foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

غواية الذاكرة والصمود في قصيدة درويش “كم مرّة ينتهي أمرنا”

0

غواية الذاكرة والصمود في قصيدة درويش “كم مرّة ينتهي أمرنا”

أ ـ د لميس حيدر*

مُدخلٌ نظريّ

يتأثر كاتب النص بالعوامل التي تحيطه، وتتجلى ثقافته في نتاجه الذي يتذوّق مسك كلماته المتلقي، فيستعذب فنيّتها، وتأسره جماليّتها إن كانت راقية. ويستوقفُ المبهرُ النصيُّ القارئَ، لذلك قد يعيد قراءته متمهلاً، بعدما يلفته نضجُ معنى، أو تلقائية تعبير غير مستهلكَيْنِ. يحاور المباغتُ أرضية ذهن المتلقي، ويغذيها بخصوبته، فتنمو ثمار رؤية خاصة لديه لم يتوقعها، ويستأنس لمحتوى لم يعتد بلوغ إبهاره الذي لامس مشاعره، وحاكى نبضه، ودغدغ وعيه، وشحذ عقله بعمق أفكار، ظلّ وهج لمعانها يبزغ، حتى تراخت معه عذوبة الأخيلة. وقد يستثير ذلك الناقد، لذلك يسعى إلى استنباط غواية معنى يبشّره بجديد، فيحاول إبراز رموزه، أو أبعاده تلك التي قد تقصّر بعض العقول عن إدراك مراميها. وما يقترحه الناقد من تأويلات يجب أن يكون موائما لمحتويات النص الذي سيحيلنا إلى مرجعيته التي أسسّت مفاهيمه(1). إذًا، يكشف الناقد عن ذلك الجوهر المؤسّس للعمل الأدبي، ويظهر الأمور كما تجلّت لديه. يقول غيرو: “تمثّل الرسالة… مستويين من الدلالات: تمثل معنى تقنيًّا مؤسّسًا على نظام من أنظمة الرموز، ومعنى شعريًّا أعطاه المتلقي انطلاقًا من أنظمة تأويل مضمرة، ومتفاوتة التجمع، والاصطلاح بقدر تفاوت استعمالها”(2). وتتعدّد درجة الترميز “بتعدّد العصور والثقافات”(3). والتأويل يجب ألّا يحرّف مضمون النص المعالج، وألّا يقحم أفكارًا، فـ”العمل الأدبي هو الموضوع النهائي والأوحد”(4).

يسوق الناقد المتلقي إلى لغة الشعر، فهل هذا يهدّد رؤية المؤلّف الحقيقية، ويعبث بتحليل القارئ، أو يكمش عنه إمكانية تكوين أفكار خاصة، ويهيئه لقبول رؤية معلّبة؟ يقدّم الناقد دراسته، وعسى أن يكون ما يقوله مراعيًا لوفير هيبة صدق إلهام أفكار استمر خشوع سجود كلماتها المضطرب العتمة حتى أضاء النص، وأنجب مضمونًا كصباح يكشف عتمة أحمال ليال أليمة، وحدها الكلمات تبوح عن أهوائها. إذًا، يكشف الناقد عن الشراكة الفعلية المنسوجة بين النص ومرجعيته المتخيّلة، ويستنطق المتلقي المضمون مع الناقد، ويلج معه إلى ما يضمره النص، وهو قد يوافقه بشكل كلي، أو جزئي، وقد يعارض ذلك.

ومَهَمَّة الأديب ليس ابتداع الحلول، إنّما وصف الظاهرة التي تحاكي الواقع، وتسلّط الضوء على مجرياته التي قد تمهّد لخلاص ما، أو قد تؤدي إلى اتخاذ موقف يصحّح مسار الأمور، ويسعى إلى مواجهتها بغية المعالجة. فهو “لا يكتفي بتصوير الواقع، أو الدلالة عليه… يشارك في تحريك وتحويل الواقع(5) الذي يمسك به في لحظة انغلاقه”(6). وقد يكشف الناقد عن هذه غاية الكاتب من خلال معالجة لغة النص التي هي علم سيميائي. فـ”السيمياء علم يهتم بدراسة أنظمة العلامات: اللغات، وكان “سوسير” أول من حاول تحديد السيمياء”(7)، فهو يقول: “إنّها العلم الذي يدرس حياة العلامات من داخل الحياة الاجتماعية”(8). إذًا، ما يقدّمه الناقد من قراءات ليس ذاتيًّا، وإن كانت أيديولوجيته تساهم في تشكيل تلك التأويلات. ويتحدّث زيتون عن علاقة النص بالأيديولوجيا، ويقول: “ترتبط علاقة النص بالأيديولوجيا عند جوليا كريستيفا بحقيقة فهمها للسيميولوجيا(9) Sémiologie، لأنّها ترى أنّ الأدب بشكل عام هو ممارسة سيمائية خاصة”(10). وقد رأت كريستيفا أنّ السيمائية هي علم الأيديولوجيا، أو هي الأيديولوجيا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الجامعة اللبنانيّة، المعهد العالي للدكتوراه، قسم اللغة العربيّة، بحث شاركت فيه في مؤتمر النقد العربيّ الحديث بين التنظير والتأسيس.

وقد يحظى النص نفسه بقراءات متعدّدة، ومتغايرة. فالنص يمكن أن “يكون مولّدًا لقراءات تعتمد على مجموعة من أنظمة الرموز المتراكبة، والمتشابكة. صوت التجربة صوت الحقيقة، صوت العلم(11). ويصير هدف النقد إذًا، تحرير النص، وتصحيح انتشاره الدلالي، وذلك بإعادة أنظمة الرموز وأشكال الدلالة التي… في ثناياه”(12).

وقد يدرج الشاعر أفكاره بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة. والسؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان هو: ما الفرق القائم بين الكلام الواضح المعنى، والكلام المرمّز؟ وهل يُعَدّ الأوّل نقصًا في موهبة الكاتب، أما الثاني فمتمًّا لإمكانياتها؟ وإلى أيّ حد يمكن أن يكون الغموض مساهمًا في إبراز نضوج الموهبة؟ تثير الثقافة أسئلة، وتبقى الإجابة رهينة ما يثيره النص من دهشة، وصخب منسجمين مع الوعي الذي يبحث عن المنفعة. وسيعالج بحثنا قصيدة محمود درويش “كم مرّة ينتهي أمرنا…(13)“، وهو نص ينقل صورة عن واقع جماعة مضطهدة تحلم بعودة الأمور إلى مجراها السابق.

يتطلّب تحليل خصب الأفكار في القصيدة هذه اعتماد منهج يتيح معرفة النص، وكشف رؤيته، وتقديمها إلى الآخرين المتفاوتي الإمكانيات العلمية، والقدرات الاستيعابية. وسنفيد من السيمائية(14) التي تُعْنى بلغة النص، وما يحويه من رموز، وتفسير للعلامات، “فالنص الرمزي نص منفتح بطبيعته على التأويل، لأنّه ينطوي على معانٍ غير مباشرة ينبغي البحث عنها، والبحث يقوم بهذه المَهَمَّة(15)“. وقد تتعاضد الرموز لتلعن الواقع، أو تستجديه بغية تحقيق أمنيات ممزوجة بصرخة معاناة من واقع مزيّف، و”تأويل الرمز علميًّا… ومسؤولية “المؤوّل” إزاء العمل الأدبي”(16). يساهمان في قراءةِ النص قراءةً سليمة. كما سنفيد من الأسلوبية التي تدرس ظواهر اللغة، وتفكّك أحرف الكلمة، ومتممات معانيها الناشئة من مجاورتها لحروف كلمة أخرى(17)، الأمر الذي يبرز إرادة الشاعر الذي يريد النهوض من عثرات الخيبات الفعلية. ويتم التمييز في أثناء قراءة اللغة النصية بين فئتين من المؤشرات، هما: المؤشرات التركيبية، والمؤشرات الاستبدالية “فالمؤشرات التركيبية تتشكّل جراء ربط الملفوظ الخاضع للقراءة بملفوظات أخرى موجودة داخل النص ذاته. ولربما يكون “التناقض”، و”التكرار”، و”التقطع” هي أكثر هذه المؤشرات شهرة… والمؤشرات الاستبدالية وهي التي نستدل عليها بواسطة المقارنة بين الملفوظ المدروس، والذاكرة الجماعية للمجتمع صاحب الشأن”(18). يمكن أن يتيح تحليل نص درويش “كم مرّة ينتهي أمرنا…” إبراز فاعلية الشعر في استنهاض الهمم، ويبدي طريقة قراءته المسائل، وفهمه القضايا.

المستوى الإجرائيّ

يتولد الشعر من أحاسيس الشاعر، ومن فيض أخيلته، وعمق ثقافته، لذلك يتجلى بنيان كلماته محمّلاً بأفكار كينونته. إذًا، نتاج الذات له صلته الوطيدة مع ثقافة المبدع، وطريقة استيعابه القضايا، وتحليله إيّاها، وفهمه معالجتها، لذلك تعكس مادة الكلام الرؤى الذهنية المتمخّضة عن مشاعر يتلبسها الوهم المقنّع بقناع العقل المراهن على إمكانيات معرفية تتغذى صلابتها من الحاضر الذي لا تنفصل تطلّعاته عن الماضي. ينكر الحاضر حقيقته الفعلية بقدر تواصله مع تجارب آنية، وتجارب سالفة أضاءت إيمان رؤيته البانية للنص الذي يترك للمتلقي فرصة فهم تهيؤاته التي رسمتها تهويمات الشاعر لحظة التقائه مع هويته المتخفية عنه. وهذا يبرز في بداية القصيدة، فسيمائية العنوان “كم مرّة ينتهي أمرنا…” تخزّن أحزان الماضي، والحاضر، وتفتح الأبواب لتوقعات مؤرّقة، واحتمالات سيئة قد تكون أشدّ إيلامًا.

ويتحكم في النص ثلاثة أزمنة، ألا وهي: الماضي، والحاضر، والمستقبل. والأمر اللافت هو تجزئة أحداث الماضي، فهي تحوي الأحزان، والأفراح. أما الحاضر، فتنضح من أمكنته الخيبات التي يبدو أنّها ستكوّن صورة الغد. وتنشأ أحداث القصيدة في مكانين، هما: فلسطين، وخارجها. أمّا الشخصيتان الرئيستان، فهما المتحاوران الأب، وابنه. وتبقى الشخصيات الثانوية تلك التي سيكشفها التحليل.

ويمكن أن تتضح أزمنة الشاعر القلقة، كذلك أمكنته التائهة المعالم، أو الواضحة من خلال تبيان الأفكار الرئيسة الخمسة التي تتقاسم النص، وهي غير متساوية الطول، ولكنّها متعاضدة. تكاد تتوازى الأقسام الأربعة الأولى طولاً، أما القسم الأخير فيقصر الكلام فيه. ويمكن ترتيب الأقسام، وإبراز مضامينها الممهّدة لاكتشاف هدف القصيدة من خلال ما يأتي:

القسم الأوّل (1 – 12)، وهو يبدأ حين يقول: “يتأمّل أيامه في دخان السجائر”. وينتهي حين يقول: “من نجمة في الجنوب”. يتحدّث هذا القسم عن تأملِ شخصيةٍ واقعها الحاضر، ومحادثتها ذاتها.

القسم الثاني (13 – 24)، وهو يبدأ حين يقول: “هل تكلّمني يا أبي”. ويستمر حتى قوله: “وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير يا ولدي”. يجيب الأب في هذا القسم ابنه، ويوضح له كيفية تلكؤ الفلسطينيين عن تأدية واجباتهم، وإهمالهم أرضهم.

القسم الثالث (25 – 32)، وهو يبدأ حين يقول: “هل سنبقى، إذا ههنا يا أبي”، وينتهي حين يردّد: “ستحرقنا نجمة الشبه السرمدية يا ولدي!”. وهو يتكلّم على مكان بقاء الابن مع والده. يقدّم الأب في هذا القسم صورة عن المستقبل السوداوي داخل فلسطين، وبعيدًا منها.

القسم الرابع (33 – 46)، وهو يبدأ من قوله: “يا أبي، خفّف القولَ عنّي!”، ويستمر حتى ذكره: “وحيدًا، هناك على الأرض…”. تسطع في هذا القسم ذكريات الأب الجميلة في فلسطين، تلك التي تمهّد لقرار سيتخذه الوالد في القسم الخامس والأخير.

القسم الخامس (47، و48)، ويقتصر مضمونه على البيتين الأخيرين، وهما:

“- هل كنتَ تحلمُ في يقظتي يا أبي؟

قمْ. سنرجِعُ يا ولدي”.

يحوي هذا القسم قرار عودة الابن، وأبيه إلى الوطن.

قد يسأل المتلقي بعد هذا الاستعراض السريع السؤال الآتي: ما الذي يرجى من القصيدة؟ وهل يمكن أن تعدّل مسار محبي الشعر، ونقده، وقد قال تعالى في كتابه العزيز: ” وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ (224)، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ (226)”(19)؟

يبدو أنّ نص درويش يبحث عن طرق تمنع انهزام الفلسطينيين، وتحوّل التصدع تماسكًا، والحرب سلامًا. يقول عمر شبلي: “إنّ العمل الشعري في أساسه عمل ملتزم، لأنّه اقتحام لمواقع غير موَطّأة، ولأنّه جرأة على مساحات غير محتّلة، ولأنّه انفعال باتجاه الرفض أو القبول، ولذلك فالشعر الجيّد هو شعر ملتزم باستمرار”(20). وهذا ينفي فكرة أنّ النص ليس همه تصحيح الاعوجاج، وإعادة الأمور إلى صوابيتها، والتبشير بإمكانية استقامة ما انحرف عن مساره السليم(21).

ونعود إلى دراسة العنوان “كم مرّة ينتهي أمرنا…”. لا تسعف هذه التوطئة المخيفة المتلقي ببصيص نور، لذلك يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي: أتخص “نا الجماعة” المضافة إلى “أمر” الشاعر نفسه فقط، أم تتجاوزه لتشمل من ينتمي إليهم؟ تشير “كم” إلى التعدّد، وقد أضيفت إليها “مرة”، وهذا يثبت وجود رغبة ملحة ساعية إلى تحصيل إجابة شافية تقدّم إحصاء دقيقًا. ويرفق بعد “كم مرة” الفعل المضارع، وفاعله “ينتهي أمرنا”، وهذا يبدي أنّ الانتكاس مكرّر، وأنّه لم يحصل في الزمن الماضي فقط، إنّما يشمل الحاضر، وقد يتجذر حضوره في المستقبل. ويتكرر السؤال الآتي: “كم مرّة ينتهي أمرنا يا أبي؟” في القسم الثاني من النص، ويوجه الاستفسار إلى مَن هو موضع ثقة. يبدو أنّ الابن يخشى الضلال، وينتظر إجابة صائبة لا تحتمل الشك.

يتوالد النص، فيبدي ما يعتمل داخل المؤلّف الذي تعكس كلمات أدبه واقعه. وهكذا يبيت لكلّ دال مدلوله و”العلاقة بين الدال والمدلول هي مرنة للغاية، ويمكن أن تتخذ أشكالا عديدة ومتنوعة”(22). ويمكن أن يكون فهم كريستيفا موضّحا لما هو مقصود، وذلك من خلال تلخيص أورده زيتون. يقول:” النص وهو ينتج لغته إنّما يعيد إنتاج العالم”(23). لذلك قد يتيح التحليل فرصة تذوّق ألوهية المختبئ خلف الكلمات التي يبدو أنّها تتحدّث عن معاناة الفلسطيني خصوصًا، والعالم العربي عمومًا. يقول بارت: “إنّني في كلّ مرة، أحاول فيها أن أحلّل نصًا منحني لذة، فإنّ ما أجده ليس “ذاتيتي”. إنّ ما أجده “فرديتي””(24). وهذا يؤكّد أهمية هذا النص المحرّك للعقل الذي لا تنفصل عراه عن المشاعر. ويتقارب انتهاء الأب، وابنه الفلسطينيَين المكرّر مع تمزق يرد في قصيدة “لمعان في ظلمة قاتمة”. يقول شبلي:

أنا من بلادٍ ممزقةٍ أكلتها الحروب/ خرجتُ لأجمعَها فتمزّقتُ فوق الطريق”(25).

يتكرر ذكر التمزق في قصيدة “شبلي”، واستعارة التمزق للبلاد تبدي اتساع رقعة تقهقر مَن سعى إلى جمعها. ولكن، أيعدّ تكرار “درويش” المباشر “كم مرّة ينتهي أمرنا” مرتين في قصيدته نسخًا، ولا يمتع المتلقي، أم هو إيذان بسوء أشد إيلامًا تمامًا كما حصل مع “شبلي”؟ يبدو أنّ ما يجمع النصين خلوهما من المعنى المباشر الذي يؤدي إلى إدراك المسألة بسهولة، ويسر تامّين، أي من غير إعمال تفكير. يحتاج “تمزق” بلاد “شبلي”، وانتهاء أبناء فلسطين لدى “درويش” الروية لكشف خبايا الكلام. تتكرر “كم مرّة ينتهي أمرنا” في القسم الثاني من قصيدة درويش، ويبدو أنّ التكرار يساهم في تحقيق هدف النص، فهو لم يجعله خاملاً، بل ألّقه، ووظّف لتقدّمه، وكان سبيلاً للقبض على رؤية الشاعر التي يزداد لمعان وضوحها كلّما تمّ التوغّل في المضامين المتتابعة الأفكار. يستفذ هذا التكرار إمكانيات القارىء التحليلية، فيستمتع في أثناء محاولته كشف جماليات النص التصاعدية الأحداث. ويثري التكرار في القصيدتين المغزى، ويجمّله لقدرته على إحداث المفاجأة، والصدمة المستساغتين.

يحضر الفعل المضارع “ينتهي” المسند إليه الفاعل “أمر” في قصيدة “درويش”، فتضيّق مسافة خروج ضمير “نا” الفاعلين (المضاف إليه) نحو أفق أفضل. ويتحوّل الشاعر في مطلع قصيدته عن ضمير “نا” الفاعلين الموجود في العنوان، ويستخدم “هاء” الغائب، ويقول:“يتأمّل أيامه في دخان السجائر”، وهذا يبدي أنّ المشكلة لم تعد حكرًا على الشاعر، ومن يخصونه، فهي تجاوزته لتشمل أحدهم، وهو الضمير المستتر الغائب جوازًا، وتقديره هو، أو فاعل “يتأمّل” الذي يُعْطَى أولوية الكلام. ويشير الاسم المجرور، والمضاف إليه الآتيين: “دخان السجائر” أنّ فاعل “يتأمّل” يتضجّر من واقعه. فهل يتماهى الضمير المستتر الغائب “هو”، مع الضمير المتصّل “نا” الفاعلين الموجود في العنوان؟ أكلاهما يبحث عن أفق جديد مضيء يقوّض الخيبة، ويستبدلها بوعي نقي؟ قد يسعى هذا المتأمل إلى إزالة الغمة التي تقف حجر عثرة أمام إدراكه المسائل العاصية على الفهم. فهل سيؤدي هذا إلى بلورة الوعي، وسيحصّل صاحبه رؤية ناضجة تمكّنه من فهم حقيقة يسعى إلى بلوغها، أم أنّ تأمله سيغرقه في أحبولة غموض جديدة قد تكون أشد ضبابية، وسوداوية؟

يتابع الشاعر “درويش” كلامه، ويقول: “جاء وقت الحصادْ/ ألسنابلُ مثقلةٌ، والمناجلُ مهملةٌ…”.

يبث المضاف إليه “الحصاد” شعاع نور، فينتعش الفكر، إذ يحسب أنّ الفاعل “وقت” قد أتى، وسيزيل حلوله كلّ رتابة، وسيزهر الواقع. يتكفّل “الحصاد” عادة بإعادة دورة الحياة المعطاءة، تلك التي تبعد أوقات الجدب. ويعزّز هذا الرأي الجملة الاسمية “السنابل مثقلة”، فهي توحي بالرخاء والسعة. أن يتوفر القمح في السنابل، فهذا يعني أنّ البلاد ستكون منتجة، وليست مستهلِكة. ولكن، تتضعضع مكانة هذه الفكرة الإيجابية في الأذهان حين يقول الشاعر أنّ “المناجل مهملة”. توضح هذه الجملة الاسمية كيف أنّ أبناء الوطن غير عابئين بما لديهم، لذلك لن يغتنموا خيراتهم تلك التي تشكّل حصانة لهم. يؤكّد ما ورد صعوبة انبعاث البلاد، ونهوضها مجددا. ولو تابعنا خيطية أحداث النص، لوجدْنا أنّ الابن يطلب من أبيه أن يفسّر له ما يحدث في فلسطين، ليتم اختيار الطريق الأصوب، ويبدو أنّ الشاعر في أثناء حديثه عن “السنابل المثقلة”، و”المناجل المهملة” يفيد من سورة يوسف التي يبحث فيها الملك التائه عمن يفسر حلمه. يقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)﴾(26). يفسّر يوسف حلم الملك الذي يحوي “سبع سنبلات خضر وأخر يابسات”، ويرى أنّ البلاد ستمر بسبع سنوات من خصوبة الزراعة، وهذا قد يحمل المتلقي إلى قول درويش”السنابل مثقلة”. أمّا قول الشاعر “المناجل مهملة”، فتعني أنّ الجدب سيحل بالبلاد، وهذا قد يتوازى مع السنوات السبع الـ”عجاف”. وكما أنّ تفسير حلم الملك قد تجاوز حدوده الشخصية، وشمل أبناء مصر كلّها، فإنّ ما قدّمه “درويش” يتجاوز حدود المتأمل “دخان السجائر”، ويخصّ أبناء فلسطين جميعًا الذين سيعانون من القحط بعد إهمالهم “المناجل”.

يُهْمَلُ كل ما لا يُعشَق، فالحب هو زاد الحياة، وحصن البشرية. أيعكس إهمال “المناجل” عدم حب الأبناء لأمّهم الأرض؟ سيحاول البحث كشف هذه الحقيقة، ويسعى إلى تعرية المستتر مبرزا فائدة التوظيف اللغوي. يتحدّث أيوب عن “ولادة المعنى(27)“، وتماسك النص على المستويين المعجمي، والنحوي وعلى المستوى الدلالي، ويرى أنّه يمكن قراءة المسكوت عنه من خلال البنية اللغوية التي “لا يمكن عزلها عن البنية الاجتماعية والسياقات الخارجية”(28). يستعين النص بمعجم يخص الفلاحين، وهو:”الحصاد”، و”السنابل”، و”المناجل”، وهنا يتبادر إلى الذهن أنّ دواخل الفلاحين البسطاء، والطيبين لا يماثلها إلا تراب الوطن الذي ينتج الخيرات. أحسب أن ذلك يثبت ضرورة تفاعل الفلسطيني مع أرضه كي تثمر بذوره، وتعطيه رزقها. يؤسّس الفلاحون للنصر، لذلك يقول “بزيع” عن البسطاء القادرين على خوض الحروب في قصيدة “قصائد حب إلى كوبا”: “فلاحونَ جاءوا من حقولِ القصبِ السمراءِ/ واجتازوا حروباً ضد جلادين”(29).

تحتاج طبيعة الأرض إلى همم لتمنح خيرها. تبارك الأرض أبناءها كلّما أخلصوا لها، وتفانوا من أجل رفعتها. يبذل الأحرار في قصيدة “بزيع” الغالي والنفيس، ولا يعبأون بالموت الذي يختارونه سبيل رفعتهم. يضحّون، ويرضون تحمّل المسؤوليات الجسام طوعا، فيثورون في وجه المعتدي الذي يثير غيظهم(30).

ويتابع “درويش” كلامه في القسم الأوّل، ويقول: “ويخرج من ذاته مرهقاً نزقًا:/ جاء وقت الحصادْ/ السنابلُ مثقلةٌ، والمناجلُ مهملةٌ، والبلادْ/ تَبْعُدُ الآنَ عن بابها النبويِّ./ يحدّثني صيفُ لبنانً عن عنبي في الجنوب/ يحدّثني صيفُ لبنانَ عمّا وراء الطبيعةِ/ لكنّ دربي إلى الله يبدأ/ من نجمة في الجنوب…”.

لا يوضح النص إلى مَن تعود “ياء” المتكلّم المتصلة بالفعل “يحدّثني”، والاسم “دربي”، أهي تخص الأب فقط، أم تتجاوزه لتشمل ابنه؟ لا يجد المتلقي في القسم الأوّل من النص إشارة الوقف “الشرطة”، تلك التي يبدأ بها سؤال الابن في القسم الثاني. أيعني ذلك دمج الشخصيتين المتضجّرتين من الواقع؟ أيملكان الرؤية نفسها؟ يسرد القسم الأوّل حياة شخص، ويبدو أنّه صورة عن كلّ فلسطيني لم يعد يعرف طريق الخلاص. تحدِّث “نجمة في الجنوب” المقاومَ المجهول الّذي مُوِّهَت هويته. ولا تقف الطبيعة موقف المتفرّج، إنّما تشارك، وتحاور، وتبلور الرؤى. وقد يسأل المتلقي: ما الذي يدفع إلى التغني بـ”صيف لبنان” إن لم يكن مسقط رأس الشاعر، ولِمَ جعله معادلاً لوجهة العودة إلى فلسطين التي يحب؟ وهل سيكون لبنان مفتاح خلاص فلسطين؟ يبدو أنّ الـ”صيف” يرمز إلى اندفاع المقاومين الذين يغلون حقدًا على العدو، ويشتعلون شوقًا لعناق أرض فلسطين، لذلك تغريهم حرارة الشمس المماثلة لقوّتهم، فتزيدهم اندفاعًا. فلبنان موئل الأتقياء، لذلك يمكن الاتكاء على أرضه، واعتمادها سبيل خلاص. كما ترمز نجمة “الجنوب” الفلسطيني إلى نبل القضية، وسموّها، ورفعتها تلك التي لا يساويها مكانة إلا الدرب الموصل “إلى الله”. ولا يشير “صيف لبنان” إلى تأجج أحاسيس أبناء لبنان الصادقة فقط حيال القضية الفلسطينية، إنّما أيضًا يوضح مواقفهم المشرّفة، والنبيلة، فهم لا يهادنون العدو مطلقًا، ولهذا يحدّث “صيف لبنان” عن عنب “الجنوب” الفلسطيني. فالدرب “إلى الله يبدأ/ من نجمة في الجنوب”، وقد لا يتمكّن هذا المتكلّم المجهول من العودة إلى جنوبه، إن لم يؤازره لبنان. يقول سعد زغلول: “يحس خلال ذلك أنّ بلاده تبتعد عن قداستها في ظلّ الجنود الغرباء، مصوّرًا خروجه شمالاً بالخطيئة التي أبعدته عن الله، التي لن يكفّر عنها إلا العودة جنوبا”(31). هكذا تكون الثورة الحقيقية، والمؤثّرة، والقادرة على تحويل مذاق الواقع المر إلى حلو، ذلك الذي يتماهى طعمه مع عنب الصيف، فـ”الغذاء، هو الآخر، شكل من الأشكال المُهِمَّة الآيلة إلى تحديد هُوية الجماعة وتبيان مدى لياقتها”(32). يقاوم رجال لبنان العدو الإسرائيلي، ووجهتهم هي فلسطين، وموقفهم هذا يناقض مواقف آخرين سيكشف التحليل هُويتهم.

يوضح مراجعة تاريخ الأمكنة مدى فاعليتها في إحداث خروقات فعلية في أثناء مواجهة الصهاينة. يستخدم درويش “صيف لبنان”، و”نجمة… الجنوب” اللذين يشيران إلى إمكانية استعادة ما سُلِخ، فبإمكان نضجهما، ورفعتهما تعديل خارطة المسائل، وإعادة الأمور إلى صوابيتها. يقول “بزيع” عن أهل الجنوب اللبناني الصامدين في وجه المحتل:

“نمْ يا وريثَ الصخرةِ الكبرى/ لأحلام الجنوبيين/ …/ فلسوف تنهضُ من عظامك سكةٌ/ …/ وتقاوِمُ المحتل”(33). يوضح شعر “بزيع” قوة اللبنانيين الهائلة المنهكة لكلّ مَنْ يعاديها.

ويبدو أنّ مشهد قصيدة “درويش” يميل إلى خواء ما، أو قتامة من دون هذه الطبيعة التي تعطي الفلسطيني أمرين أساسيين لبقائه، أوّلهما الإحساس بالألفة، وثانيهما الدعم لقضيته. يقول شبلي: “لا بدّ من المصالحة بين الفكرة والرمز… استخدام الرمز يحتاج إلى لعبة فنية بارعة تجمع الذكاء والموهبة والثقافة والأصالة. يجب ألا يكون الرمز عملاً ثقافيًّا بحتًا، وإذا كان كذلك فيجب أن يكون لصيقًا بوجدان الشاعر وتجربته، لكي لا تتصلّب شرايين القصيدة، وتصبح قاسية كالجليد”(34). فهل يعني حديث “درويش” عن لبنان وحده أنّ البلدان العربية الباقية خائنة؟

يوظّف الشاعر “صيف لبنان” ليؤكّد وجود ثورة يراهَن عليها، لصلابتها، وجديّتها(35). أحسب أنّ المتكلّم في القصيدة يثق بشجاعة اللبنانيين تلك التي تحدّث عنها “بزيع” أيضًا. سيساهم لبنان في قصيدة “درويش” في استعادة الأرض المسلوبة من الفلسطينيين، وسيمهّد لعودة المهجرين إلى أرضهم.

يظلم فلسطيني “درويش” نفسه، ولا يختار ما يحفظ أرضه التي تفرغ من أبنائها طوعًا، فمع أنّ الخير موجود، و”قد جاء وقت الحصاد”، و”السنابل مثقلة”، ولكنّ “المناجل مهملة”، لذلكّ “البلاد/ تبعُدُ الآن عن بابها النبويِّ“. يشير الفعل المضارع “تبعُد” إلى عمل حاضر، وهو صادر عن قرار ذاتي. أحصل القرار بعد ملل المرء من ابتداع الحلول؟ يبدو أنّ قرار الابتعاد لم يكن نتيجة قراءةِ احتمالات متعدّدة، لاختيار الأفضل منها، إذ يوضح الجار والمجرور “عن بابها” مدى انشغال أبناء فلسطين عن أرضهم، وبعدهم الإرادي من بابها. وتشير صفة الباب “النبوي” تلك إلى قداسة فلسطين، لذلك مَن يخالف هذه الوجهة قد انهارت قيمه. قد يستوقف ظرف الزمان “الآن” المتلقي، فيفكّر أنّ ابتعاد الفلسطيني من أرض النبوة آني، وأنّ الغمة مرحلية، لذلك قد يعدّل هذا الفلسطيني وجهته، ويتحوّل عن تقاعسه، فينتقي خِيارات جديدة ليست فوضوية، أو طائشة، تجعله يبادر إلى استغلال موسم حصاد آخر. ويتحوّل النص نحو خط جديد من الكتابة في القسم الثاني، ويهيمن حوار الابن مع أبيه، فتبدو صورة الواقع الفلسطيني خصوصًا، والعربي عمومًا. ورد:

” – هل تُكَلِّمُني يا أَبي؟/ …/ – وانتهى الأمرُ…/ – كم مرّة ينتهي أَمرُنا يا أَبي؟/

 – انتهى الأمر. قاموا بواجبهم:/ حاربوا ببنادقَ مكسورةٍ طائرات العدوّ./

وقمنا بواجبنا، وابتعدنا عن الزَنْزَلَخْتِ/ لئلّا نحرِّكَ قُبَّعَةَ القائدِ العسكريّ./

وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير/ ياولدي”.

يتكرر الفعلين التاليين، وهما: المضارع “ينتهي”، والماضي “انتهى”، ويفصحان عن زمني الواقع المأزوم، ويتوقع المتلقي أنّ الزمنين هذين سيرهقان المستقبل، وسيتحكّمان بخطواته.

ولا يعني عدم تحريك “قبعة القائد العسكري” مهادنة العدو من أجل الانقضاض عليه مجددًا، ومباغتته، إنّما يعني ذلك أنّ الحيادية، أو الصمت تواطؤ مع الصهيوني. يتجاهل القائدُ قضيةَ فلسطين، فيسرِقُ السلاحُ الذي في يده مِن هذه البلاد ضوء نهارِها، كما يسلبها لباسَ ليلِها. يتحدّث غيرو عن “المعنى: رموز وعلوم تفسير”، ويقول عن كلمات الشاعر “ماذا تعني إلام تلمّح وعلام تدل؟… الدلالة المباشرة، وهذا ما يندرج تحت كلمة “Le Sens” التي تحدّد ما وراء المعنى، أي قصده… المعنى إذًا، علاقة، وهذه العلاقة تغلّف كل معنى بمعنى جديد. وإذا كانت السيمياء علم العلامات، توجّب أن تشمل كل المعرفة، وكل التجربة، لأنّ كل شيء علامة: كل شيء إذًا، مدلول وكل شيء دال”(36). يبيت هذا القائد ظل الإسرائيلي، فهو لا يفكر بهموم الوطن، كما أنّ الذين يقودهم يلبون احتياجاته، ويهملون ما عداها. لا تدور المعركة بين طرفين شرسين، لأنّ ال”قبعة” لن تذيق عدوّها المر، فقد فقدت فاعليتها المعالجة لقضايا الوطن الكبرى. يوضح ما ورد الهوة الفاصلة بين الإخلاص والخيانة، بين المواجهة والاستكانة، بين العزيمة والانحلال. فهل التنصل من المسؤولية، وعدم الاكتراث باتا سمة العرب، وحكّامهم؟! يقول ناجي علّوش: “إنّ سنة 1948 سنة حاسمة في التاريخ العربي الحديث، فهي لم تشهد نكبة فلسطين فقط، ولكنّها شهدت بداية انهيار المجتمع العربي التقليدي، التي تمثّلت في ما بعد بانهيار أنظمة الحكم الرجعية في سوريا ومصر، وبالحركات الشعبية ضد السيطرة الاستعمارية في مصر والعراق”(37).

وتتلاشى فكرة أنّ تعدية الفعل “كلّم” إلى “ياء” المتكلّم في أثناء قوله “تكلّمني”، أو إضافة “ياء” المتكلّم في أثناء مخاطبة الأب، ومناداته بـ”يا أبي”، أو “يا والدي” تخصّ الابن فقط، ولا تتجاوزه. إذ ينفي مضمون القصيدة عن النص أيّ خصوصية، أو ذاتية، ويجعل كلّ المقهورين “تحت صفصافة الريح/ بين السموات والبحر”. يوضح إسناد الضمير المتّصل “نا” الدالة على الفاعلين إلى الأفعال الماضية “قام”، و”ابتعد”، و”باع” في القسم الثالث أنّ الموضوع لا يخص الشاعر ووالده وحدهما، إنّما أبناء فلسطين جميعًا. ويعضد ما ورد الضمير المتصّل “نا” المضاف إلى الاسم المجرور “واجب”، كذلك الضمير “نا” المتصل بالمضاف إليه “زوجات”. هذا إضافة إلى الضمير المستتر وجوبًا، الذي تقديره “نحن” المستمد من الفعلين المضارعين “نريد”، و”نحرّك”. هكذا يتجاوز الابن ذاتيته، لذلك لا يعود يستخدم ياء المتكلّم التي وردت في القسم الأوّل حين يقول: “يحدّثني” (تتكرر مرتين)، و”عنبي”، و”دربي”.

ولا يتعارض الضمير المتصّل “نا” الذي يخص الابن، وأبيه مع الضمير المتصل “واو” الجماعة، وذلك في أثناء قوله “قاموا”، و”حاربوا” في القسم الثاني من النص. ورد: … قاموا بواجبهم:/ حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدوّ/ وقمنا بواجبنا، وابتعدنا…/ لئلا نحرّك قبعة…/ وبعنا…”. يمكر الآخرون، ولا يستشرسون في الدفاع، وهذا ما يفعله الابن وأبوه اللذان يعلنان أنّهما قدّما ما لديهما من إمكانيات علاجية لخلاص الوطن. يبرهن ما ورد تخاذل العرب، وتقاعسهم، وعدم تفكيرهم جدّيًّا في استعادة ما سلِب منهم بالقوة. وهكذا نعي أسباب عنونة القصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا” الذي يحوي في طياته معنى الانكسار المتعدّد، وصعوبة الخلاص الفعلي.

يوضح تحليل قصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا…” كيفية مراقبة دلالة النص من خلال دراسة اللغة نحويًّا، وتركيبيًّا، و”هذا التأويل اللغوي… يهدف أولاً وأخيرًا إلى تحديد المعنى الحقيقي، والموضوعي للنص، وليس إلى البحث عن صحة الأشياء والأمور التي يعبّر عنها، أو في ما إذا كان المعنى مطابقا للحقيقة”(38). يبدي تفاعل طرفي الحوار الأب، وابنه في قصيدة “درويش” مدى الانسجام، ومدى إيمان الابن بصدقية ما يقوله الأب. وينضح من الحوار عذوبة تتيح استيعاب الرغبة الكامنة في الذات الفلسطينية تلك التي تحض صاحبها، ليعرف مصير أرضه.

ويقول درويش عن خيانة الفلسطينيين لوطنهم: “حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو/ …/ لئلا نحرّكَ قبعَةَ القائد العسكريّ“. تنتهي الثورة من موقع ابتدائها، وينتقي الشاعر أفكار كلماته من “خارج حقل التوقعات(39)“. تحيل رمزية “قبعة القائد العسكري” إلى دلالة الهيبة، فتبرز المسؤوليات الجسام الملقاة على عاتق من يرتديها، ذلك الذي يلزم أتباعه العسكريين بقراراته. ويبرز تعدي الفعل المضارع “نحرّك” إلى “قبعة” سيكولوجية الجماعة المدافعة، فهم يتيحون لعدوّهم فرصة السيطرة على البلاد. كما يمنع مضاف الـ”قبعة”، وهو “القائد”، وصفته “العسكري” عن الجنود أيّ خلق. لا يستشرس الجيش دفاعًا عن فلسطين، وصمتهم يُعَدّ تآمرًا مع قائدهم الفاقد أدنى مقومات الأمانة. هكذا تتحوّل هُوية هذا القائد من الحامي إلى القاتل، ومن الموالي إلى المعادي، منتهكًا بذلك حصانة موقعه، فهو يتسبّب في تسيّب الشعب، ودخول البلاد في دائرة المظلومية. يشير ما ورد إلى الفلتان الموجود في فلسطين، وإلى غوغائية الخِيارات، حيث لا يعيّن الشخص المناسب في المكان الملائم، وهذا يؤدي إلى شلل الأفراد، ودخول البلاد في دوامة الانهيار، والفشل الذريع. إذًا، تفقد “قبعة القائد” معناها الفعلي، فهي لم تعد رمز القيادة والبطولة والانتصار، ورمز العزة، والكرامة، والصمود. تؤسّس القبعة لوجود العدو، وتساهم في هيمنته، وتسبّب الجراح النازفة لجسد الوطن، تلك التي ستحمله إلى الهلاك إن لم تجد من يداويها.

ينبّه الحوار القائم بين الطرفين من مغبة الأفعال الخطأ. ويمثّل الأب أولئك الذين يحاولون قراءة الوقائع، ويحلّلون المسائل، فيبدون خبث العلاقات المؤدية إلى انهيار فلسطين. يتحدّث شبلي عن تخاذل العرب، وخيانتهم لعروبتهم، ويقول في قصيدة “عاش الحذاء”:

“يا بوش ها أنت الرئيسُ بنُ الرئيس/ ولسوفَ يحرسُ رأسَك المحنيَّ حكّامُ العرب/ القابضونَ على مشاعرنا وتجّارُ القضيّة(40)/ …/ يا أيّها العربيُّ هاتِ الانتصار/ واعبرْ على كلِّ الذين تخاذلوا/ وتكدّسوا فوق الكراسي كالغبار/ واعبُرْ على كلِّ الّذين غوَوْا، وظنّوا الشعب/ أوراق القمار”(41).

لا ترسم الـ”قبعة” خططا تعري كيان العدو، وتقبّحه، لتداوي جراح فلسطين. ولا يدافع حكّام العرب في قصيدة “شبلي” عن أراضيهم، وينزعون من خطتهم هذا الهدف الرئيس، وهذا يعني تقاعسهم، ومراعاتهم لمصالح رخيصة، ودنيئة آنية، هدفها الحفاظ على موقع رئاسي. هو موقع لا يحفظ كرامة الوطن وهيبته، إنّما يراعي شؤون الوجهة المناقضة(42).

قد يحض ما ورد في قصيدتي “درويش”، و”شبلي” إلى عدم إضاعة الوقت، ويدعو إلى ضرورة تفعيل الوعي العربي، للقضاء على كل من يخون قضيتهم التحرّرية. ويقلق المتلقي قولَ الأب لابنه: “قمنا بواجبنا، وابتعدنا عن الزَنْزَلَخْت/ لئلا نحرّك قبعة القائد العسكريّ“. لا يعبأ القائد بما يحصل حوله، ويبتعد الأب مع غيره من شجرة الزنزلخت التي لها رمزيتها، فهي شجرة التسبيح، وهي معروفة بفوائدها الطبية، هذا إضافة إلى ميزات إيجابية أخرى تمتلكها. تحول سيكولوجية المدافعين من التقدم باتجاه العدو، لذلك يبتعدون من شجرة الزنزلخت بغية تحقيق مكاسب آنية، وسطحية تغري القائد اللامبالي. ومثل هذه الخيانة يتحدّث عنها “السيّاب” في قصيدة “في يوم فلسطين”. يقول:

“ما هتلر السفاح أقسى مديةً     يوم الوغى من هتلر الحلفاء”(43).

تشير قصيدتي “درويش” و”السيّاب” إلى المشكلة، وتحدّد أسبابها بدقة، فحلفاء الوطن يخونونه. ويبدو أنّ الحديث عن الموضوع نفسه لدى الشاعرين غايته استنفار همم حاملي هم الوطن، كي يقدّموا تطلّعات جدية تبنيه، وتعدّل مساره، وتعالج قضاياه المصيرية بحكمة.

يخون الفلسطينيون أرضهم، و”… البلادْ/ تبْعُدُ عن بابها النبويِّ” في قصيدة “درويش”، وهذه الأرض نفسها لا تبادل العرب أفعالهم الدنيئة، وتظلّ محافظة على قداستها. كما أنّ نقاوة البلاد، ونظافتها قد جعلاها حاكمًا عادلاً لدى “مظفّر النوّاب” الذي يقول: “تعالوا نتحاكم قدام الصحراء العربية كي تحكم فينا/ اعترف الآن أمام الصحراء/ بأنّي مبتذل وبذيء وحزين/ …/ ويا حكّامًا مهزومين/ …/ ما أوسخنا ما أوسخنا ونكابر ما أوسخنا”(44).

وتتجلى اللامبالاة سواء على صعيد القيادة، أو الشعب حين يقول “درويش”:

وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير يا ولدي“. تنهار قيم المجتمع انهيارًا تامًا، ويفقد الأبناء صلابتهم حين يتخلون عن مسلمات أسرية، تؤسّس لتماسك بنيان الواقع. يبيعون رمز رباطهم العائلي من أجل اللهو، ويتنكرون لعرضهم راضين، ومن غير إرغام، وهذا يرمز إلى الخيانة المتغلغلة في النفوس، تلك التي لا تأبه لرمز الزواج، أو الاتحاد الأسري.

تغري الظاهرة السياسية الكتّاب، وتطبع أعمالهم بطابعها، لذلك تبرز من خلالها مفاهيمهم. يتطرق غالبية الأدباء العرب إلى الموضوع نفسه، ولا يعني ذلك الانتقاص من مكانة المتلقي الذي قد يستحضر أوجاعه المدغدغة من مشوّقات آلية الكلام. إذا، قد تضج النتاجات الأدبية بأفكار مضيئة، تفصح عن ذهنية أصحابها الذين تتواءم أهواؤهم مع أهواء مثقفي مجتمعهم. تفسّر النصوص ما يدور بالخلد، وتحاكي الهموم، وتتيح التواصل مع مآزق المحيط، وقد تنفّس الاحتقان النفسي. يتكلّم “الماغوط” على موضوع فلسطين، ويحدّد أسباب عدم تحريرها، ويقول:

“إذًا قبل تحرير فلسطين، يجب تحرير العقل العربي”(45).

يوضح كلام “الماغوط” مشكلة المثقفين الذين يعانون من أنظمتهم الرجعية. ويتحدّث عن العروبة “نزار قباني” في قصيدته “أحزان في الأندلس”، ويقول: “مضت قرون خمسة/ ولا تزالُ لفظةُ العروبَهْ/كزهرةٍ حزينةٍ في آنيَهْ…/ كطفلةٍ، جائعةٍ… وعاريَهْ/ نصلُبُها… على جدارِ الحقدِ والكراهيَهْ”(46).

يشير نص “قباني” إلى المشكلة، ويبدو واضحًا أنّه يعكس صورة الواقع العربي الذي يشرّد العروبة، وينتقم منها. يثور هذا الشعر على معادي الوطن العربي، ويحض على رؤية الحقائق، وعدم التغابي عنها. ويتقارب ما ورد مع مضمون نص “درويش”، فكلاهما يقدّم نقدًا لاذعًا لكل من تسوّل له نفسه إرهاق بلاده، وإغفاله حق عروبته عليه. فـ”لا يمكن أن تكون مستقرًّا في منطقة غير مستقرة. وهذه المنطقة لن تعرف الاستقرار، ما دام الصراع العربي – الإسرائيلي يستنزف كلّ طاقاتها… ولا يمكن القيام بأيّ خطوة للخروج من هذا الطريق المسدود ما لم يعترف الأوصياء الرئيسيون على الحق العربي والحق الفلسطيني بهذه الوقائع، والمتغيرات الجديدة، ويؤمنوا إيمانًا راسخًا بأنّ مواجهتها تتطلّب عقليات ورؤى وأساليب عمل جديدة”(47). يُفهم مما ورد أنّ البلاد شُلَّت، فقرارات قادتها أدت إلى انعدام أمنها، وانهيارها، كما أنّ الشعب ساهم في هزيمة أرضه. ويدرك الابن ما آل إليه واقعه في قصيدة “درويش”، لذلك يسأل والده: “هل سنبقى، إذا، ههنا يا أبي/ تحت صفصافة الريح/ بين السموات والبحر؟”.

يوحي ظرف المكان “تحت” المضاف إلى “صفصافة” أنّ مكانَ تواجد الأب، وابنه أمينٌ. لكنّ إضافة “الريح” إلى الصفصافة نزعت عنها هوية الظلال الوارفة التي يمكن أن تؤمنّها هذه الشجرة. هكذا، تبرز “الريح” التي يتفيّأ ظلال شجرها العربي مدى ضياعه، وعدم استقراره، وتشرّده.

إذًا، تُقلِق هذه “الريح”، وتنزع من التصورات أيّ أصداء إيجابية. لم يختر الأب، وابنه مكان إقامتهما هذا، ولم يحقّق وجودهما في فيء الـ”صفصافة” الأمان. وإن كان الفيء يساهم في اخضرار الخطوات، تلك التي ستحقّق النصر، فإنّ حلول الشخصيتين في وجه الريح بشكل دائم، سينهك عزيمتهما، ويرهق قوتهما(48). ويدعم ظرف المكان الثاني “بين” الظرف المكاني الأوّل “تحت”، وذلك حين يتابع الابن حديثه مع والده عن مكان إقامتهما الكائن “بين السموات والأرض”. يُعطَفُ “البحر” إلى “السموات” بواسطة حرف العطف “الواو”، وهذا يبدي حجم المعاناة. يبرز التواجد هناك أنّ الشخصيتين لا تعرفان متى ترفعهما آلامهما إلى السماء، فيرهقان من التيه، أو متى تهبط بهما أحزانهما إلى قاع البحر، فيسلّمان أرواحهما اختناقًا. لا يبشر موقع الفلسطينيين بالأمان، وهذا يستمد من أديولوجيا ضياع الشخصيتين المتحاورتين المجسّدتين واقع العرب المأزومين الذين يعانون من التسيّب الحاصل في بلادهم. وهذا التسيّب يفقد العرب البصيرة الواضحة التي تمكّنهم من تحديد وجهة صحيحة يتبّعونها.

ويستفسر الابن في قصيدة “درويش”، ويتكرر نداءه لأبيه، ويقول: “يا أبي” ست مرات، فيجيب الأب، ويردّد نداءه لابنه، ويقول :”يا ولدي” أربع مرات، و”يا ابني” مرّة واحدة. يتنامى الحوار بين طرفين متعارضين، هما الأب الناضج، والعارف من جهة أولى، والابن الجاهل، أو الفتى الطري العود من جهة ثانية. ويبدو أنّ الحوار يتجاوز حدود هم العائلة الصغرى، ليشمل أسرة الوطن العربي.

ويتوفر حقلان متضادان في نص “درويش”، هما: حقل الحرب، وحقل السلام، ويضاف إليهما حقلاً ثالثًا هو حقل الوقت، وحقلاً رابعًا هو حقل الطبيعة. يقول نبيل أيوب: “إذا تعددت الحقول المعجمية في النص، فيتوجب حينئذٍ الكلام على الشبكة المعجمية للنص، ما يفرض اكتشاف العلاقة بين الحقول المعجمية، وكشف نمو المعنى وتطوّره”(49). تتواتر مفردات الحرب، وهي: “حاربوا، بنادق، طائرات، العدو، القائد العسكري”. فهل هذا يتطلّب استنفار الهمم بغية العلاج؟ يُخشَى مرور الزمن من غير تحقيق المبتغى، لذلك يحضر الوقت في النص. ويمكن للمفردات، والجمل التالية إيضاح ذلك. ورد: “أيّام، ساعة، أبطأت دقاتها، أؤخر، وقت، الظلام…”. ويحاول النص استمالة أدوات السلام التي تعيد إلى البلد اتزانه، وفرحه، وتميل به نحو الهدوء، والدعة، لذلك يستخدم الحقل المعجمي الآتي: “الحصاد، المناجل، صيف لبنان، عنبي في الجنوب، الطبيعة، دربي إلى الله، نجمة، صفصافة، الأرض، الغمام، شجر التين”. ولو راقبنا حقل الطبيعة في النص، لوجدنا أنّ جماليته تخصّ الزمن الماضي البعيد فقط، بمعزل عن الزمن الحاضر، والمستقبل.

ويردّ الأب في القسم الثالث، ويسيطر على الإجابة التلخيص، وتشتبك أزمة الحاضر مع وقائع المستقبل، فتغذيه، وتهيمن عليه. يقول الأب الذي يتوقّع سيطرة الآني على المستقبل: “- ياولدي! كلُّ شيء هنا/ سوف يُشْبِهُ شيئا هناك/ سنشبِهُ أنفُسَنا في الليالي/ ستحرقنا نجمة الشبه السرمدية”(50). إذًا، سيتمّم المستقبل صورة الماضي القريب، وهذا يؤكّد سوداوية الواقع الآني، وينفي إمكانية بزوغ بصيص ألق.

تتوزع أحداث المكان الفلسطيني على أزمنة الشاعر، فموطنه هو القضية، ومشروع الحياة في ظل صخب المعاناة. ولا يعكس هذا الحوار حياة الأب، وابنه فقط، إنّما يمتد ليطال مسيرة عيش كل فلسطيني وفي، يريد أن تنزاح الغمة من أمام عينيه، لذلك يسعى إلى قراءة الحقائق بموضوعية “العقل… يُكتسب بالتجربة المتجددة، فعقل الفرد هو حصيلة تجربة جماعية تتلخص في عقلية. العقل إذًا عقول، وكلّ واحد مرتبط بسلوك جماعي”(51). بناء على ما ورد، أيحوي نص درويش قيما إرشادية، وهل “الفن لتربية الناس”(52)؟

تستوعب لغة النص لعبة السياسيين ومكرهم، فذات الابن ضالة، وأحداث القصيدة توضح أنّها تبحث عن مسار صحيح تسلكه يؤدي إلى لجم ضياعها، لذلك تختار الأب سبيل خلاصها، فتوجه الكلام إليه، منتظرة إجابات شافية. يرهق التسيّب الحاصل الابن الذي يريد أن يفهم ما يدور حوله، لذلك يقول لوالده: “يا أبي، خفِّف القولَ عَنّي!“. يوجه النداء إلى الأب، ولا يتم اختيار سواه، لأنه موطن الأمان، ولأنّ بصيرته ستتيح للابن رؤية الأمور بطريقة منطقية(53). يرد فعل الأمر “خفّف” الموجه إلى الفاعل المستتر الأب، فيوضح ثقل لحظات الابن، وهمومه، إذ إنّ أعباء الواقع المرجعي أرهقت عمر هذا الفتى، لذلك لجأ إلى أبيه ليرفع كاهلها. هكذا يبيت المتلقي إزاء رؤيتين متعارضتين، إحداهما تملك البصيرة الناضجة، وثانيتهما تفتقدها. وأحسب أنّ ما ورد يحض على ضرورة مشاورة أولي الألباب، لمعالجة القضايا المصيرية.

يستنجد فتى قصيدة “درويش” بوالده كي يرفع عن كاهله الهموم، ومثل هذا الألم الذي يحتاج إلى علاج نقرأه لدى السيّاب في قصيدة “سجين”. يقول: “ذراعا أبي تلقيان الظلالَ على روحيَ المستهام الغريب”(54).

يبدو واضحًا مما ورد في قصيدتي “السيّاب”، و”درويش” أنّ شفاء العقل والروح يتطلبان حضور الأب الواعي، والحنون في حياة ابنه.

تحاول هذه القراءة إزاحة الستار عن نوايا الكلام، أو قصديته. وتتناول كيفية تكوّر المفاهيم، وآلية نموها ضمن النص. وتسعى إلى تبيان أسباب ورودها، ومحرّضات ذكرها، علّها تلامس شفافية رؤى الشاعر المستقبلية، وراهنيتها الحساسة الغارقة في طيف عالمها الخاص اللاواعي الذي قد تنقطع عراه عن واقعه مؤقّتًا ريثما ينتهي صدامه مع عالم يستقبح محاورة خيباته، تلك التي يجافيها، ليلثم برفق أمنياته المعارضة، والمسحوقة من قبل المعادي المجحف. إلى أيّ حد يمكن أن تكون أسئلة الابن في قصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا…” مصيرية؟ وهل سيتمكن الأب من إيجاد حلول مقنعة قد تمهّد لانفراج، أو تؤسّس لاستقرار بعدما تقولبت المسائل لمصلحة العدو؟ يوجّه الابن نداءه لأبيه، ويأمره قائلاً “يا أبي، خفّف القول عنّي!”، فيستعيد الأب أحداثًا فرحة، ويقول:

تركت النوافذَ مفتوحةً/ لهديل الحمامْ/ تركتُ على حافَّة البئر وجهي/ تركتُ الكلامْ/ …/ يحكي، تركْتُ الظلامْ/ … يتدثَّرُ…/ تركت الغمامْ/ … ينشر…/ وتركْتُ المنامْ/ يُجدِّد في ذاتِهِ ذاتَهُ/ وتركْتُ السلام/ وحيدًا، هناك على الآرض…“.

تُسترجَع الذكريات في القسم الرابع، وهي تحوي حنين الأب لمكان، وزمان يحويان بساطة العيش، وجماليته في فلسطين. تغري الحياة المحبّبة والوادعة، والهانئة الأب الذي يرفض مجريات الحاضر، ويبدو أنّه يسعى لإصلاحه، كي تتعدّل وجهة حياة بلده. يقول غولدمان: “الفئة الاجتماعية ومفاهيمها الثقافية هي التي تفرض نفسها على الكاتب وليس العكس. والكاتب العظيم هو الذي يملك رؤية كونية تعبر عن أقصى وعي لتوجيهات الفئة أو الطبقة الاجتماعية”(55). إذًا، يقوم الشاعر “بتجربة الكشف، عن حضور الواقع الاجتماعي في الأدب”(56).

هذه الذكرى ليست هشة بالنسبة إلى الأب، إنّما مذهلة، لذلك يستحيل أن يهملها، أو يبحث عن سواها. يبدو أنّ الأب لم يقفل النوافذ عندما غادر، لأنّه يعرف أنّه سيرجع، وأنّه لن يظلّ بعيدًا من بيته مدة طويلة، فالتهجير القسري لن يستمر. يشرع نوافذ بيته ليدخل إليه هديل الحمام، ولعل هذا يشير إلى السلام النفسي الّذي كان ينشئه ذلك المكان، ويأمل الأب أن يعيشه مجددًا. يقول سلطان زغلول في هذا المجال: “يكاد الأب يرثي خروجه الأقرب إلى الموت، وهو يؤكّد أنّ حياته ما زالت هناك معلّقة تنتظر أن يكملها”(57).

يظهر تذكر الأب التضاد بين مكانين غير متكافئين، فأي خِيار لا تؤسّسه الإقامة في فلسطين، سيفضي بصاحبه إلى خَسارة فادحة لا يمكن أن تُعَوَّض. ويأتي قوله: “تركتُ على حافة البئر وجهي“، لتؤكّد ما أوردناه، فالأب لم يترك وجهه معكوسًا على صفحة ماء البئر التي تتبدل، وتتغيّر، إنّما على حافته الثابتة التي تصون الماء، وتجمعه، ولا تشتّته. يقول تودوروف: “فالحياة النفسية… عندما تجد… نفسها في مواجهة أعمال وأوضاع مجهولة بالنسبة إليها، فإنّها تتحرّك وتستجيب لها بتكييف المخططات القديمة مع الشيء الجديد…، وبتكييف الظاهرة الجديدة مع المخططات القديمة”(58). يستعيد الأب ذكرياته الجميلة في القسم الرابع، مستنجدًا بالفعل الماضي “تركت” (ورد ست مرات) الذي يهيمن على الفعل المضارع “يحكي”، و”يتدثر”، و”يجدّد”. وهذا يعني أنّ وميض الشعر له علاقته الوطيدة مع التجارب، فهو مكوّن من ظروف آنية وسالفة. تؤدي الظروف إلى لمعان الأفكار، وتشكّل آلية اللغة التي تمثُلُ أحداثها الإشراقية أمام مرأى شاعر حُفِرَت في ذاكرته الوقائع. يغيب الحاضر في القسم الرابع، وتبرق أحداث أزمنة سالفة، وتتداعى ذكريات توضح رغبة الذات في استعادة ما فات. لا يقف الزمكان في القسم الرابع على الحياد، فهل سيؤسّس ذلك لانتصار، أو يمهّد لإصلاح؟ يبدو أنّ العاطفة المتدفّقة في هذا القسم تمهّد لاستنطاق وعي يؤمن بإمكانية تصويب وجهة القرارات، كي لا يزداد عبث الخائن في البلاد. ويحدّد المكان هوية الشخص، ويوجّه تطلّعاته، لذلك لا يمكن أن يُعَدّ حياديًّا. ودلالة الزمن ليست حيادية أيضًا، فالاسترجاع يعكس أمنيات الغد الذي لن ينبثق نوره من خارج رحم فلسطين، مهما كانت ظروف الولادة مريرة في ظل هيمنة الاحتلال. تضيّع الغربة صفو الأشياء، وتنهك الحاضر، وتهلك خطط الغد. تقول “سهام الشعشاع” في قصيدة “مرايا الغربة”: لغربتنا/ سيوف تبئر الأحلام/ وتوقِظنا/ لنقطعَ عمرَ رحلتنا/ ونركض في حقولِ الخوف والأوهامْ/ لغربتنا/ مرايا لم نكنْ فيها/ وتعكسُنا على الطرقات/…/ مرايا ليس يعرِفُها سوى الغرباءْ/ وترْمينا/ فتمشي فوق غصّتنا/ كَمَنْ ضاعت (أساميهم)”(59). تتماهى رؤية “شعشاع” إلى حد بعيد مع رؤية “درويش”، فكلاهما يجد الغربة سبيلاً لضياع العقل والقلب، وانهزامهما. تحرّض فلسطين الأدباء، فالشاعر “شبلي” يذكر نزيف القدس حين يتحدّث عن معاناة بغداد، ويربط بين جرحيهما. يقول:

“يا أختُ جرحُكِ جرحُ العُرْب قاطبةً        بئسَ الجراحُ إذا لم تحمل الشرفا

بغدادُ قلبك في كلّ الصدور، فمن         يقصفْكِ يدركْ لماذا القدسُ قد نزفا”(60)

يضل العرب طريق خلاص بلادهم، وينزلقون نحو هاوية الخيانة، فيتخلون عن قيم تتوج بقاءها هانئة. تجذب مثل هذه المواضيع الكتّاب، كما يغري توترها عامة الناس الذين يحاول مثقفوهم من خلالها مغادرة عتمة واقعهم، أو مواجهة سوداويتها وغموضها، كي يطلوا على ذواتهم، فيقرأونها من خلال نصوص تفاوت نبض مضامينها. وهذا يعني أنّ الصلة وطيدة بين “المرسِل” (Destinateur Le)، والـ”مرسَل إليه” (Destinataire Le )(61)، اللذين يحرّكهما “الموضوع” ((ĽObjet.

تتجلى خيانات العرب في قصائد الشعراء، فهل هذا الموضوع بات ضروريًّا لنهوض القصيدة العربية، أم أنّ الظلم الذي قيّد الخطى أسّس لفيض الكلام هذا؟

يبدو أنّ الخيبات هي التي حرضت الأقلام، وكثّفت الحديث عن الموضوع ذاته(62). وأحسب أنّ تفاعل الكتّاب مع القضية الفلسطينية عائد إلى أهميتها، فهي تعدّ من أبرز القضايا الأدبية المعاصرة. إذ ما يحصل في الزمكان يصيب أناسه، ولا سيما الأديب الذي ينفعل في أثناء مراقبته الأحداث، لذلك يكتب، فهو لا يمكنه تجاهل الغبن الحاصل. وتبرز رؤية الأديب “التي تتحكّم في اختيار موضوعه، كما تتحكّم أيضا في اختيار جزئيات هذا الموضوع مما يؤثر بدوره على بناء العمل الأدبي”(63). وتتقارب أحيانًا أفكار بعض الكتّاب، وتتجاور نظرتهم الناقدة لمجتمعهم. ويتحدّث عن هذا الامر تودوروف، ويقول: “مفهوم التناص… قراءة نص ما توحي بنص غائب، وعنوان رواية ما قد يذكّر برواية أخرى، أو بجنس أدبي ما، أو حتى بعصر أدبي كامل، إلخ”(64).

يستعيد الأب أحداثًا، وهذا يمهّد لقرار الرجوع إلى مسقط الرأس، حيث “السلام”، و”المنام” الهانئ المتجدّد. تساهم ذكرى القسم الرابع الجميلة في استبعاد فكرة تأرجح الأب بين موقفي البقاء، والرحيل تلك التي تجلّت في القسم الثالث، ولهذا يحسم قراره في القسم الخامس، والأخير، ويقول: “- قم. سنرجعُ يا ولدي!”.

تغري فلسطين أبناءها، لذلك يحسمون أمرهم، ويقرّرون الصمود في وجه العدو. سيقدّم التمسّك بالجذور ترتيبات جديدة تستبدل واقع الخيانة، وتمكّن من بناء افتراضات تكفل صون حقوق مَنْ ابتُلِيَ بالقهر. يحمل قرار العودة “- قُمْ. سَنَرْجِعُ يا ولدي!” رسالة واضحة للأجيال، فهو ينم عن نظرة ثاقبة، ورؤية عميقة قد تبشّر بمنطق عقلي يتيح الخروج من العتمة. ويقصر الكلام في القسم الخامس، لأنّه يحوي قرار العودة الذي يتطلّب مباشرة التنفيذ بعده(65).

يختار العودة “درويش” لأنّ الوطن هو الكيان، وهذا ما لا يراه “أدونيس” في قصيدة “أفصِحِي، أنتِ، أيتها الجمجمة”. يقول:”رايةُ الوقتِ حمراءُ سوداء. ماذا؟/ من يخيطُ الكَفَنْ/ لِلفراغِ، لهذا الفراغِ – الوطنْ؟/ أترانا تعِبنا/ من رياح البقاء”(66). يشغل الزمن بال الشاعرين، كما يقلقهما ريح البقاء في وطن لا يعرف الاستقرار، ولكن ما يفرّقهما أنّ الأب في قصيدة “درويش” يرى أنّ الوطن، وإن كان متعبًا، فهو يشكّل وجود المرء، أمّا “أدونيس”، فيشلّ خراب الوطن تفكيره، ويميل بقدراته إلى الخواء. أيعدّ خِيار عودة “درويش” لا عقلي في ظلّ الأحداث الدامية في فلسطين؟ قد لا تعاود الحياة جمالية وقائعها القديمة الّتي استعاد الأب تفاصيلها في القسم الرابع، ولكن قد يكون خِيار العودة سبيلاً يؤدي إلى مواجهة العوائق تمهيدًا لمعالجتها. قد يختار الأب العودة، لأنّه سيمسي في حال تماس مع هموم فلسطين تلك التي لن ينعزل عنها أينما كان. وأحسب أنّ هذا القرار يفرض إعمال العقل، فـ”ما أصاب الأمة من تشرذم ضياع الهوية…”(67) يستوجب “التأمل والتبصر في واقع العقل العربي لأنّه هو الأحرى أن يُلام على ما اصاب الأمة”(68). إذًا، يفكّر الأب أنّ القيم تحقّق الانتصار، فمن يرسم تاريخ فلسطين هم أهلها الذين عليهم البقاء على أرضها، لمواجهة المعادي، ومراقبة خططه التدميرية، والتآمرية عن قرب. وهذا يوافق ما أورده “مظفر النواب”، إذ يدعو إلى مواجهة خائن فلسطين. يقول: “أيّها الجند بوصلة لا تشير إلى القدس مشبوهة/ حطّموها…/ سيقوم من الجرح أكثر عافية وطني بجراحاته النازفة”(69).

يزيح مضمون قصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا…” الستار عن الوجوه القذرة، أولئك الذين يهدمون طموحات أجيال فلسطين، ويرهقون البلاد العربية، ويخنقون حضارتها. لا تحتاج تصفية الحسابات مراقبة الأمور فقط، إنّما تتطلّب رضا ذات تدرك ما ينتظرها في بلادها من هموم، ومع ذلك تختارها ملاذًا. تقول “شعشاع” في قصيدة “لصبح قلّموا ضوءه”: “نسير إلى مواجِعِنا/ كَمَنْ يستعذبُ الآهاتْ/ وتحرُسُنا طوابيرٌ من الخيباتْ”(70).

قد تساهم مواجهة الواقع المر، وعدم الوقوف موقف المتفرّج إسهامًا فعليًّا في قلب المعادلات. كما تهزم الحيادية، والتغاضي أبناءَ الوطن، فيستلّم زمام أمورهم المعادي.

الخاتمة

قد يحرّض الشّعر الناقد، ويوقظ أفكاره، أو يحاكيها، فيسعى إلى دراسته، بعد أن يجد ما يستحق التحليل. وتستلزم معرفة النص فهم الصيرورة التاريخية المؤسّسة لنهوضه. وساهمت معالجة نص “درويش” في إبراز نقاط عديدة، يمكن أن تتوضّح من خلال ما يأتي:

يُفهَم من عنوان قصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا…” أنّ التلاشي لن يقتصر على ما مر، بل سيلازم الحاضر، والغد. ويسأل الابن أباه: “كم مرّة ينتهي أمرنا يا أبي؟” في القسم الثالث، وينتظر إجابة ناصعة البراهين، ومكتملة الأدلة. ويبدو أنّ الابن ضائع، ويبحث عن خلاص، فهو لا يتلمس حدود طريق واضحة تقوده إلى فلسطين. إذًا، يؤكّد التكرار فكرة الغموض، والإبهام اللذين منعا وضوح رؤيا السائل. يتكرر عنوان القصيدة في النص، ولكنّ ذلك لا يثير الرتابة، إنّما يوضح مدى معاناة الفلسطيني، وتضجّره، فمراحل انتهائه متوالية، وتتوالد من بطون بعضها. ويخاطب الابن أباه في هذا النص، طالبًا منه توضيح المجريات. تتطلّب قيامة الوطن مجددًا، قراءة الأمور بجدية. ويكشف مضمون القصيدة أنّ “ياء” المتكلّم العائدة إلى الابن في القسم الأوّل ليست خاصة، فهي خانعة لشعور كلّ فلسطيني يداهمه إحساسه بوحدته في أثناء سلبه أرضه. وتبدي “القبعة” زيف سياسة المسؤولين المؤسَّسة على الاحتيال. يخصّب الرمز “القبعة” حياة النص، ويمنحه جمالية تتجاوز حدود المعتاد، والمتوقّع. يساهم هذا التوظيف في إيقاظ العقل من سباته، ويحرّض محبي العروبة، ويدعوهم إلى الثورة، فالقدس أرض الأنبياء، وهذا ما جعل “درويش” يقول في قصيدة “في القدس”: “… فإنّ الأنبياء هناك يقتسمون/ تاريخَ المقدّس… يصعدون إلى السماء/ ويرجعون أقلّ إحباطًا وحزنًا، فالمحبةُ/ والسلامُ مقَدَّسان وقادمان إلى المدينة”(71)

تنحرف “قبعة القائد العسكري” عن دورها الريادي الإصلاحي، ويبيت صاحبها من الجشعين الذين يمتثلون لمشيئة العدو، ولا يحاسبونه. تنعدم الحرب ضد العدو، وتتحوّل وجهتها نحو أبناء الوطن، وهذا مكمن البلاء، وسبب نزيف الجراح. يضع القائد على وجهه قناع الزيف، ويدعم إسرائيل، وأميركا، ويحرس أيديولوجيتهم الحاقدة.

ويؤازر لبنان الفلسطينيين، لذلك يتوّج نص درويش “صيف لبنان” الذي يُحرّض المقاومين، ويستنهض هممهم ليستشرسوا دفاعًا عن كلّ شبر من الأراضي الفلسطينية.

ويؤكّد حوار الأب وابنه في قصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا…” أنّ الشعب يجب ألا يقف موقف المتفرّج، وألا يصطف إلى جانب المخاتلين، أو المحايدين. فالحياد يدعم القوى المستكبرة، والجائرة التي همها محاصرة الحكّام، والضغط على الشعب، لإضعاف البلاد العربية، والسيطرة على مقدّراتها. تبدي قصيدة “كم مرّة ينتهي أمرنا…” صعوبة حل المشكلة الفلسطينية، ووعورة رسم أفق بديل يعدم التخاذل، ويستعيد جمالية ماض محقق من “نجمة في الجنوب” تلك التي سيبهت وهج حضورها، ويخفت بصيص نورها الممتد من الذاكرة إن لم يسع الفلسطينيون لحل أزمتهم متسلحين بالعقل، والشجاعة. يبدو الأب في استرجاعه أحداثًا واقعية يبحث عن بر أمان لبلاده، كي لا يستمر حصد الهوان والعار والذل. يقول سلطان زغلول: “ثم يقترب الشاعر من واقع الأحداث خلال نكبة 1948، حتى إنّه يشير خلال حوار الأب وابنه إلى “هدنة رودس” التي يقرأ الأب فيها تأخر العودة، كما يشير إلى سلاح المقاومين البدائي الذي لم يكن من الممكن أن يحفظ الأرض. لكنّ تضمين هذه الأحداث الواقعية في القصيدة لا يفقدها فنيتها وشعريّتها العالية، كما أنّ بناءها المنفتح على القص الروائي يساهم في تكاملها فنّيًّا، ويؤشّر على مدى التطوّر الذي تشهده القصيدة الدرامية عند درويش في وسائل الصياغة، فبمقدار إخلاصها للشعر تدنو به من الفنون التعبيرية الأخرى”(72).

ويبدي قول “درويش”: “حاربوا ببنادق مكسورة طائرات العدو”، أنّ خذلان المدافعين عن فلسطين ليس عائدًا إلى عدم امتلاكهم معدات عسكرية تكفل انتصارهم. فالمسألة أكثر تعقيدًا، لأنّ المناضلين لم يبذلوا كل ما لديهم من طاقة، لذلك هزموا. تتوفّر الإمكانيات العلاجية لأوضاع الفلاحين، فسنابلهم “مثقلة”، ولكنّهم أهملوا مناجلهم. وهذا يغاير إصرار فلاحي قصيدة “بزيع” التي يتحدّث في مضمونها عن طبقة الفلاحين، إذ يقول: “أبصرتهم يصعدونَ جبالَ التعبْ/ محاريثهم تلهبُ الصخرَ”(73). ويعيش الابن، ووالده رحلة ضياع قاسية، وهما يجلسان في فيء الـ”صفصافة”. يأوي المرء إلى فيء الشجر ليرتاح، ويسترخي، ولكن حين نضيف إلى الشجرة “الريح”، فذلك يوضح رحلة التشتت المريرة. قد تمد “الريح” الأبطالَ المجاورين لها قوة، وشدة، ولكنّها هنا بعثرت العناد، وشلّت القدرات.

ويبدي هذا العمل مدى تقارب وجهات نظر الشعراء، أو تباعدها في قصائدهم، وهذا بدوره يوضح ذلك العبء الذي أثقل كاهل النخبة الأدبية، ويتيح تلمس عوائق نهوض المجتمع الفلسطيني خصوصًا، والعربي عمومًا. ويقرّر الأب العودة إلى فلسطين، فهو لا يغريه عالم بعيد من مواجعها. لن يستنزف الأب وقته خارج موطنه، وهذا يعني أنّه سيتجاوز التصدّعات كلّها، ليضم ذكرياته الجميلة التي تركها منتظرة رجوعه في القسم الرابع. ولا تعني عودة الأب، وابنه في القسم الأخير نهاية الحرب، ولكنّها قد تكون بداية لانفراج. فقد تشتعل ثورات، وتزداد الأمور سوءًا، ولكنّ البحث عن خلاص يتطلّب الانضمام إلى صفوف المقاومين. يتضمن قرار العودة رسالة واضحة للأجيال القادمة، هدفها تنبيههم من اغتصاب أرضهم، وحقوقهم. كي تنتظم الأمور، وتأخذ مسارها السليم لا بدّ من البقاء في الممتلكات. يرسم النص واقع فلسطين، ويختصر أسباب أزمته، ويأتي قرار الأب متوِّجًا لأيديولوجيا الصمود، والمواجهة. إذًا، يجب أن ينفق الفلسطينيون ما بقي من أعمارهم في أرضهم، فمن هناك يمكنهم مقارعة الخبيث. كأنّ النص هو عبارة عن قصة تتضمن تلك “اللوحة الناطقة التي يرى فيها الإنسان رسم انعتاق الذات من أُحاديتها، وتحررها من فرديتها، وانعتاقها من سجن رؤيتها الضيقة”(74).

الهوامش

1 – والشعرية علم “لا يُعنى بالأدب الحقيقي، بل بالأدب الممكن، وبعبارة أخرى بتلك الخصائص المجرّدة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي، أي الأدبية”. تودروف، الشعرية، ترجمة شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، المغرب، دار توبقال للنشر، ط2، 1990، ص 23.

2 – بيار غيرو، السيمياء، ترجمة أنطوان أبي زيد، بيروت، منشورات عويدات، ط1، 1984، ص 56.

3 – م. ن، ص 57.

4 – تودروف، م. س، ص 23.

5 – ورد كذا، والصحيح: تحريك الواقع، وتحويله. جوليا كريستيفا، علم النص، ترجمة فريد الزاهي، ومراجعة عبد الجليل ناظم، الدار البيضاء، دار توبقال للنشر، ط2، 1997، ص 9.

6 – م. ن، ص. ن.

7 – بيار غيرو، م. س، ص 5.

8 – م. ن، ص. ن.

9 و10 – علي زيتون، النص الشعري المقاوم في لبنان، بيروت، اتحاد الكتّاب اللبنانيين، ط1، 2001، ص 29، و31. وجوليا كريستيفا، السيمائية علم نقدي، ترجمة جورج أبي صالح، مجلة العرب والفكر العالمي، ع 2، 1988، ص 32، و27.

ولمزيد من المعلومات مراجعة جوليا كريستيفا، علم النص، ص 24، و25.

11 – ورد كذا، والصحيح: “صوت التجربة، وصوت الحقيقة، وصوت العلم”.

12 – بيار غيرو، م. س، ص 109.

13 – محمود درويش،محمود درويش الأعمال الجديدة، بيروت، دار رياض الريّس، ط1، 2004، ص 302.

14 – “والسيمائية علم يدرس حياة العلامات في المجتمع. أما الألسنية فجزء من هذا العلم مختص بدراسة علامات اللغة… يرى سوسير أنّ مَهَمَّة عالم النفس أن يحدّد بدقة مكانة السيمائية، وانّ مَهَمَّة الألسني أن يبيّن ما الذي يجعل من اللغة منظومة خصوصًا عبر مجموعة الوقائع السيمائية”. سوسير، ترجمة يوسف غازي ومجيد نصر، جونية، دار نعمان للثقافة، 1984، ص 27 و28. كما يتحدّث أيوب عن ولادة السيمائية من أبوين، هما: بيرس، ودو . سوسير “الأوّل أطلق السيمائية[ Sémiotique] مركزا تنظيره على وظيفة العلامات ومنها علامات اللغة، والثاني أطلق علمَ الرموز [ Sémiologie] …أمّا السيمائية التي استثمرت التحليل النفسي والسوسيولوجي فيمكن أن تسمى “السيمائية التوسّعية”، ونموذجها جوليا كريستيفا”. نبيل ايوب، النقد النصي، بيروت، دار المكتبة الأهلية، ط1، 2004، ص 68.

15 – تودوروف، الرمزية والتأويل، ترجمة إسماعيل الكفري، سورية، دار نينوى، ط1، 2017، ص 9.

16 – رولان بارت، النقد البنيوي للحكاية، ترجمة أنطوان أبوزيد، بيروت، منشورات عويدات، ط1، 1988، ص 82، و83. 17 – “معنى الكلمة يعتمد على علاقتها مع كلمات أخرى”. Lehmann Alise , et autres , Introduction à la lexicologie (Sémantique et morphologie), Armand Colin, Paris, 2008, p 46.

18 – تودوروف، الرمزية والتأويل، ص 10، و11.

19 – سورة الشعراء، آية 224، و225، و226.

20 – عمر شبلي، العناد في زمن مكسور، ط2، بيروت، دار الكنوز الادبية، ص 15.

21 – يتحدّث شبلي عن الشاعر والكاتب، ويقول:”… الشاعر مطلوب منه أن يُمِرَّ الكلمات عبر دم قلبه، والكاتب يُمِرها عبر عقله قبل كلّ شيء”. عمر شبلي، م. ن، ص 27.

22 – Greimas, Sémantique Structurale (recherche de méthode), Paris, Larousse, 1966, p39.

ويقول نبيل أيوب: “يفرّق بعض الباحثين بين الحقل المعجمي، والحقل المفهومي؛ إذ يتكوّن، وفقا لهم، الحقل المعجمي من الدوال، والمفهومي من مدلولاتها”. نبيل أيوب، التعبير منهجيته وتقنياته، بيروت، دار المكتبة الأهلية، ط2، 2001، ص 42.

23 – علي زيتون، النص الشعري المقاوم في لبنان، ص 26.

24 – رولان بارت، لذة النص، ترجمة منذر عيّاشي، دمشق، دار نينوى، ص 102.

25 – عمر شبلي، أيُّ خبزٍ فيك يا هذا المطرْ؟!، بيروت، دار العودة، ط1، 2014، ص 149.

26 – سورة يوسف، آية 46، و47، و48، و49.

27 – نبيل أيوب، الطرائق إلى نص القارئ المختلف، بيروت، دار المكتبة الأهلية، ط1، 1997، ص 35.

28 – م. ن، ص، ن.

29 – شوقي بزيع، الرحيل إلى شمس يثرب، بيروت، دار الآداب، ط1، 1981، ص 72.

30 – ويقول أدونيس عن الفقراء القادرين على ابتداع الحلول، والقيادة: “حفرةُ الفقراء يسُوسون أرض الطغاة بأشلائهم”.

أدونيس، تنبأ أيها الأعمى، بيروت، دار الساقي، ط1، 2003، ص 33.

31 – سلطان، زغلول، البطركة الثقافية: دراسة في سلطة الأ ب وتمثيلاتها، الأردن، الآن ناشرون وموزعون، ط1، 2016، ص 184.

32 – بيار غيرو، م. س، ص 122.

33 – شوقي بزيع، أغنيات حب على نهر الليطاني، بيروت، دار الآداب، ط1، 1985، ص 71.

34 – شبلي، العناد في زمن مكسور، ص 19.

35 – أخرجَت المقاومة اللبنانية إسرائيل من لبنان في الخامس والعشرين من أيار في العام 2000م، وكانت إسرائيل قد احتلت معظم الأراضي اللبنانية في العام 1978م. كما انتصرت المقاومة في أثناء مواجهتها لها في حرب تموز 2006.

36 – بيار غيرو، م. س، ص 54 و55.

37 – “…وليس غريبا أن تشهد هذه السنوات ذاتها بداية حركة الشعر الحر” في الوطن العربي”.

بدر شاكر السيّاب، الأعمال الشعرية الكاملة، مج1، بيروت، دار العودة، 2000، ص ه.

38 – تودوروف، الرمزية والتاويل، ص 25.

39 – علي زيتون، الشعرية بين الرمز والعرفان، بيروت، دار المعارف الحكمية، ط1، 2017، ص 38. و كمال أبو ديب، في الشعرية، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1987، ص 87 وما بعدها.

40 – عمر شبلي، مرثاة الزمن القاحل، بيروت، دار العودة، ط1، 2011، ص 116.

41 – م. ن، ص 125. ويتحدّث الماغوط عن تخاذل العرب، ويقول: “أيّها العلماء والفنيّون/ أعطوني بطاقة سفر إلى السماء/ فأنا موفد من قبل بلادي الحزينة/ باسم أراملها وشيوخها وأطفالها/ كي تعطوني بطاقة مجانية إلى السماء/ ففي راحتي بدل النقود… “دموع”/ لا مكان لي؟/ ضعوني في مؤخرة العربة/ على ظهرها/ فأنا قروي ومعتاد على ذلك،/ … كلّ ما أريد هو الوصول/ بأقصى سرعة إلى السماء/ لأضع السوطَ في قبضة الله/ لعلّه يحرّضنا على الثوره“.

محمد الماغوط، أعمال محمّد الماغوط، سورية، دار المدى، ط1، 1998، ص 207.

42 – ويبدو أنّ مواجع الوطن العربي واحدة، فالخيانة عنوان لمواضيع يكتبها أنذال نكروا أصولهم. تقول شعشاع: “أنا بغدادْ/ أنا الأنثى/ فساتيني مُقَطَّعةٌ/ وخان براءتي الجلّادْ”. سهام الشعشاع، كأنّي لم اكن يومًا، بيروت، دار رياض الريس، ط1، 2000، ص 128.

43 – بدر شاكر السيّاب، الأعمال الشعرية الكاملة، مج2، ص 445، و446.

44 – مظفر النواب، الأعمال الشعرية الكاملة، لندن، دار قنبر، 1996، ص 480.

45 – ويتابع قائلا: “… لكي تكتب في أيّ مجال، وأيّ اتجاه بحاجة إلى: غطاء فلسطيني/وغطاء عربي/ وغطاء إقليمي/ وغطاء دولي/ وغطاء طائفي/ وقبل كلّ شيء غطاء سياسي من النظام الذي يقيم أودك، ويستر عريك وآخرتك!/ فهل أنا كاتب أم منجد؟”. محمد الماغوط، سيّاف الزهور، سورية، دار المدى، ط1، 2001، ص 29.

46 – نزار قباني، الأعمال الشعرية الكاملة، بيروت، منشورات نزار قباني، ط11، 1981، ص 565.

47 – الماغوط، سيّاف الزهور، ص 27.

48 – “تقف الذات الشاعرة عند صورة الابن، وهو يريد ترك (الهنا)- المنفى- إلى (الهناك)- الوطن”.

خليل شكري هياس، القصيدة السيرذاتية: بنية النص وتشكيل الخطاب، الأردن، عالم الكتب الحديث، 2010، ص 316.

49 – نبيل أيوب، التعبير منهجيته وتقنياته، ص 42.

50 – “تحت صفصافة الريح/ بين السموات والبحر؟/ – يا ولدي! كلّ شيء هنا/ سوف يشبه شيئا هناك/ سنشبه أنفسنا في الليالي/ ستحرقنا نجمة الشبه السرمدية”. يقول شبانة عن هذا المقطع الشعري: “إنه ليس من العبث أن يتكرر حرف الشين والسين في مفردات هذه المقطوعة خمس مرات لكل منهما، مما يجسّد توظيفًا مميزًا للإيقاع الداخلي، ويبرهن على أنّ هذا التوظيف يتسم برصانة وقصدية تجعله يتميز عن سواه من التجانسات التي قد ترد عفو الخاطر”. ناصر شبانة، الرؤى المكبلة: دراسات نقدية في الشعر، عمان، دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2009، ص 95.

51 – عبدالله العروي، مفهوم العقل: مقال في المفارقات، الدار البيضاء-بيروت، المركز الثقافي العربي، 1996، ص 343.

52 – أندريه ريشار، النقد الجمالي، ترجمة هنري زغيب، بيروت، منشورات عويدات، ط2، 1989، ص 72.

53 – “الوظائف الثلاث: التعبيرية المركّزة على “الأنا”، والندائية المركّزة على “الأنت” والمرجعية المركّزة على “الهو” هي الوظائف الأساسية في عملية التواصل”.نبيل أيوب، التعبير منهجيته وتقنياته، ص 18.

54 – بدر شاكر السيّاب، م. س، ص 79.

55 – محمد نديم خشفة، المنهج البنيوي لدى لوسيان غولدمان تأصيل النص، حلب، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1997، ص 15.

56 – يمنى العيد، الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان، بيروت، دار الفارابي، ط2، 1988، ص 11.

57 – سلطان زغلول، البطركة الثقافية، ص 185.

58 – تودوروف، الرمزية والتأويل، ص 51.

59 – سهام الشعشاع، م. س، ص 114.

60 – شبلي، العناد في زمن مكسور، ص 349.

61 – A. J. Greimas, J. Courtés. Sémiotique , dictionnaire raisonné de la théorie du langage, France, Hachette, p. 94.

62 – يتحدث شبلي عن كذب العرب في قصيدة “حبيبتي بغداد”، ويقول:

“بغدادُ لا تعتبي لا ينفع العتبُ    على قميصك من قومي دمٌ كذبُ

….

وبين قتلاكِ يا بغدادُ قمّتهُمْ      بعض الحكومات تزني، وهي تعتربُ”.

عمر شبلي، على أيِّ جرحٍ توكأتَ حتى وصلت؟؟؟، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2007، ص 134.

63 – عبد المحسن طه بدر، الروائي والأرض، القاهرة، الهيئة المصرية العامة 1971، ص 6.

64 – تودوروف، الرمزية والتأويل، ص 13.

65 – ويتحدّث شبلي عن حب الوطن، وإمكانية تضميد جراحه إن كان أبناؤه مخلصين، ويقول في قصيدة: “الوطن يحوم على العينين”:

“حملت حزنَك يا بغدادُ في رئتي        حتى كأنّي لشباباته قلبُ

خاصرْتُ نهرَك حتى صار من جسدي    أنا وأنتِ على عشقٍ، ولا رِيَبُ

وكيفَ يرتابُ من كانت عروبتهُ       نقيّةً، لم يدنسْها دمٌ كذبُ”

عمر شبلي، على أيّ جرحٍ توكأتَ حتى وصلت؟؟؟، ص 134، و135.

66 – أدونيس، م. س، ص 44.

67، و68 – د.عبد الرحمن الطريري، العقل العربي وإعادة التشكيل، كتاب الأمة-35 قطر، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1993، ص 31.

69 – مظفر النواب، المجموعة الشعرية الكاملة، قصيدة الأساطيل، ص 24 و25.

70 – الشعشاع، م. س، ص 127. “لماذا أيّها الوطنُ المدمّى   جراحُك دائما فيها ورود”. عمر شبلي،الحجر الصبور، بيروت، دار الطليعة، ط1، 2006، ص 218.

71 – محمود درويش، م. س، ص 51.

72 – سلطان زغلول، م. ن، ص 186.

73 – بزيع، أغنيات حب على نهر الليطاني، بيروت، دار الآداب، ط1، 1985، ص 78.

74 – رولان بارت، مدخل إلى التحليل البنيوي للقصص، ترجمة منذر عياشي، الأعمال الكاملة، سورية، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1993، ص 8.

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website