحيّ والمتطوّر للعادات والسلوك والتقاليد وما يصيب المثل من تغيّرات وتطورات طبقًا لما يصيب المجتمع من تغيّرات وتحوّلات” (10). فالأدب الشعبي يختلف من شعب إلى شعب، ومن ثقافة إلى ثقافة، فهناك الملاحم عند الإغريق واليونان، وهناك في مقابلها السير الشّعبيّة عند العرب، وهناك آداب مشتركة تشترك في إبداعها كلّ الشّعوب، وبغية موحدة مثل(الحدوتة والحكاية الخرافيّة، والشّعر الشّعبي بألوانه المختلفة من غنائيّة وملحميّة وقصصيّة ودراميّة)، و” هناك القصص الشعبيّ المتميز، وما برز في صورة محدّدة ذات فنيةّ خاصة كألف ليلة وليلة، وكحكايات الحيوان التي أثرت في كتب الأدب والأخبار، والتي أخذت مكانًا مميّزًا في الأدب الشعبيّ العربيّ حين دخلها الإسقاط السياسي، ودخلها إلى جوار هذا الرمز والإسقاط” (11) .

فمن هنا الأدب الشعبي جزء من المأثور الشعبي أو الفلكلور، ولكن ليس كلّ مأثور شعبي أو كلّ منتوج فولكلوري أدبًا شعبيًا، فالمأثور الشعبي طابعه التلقائية والعفوية والأدب الشّعبي أساسه التنظيم والخضوع لنهج فنيّ محدّد، وهو ليس أدب العامية، وليس هو أدب الفصحى، فالعاميّة لها أدبها وأدباؤها، والفصحى أيضًا لها أدباؤها .

فهل الأدب الشّعبي منتوج طبقة العامة من الشّعب؟

إن الأدب الشعبي ليس هو أدب العامية وليس هو أدب الفصحى بل هو تعبير عن الشّعب بكلّ طبقاته الاجتماعيّة والثقافيّة العربيّة، فقد ساد عند عامة المثقفين وخاصة رجال الإعلام إطلاق الأدب الشّعبي على آداب العامية وفنون العامية المختلفة، وقد وقع كثيرون في هذا الخطأ وعدُّوا الأدب الشعبي هو أدب الفلاحين والطبقات الدنيا في المدينة، وقد دفعت عدّة عوامل إلى هذا الخطأ: منها أنّ جامع هذا الأدب الشعبي غالبًا ما يبدأ عملية الجمع بين أبناء هذه الطبقة لأنّها الأكثر بُعدًا من المتغيّرات الطارئة في العادات والتقاليد والتي تسرع إليها الطبقات الثريّة المحبة للتغيير وإظهار علامات الثراء والرغبة في التميّز والاختلاف عن المجموع ، وهي أسرع إلى تقليد الوافد والغريب وأميل إلى أن تقود حركة التّغيير في المظهر والسّلوك وأنماط الثقافة المتعددة، بينما ترتبط الطبقات العاملة بالأرض وقيم العمل، أي بالإنتاج، وهذا الارتباط يفرض التمسك بتقاليد الأرض وتقاليد العمل التي هي جزء من عملية الإنتاج ذاتها، ومن هنا كان اتجاه الدارسين عن المأثور الشعبي يتجهون إلى هذه الطبقات التي هي في طبيعتها أكثر حفاظًا على التراث وأشدّ تمسّكًا بالتقاليد والعادات الموروثة، ولو أنّ دخول وسائل الإعلام الحديثة، الصوتيّة والمرئيّة، يزعزع من استمرار ارتباطها بالموروث الشعبي، فقد شوهدت في التلفزيونات العربيّة برامج باسم الأدب الشّعبي يقدّم فنون القول بالعامية الموزونة والمحكية من دون تحرّد وبدون احتراز، واكتملت الدّائرة حين بدأت الجرائد في الوطن العربي تخصص صفحات للشّعر العامي، وأصبح من المألوف أن يسمّى شاعر العاميّة شاعرًا شعبيًّا لمجرد أنه يستعمل العاميّة في بداعه الشعري، ” ومن هنا كانت الدّعوات إلى سرعة جمع الموروثات الشّعبية قبل انقراضها بدخول القيم والسلوكيات التي تزحف بها وسائل الإعلام مع المعاصرة والحداثة والانترنت ووسائل الاتصال والتواصل المتطوّرة والسهلة دون تخطيط أو دراسة تضع الحفاظ على الموروث نصب عينيها،  فكلمة شعبي تعني التراث المشترك لكلّ طبقات الشعب وفئاته التي تجمعهم بتسبة ثقافية مشتركة وواحدة” (12).

إنّ الدعوة إلى تحقيق النصّ الشعبيّ تحقيقًا علميًّا، كما تعوّدنا في النصوص التراثية غير منطقية وغير علمية على السواء. فالتحقيق العلمي للنصّ يقتضي وجود النسخة الأم، أو أقرب النسخ المخطوطة إلى هذه النسخة.

 3 ـ السير الشعبية وأشكال التعبير 

إنّ السير الشعبية التي وصلتنا محصورة وقليلة، ولو تعذّر وصول النسخة الأم منها، وما يوجد في مكتبات العالم من نسخ لسيرة معينة لا يعدو أن يكون نسْخًا لقطع منها، أو نسْخًا لنفس النسخة التي ثبتت بالطباعة والنشر.

فقد حصر المستشرق بروكلمان مثلًا، مخطوطات سيرة عنترة في مكتبات العالم بنصّ كامل بدار الكتب المصرية وتسع قطع منها متناثرة في مكتبات برلين وباريس وميونخ ولندن وغيرها (13)  . وعلى الرغم من ضخامة كلّ سيرة على حدة  إلّا  أنّنا نذهب إلى أنّ الكثير من السير الشعبية لم يصل إلينا، إمّا لأنه قد أهمل أو فُقِد، أو لأنّنا لم نحصل على نسخة مدوذنة منه في وقت مناسب بحيث تحفظه لنا حتى اليوم، ومات مع مَن مات من حفظته ورواته. وبسبب هذا الزخم الهائل من العلوم والفنون أضحت السيرة عند بعض الباحثين النواة الأولى والحقيقية لفنّ الرواية في الأدب العربيّ، ومهما اتفقنا أو اختلفنا حول هذا الطرح المعرفي فإنّنا نتساءل: هل يمكن فعلًا عدّ السّيرة الشّعبيّة مرحلة من مراحل ظهور الرواية العربية وتطوّر الشعر العربي؟

إنّ من أبرز مَن كتب في هذا الموضوع وأولاه عناية خاصة نجد الباحث فاروق خورشيد في أغلب أعماله، ولعل أبرزها وأدقها كتابه – الرواية العربية في مرحلة التجميع – إذ قدم من خلاله مجموعة من المقترحات والآراء والحجج التي تؤكد حسبه أبوة السّيرة الشّعبية للرواية العربية، فإذا كانت الرواية الحديثة تتخذ من حياة الناس مادّة للإبداع جاعلة من أبطالها يعملون جاهدين لتحقيق حلم الفئات الكادحة والمسحوقة من بني جنسهم، فإنّ السيرة الشعبية سبقت في هذا المضمار الرواية، بل هي مَن حملت هموم الكادحين والمهمّشين من الناس حتى همشت هي أيضا بتهميشهم.

إنّ تلك القضايا الإنسانية التي حملتها السيرة الشعبيّة العربيّة قديمًا تحملها الرواية العربيّة الحديثة وإن بمفاهيم ومضامين مختلفة، لكنها تخرج من مشكاة واحدة، فظهور السيرة الشعبيّة والرواية العربيّة الحديثة كان بسبب المظالم الخارجية والداخلية، وبسبب الاستعمار والضعف والتردّي الذي آلت إليه الأمة العربيّة، فقد « ازدهرت السيرة الشعبية في زمن كان الناس أحوج ما يكونون إلى القوة والبطولة في العصر المملوكي الذي شهد اجتياحات المغول والإفرنج الرهيبة واستبداد سلاطين المماليك القاسي»(14). ومن الأسباب، العامل النفسي الباحث عن شحذ الهمم وتقوية العزائم وبث روح الحياة في النفوس العربية للرد على الظالمين والمعتدين، ولقد كانت السيرة الشعبية المتنفس الرحب للشعوب العربية في تلك الحقبة كما أن الرواية تمثل المتنفس الأرحب للشعوب العربية في هذا العصر.

من هنا فإنّنا سنتناول نماذج نثرية منها ترتبط بصورة عامة بالرواية والأعمال الشعبية والسير المشهورة، والآخر ما يرتبط بالشعر الشعبي. فالسير الشعبية تعدّ من أكثر الأشكال التعبيرية في الأدب الشعبي انفتاحًا على بقيّة أشكال التعبير سواء النثرية أو الشعرية، كما تعدّ من أكثرها توظيفًا لها، ولهذا حاولنا في هذا الموضوع تتبّع المهمّ من تلك الأشكال التعبيرية ورودًا داخل السير الشّعبية من مثل سيرة عنترة بن شداد، سيرة سيف بن ذي يزن، سيرة الزير سالم، سيرة الأميرة ذات الهمة، سيرة علي الزيبق، السيرة الهلالية، سيرة حمزة البهلوان، سيرة الظاهر بيبرس…الخ وغيرها من السير الشعبية العربية التي ارتبطت مضامينها بشخصيات إسلامية وغير إسلامية، وانفتحت عليها في حركة إبداعية قلما نجد لها مثيلا في بقية الفنون والآداب الأخرى كالمسرح والشعر مثلا، فمن الأشكال التعبيرية المهمّة التي ساهمت في بنية السير الشعبية نجد :

أولًا : المراحل والمضامين

إذا كنّا نعدُّ السير الشعبية العربية هي عطاء مرحلة الإبداع في دنيا الرواية العربية ذات الطابع الخاص الذي حدّدته الرؤية الإسلامية، وحدّده تغيّر مفهوم البطل في ظلّ الإسلام، فنحن نذهب إلى أنّ هذه المرحلة قد سبقتها مرحلتان أساسيتان مهّدتا لها، ومكّنتا من ظهورها.

الأولى: هي مرحلة التجميع

هذه المرحلة، ” فيها رواة حافظون على تجميع ما لديهم من حكايات وأخبار تمسّ الحياة العربية وحياة ملوكها وأبطالها، وحياة أحداثها وحروبها وتجاربها قبل ظهور الإسلام، استجابة لرغبة المفسرين الذين استوقفتهم إشارات القرآن الكريم إلى قصص الأنبياء، وحكايات الأمم السالفة”(15.

ويقول السيوطي في كتاب الاتقان في علوم القرآن: “وتلمحت طائفة ما فيه من قصص القرون السالفة والأمم الخالية، ونقلوا أخبارهم، ودونوا آثارهم ووقائعهم، حتى ذكروا بدأ الدنيا وأوّل الأشياء، وسمّوا ذلك بالتاريخ والقصص“(16) .

وهذا هو المدخل الأول الذي وجد فيه الحفاظ تنفّسهم إلى تدوين ما عندهم من حكايات وأخبار قبل أن تندثر معهم وتزول بزوالهم، و”عرفنا من أسماء هذه الطبقة: ابن اسحق ، ووهب بن منه وكعب الأحبار، وعبيد بن شريه الجرهمي، ودغفل النسابة ويذكر صاحب الفهرست مجموعة كبيرة منهم في الفنّ الأول في المقالة الثالثة من كتابه” (17).

فأهمية هذه الملاحظة ترتبط بمصادر معلوماتهم وخاصة عن أحداث الأمم البائدة وقصص الأنبياء، فمعظم هذه المصادر ترجع الى الكتب المقدسة السابقة للقرآن الكريم، كما ترجع إلى كتب متوارثة مليئة بالقصص. ولكن كثرة الأخبار استدعت طلب الحذر من هذا السيل الدافق من الحكايات والأخبار المشكوك في أمرها تاريخيًّا، وأسموا هذه الأخبار بالإسرائيليات، وأعلنوا أنها من مدسوسات اليهود لإفساد الرؤية الإسلامية للأخبار، ويبدو صحة ما ذهبوا إليه واضحًا.

فحركة التجميع بدأت قبل الإسلام واستمرّت طوال مرحلة صدر الإسلام، وإن كانت بادئ  الأمر قد اعتمدت على الرواية الشفاهية، ولو أنّ بعضهم قاموا بتوهين الإسلام أو أذيّة رسول الله من خلال تلفيقهم للأخبار والسيرة، وسنلاحظ أنّ هذه المرحلة جمعت بين تجميع القصص العربية القديمة، وخاصة ما ارتبط منها بملوك اليمن، والأمم البائدة وقصص الأنبياء، وبين حكايات وافدة من الأمم المجاورة، فحكايات رستم واسفنديار التي كان يحكيها النضر بن الحارث وهو قرشي حافظ لأخبار الفرس وحكاياتهم. ولا نستبعد وجود حكايات مترجمة عن الهند والروم، فقد كانت الأسفار وسيلة العرب للاتصال بالخارج.

الثانية : مرحلة التأليف

تأتي بعد مرحلة التجميع، مرحلة التأليف، ونحن نقصد بكلمة التأليف الجمع والترجمة والمادة والصياغة ولا نقصد بها عملية إبداع نفسها.  فهذه العملية احتاجت وقتًا طويلًا حتى تبدأ، واحتاجت أيضًا أن تكتمل في المجتمع العربي الجديد والفنيّ المزدهر إلى أعمال مرحلة التجميع لتقديمها تقديمًا يتلاءم مع مفهوم العصر، إلّا من جهد أصحاب مرحلة التأليف التي تقدّم فيها مجموعة من الرواد تحت ضغط الحاجات الثقافية المتنامية. والواقع أنّنا لا نستطيع الفصل بين مرحلة التجميع ومرحلة التأليف فصلًا زمنيا محدّدًا، وإن كان من المنطقي والمعقول أن تلى الثانية الأولى زمنيًّا، لكنّ الواقع أنّ التداخل بينهما ملحوظ وسائد في الأغلب الأعمّ، والواقع أننا لا نعرف كتب أصحاب مرحلة التجميع  إلّا من جهد أصحاب مرحلة التأليف.

هذه المرحلة، حاولت تغطية كلّ مصادر الأعمال القصصية القديمة، سواء منها ما اختصّ بأخبار الملوك والأمم، أو بأخبار العشّاق والمحبين، أو بأخبار المغامرين في البحار وما لاقوه من عجائب ومغامرات، ويضيف ابن اسحاق النديم إليها كلّ أخبار البطالين وأخبار قوم من المغفّلين، وهو لا يذكر اسم المؤلف، وإنما يذكر أسماء الكتب، ومنها نوادر جحا وغيره من مشاهير الشخصيات الشعبية العربية، ونحن نضيف إلى هذا العصر عمل الأصمعي في أخبار عنترة وعمل ابن الأثير في أخبار حمزة البهلوان. فالجهد الأول كان جهد تجميع ما عند الحفظة والرواة والمسامرين والمترجمين، والجهد الثاني هو جهد تأليف الكتب المنفصلة والمرتبة من هذا الجهد الأول، وفي كلّ مرحلة من هذه المراحل كانت المصفاة الإسلامية تؤدي دورها سواء عن واعية واضحة من المؤلفين، أو عن إحساس بالمسؤولية الملقاة على عواتقهم أو عن حسّ بالغ الرهافة بمقتضيات العصر. أما وقد أصبحت هذه المجموعة الضخمة من حكايات العرب، وحكايات الشعوب التي سبقت في مضمار الحضارة متاحة، وأصبح لا حذر منها ولا خوف إذ هي دخلت الحصيلة العربية وقد تلاءمنا معها كلّ الملاءمة، فمن الطبيعي إذن أن يثرى الخيال العربيّ الإسلاميّ بهذا الفيض الغزير من القصص، ومن الطبيعي إذن أن يتجه إلى لون خاص، ومن ألوان الإبداع الروائي، يقوم على هذه الخلفية العريضة من الموروث الشعبي والقصصي والتاريخي والإبداعي، ويقوم أيضًا على تصوّر حقيقي لرسالة الأدب في عصر تعيش فيه الأمة كلها معارك دامية وصراعات مريرة، مع قوى عظمى تحيط بها من كلّ جانب، وتقارعها بالسلاح وبمعطيات الحضارة معها، وبخلفيّة حضاريّة قديمة مليئة بالأمجاد والأبطال والإشادة بالإنسان وقدراته وحقوقه.

ثانيًا: المضامين الرئيسة

 أ ـ البطل في السير الشعبية

يرتبط البناء الفني للسير الشعبية العربية ارتباطًا عضويًّا، بمراحل تطوّر البطل الرئيس للسيرة، وهذا التطوّر نمطي يتكرّر من سيرة شعبية إلى أخرى، إذ يمكن عدُّه المحور الرئيس في فنية كتابة السيرة الشعبية بصفة عامة، “والسيرة لشعبية تبدأ عادة بمرحلة التكوين، وهي مرحلة تشمل ما قبل  ولادة البطل، ثم ولادة البطل نفسه ثمّ قضية البطل الخاصة التي يعيشها في إطار مجتمعه الخاص، وتنتهي بانتصاره في قضيته الفردية، وتطهره الكامل من الظروف التي كانت تحيط به، وتحاول إعاقة تطوّره إلى مرحلة بطولته داخل السير الشعبية(18)  .

وهنا التصوّر الإسلامي واضح لشخصية البطل ودوره في مجال الرؤية الإسلامية، فالبطل هنا مؤمن يحارب الكفر، وخير يحارب الشرّ، وإنسان يحارب الشيطان، وقوى الخير كلّها تتضافر معه، وقوى الشرّ كلّها تعاديه. ومع هذا فحتم أن  ينتصر ، وحتم أن تهزم قوى الخير قوى الشرّ، لأنّ الله المحبة والسلام والمغفرة يمدّ أبطاله بالأسباب التي تؤدي إلى انتصاره على الشرّ مهما عظمت قوى الشر. وفي السير الشعبية كما نلحظ، نجد أنها لا تبدأ إلّا بعد التأصيلة، والتأصيلة هي مرحلة ما قبل ولادة البطل، ممتدّة إلى أبعد ما يمكن الابتعاد إليه من زمن يربط نسبه وقبيلته بالرسول في السير المتأخرة كالظاهر بيبرس وعلي الزيبق، وبالنبي آدم نفسه إن أمكن كما في سيرة عنترة وذات الهمّة  والهلاليّة.

والتأصيلية تثبت شرف البطل بالنسب، كما ستثبت الأحداث بعد هذا شرفه بالفعل، وفي سيرة عنترة لا يكتفي أصحاب السيرة بتأصيل نسب شدّاد أبي عنترة وتأصيل قبيلته عبس، وربطها بالأحداث المهمة في الجزيرة العربية، بل هم يحاولون تأصيل نسب أمّه زبيبه أيضًا، حيث هي المطعن الذي سبب له العبودية واللون معًا، فيذهب بها إلى نسب النجاشي ملك الأحباش نفسه، فإثبات شرف النسب ينحدر إلى السير الشعبية من مفهوم عربي عام للشرف، ومن مفهوم شعبي متداول لأبناء الأصول.

ب ـ  النسب 

تُبرز الثقافة العربية المتوارثة التي تظهر في العناية بكتب الأنساب، وتؤدي كتب عصر التجميع دورها في إمداد كُتّاب السير بثراء هائل في تحقيق أنساب الأفراد والقبائل، وفي ربط هذه الأنساب بالأحداث المهمة في الجزيرة العربية، كما تؤدي هنا أيضًا كتب التجميع دورها البارز في إمداد كُتّاب السيرة بأحداث أيام العرب وحروبهم، وتواريخ وقائعهم، سواء أكانت بين بطون القبائل، أو بين القبائل بعضها وبعض كما هو واضح في سيرة عنترة بن شداد، وذات الهمّة، أو بين العدنانيين والقحطانيين كما هو يتّضح في سيرة الزير سالم وسيف بن ذي يزن أو بين العرب كمجموع يسكن الجزيرة العربية وبين الشعوب المتاخمة لهم، كما يظهر في سيرة عنترة في معاركه مع دولة المناذرة ودولة الغساسنة، وبينهم وبين الفرس والروم من ورائهما، وفي السيرة نفسها تنعكس أحداث المناوشات بين العرب الجنوبية وبين الحبشة في تأصيل أسر زبيبه أم عنترة، ونفس الأمر يظهر سيرة سيف بن ذي يزن، حيث تنعكس العلاقات التاريخية الطويلة المتأزمة بين اليمن والحبشة على الخالفية التاريخية للسيرة.

ج ـ مضامين السير وتطلّعات الحاضر

تبرز الثقافة الواسعة لكتّاب السير من خلال طرقه لمواضيع كثيرة ومتشعّبة، ” منها ما يرتبط بالمعتقدات والسلوكيات العربية القديمة، فتظهر عبادة النجوم في سيرة سيف بن ذي يزن، كما تظهر الكهانة والقيافة والعيافة والفأل والطيرة والقداح في كل هذه السير في مرحلة التأصيلة دون استثناء” (19)، بل تظهر في بعض الأسماء المشهورة التي أوردتها هذه الكتب لمشهوري العرب في الكهانة وتفسير الأحلام والسحر والكرم والشعر والحب والفروسية، كما تظهر في قصور العرب القديمة ومعابدها ووديانها المشهورة ومنازل القبائل وأسماء مجاري المياه الثابتة، أو المتجدّدة، وأسماء الجبال وتعليلات هذه التسميات الأسطورية.

كما تظهر بعض العادات والتقاليد في الزواج والموت والولادة وتكوين الأحلاف وتقسيم الفيء والغزوات، فضلا عن طقوس الاستسقاء والخروج إلى الصيد ومعاملة الأسرى، وقراءة الفأل والزجر والاتصال بالجن، وأسماء الطيور الخرافية والغول والشق والعنقاء، “بل إنّنا نلمح معرفة غزيرة بأنساب الخيل المشهورة وعاداتها وأسمائها وأسماء السلالية اللصوص الذين اشتهروا بسرقتها ووسائل حيلهم على ذلك” (20)   .

هذه المجموعة المتضافرة من المعلومات الشعبية والتاريخية وصلت إلى كتاب السير في كتب المرحلتين السابقتين للإبداع.

4 ـ الأشكال التعبيرية المساهمة في بنية السيرة الشعبية

أوّلًا : النثر

أ ـ فنّ التراسل والمكاتبات 

وظفته السيرة الشعبيّة العربيّة لتؤكد استمراريتها في الثقافة العربية الأصيلة؛ تلك الثقافة المبنية على فن الرسائل والخطابات المتبادلة بين القادة والأمراء والوزراء والكتاب والمثقفين بصفة عامة، وهي ثقافة تهدف إلى التواصل الاجتماعي من ناحية ومعرفة أخبار وأحوال المخاطب من جهة أخرى، كما تحمل عبارات الرد أو التهديد إذا كانت موجهة للخصم.

فالرسائل التي تضمنتها السير الشعبية جاءت على شكل مكاتيب وخطابات مختصرة بليغة، صادرة من أعلى هرم السلطة إلى القاعدة، أو إلى من هم في المراتب والمنازل ذاتها لكنّهم من ديانات وثقافات وأوطان أخرى، فمنها ما صدر من الرسول (ص) إلى قادة الجند من المسلمين، أو إلى حكام وملوك الشعوب غير الإسلامية، ومنها ما كان من أبطال السير كعنترة وحمزة البهلوان والزير سالم والملك الظاهر بيبرس وغيرهم من الأبطال إلى أعدائهم ومعارضيهم. كما أنّ الرسائل والمكاتبات أنتجت معرفة ثقافية متناقضة قوامها:

الإيمان ضدّ الكفر، الخير ضدّ الشر، كما أدّت وظيفة توثيقية أعطت لنصوص السيرة المصداقية والواقعية التاريخية، وللفنية الوظيفية أصبح من الصعوبة بمكان أن نفرق بين الرسائل ومتون السيرة، وبهذا الالتحام والتعلق النصي تكون ظاهرة التوظيف قد ارتقت بالنص وسياقاته إلى المستوى الذي تتطلبه فنية السيرة وأدبيتها ، فالرسائل والخطابات التي تمت في الماضي وفي سياقات ومجالس خاصة لما تستحضرها السيرة الشعبية تجعل من المتلقي يتفاعل معها وكأنه حضرها فعلا، وكثيرة هي نصوص المراسلات التي تعج بها متون السير الشعبية العربية والتي أدت وظائف مختلفة ما بين الفنية والتعليمية القائمة على صيغتين تلقينيتين: الصيغة الأولى تمثلت في النصوص المكتوبة والصادرة من صاحب الرسالة أو الكتاب إلى المخاطب، والوسيط في العملية هو الرسول، والصيغة الثانية تمثّلت في النصوص المروية مشافهة المتلفظ بها من قبل الراوي أمام جمهور المتلقين، و” كأنّ مبدع السيرة الشعبية أراد إشراك القارئ والمستمع في عصر ومكان تلك المعلومات جاعلا من المقام سيدًا في إحداث الأثر المرجو من الرسالة أو الخطاب، هذا البوح من المبدع يتوافق تمامًا مع فنّ السيرة والتي تعني في الأخير إظهار الأثر ليقتدي به ويتبعه الآخرون”(21).

وللخطابة في أدب السيرة الشعبية حظّ وافر؛ وذلك لاشتراكهما في البنية الفنية القائمة أساسًا على المشافهة والإنشاد والإلقاء «… وتزدهر الخطابة في الثقافات الشفاهية عادة، وعند الحاجة إلى مخاطبة الآخرين مباشرة»(22)  ، والخطابة في حالات التحفيز للحرب والتهديد والتخويف من الفرقة والشقاق تتسم بالقوة اللفظية، وهذا طبيعي بذاته لارتباط الخطابة في السيرة الشعبية بحالات الحرب.

ب ـ توظيف الأساطير والحكايات الخرافية

استعانت بها السيرة الشعبية العربية؛ وذلك لما تحمله من أساليب ومضامين وبناء شكلي يتجاوب والسيرة الشعبية، ولما تقدمه من مرونة في تفاعل النصوص، وكذلك لطبيعة أغراضها وأهدافها الفنية والتعليمية والتربوية والترفيهية المتناسقة تمامًا مع طبيعة وأغراض وأهداف السيرة، كما تمتاز الأسطورة في السيرة الشعبية بطابعها الحكائي ذات البعد الديني الهادفة إلى تفسير الكون ومعنى الحياة، مازجة كل ذلك بالخيال والتقاليد الشعبية من ممارسات فعليّة وقوليّة، ومن هذه المدلولات والمفاهيم يمكن أن تعد سيرة سيف بن ذي يزن من أحفل ” السير الشعبية العربية بالعناصر الأسطورية، فعلى الرغم من استنادها المحقق إلى شخصية البطل التاريخية، وتناولها لبعض الأحداث التاريخية التي وقعت بين مصر والحبشة في فترة حكم الملك سيف أرعد فإنها تمزج التاريخ بجو أسطوري- إنْ جاز هذا التعبير – من أولها إلى آخرها”(23) ، وهذا لا يعني انعدام الأسطورة أو عناصرها في السير العربية الأخرى، وإنّما بحكم الجو العام الغالب على سيرة سيف فقد جعل الكثير من الباحثين يعدونها مصدرًا مهمًّا للأساطير العربية ومرجعًا لا يمكن الاستغناء عنه، وبخاصة تلك العناصر الأسطورية الممثلة في الخوارق والقوة الخارقة للبطل، والوصف الخيالي للكثير من الأماكن والشخصيات، والحضور المكثف لعالم الجن والشياطين والغيلان والمردة والعفاريت…الخ، هذه العناصر تشترك في كثير من موتيفات أساطير الآلهة والخلق والتكوين والحكايات الخرافية.

أمّا عن الحكايات الخرافية فهذا الشكل الأدبي يمثل صلب الأدب الشعبي النثري وبخاصة السير الشعبية وذلك لما تمثله من قوة فنية ومعرفية كما أنها بقايا تأملات الشعب الحسية وبقايا قواه وخبرته. لقد اجتهدت السيرة الشعبية العربية في التفاعل الإيجابي مع هذين الشكلين التعبيريين مغلقة الفجوات الفنية والشكلية حتى لا يقع للمتلقي ما يعرف بخرق الأفق، أو صدمة القارئ، لأنّ الأصل في السير الشعبية خلق مفاصل التواصل بين الأشكال التعبيرية من جهة وبين المبدع والمتلقي من جهة ثانية.

ج ـ توظيف الأمثال :

إذا كانت الأمثال وهي « قول محكي سائر يقصد به تشبيه حال الذي حكى بحال قيل لأجله، وحسب النظام لابد أن تتوفر فيه عناصر أربعة لا تجتمع في غيره من ضروب القول وهي: إيجاز اللفظ، إصابة المعنى، جودة التشبيه، حسن الكناية»(24) ، فإنّها في السيرة الشعبية خير من جسد هذا المفهوم، فكثيرة هي المواقف التي تستشهد فيها شخصيات السير الشعبية العربية بالأمثال العربية الفصيحة وغير الفصيحة، معطية لنا بذلك انطباعًا حسنًا على الثقافة التي يتسم بها رواة السير الشعبية، وبما أنّ الأمثال من الطرق والوسائل التربوية والتعليمية التي اكتنزت تجارب الأسلاف.

كلما كان المثل معبرًا عن حقيقة الفئة المعبر عنها كان أقرب لعالم السيرة ومعبرًا عن التّجربة الحياتيّة التي يراد من خلال السيرة تمريرها وتخليدها وتربية الأجيال عليها، لذا لا تكاد تخلو سيرة من السير الشّعبية العربيّة من ضرب الأمثال، بل يمكن القول لا تكاد تخلو صفحة من صفحاتها من الأمثال وبخاصّة عندما يكون السياق يحمل خطابًا أو حوارًا، أو حديثًا يحمل طابعًا تعليميًّا أو توجيهيًّا.

إنّ لجوء مبدع السيرة الشعبية العربية إلى ظاهرة التداخل الفني بين الأشكال التعبيرية، أو ما يعرف بالتفاعل والتعالق النصي بين النصوص المختلفة في الانتماء إلى الشكل التعبيري أو الجنس الأدبي والمتفقة في التفاعل الفني والمضموني، كان من ورائه عدة أهداف منها ما هو رسالي ومنها ما هو فني جمالي، ومنها ما هو تقني محض،لكن الغرض الأكبر والهدف الأبعد التوسّل من وراء تلك العملية برمتها الدفع بالعملية الإبداعية إلى خلق دهشة وغرابة.

تبقى حقيقة في نهاية هذا المقال وجب ذكرها، ومفادها أن التفاعل النصي، أو تداخل وتعدد النصوص داخل السيرة الشعبية يمثل ضعفًا فنيًّا وتفكّكًا نصّيًّا، على الرغم أنّ بعضًا من الباحثين من يرى فيها قوة ومتانة للسيرة وعلامة على مواكبتها للحياة الثقافية والإبداعية العربية، وهذا ما يعطي للسيرة صفة المطاوعة والتفاعل.

ثانيًا : الشعر

كان لا بدّ من أن يتوقف نموّ الوجود الملحمي المتّخذ من صلب الأسطورة القديمة، و”أن ينعدم الوجود التراجيدي للبطل في التعبير العربي الفردي والشعبي على السواء، بعد الإسلام ونبوّة محمد (ص) والقرآن الكريم كدستور حياة المسلمين، وكان لا بدّ أن يبحث الوجدان العربي عن شكل آخر من التعبير يحقق التلاؤم مع صورة البطل في الوجود الفكريّ والعقائديّ الجديد(25) … وتلبية لظهور شكل إسلامي للتعبير الأدبي ليبعده من مظان الارتباط بالأشكال الأدبية المنحدرة من الأسطورة الوثنية القديمة، ويكون فيه الوفاء الفني لمتطلبات التعبير العربي المتجدّد، ” ولعلّه أيضًا السرّ في أنّ البدايات الملحمية التي عرفها الشعر العربي القديم قد أجهضت وحلّت محلّها الروايات النثرية التي تمتلئ بالمقطوعات الشعرية الطويلة “(26)، فالموروث الشعبي على وجه الخصوص مرّ بمصفاة دقيقة وضخمة، وقد اختفت من الذاكرة أو كادت العطاءات الأدبية التي  تشير إلى العبادات الوثنية القديمة أو ترتبط ارتباطًا ما بمقتنيات الأساطير المرتبطة بالعبادة الوثنية القديمة، واختفى كل ما يرتبط بالعادات والتقاليد الممارسة في عصور ما قبل الإسلام. وقد أبقت هذه المصفاة من ديوان العرب  ما يحمل الأخلاقيات والمثل ما لا يتعارض مع الفكر الإسلامي، إن لم يوافقه ويساند معطياته المثالية والسلوكية.

وقد لاحظ الدارسون المعاصرون قلة ما وصل إلينا من شعر ما قبل الإسلام، وقصر المرحلة الزمنية التي يمثلها وهي حوالي مائة وخمسين عامًا فقط، ويوردون قول أبو عمرو بن العلاء: ( ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافر لجاءكم علم وشعر كثير)(27) . وقد لجأ كثير من الدارسين والنقاد أخيرًا إلى محاولة فهم الشعر ما قبل الإسلام على ضوء بعض الرموز فيه، وعلاقات هذه الرموز بالممارسات الأسطورية والمعبدية القديمة.

والمتصفّح لمتون السير الشعبية يُلاحظ أنّه لا تكاد تخلو صفحة من صفحاتها من بيت أو أبيات، أو حتى قصائد كاملة من الشعر بضربيه الفصيح والشعبي، وفي هذا المقام يتبادر إلى أذهاننا الأسئلة الآتية:

هل نصوص السيرة الشعبية وجدت أولًا شعرًا ثم تحوّل بعضها نثرًا عملًا بمقولة أسبقية الشعر على النثر؟ أم أن الممارسة  الإبداعية النثرية بحجم نصوص السيرة دخيلة على الثقافة العربية التي هي ثقافة شعرية جعلت المبدع يلجأ إلى التنويع لغلبة الثقافة الأصل؟ أم أنّ العملية برمتها لا تعدو أن تكون مقدرة فنيّة وإبداعية من منتج السيرة الشعبية في تليين وتكييف النصوص النثرية إلى نصوص شعرية والنصوص الشعرية إلى نصوص نثرية؟

قد تكون في تلك الأسئلة إجابات عن بعضها، لكن المؤكد أن السيرة الشعبية بحكم خصوصيتها العامة” تتميز السيرة الشعبية بأنها فنّ مستقلّ بذاته له قواعده وأصوله، وله بناؤه الفنيّ الخاص به، وله أهدافه الفنية والاجتماعيّة والسياسيّة التي استقلّ بها وتميّز” (28). وبما أن المسألة مرتبطة بحضور تلك النصوص الشعرية داخل السيرة الشعبية مما تحوّلت الظاهرة إلى ميزة وخاصية من خصائص البنية الفنية والشكلية للسيرة،هذا التداخل والتماهي بين النثري والشعري هو ما عرف في النقد الحديث بالتناص والذي يلخص مفهومه في : “أن يتضمّن نصّ ما – روائي أو غير روائي – نصًّا آخر بحيث يؤدي وجود النصّين معًا إلى إحداث عدد من الإحالات الإضافية إلى خارج النص الأصلي وإشاعة عدد من الأجواء والمناخات الجديدة التي يعجز عن إشاعتها بمفرده، أو تكون إشاعتها دون القوة المرجوة ما لم تتم الاستعانة بالنص المتضمّن“( 29 ) .

لقد احتفت السيرة الشعبية بالشعر توظيفًا وتضمينًا مستهدفة من وراء ذلك جملة من الأهداف الفنية والشكلية في عملية هندسة بناء السيرة، وقد وجدنا حالات الحضور الشعري داخل السيرة الشعبية تجسدت في الأشكال الآتية:

أ- شعر التعريف بالذات وشعر المواجهة والمبارزة والحرب

وهذه الحالة تعمّمت في كل السير الشعبية العربية التي تقدم أخبار المبارزة بين الأبطال أو الحروب بين جيوش الخير والشر، وهذه الميزة متأصلة في الثقافة العربية المكتسبة من المواجهات الشعرية قبل مواجهة الضرب بالسيف، ومن الأمثلة الشعرية.  هذا عنترة بن شداد يستفز خصمه مبادرا داعيا إياه إلى القتال والمبارزة ( 30) :

“ألا أيّها المغرور بين العوالم

أتتك كئوس الموت في حد صارمي

أنا عنتر العبسي قسورة الدغما

مبيد الأعادي : عربها والأعاجم

فابشر فهذا اليوم تبقى مجندلًا

وتبقى طريحًا للنسور القشاعم ”

وقوله معرّفًا بنفسه :

” ينادونني في السّلم يا بن زبيبة

وعند صدام الخيل يا بن الأطايب ” (31)

وهذه الأميرة ذات الهمّة تقدّم ابنها البطال غير مكترثة بلونه ما دام بطلًا يحمي الحمى ويصون الأعراض والأوطان: (32)

” كم للإمام أبو الرضا من قصة

مشكلة حلّ لها إشكالها

حتّى أقرّت ألسن القوم أنّه

لولاه ما حلّ بها كما لها

قد أَضمروا يا صاح قتلي معشري

وأوعدوني بالردى أقيالها

وعايروني أنّ ابني أسود

ثم رموني بالخنا أنذالها”(33)

ونرى أنّ الشعوب التي تعرّبت في العراق والشام ومصر وشمال أفريقيا، تخلق لنفسها الملاحم الشعبية  التي لا تنسب لشاعر معيّن بل يشترك في تأليفها والإضافة إليها عدد من الشعراء الشعبيين المجهولين، منهم الشاعر فحسب، ومنهم الشاعر والمنشد والعازف على الربابة في وقت واحد. وبفضل هؤلاء الشعراء الشعبيين المجهولين تمتعت تلك الشعوب بما لدينا اليوم من ملاحم شعبية مثل: ملحمة عنترة، وملحمة أبي زيد الهلالي سلامه، وملحمة الظاهر بيبرس، على نحة ما تمتعت به القصص الشعبية التي اكتسبت شهرة عالمية مثل قصص ألف ليلة وليلة .

وكثيرة هي المواقف الشعرية التي أتت بها السيرة الشعبية لإبراز أبطالها، ويمكن في هذا المجال العودة بصفة خاصة إلى سيرة عنترة بن شداد وسيرة الأميرة ذات الهمّة وسيرة الملك الظاهر بيبرس، وسيرة حمزة البهلوان، وسيرة الزير سالم، فهذه السير تحتوى كمًّا هائلًا من التقديمات الشعرية للأبطال، وقد أوردتها السيرة الشعبية على لسان كلّ الشخصيات المتحاربة سواء من الإنس أو الجن، أو من الشياطين والعفاريت، فكلها تساوت في هذا الغرض الشعريّ الحماسيّ الوصفيّ المخلّد لأسماء وأفعال الأبطال.

ب ـ شعر المدح

ونجد السيرة الشعبية تحتفي بهذا النوع من الشعر لمكانته في الثقافة العربية ونفسيّة الإنسان العربيّ، لكن حضوره مقارنة بالنوع الذي سبقه كان أقل.

ج ـ شعر الوصف 

من الأغراض الشعريّة التي لجأ إليها مبدع السيرة الشعبيّة، وذلك إمّا في ساحات الوغى أو في حالات السلم، وللوصف في السيرة وظيفة الاستلقاء والراحة للراوي من جهة والمشاركة الوجدانية والتخيليّة للمتلقي، والوصف في السيرة تعدى الأشخاص إلى الأمكنة والبلدان، لما يتداخل الشعر الوصفي بالمقاطع النثريّة يحدث نوع  من التآلف الجماليّ والفنيّ الذي يمنح للنص السيري القوة والاستمرارية .

كما وجدنا داخل متون السير الشعبية العربية حالات أخرى للتفاعل الشعري مع النثري منها ما كان دالًّا على الحوارات مع الشخصيات المكونة للسيرة، ومنها ما كان حوارًا داخليًّا يصدر من الشخصية ذاتها، وهذا النوع من الحوارات يطلق عليه المونولوج، كما وجدنا حالات للتعالق الشعري جاء في صور التعقيب على الأحداث والوقائع كقول راوي سيرة الملك الظاهر بيبرس :

“… ولكلّ زمان دولة ورجال، والأقدار تلعب بالناس كما تشاء أحسنت ظنك بالأيام إذْ أحسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر”(34). وأغلب الحالات التي يدخل بها الراوي السيرة الشعبية تكون على لسان شخصيات أخرى وبخاصة منها الشخصيات الشاعرة.

إنّ السيرة الشعبية اهتمّت بالشعر لما فيه من قوة على الوصف ودقّة على التعبير، وما تركيز السيرة الشعبية على الشعر إلّا دليلًا على الارتباط  بالثقافة العربية الأصيلة الممثلة في الشعر، وهي ظاهرة ليست حكرًا على النصوص الإبداعية بل حتى النصوص التعليميّة والعلميّة والفقهيّة عمدت إلى النصوص الشعرية فوظّفتها لتقريب مسائلها من الأفهام ” ظاهرة الشعر في الرواية ظاهرة لا تقتصر على السير الشعبية، إنمّا نجدها شائعة في كلّ الكتب القديمة التي تهتمّ بالتاريخ والفقه كسيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري، وكذلك في بعض فنون القصص العربي القديم مثل: المقامات، وقصص ألف ليلة وليلة”(35) .

كما يؤدي الشعر داخل نصوص السيرة الشعبية مقوّمًا رئيسًا في البناء الفني، كما لاحظنا ورود الشعر على ألسنة كلّ الطبقات والفئات الاجتماعية والثقافية والسياسية والأدبية، لذا لا يمكن عد تلك الأشعار حشوًا  أو ضربًا من سقط المتاع ” وهكذا اتضح أن الشعر في السيرة لم يأت حشوا؛ إنّما كان موظّفًا على مستويين : مستوى البناء القصصي، ومستوى الإنشاد الشفاهي الذي يرتبط بالجماهير وما يحققه لهم من معرفة ولذّة وطرب، كما أننا نجد له دورا مهما في هذا البناء الأسطوري الذي يأتي بالغريب والعجيب، وهو الإيهام بواقعية هذه الأحداث الغريبة عن طريق الشعر الذي قيل في وصفها”(36).

والشعر الذي قيل في لحظات انفعال الشخصيات بالأماكن الأسطورية، والحوار الشعري الذي برز في لحظات القتال بين الأبطال، كما أتاح الشعر لراوي السيرة الشعبية حرية التصوير ويعطيه الفرصة للخروج من التقرير النثري الذي يثبت الوصف إلى التصوير الشعري الذي يجسد المشاهد ويجعلها أكثر حركية وحيوية.

ما يلاحظ على السير الشعبية أنّها وظفت الشعر بصور متنوّعة جمعت بين البيت والبيتين والقصيدة والمقطوعة والمطوّلات، كما تجدر الإشارة إلى أن السيرة الهلاليّة تعد السيرة الشعبية العربية الوحيدة التي جاءت شعرًا، والشعر في السيرة الشعبية يأتي أحيانًا على لسان البطل نفسه، أو يدخل به الراوي متخفّيًا أو ظاهرًا بحسب المواقف والسياقات، كما نلاحظ على تلك الأشعار التنوّع بين القوّة والضعف وبين الفصاحة والعاميّة، ويبقى الشعر في السيرة الشعبية ركيزة مهمة من ركائز بنائها الفني والشكلي، وهو علامة على الثقافة الواسعة للرواة والمبدعين “ووجود الشعر دليل على اطلاع مؤلفي السيرة على ديوان العرب ؛ بل هو دليل على أن من تعرضوا لكتابة السير كانوا من أكثر الناس ثقافة في أدبهم ومأثورهم؛ إذ كانت هذه السير مجالا لإبراز هذه الثقافة الشاملة التي لا تكتفي بالإلمام بالجوانب الهامة التاريخية والاجتماعية والبيئية لموطن السيرة وأحداثها”(37)

خلاصة

لقد كان توظيف تلك الأشكال التعبيريّة في شكل ظاهرة مثلها التناص قائمًا على الرؤية الواضحة والدراية الكافية بالأحداث والأهداف، وعلى معرفة دقيقة بتقنيات الأساليب المتنوّعة والموزّعة ما بين النثر بضربيه القصير والطويل، والشعر، كما أن ذلك التوظيف لم يلغ خصوصيات السيرة الشعبية شكلًا ومضمونًا، ولا خصوصيات تلك الأشكال التعبيريّة الموظفة داخل السيرة الشعبية،  بعد هذا الطرح المعرفي يمكننا أن نخلص إلى النتائج الآتية:

إن إنتاجيّة السير الشعبية خضعت منذ البداية إلى ثقافة مركزيّة هيمنت على الحركة الإبداعية العربية، والتي وصلت في مرحلة من تاريخها الممدد في الزمان والمكان إلى الضعف والتكرار، فكانت السيرة الشعبية المنقذ المعرفي والثقافي الذي خرجت من خلاله الإبداعات العربية من فترة الركود والترهّل الثقافي إلى حركيّة إبداعيّة جديدة تنطلق من ثقافة الهامش لتغذي وتقوي بها ثقافة المركز؛ لأنّ السيرة الشعبية امتلكت خاصية الاحتواء لثقافات الأمم المتعددة والتي حملتها أشكال وأجناس وأنماط تعبيرية تشكلت مع تنوع واختلاف ثقافات الأمم المنصهرة في المجتمع العربي. إنّ تداخل الأجناس الأدبية والأشكال التعبيرية داخل السير الشعبية لا يعني البتة الذوبان، أو إلغاء الحدود الفاصلة بين شكل وآخر أو بين جنس وآخر، وإنما يبقى كلّ واحد محافظًا على أدواته الخاصة به وعلى حدوده المميزة له والمحققة لتفرده واستقلاليته، فالتداخل يأتي من الناحية الفنيّة محدثًا تنوّعًا وثراء داخل السيرة الشعبية شكلًا ومضمونًا. وهذا ما يُظهر اتّساع السيرة الشعبية شكلًا ومضمونًا بتعدّديتها كلّما احتوَت وضمّت أجناسًا وأشكالًا أدبيّة وتعبيريّة مختلفة ومتنوّعة من الشعر والنثر، فضلًا عن تنوّع مصادر المعرفة في نصوص السيرة الشعبية تاركة للمتلقي حرية الوقوف على مشارف التصديق بكل وقائعها، والتأكيد على فكرة التواصل الإبداعي بين الأجناس الأدبية في الأدب الشعبيّ عمومًا والسيرة الشعبية خصوصًا، تلك السيرة التي  تستند السيرة في بنيتها إلى الأشكال التعبيرية المختلفة عنها لكنها المؤدية معها وظيفة تشابكيّة بين الوحدات الفنيّة المساهمة في بنية السيرة.

وتمثّل السيرة الشعبية العربية بتعدد أشكالها التعبيرية النموذج الفعلي لما يعرف في الممارسة النقدية الحديثة بتداخل الأجناس الأدبية وتخطي الحدود الشكلية والفنية الفاصلة بينها، فالسيرة بهذا أعطت للكثير من الفنون الإبداعية مشروعية التداخل وهذا الفتح وجدناه في الرواية الحديثة على وجه الخصوص، فالسير العربية ظلّت بعيدة عن مجال البحث مرحلة طويلة، وبدأ الاهتمام بها مؤخّرًا ولكنها تحتاج إلى تكثيف في جهود الباحثين المتخصصين لزيادة جلاء أسرارها التي لم تدل لنا بها كلّها بعد، وممّا لا شكّ فيه أنها تؤدي دورًا مهما في الوجدان الشعبي، وفي إذكاء روح الإبداع الفني وتطويره وتهذيبه، وتمهّده لمرحلة إبداع السير الشعبيّة العربيّة بصورتها الفنيّة المتكاملة.

الهوامش

1- حرب، طلال، أوّلّية النصّ، نظرات في النّقد والقصّة والأسطورة والأدب الشعبي، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، ط1، 1999م، ص 115.

2- نصّار، حسين، نشأة التدوين عند العرب. مكتبة النهضة المصرية، مج 1، 1980 م، ص15  .

3- يونس، عبدالحميد، معجم الفولكلور، طبعة مكتبة لبنان، ط1، 1982م، ص 34 .

4- المرجع السابق، طبعة مكتبة لبنان، ص111 .

5- يقطين، سعيد: الرواية والتراث السردي، من أجل وعي جديد بالتراث، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2005، ص: 30

6- خورشيد، فاروق، أدب السيرة الشعبية، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان  القاهرة، ط 1  1994م، ص44 .

7- المرجع السابق، أدب السيرة الشعبية، ص 49.

8- رجب النجار، محمد، المأثورات الشعبية العربية، دراسة تأصيلية وقضايا معاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1،  2021 م، ص 134.

9- ذهني، محمود، الأدب الشعبي العربي مفهومه ومضمونه، طبعة جامعة الزقازيق ـ مقدّمة في الفولكلور، ص 111 .

10- فاروق خورشيد، أدب السيرة الشعبية، ص 56  .

11- العنتيل، فوزي، الفولكلور قضاياه وتاريخه، بروس سركولوف، ترجمة أ، حلمي شعرواوي وأ. عبدالحميد حوّاس، طبعة الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1989، ص 34 .

12- خورشيد، فاروق، عالم الأدب الشعبي العجيب، كتاب الهلال 1988، مكتبة الأسرة ، ط1،  1988م، ص 123 .

13- ذهني، محمود، سيرة عنترة  بن شداد، طبعة المعارف ، مصر، 1988م، صص 129 ، 130 ،

14- فاروق خورشيد: أدب السيرة الشعبية، ص 60 .

15- إسماعيل، عزالدين، في كتابه المكونات الأولى للثقافة العربية، دار النهضة العربية، مصر، ط1، 1972م، ص 125.

16- السيوطي جلال الدين، الاتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، دار ابن كثير، دمشق، ص 234.

17- الفهرست لابن النديم ط : المطبعة التجارية ص 131 وما بعدها.

18- فاروق خورشيد ، أدب السيرة الشعبية ، ص 88.

19- عرابي، خطري، البنية الأسطورية في سيرة سيف بن ذي يزن، نواره للترجمة والنشر مصر، ط 1، 1996م، ص 32 .

20- فاروق خورشيد، أدب السيرة الشعبية ، ص 63 .

21-  حرب، طلال، أوّلية النص، نظرات في النقد والقصة والأسطورة والأدب الشعبي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، ط1، 1999 م،  ص 194 .

22- المرجع السابق، أوّلية النص، ص 200 .

23- فريديريك فاين لاين: الحكاية الخرافية، ترجمة نبيلة إبراهيم، ص 20  .

24- رابح، العوبي، أنواع النثر الشعبي،منشورات جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر، د ط، د ت، ص، 46 .

25- ذهني، محمود، ( فن كتابة السيرة الشعبية)، دار إقرأ بيروت، ط1، 1988 م.

26- مندور، محمد، كتابة فنّ الشعر، طبعة دار الشروق 1942 م، القاهرة، ص 9 .

27- طبقات فحول الشعراء لمحمد بن سلام الجمحي، الجزء الأول، راجع كتاب الحيوان للجاحظ، الجزء الأول.

28- المرجع السابق، ص 16 .

29- جمعي، الأخضر، نظرية الشعر عند الفلاسفة الإسلاميين، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د. ط  1999 م، ص 34 .

30- سيرة عنترة بن شداد العبسي، الجزء 2، المطبعة الأدبية، بيروت لبنان، ط 1، 1908 م، ص94 .

31- المصدر السابق، ص 12.

32-سيرة الأميرة ذات الهمّة وولدها عبدالوهاب، المجلد 1، الجزء 7، طبعة مكتبة أحمد حنفي ، مصر، د.ط، د ت، ص 39 .

33- م، ن، ص 13.

34- سيرة الملك الظاهر بيبرس، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية الرغاية الجزائر، ط1، 1988، ص، 50 .

35- الأخضر، جمعي، نظرية الشعر عند الفلاسفة الإسلاميين، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، د. ط  1999م، ص88 .

36 –  م.ن. ص 90 .

37-  عبدالله، إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية،منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 2، 2005، ص، 115 .

المصادر والمراجع

1 ـ  إسماعيل، عزالدين، في كتابه المكونات الأولى للثقافة العربية، دار النهضة العربية، مصر، ط1، 1972م.

2 ـ جمعي، الأخضر، نظرية الشعر عند الفلاسفة الإسلاميين،ديوان المطبوعات الجامعية،الجزائر، د. ط، 1999م .

3 ـ حرب، طلال، أوّلّية النصّ، نظرات في النّقد والقصّة والأسطورة والأدب الشعبي، المؤسّسة الجامعيّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت لبنان، ط1، 1999م .

4 ـ خورشيد، فاروق، أدب السيرة الشعبية، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، القاهرة، ط 1، 1994م.

5 ـ ……………، عالم الأدب الشعبيّ العجيب، كتاب الهلال 1988 م، مكتبة الأسرة، ط1، 1988م.

6 ـ ذهني، محمود، الأدب الشعبي العربي مفهومه ومضمونه، طبعة جامعة الزقازيق، مقدّمة في الفولكلور، ط1، 1989 م.

ـ ………….، ( فنّ كتابة السيرة الشعبية) محمود ذهني، ط1، دار إقرأ بيروت، ط1، 1988 م.

ـ …………..، سيرة عنترة  بن شداد، طبعة المعارف، مصر، 1988م.

7 ـ رابح، العوبي، أنواع النثر الشعبي، منشورات جامعة باجي مختار عنابة، الجزائر، د ط، د ت،

8 ـ رجب النّجار، محمد، المأثورات الشعبية العربية، دراسة تأصيلية وقضايا معاصرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، 2021م.

9 ـ السيوطي ، جلال الدين، الاتقان في علوم القرآن، الجزء الثاني، دار ابن كثير، دمشق، 1970 م.

10 ـ سيرة الأميرة ذات الهمّة وولدها عبدالوهاب، المجلد 1، الجزء 7، طبعة مكتبة أحمد حنفي، مصر، د.ط، د ت.

11ـ سيرة الملك الظاهر بيبرس، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية الرغاية الجزائر، ط1، 1989 م.

12ـ سيرة عنترة بن شداد العبسي، الجزء 2، المطبعة الأدبية، بيروت لبنان، ط 1، 1980 م.

13 ـ عبدالله، إبراهيم، التلقي والسياقات الثقافية، منشورات الاختلاف، الجزائر، ط 2، 2005 م.

14 ـ عرابي، خطري، البنية الأسطورية في سيرة سيف بن ذي يزن، نواره للترجمة والنشر مصر، ط 1، 1996م.

15 ـ العنتيل، فوزي، الفولكلور قضاياه وتاريخه، بروس سركولوف، ترجمة أ، حلمي شعرواوي وأ. عبدالحميد حوّاس، طبعة الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر 1989م .

16 ـ فريديريك فاين لاين: الحكاية الخرافيّة، ترجمة نبيلة إبراهيم، لا ت، لا ط .

17 ـ الفهرست لابن النديم، المطبعة التجارية.

18 ـ مندور، محمد،  كتابة فن الشعر، طبعة دار الشروق، القاهرة، 1942 م .

19 ـ  نصّار، حسين، نشأة التدوين عند العرب، مكتبة النهضة المصرية، مج 1، 1980 م .

20 ـ يقطين، سعيد، الرواية والتراث السردي، من أجل وعي جديد بالتراث، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2005 م.

21 ـ  يونس، عبدالحميد، معجم الفولكلور، طبعة مكتبة لبنان، ط1، 1982م.

 

[1] – أستاذ مساعد في الجامعة اللبنانية الدولية – مادة اللغة العربيّة وآدابها ومادة الحضارة .

– Assistan professor at the university – LIU university Arabic language and civilizations –Email: Livemohamad1@outlook.com.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website