foxy chick pleasures twat and gets licked and plowed in pov.sex kamerki
sampling a tough cock. fsiblog
free porn

السّلطة بوصفها خطابًا مُهيمنًا في توجيه الشّاعر العباسيّ (دراسة تحليليّة)

0

السّلطة بوصفها خطابًا مُهيمنًا في توجيه الشّاعر العباسيّ (دراسة تحليليّة)

زينب علي حسين الموسويّ([1])

المُقدِمة

إن التّغيرات التي طرأت على العصر العباسيّ، بشتى المجالات – السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة- جعلت مصادر السّلطة مُتعددة، فالسّلطة لا تتعلق فقط بأنظمة الحكم ودوافع الوصول إلى القيادة، عبر سلطة إصدار الأوامر، واجتثاث الطرف الخارج عن حيز نفوذها القمعيّ فحسب، بل هناك سلطة أقوى وأنفذ فعلًا عن غيرها، وهي السّلطة الثقافيّة التي عكست نتاج تأثيرها على مُجملِ أنظمة الحياة في هذا العصر، فقادت الشّاعر إلى التّمسك بمظاهر الواقع الجديد، وانعكس ذلك على نتاجه الفعليّ ما غذى روافد التجديد لديه.

لذا كان لزامًا على الشّاعر العباسيّ أن يُعبّر عن هذه الثقّافات الجديدة بشعره، ويُصدق في التّعبير عن تجاربه الذاتيّة، المُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بهذه البيئة الحضاريّة، التي أجبرت الشّاعر واخضعته لروافدِ سلطة الانتقال الفعليّ من مرحلة التّقليد البدويّ وقوالبه الفنيّة الغربية في العصر الأمويّ، إلى مظاهر الثّقافة والتّمدن والتّجديد في العصر العباسيّ؛ وهذا ما جعل السّلطة تتشعب، وتكون صورتها المهيمنة، كواقعٍ فعلي مُعاش في كلّ أركان الخطاب الشّعريّ في هذا العصر؛ لكونهم يعيشون نمطًا جديدًا من الحياة، على المستويين الماديّ والمعنويّ. وهذا النّمط لا بُدَّ أن يعكس سلطة التأثير والتأثر، حتّى يكون ورقة توثيقيّة لمرحلة انتقاليّة تجديديّة، فوجد في الخطاب الشّعريّ الشّاهد الأمثل لترجمة مراحل الانتقال التجديديّ في العصر العباسيّ .

لذا قُسّم البحث إلى محورين: المحور الأول: سلطة الطلل في الخطابِ الشّعريّ العباسيّ. فرض الطلل سلطته الثقافيّة على نتاج الشّاعر العباسيّ، ولكن هذا الفرض لم يكن يسيرًا؛ لكونه خرج عن قولبة البداوة وتسنم روح الحضارة، لذا فمغايرة الوقوف كانت على وفق الثّراء الحضاريّ والتّمدن الجماليّ.

المحور الثّاني: سلطة الذوق في الخطاب الشّعريّ العباسيّ ، إذ خلق المجتمع العباسيّ ذوقًا جديدًا لإنسان العصر، وأن هذا الذّوق كان له تأثير في تغيير كثير من التّصورات والمفاهيم الأدبيّة. لذا جاءت سلطة الذّوق ؛ كي تفرض وجودها على نتاج الشّاعر العباسيّ، فعززت وجودها في النصّ الشعريّ، لذا أصبح لزامًا على الشّاعر في العصر العباسيّ، الانقياد إلى سلطة الذوق والتعامل معها على وفق جماليّة التّشخيصيّ النصيّ .

 

 

المحور الأول: سلطة الطلل في النصّ الشعريّ العباسيّ

قبل الدّخول في بؤرة الحديثِ عن الطّلل وسياقاته الوظيفيّة، علينا أنّ نقف على مدلولهِ اللغويّ، إذ نلحظ إنّ الطلل يدل على” ما شخص من آثار الدّار، والجمع أطلال وطلول. ويُقال : حيّا الله طلك وطلالتك بمعنى : شخصك”(1) . ولفظ الطلل يأتي أيضًا بمعنى آخر وهو الشّراع والدّليل على ذلك حديث أبي بكر ” أنّه كان يُصلي على أطلال السّفينة، وهي جمع طلل ويُريد به شراعها”(2). ويأتي الطلل بمعنى آخر حسب كلام الأزهري فيقول : ” الطلل من الدارِ، موضع من صحنها، يهيأ لمجلس أهلها”(3). فهذه التّشكيلة اللغويّة تمحورت حول دلالة الدار وآثار الرّحيل، وهذا هو المعنى الأعم لدلالة الطلل في القصيدة العباسيّة .

فحين نتحدث عن سلطة الطلل في محور القصيدة العباسيّة، فإنّنا لا نقصد بالسّلطة ” القدرة والملك، ويشير الفعل منها إلى التسلّط وأنّه : تسلّط  الأمير على البلاد، حكمها وسيطر عليها، وتسلّط القوي على الضعفاءِ، تغلّب عليهم وقهرهم، وتسلّط تمكن وتحكم”(4)، بل نقصد قوة التحرر والخروج عن قولبة التقليد البدويّ، بالاتكاء على أساليب حداثويّة، فرضتها طبيعة الثّقافة والاختلاط  والتّطور الحضاريّ في العصر العباسيّ .

إنّ سلطة الطلل تظهر من خلال وقوف الشّاعر على انقاض تلك البقعة المكانيّة، لكن! هذا الوقوف في العصر العباسيّ يختلف عن الوقوف في العصر الجاهليّ لعدة اسباب منها: أولًا:- إن وقوف الشّاعر لم يكن وقوفًا عابرًا مُتمسكًا بالرّموز والآثار والفيافيّ والدّمى فحسب. بل هو وقوف على مساكن كبيرة مُتماشيّة مع تطورات الحضارة والحياة المُترفة في العصر العباسيّ.  لذا فوقوف الشّاعر العباسيّ بهذا المكان، كان وقوفًا ذا سلطة خطابيّة وهيمنة مكانيّة كبيرة. وهذا ما اثبتته العلائقيّة الثقافيّة ما بين سلطة الطلل ورمزيّة المرأة في المقدمة الطلليّة.

لذا فوقوف الشّاعر على الطلل لا يخلو من آثار الحضارةِ، ولا من ثقافة الشّاعر وأدواته الجماليّة، التي وظّفها في نسقيّة الطلل الذي يحمل رمزًا لأشياءٍ خالية من الحياة. ففي القصيدة العباسيّة، أصبح الشّاعر من أدوات السّلطة  في الاحتكام إلى مضامين القصيدة الجماليّة. هناك جمع كثير من الشّعراء، وقفوا على الاطلال ولكن! مديات الوقوف تختلف من شاعرٍ إلى شاعرٍ آخر، حسب أدوات التّوظيف الحسيّ في مضامين القصيدة الطلليّة. وأيضًا على وفقِ المراجع الثقافيّة، وغايات الوقوف لدى كل شاعر. فكل هذه الأدوات ، كانت تحتكم الى سلطه الطلل المُرتبطة في الأساس بلحظة الوقوف عند الشّاعر الطلليّ. فجاء البحتري ؛ كي يوثق وقوفه بهذه الأبيات إذ يقول(5):

ما عَلى الرَكبِ مِن وُقوفِ الرِكابِ        في مَغاني الصِبا وَرَسمِ التَصابي

أَينَ أَهلُ القِبابِ بِالأَجــــرَعِ الفَــــر       دِ تَوَلَّوا لا أَيـــــنَ أَهــــلُ القِبـابِ

سَــــقَمٌ دونَ أَعيُــــنٍ ذاتِ سُــقــــمٍ        وَعَذابٌ دونَ الثَنــــايـا الــــعِذابِ

عَرِّجوا فَالدُموعُ إِن أَبـــــكِ في الرَبـ       ــــــعِ دُموعي وَالإِكتِئابُ اِكتِئابي

وَكَمِثلِ الأَحبابِ لَو يَــــعـــــلَمُ العـــا       ذِلُ عِنـــــدي مَنــــــازِلُ الأَحبابِ

إن الطلل بكاملِ محمولاتهِ  الجمعيّة، يترفّع عن قيمة البقاء في المكان، لغايةٍ مهمة عمادها ان الوقوف أصبح لا يُجدي نفعاً، في مكانات قتلت ربوعها منذ أول ترنيمة بقاء. لذا فسلطة الطلل، تظهر من خلال نسق التحوّل الخطابيّ في لحظةِ الوقوف الآني، ووصف هيكليّة المنازل الخاليّة من قاطنيها (بالقباب)، التي تقوّست كالقبةِ في هذه الديار، لذا فالدّيار لم تكن عادية؛ بل كانت آثار الحضارة وسلطة التّطور واضحة المعالم، وهذا ما دعا الشّاعر إلى فرض  سيمياء التّحضر والخروج عن قولبة البداوة والتّعقيد الطلليّ. ثم بعد ذلك تساءل عن القبابِ وأصحابها و هذا التساؤل مشروع ؛لأنه صوّر حالة الذعر والعذاب التي اعترته على أثر فراق حبيبته. وهذا ما محوريّة استفهامه مُنقادة إلى المكان الذي عرج فيه. لذا حاول أن يُرسخ سياقه بصوره تشبهيّة؛ كي يعزز صورة فراق الأحبة ، ويصف حالة المنازل، بناءً على نسقِ الرّحيل؛ لأنّ الآخر العاذل لا يمتلك شعور الوقوف ولا نشوة الانتظار في هكذا أماكن كانت مسرحًا لذكريات دائمة في نفس الذات الشّاعرة.

فالمقدمة في العصرِ العباسيّ كانت مصحوبة بالثّراء الثقافيّ، وهذا الأثر كان ذا سلطة كبيرة في وقوف الشّاعر؛ لأنّ الوقوف كان المحرك الأساس لمعنى الطلل. فلم يكن الطلل مُتعلقًا فقط بالجانب النّفسيّ او نتيجةٍ لتوترٍ حركيّ، لكنه اختراق للشّعور، ” فضلًا عن أن الطلل اختيار مكانيّ مُترسخ عن الواقع أو مُتحوّل عنه بالفن إلى صورٍ من نوع خاص، وتشكيل المكان في المقدمة الافتتاحيّة الطللية، هو نتاج عقليّة إنسانيّة مُبدعة، تُبنى على جانبين مُرتبطين بالفكرِ والفنِ”(6). وهذا ما سعى إلى توظّيفه الشّاعر البحتريّ في ميادينِ قصيدته فيقول(7):

رَأى البَرقَ مُجتازاً فَباتَ بِلا لُبٍّ… وَأَصباهُ مِن ذِكرِ البَخيلَةِ ما يُصبي

وَقَد عاجَ في أَطلالِها غَيرَ مُمسِكٍ… لِدَمعٍ وَلا مُصغٍ إِلى عَذَلِ الرَكبِ

وَكُنتُ جَديراً حينَ أَعرِفُ مَنزِلاً… لِآلِ سُلَيمى أَن يُعَنِّفَني صَحبي

عَدَتنا عَوادي البُعدِ عَنها وَزادَنا… بِها كَلَفاً أَنَّ الوَداعَ عَلى عَتبِ

وَلَم أَكتَسِب ذَنباً فَتَجزِيَني بِهِ… وَلَم أَجتَرِم جُرماً فَتُعتَبَ مِن ذَنبِ

وَبي ظَمَأٌ لا يَملِكُ الماءُ دَفعَهُ… إِلى نَهلَةٍ مِن ريقِها الخَصِرِ العَذبِ

في هذهِ القصيدة الطلليّة، ظهرت سلطة الطلل من خلال ترسيخ نسق البرق، الذي جاء ترميزًا عن الأنثى ؛ كي يُوعز إلى أن فعل المغادرة كان خارجًا عن مقاييس العلم المسبق بآليّة الرّحيل، لذا فانّ الأنثى المُرسخة في الخطاب الطلليّ موصوفة بالبخلِ؛ لأنّها لم تمتثل لمواعيدِ الانتظار، ولم ترضخ لمُسلمات البقاء المكانيّ والشّوق العاطفيّ. فالمغادرة لم تكن مكانيّة بقدر ما كانت وجدانيّة، لذا خلّفت آثارًا ذاتية كبيرة ووجعًا ذاتيًّا غير سابقِ العهدِ. لذا فإنّ نسقية العتاب في خطابِ الطلل قد قُيّدت في سياقِ النّفي؛ لأنّ الشّاعر نفى عن ذاتهِ جرمية الذّنب، عبر علائقيّة الجزم السّياقيّ لمضمرات المغادرة المكانيّة لشخص الحبيبة الرّاحلة من دون سابق ذكر، لذا فهو  يرفض ممارسة هذه السّلطة التي لا تنطوي تحت أيّ مسمى جزائي يمكّنه من التماس  أنّ لشخص الحبيبة الرّاحلة، لكنها! كانت حاضرة في ثنايا خطابه، والدّليل على ختامه لمقدمة قصيدته ببيت شعريّ؛ يكشف عن روحيّة الشّوق الشديد الذي يكنه لشخصها .

الشّعر من حيث هو فن فقد تطوّر في العصر العباسيّ، والصّنوبريّ من ضمن الشعراء الذين خضعوا لهذا التّطور، فقضى حياته يبحث عن كل طريف ومخترع في الشكلِ والمضمونِ، مُحتذيًا بذلك طريقة معلمه البحتريّ .هناك قصائد كثيرة لديه بدأها بذكرِ الطبيعة في أطلال قصائدهِ، التي شكّلت ملمحًا تجديدًا لديه (8). وهذا ما تجسّد بقولهِ (9):

هاجتْ هواكَ منازلٌ وديــــارُ    دَرَسَتْ معــــالمهنَّ فهي قِفَار

ولقد يكونُ ولي بهنَّ مـــــآلفٌ     إذ هـــندُ هندُ وإذ نَــوارُ نَوار

لا غَرْو أن تبكي لرسمِ مَنازلٍ     ما في البكاءِ على المنازلِ عار

رَبْعٌ نأى عنه الأَنيسُ فما به       إِلاَّ وحـــــوشٌ رُتَّعٌ وَصِـــــوار

[————–]     واستضحكتْ فرحاً بـه الأَطيار

غنَّى الحمـــامُ تطرُّباً فــكأَنَّـمـا       دارتْ عليــهنَّ الغــداةَ عُقـــار

وأُعيرَ وَجْهُ الأرضِ من أنوارها   ما لم يكنْ من قبــــلِ ذاك يُعَار

وتأزرتْ تلك الرُّبى بمطارِفٍ     خُضْرٍ وأبدتْ حُسْنَهـا الأسحار

نَوْرٌ أنارَ على رُباها فاغتدتْ     وعلى الرُّبى مــــن نَوْرِه أنوارُ

وردٌ وخيريٌّ يَلُوحُ ونرجِسٌ              وبنفــــسجٌ وشَقــــائقٌ وَبَهــــار

أبدتْ بطونُ رياضِهِ بــــأدِلَّةٍ               [——-] العيونُ تغار

فكأَنَّ أخضره الــمريعَ زُمُــــــرُّدٌ             وكأَنّ أصــــفرَهُ البديعَ نُضار

نشر الخزامى الغضُّ طيَّبَ نَشْرِهِ        هاجتْ هواكَ منـــازلٌ وديارُ

إنّ الطلل فرض سلطته المكانيّة على ذات الشّاعر، عبره استحضار سلطة المكان وبيان معالم الأثر الذي ترك خلفه لكنه! يقرّ في ذاته أنّ هذه المعالم مُقفرة حتّى وإن عرج على منازلها ورسم آثارها ، لكنّها لم تستوقفه للمكوث فيها طويلًا أو للبكاءِ على آثارها الرّاحلة، وهذا يدل على أنّ الشّاعر العباسيّ، لا تستوقفه الاطلال كثيرًا ولا تستحوذ سلطة حضوره على معالم الآثافيّ والقفار. لذا عمد إلى أن يُحدث تحوّلًا خطابيًّا، عبر انتقاله الحسيّ إلى معالمِ الاستحضار الفعليّ للأنثى، فلم يقف على أنثى واحدة بل أصبح لديه تخيير انتقاليّ حسيّ ما بين هند ونوار. فهذا يدل على أن هيكليّة الوقوف هي مجاراة لتقليد قديم فقط، لكن هذه المجاراة فرضت سلطتها، عبر تغيير فكرة  معنى الوقوف في الطلل، وهذا بدورهِ أدى إلى التّجديد في مسار السّرد الشّعريّ فنضجت حبكته الحكائيّة عبر تلون الشّعر بمعالمِ الطبيعة الحية، الخارجة عن معالم الانحسار بالبداوة والرّحيل غير المُجدي، لذا أصبحت الأنثى معلمًا جماليًا  متكاملًا، بالاستناد الى أدوات التّشبيه البلاغيّ، فعززت سلطة الطلل وجعلته صورة حية مكتظة بالجمالِ الحسيّ.

ظهرت سلطة الطلل عند الأرجانيّ، عبر توظّيفه الفعليّ  لنسقيّة المكان، وهذا يدل على تشعب الإبداع في محوريّة الطلل لديه، لذا فإنّ” ارتباط المبدع بالمكان أمرٌ لا يمكن أبدًا إنكاره، ولعل هذه الحميميّة الخاصّة بين (المبدع – المكان)، ضاربة بجذورها في الأدب القديم، إذ لطالما استُوقفت الشّعراء القدامى على ديارِ الحبيبةِ لا لشيء، سوى لارتباطه بذكرى المحبوبِ وووجوده في هذا المكان من دون غيرهِ”(10). ويتضح ذلك بقولهِ(11) :

لها في حمىً منّي وراء التّرائب        مَنازلُ لا تُغشَى بأيــدي الرّكائبِ

تُراحُ بأنفاســـــي إذا ما ذكَرتُــها       وتُمطَرُ وَجْداً بالدُموعِ السّــــواكب

وليس دَمٌ يَجرِي من العينِ بعدكم       بشيءٍ سوى قلبٍ من الشّوقِ ذائـب

فو الله ما أدريِ إذا مـــا نَــــزفْتُه        وأذْهَبْتُه هل حُبُّ لَيلَــــى بـــذاهب

وما القلبُ محـــبوباً إليَّ لـــخَـــلةٍ         سوى أنه منّي مـــكَانُ الحــــبائب

وقَفْنا لتسليمٍ علــــى الدّارِ غُـــدوةً        ولا رَدَّ إلا من صــــداها المُجاوب

ولم تَخْلُ عَيْني من ظباء عِراضِها        ولكنْ أرتْنا الــــوحشَ بعد الرَّبائب

قد ظهرت سلطة الطلل عند القاضيّ الأرجانيّ، عبر تحوّله الخطابيّ، إذ لم يعمد إلى وصف نسقيّة الرّحيل وأدوات البعد عن الموطن الأول للحبيبة الرّاحلة، بل جعل سلطة وقوفه تتمحور حول وصف حالته الشّعوريّة، التي سيطرت على ذات الشّاعر، فمغادرة الحبيبة كانت مكانيًّا، لكن! بقايا ذكرى الحضور لا تزال عالقة في المكان الأول، إذ كان يحمل كل مواقفِ اللقاء، ثم بعد أخذت نفس الشّاعر تنحني باتجاه العاطفة، للتّعبير عن مكنونات الشوق لملامح الأنثى الرّاحلة عن ديارها، لذا فمحبّته لذات الحبيبة ولمكانها لا ينفك عن ذات الشّاعر ، بل أصبح  يصاحب خطابه التّصويريّ، حتى وإن غدت ديارها مسرحًا لأصوات العراء؛ لكون هذه الدّيار تُصاحب ذكرى الحبيبة وتحمل بقاياها .

المحور الثّاني : سلطة الذّوق في النصّ الشعريّ العباسيّ

إنّ الحديث عن السّلطة النصيّة، هو حديثُ لا يخلو من مضمرات التّوظيف السّياقيّ الدقيق، إذ إنّ تشكيل النصّ يحتاج إلى أدوات خطابيّة وإلى مُفكرة ذهنيّة، تعمد إلى إيصال ما يسمو إليه النصّ عبر تشكيلاته اللغويّة  المُختلفة، بصرف النّظر عن مستوى تحقيق إدراكيّة الفهم عند القارئ والسّامع؛ لأن مستوى الإيصال لا يكون على وتيرة واحدة ما بين قارئ وآخر ، وعلى وفقِ هذا تتنوع قصديّة الخطاب المُرسل، وتتعدد قراءات النصّ على وفقِ مستويات قرائه  .

لذا لا بد لنا من الوقوف على مفهوم السّلطة الذّوقيّة، نحن نعلم أن الذوق على وفق المنظومة اللغويّة يدل على حاسة الذوق فيكون” الذوق مصدر ذاق الشيء يذوقه ذوقًا وذواقًا ومذاقًا، فالذوق والمذاق يكونان مصدرين ويكونان طعمًا، كما تقول ذواقة ومذاقه طيب؛ والمذاق طعم الشّيء والذّواق هو المأكول والمشروب…”(12). وفي ضوء الأدب والفن يدل الذّوق على ” حاسة معنويّة يصدر عنها انبساط النّفس أو انقباضها لدى النّظر إلى  أثر من آثار العاطفة والفكر. ويُقال : هو حسنُ الذوق للشّعر : فهّامة له، خبير بنقدهِ”(13) . فبناءً على الدّلالتين التي وضحت الأثر المعنويّ والحسيّ، لمفهوم الذّوق على وفقِ رؤية اللغة ودلالة الفنّ، يتضح لنا ان العامل النّفسيّ له الأثر البالغ في تشكيل الرؤية الحسيّة والذوقيّة، وهذا بدورهِ يعزز ثيمة التأمل عند المتذوق لأيّ عمل فنيّ .

وأمّا على وفقِ الرؤية الاصطلاحيّة ينظر إلى مصطلح الذّوق على أنّه تلك الملكة العقليّة، التي نُدرك من خلالها ونستمتع بكل ما هو جميل سواءً على مستوى الفن أو الأدب، ثم بعد نملك خاصيّة الحكم على الأشياء المُتذوقة من الأعمال الإبداعيّة والفنون الجميلة(14). فحين نأتي إلى سلطة الذّوق في النّصّ الشّعريّ، يجب علينا أن نُدرك أن للنصّ سلطة وحرمة كبيرة لذا ” علينا أن نجعل للنصّ احترامًا أوفى، علينا أن نُساعده على الحديث وبعبارة أخرى – علينا أن نُجرب حرمة النصّ –  من حيث هو آخر كامل لا مُجرد موضوع نُجرّب فيه ذواتنا وأهواءنا” (15) . فهذه السّلطة قد فرضت هيمنتها على الشّاعر، بناءً على مُقدّرات العصر الذي يعيش فيه، وعلى هذا الأساس تكون قوة شعره رهينة عصره، ولا بد لتكوين شاعر كبير مُكتمل النّواحي ناضج الشّاعريّة من قوتين، قوة العصر وقوة العبقرية، فالشّاعر الذي يعيش وسط أجواء مُرتبكة، ولم تكن الحياة الفكريّة فيه جارية مُتدفقة، يأتي شعره رثًّا مملولًا ساذجًا، مهمًّا كان فيه من قوة الشّاعريّة وصدق العبقريّة(16). ولهذا جاء الشّاعر العباسيّ مُمتثلًا لكلّ أساليب التّطور التي فرضتها قوة العصر وموازين حداثة التّطور، لذا عمد إلى ترسيخ رؤية فنيّة مُغايرة، خارجة عن حدود التّقليد القديم وفاعلة في تثبيت حدود الذّوق الجديد . فجاء الشّاعر الفقيه  منصور بن إسماعيل الفقيه؛ كي يوثق رؤيته الذوقيّة إذ يقول(17):

قُـل لِلكِـرامِ اعـرَفـوا حَـــقَّ اللِّئامِ لكُم         إنَّ اللِّئامَ لهــم عِــنــدَ الكِـــــرامِ يَــدُ

لـــَولا اللِّئامُ لمــا عَــــدَّ الكِــــرامُ وَلا         بــانـوا بـفـضـل إِذا مـا حُـصِّلـ العَـدَدُ

لَكــنَّهـم جَـنَـحـوا لِلنَّقـصِ فَـاِنـتَـقَـصـوا       وَزاد غَـيـرُهُـم فَـضـلا بـمـا اعـتَـقَــدوا

جــادوا فَـسـادوا وَضَـنَّ الآخـرون فـمـا       يـــغـــدو عـــلى والِدٍ مـــن لُؤمــه وَلدُ

قَـد سـاءَ ظَـنِّيـ بـمـا قـد كُـنـتُ أَحـمــــده       لمـا رَأيـتُ جـمـيـعَ النّـاسِ قــد فَـسَدوا

تَــدارَسـوا البُـخـلَ حـتّـى دَقَّ مَـذهَـبُهُـم       فــيــه وَدانـوا بِـإِخـلافِ الَّـــذي وَعَـدوا

فَـاِسـتَـعـقَـلوا كُـلَّ مـن أَصـغـى لبـخلِهِم      وَاِسـتَـجـهَـلوا كُـلَّ مـن واسـى بـما يَــجِدُ

فَــصــارَ لِلبُــخــلِ حَــقُّ الجـودِ بَـيـنَهُـمُ      وَأَلزَموا الجودَ عارَ البُخــلِ لا رَشَـــدوا

تتمحور سلطة الذّوق في هذا النصّ ،حول ثنائية البخل والكرم، فالتّرف الذي كان سائدًا في العصر العباسيّ، قد فرض على الشّاعر، الانقياد إلى سلطة مظاهره، وإظهار ذلك على معالم النّسق الاجتماعيّ، لذا استهجن الشّاعر نسق البخل وعدّه شيئًا خارجًا عن معالم السّلطة الذّوقيّة في هذا العصر، لكن! هناك إيجابيّة تتمحور حول نسقيّة البخل؛ في كونه صاحب الفضل، في الكشف عن الكرماء، فلولا البخلاء واستفحال وجودهم لما عرف فضل الكرم، وإيجابيته الفعليّة في المجتمع في العصر العباسيّ، لذا فالكثرة الغالبة للبخلاء وهيمنتها الفعليّة على مشارب العطاء في المجتمع، تجعله يجنح نحو الانحلال والانحراف، فمن كان على مذهب بخلهم أصبح مُدركًا وعالمًا لمظاهر سطوته في المجتمع، ومن خرج عن نظامهم عدوه جاهلًا وخارجًا عن سلطة الإدراك في المجتمع؛ لأن إشهار البخل والتزمت بسطوته، يفرض على البخلاء أن لا يجودوا لغيرهم بل بينهم، ومن يخرج عن هذا النّسق الإشهاريّ ويجود للأشخاص الخارجين عن سطوة البخلاء، ستلاحقه لعنة البخل وسلبيات المنح، وهذه سلطة احتكارية بعيدة من الصواب، فتسمو نحو الطبقية وتحقيق سلبية تستهجنها سلطة الذوق في العصر العباسيّ، لكونها خارجة عن سيمياء التطور والعطاء .

فقد ظهرت السّلطة الذوقيّة عند القاضي الجرجانيّ في غرض المديح ؛ لأنّ الشّاعر ” كغيرهِ من الشّعراء الفنانين ، عشق الجمال وسعى إليه فكان الجمال هدفًا في حياتهِ، امتدح به وتذوقه، وتأثر به سواء في الوجه أو الجسد أو الصوت والغناء الحسن الجميل، الذي يدل على أن له ذوقًا يستحسن الجميل وينفر من القبيحِ ..”(18) . ويتضح هذا بقوله(19):

إذا استشرفت عيانك جانب تَلعةٍ      جَلَت لك أُخرى من رُبَاها جوانبا

يُضَاحِـــكُنا نَـــوَّارها فـــكأنَّما           نُغَازل بين الرَّوض منــــها حَبَائبا

تبَسَّـــم فيــــها الأُقحوَان فخِلتُهُ          تلَقَّــاكَ مـــرتاحاً إِليــــكَ مُــــدَاعِبا

وَحَلَّ نقاب الوَردِ فاهتزَّ يَدَّعـى         بـــواديه فــــي وَردِ الخدود مَنَاسبا

أقولُ وما في الأرضِ غيرُ قرارةٍ      تُصافحُ رَوضاً حَــــولها متقـــارباً

أباتت يَدُ الأســتاذِ بين ريــــاضها     تَــــــدفَّقُ أم أهـــــدَت إليهــا سَحَائبا

أألبسَها أَخلاقَه الغُرَّ فاغـــــتدَت      كواكـــــبها تَجلُو عليــــنا كَــــــوكَبا

أَوشَّت حواشيها خَوَاطــرُ فكرِهِ      فأبدَت من الزهـــــر الأَنـــيق غَرائبا

أَهَزَّ الصَّبا قُضبَانَهَا كاهتزازه        إذا لَمَســــت كــــفَّيـــه كَفَّك طالــــبا

أَخالته يصبُو نــحوها فتزيَّنَت         تؤمِّل أن يخـــــتارَ منها مَلاعــــــبا

إنّ سلطة الذّوق قد اخذت مداها الإشهاريّ عند الجرجانيّ، فهو في نسق مدحهِ خرج عن المعلم التقليديّ، إذ أظهر سلطة البيئة ومعالم التّرف في هيكله اللغويّ، فكل ما هو محيط بشخص الممدوح، هو سلطة  ذات أثر جماليّ، تصور طبيعة الحياة ومعالم التّرف المُحيط به، لذا فحتى نسق الكرم قد تلبّس بمظاهر الطبيعة، إذ تمّت صياغته على وفق ثنائيّة(التّدفق والسّحائب)، وهذا يدل على المبالغة بالعطاء وشدّة المنح عند الممدوح، والخروج عن الحدّ المُتعارف عليه في نسق العطاء، ثم بعد ذلك يتساءل عن أخلاق الممدوح، إذ عمد إلى وصفها بالكواكب؛ لشدة برقها وهيمنة وجودها وتطبيق ذلك في التّشخيصيّ الفعليّ لكينونة الممدوح ، وهذا معلم جماليّ آخر اظهرته سلطة الذوق عبر  تزمتها في فن الصياغة النّصيّ، إذ إنها أخرجت النصّ من معالم التقليد البدويّ إلى نسق الذوق الحضريّ .

وفي نصٍّ آخر أخذ الجرجانيّ، يتساءل عن نسقيّة المكان وأثر البعد في تعزيز سلطة الذوق فيقول(20) :

أراجــــعةٌ تلـــك الليــــالي كعــــهدها      إلى الوصلِ أم لا يُرتجى لي رجــوعُها

وصحـــبــة أقـــــوامٍ لِبستُ لِفَــــقدِهم       ثيــــابَ حــــدادٍ مُــــستَجَدَ خليـــــــعُها

إذا لاحَ لي من نحو بغـــدادَ بــــارقٌ        تجـــافَت جُفُــــوني واسُتطيرَ هُجُوعُها

وإن أَخـــلَفَتها الغــــادياتُ رُعُودَها         تُكَلــــّف تصــــديقَ الغـــــمامِ دمـُوعُها

سقــــى جانبي بغدادَ كُــــلُّ غَمَامةٍ          يُحَاكي دموعَ المُستــــهام هُمُـــــوعُها

مَعَاهِد من غزلانِ إنسٍ تحــــاَلَفت          لواحِظُـــها ألا يُــــدَاوَى صـــريعُـــها

بِها تسَكُنُ النَّفسُ النـفورُ ويَغـتَدي           بآنسَ مِـــن قلـــــبِ المـــــقِيمِ نَزِيُعها

يَحنُّ إليـــها كلُّ قـــــلبٍ كــــأنما            يُشَــــاد بحبَّـــاتِ القـــــلوبِ ربُوعُها

فكلُّ ليالي عَيشــــها زَمَنُ الصَّبا            وكلُّ فصـــول الدَّهر فيهــــا ربُيعـها

وما زلتُ طَوعَ الحادثاتِ تقُودُني           على حُكمــــها مُســـتكرَهاً فأطـيعُها

هنا قد سارت سلطة الذّوق عبر صيغة التّساؤل الاستفهاميّ؛ لكي تؤكد ثيمة المكان- بغداد، ومقدار محبتها في نفس الشّاعر، لذا أخذ الشّاعر يتساءل عن أمكنة قد اشرأبت بمعالم أنسها، من خلال سكون صيغة تساؤله على ثبات زمنيّ واحد وهو( الليل)، فالبعد عن المكان جعل سلطة الذوق تُهيمن على ذاكرة الشّاعر، لذا جعلته يتحرك على وفق مدرات أنسيّة لم تتخطَ معالم الصحبة وجماليّة الأرقة، لذا ثيمة البعد عززت من نسقية الحنين والحب الشديد لمعالم المكان – بغداد، فالغمام في نسق أرواه لمعالم بغداد، يحاكي دموع الوله لربوع صباه، فلا يزال الشّاعر يتحرك على وفق ثنائيّة زمنيّة (اللياليّ، الفصول)، لكي يوثق سلطة ذوقه ويعلن خروجه عن معالم الوصف السّطحيّ، من خلال بيان مدى تشعب جماليات المظهر الحسيّ( زمن الصبا، ربيعها)، وتجذّرها وانعكاس صورتها على الذّات الشّاعرة، في صورة اغترابها المكانيّ .

حين نمعن النظر في ” البحث عن الصورة المباشرة للمرأة، يستدعي الوقوف عند عتبة الحبيبة أولًا، بوصفها الأكثر حضورًا في الشّعر العربي عامة، فقد كان من البديهي أن نبحث عن صورتها في شعر الغزل، الذي يعد ترجمانًا للمشاعر الذاتيّة والفرديّة، التي قد تتخذ شكل سلوك عام ونزوع إنسانيّ، فتتوحد صورة الحبيبة لذلك، وتتقارب ملامحها في كل التّجارب والنّصوص” (21). وهذا ما رسمه الشّريف الرّضي بصورة سلطته الذّوقيّة إذ يقول(22) :

هَل عَهدُنا بَـــعدَ التَفَرُّقِ راجِــــعٌ        أو غُصنُنا بَعـــدَ التَسَلُّبِ مورِقُ

شَوقٌ أَقـــامَ وَأَنــتِ غَيرُ مُقــــيمَةٍ        وَالشَــوقُ بِالكَلفِ المُعَنّى أَعلَقُ

ما كُنتُ أَحظى في الدُنوِّ فَكَيفَ بي       وَاليَومَ نَحنُ مُغَــــرِّبٌ وَمُـشَرِّقُ

مِن أَجـــلِ حُبُّكِ قُلتُ عـــاوَدَ أُنسَهُ      ذاكَ الحِمى وَسُقي اللَوى وَالأَبرَقُ

طَرَقَ الخَيالُ بِبَطنِ وَجرَةَ بَعـــدَما      زَعَمَ الـــعَواذِلُ أَنّــَهُ لا يَطـــــرُقُ

أَتَـــحَنُّنــــاً بَعــــدَ الـــــرُقادِ وَقُسوَةً      أيّـــــامَ أُصــــفيكِ الــوِدادَ وَأُمذَقُ

أَنّى اِهتَـــــديتِ وَما اِهتَدَيتُ وَبَينَنا      سورٌ عَلَيَّ مِــــنَ الطِعــانِ وَخَندَقُ

إنّ السّلطة الذوقية في نصّ الرضيّ، قد نتجت بناءً على سياقات خطابيّة اخرجته عن حدود التّقليد القوليّ، لذا أخذ في خطاب الأنثى مجرى جماليّا آخر، من خلال توظّيف الاستفهام التّساؤلي في نسق المكان الخاليّ؛  لكي يُفعّل مباشريّة الخطاب، ويتساءل عن شخص الحبيبة المُغادرة؛ لأنّ الّذات تسمو نحو الرّجوع إلى سابق ميثاق عهدها مع الحبيب، فرجوعه هو عودة الحياة، لكن هذا البعد النّسقيّ عبر تحوّله المكانيّ، لا يقلل من وتيرة حدّة الشّوق، ثم بعد ذلك يحاول أن يمنح سلطة ذوقه قدسيّة الشّعور، فيوعز إلى أن وجود الحبيبة في الدّيار أو بعدها عنها، لا يمنح الحبيب شرعية الوصول ولا رمزيّة اللقاء، لذا يحاول أن يُرمم ذاته، فيعمد إلى جعل محبته لها مُتغلبة على كل آثار الرّحيل، فيعاود الرّجوع إليها  ويبث الحياة فيها ويجعلها من مواطن أنسه، لذلك لا وسيلة لاستظهار حدث الرجوع الفعليّ سوى طيف الخيال، الذي تجسّد عبر سلطة ذوقيّة جعلته يخالف كل العذال ويسلك مسلكًا إشهاريًا في رقادهِ الطيفيّ، وهذا الحضور الطيفيّ هو تعويض للذات المُحبة، وتخليصها  من كل معوقات اللقاء الفعليّ، وهو بذلك يكون كاشفًا عن معايير التقييد العينيّ والمجتمعيّ، التي تحول دون اللقاء بين الحبيبين .

وفي نصٍّ آخر عمد الشريف الرضيّ إلى توظيف سلطته الذوقيّة في محورِ رثائهِ (23) :

وَلِلحُزنِ ثَوراتٌ تَجورُ عَلى الـفَتى     كَما صَرَعَت هامَ الرِجالِ شَـمولُ

لَقَد كُنتُ أوصي بِالبُكاءِ مِنَ الجَوى     لَوَ اِنَّ غَراماً بِالدُمــــوعِ غَســيلُ

فَـــــأَمّا وَلا وَجدٌ يَــــزولُ بِــــعَبرَةٍ             فَصَبرُ الفَتـــى عِندَ البَلاءِ جَميلُ

وَكَم خالَطَ الباكينَ مِن سِنِّ ضاحِكٍ      وَبَينَ رُغاء ِ الرازِحاتِ صـَهيلُ

وَإِنّي أَرانــــي لا أَليــــنُ لِحـــادِثٍ           لَــــهُ أَبَــــداً وَطءٌ عَلَــــيَّ ثَقيلُ

وَأُغضي عَنِ الأَقدارِ وَهيَ تَنوبُني      وَما نَظَري عِندَ الأُمــــورِ كَليلُ

يُهَوِّنُ عِندي الصَبرَ ما وَقَعَت بِهِ      صُروفُ اللَيالي وَالخُطوبُ نُزولُ

يُريد الشّاعر أن يخضع سلطة نصّه إلى الذّوق السّياقيّ في محور رثائهِ، لذا استعار الحزن للثورات؛ كي يؤكد عمق الفجيعة التي تلقاها الخليفة المُقتدر بوفاة ولده، ولم يكتفِ بهذا بل عزز من واقع الفجيعة لذا شبه رحيله بالرّياح التي تقتلع هامات الرجال، وبعد ذلك  يُحاول الوقوف على رمزيّة البكاء كي يُنسق بوصلة خطابه، فيجعل البكاء تنفيسًا عن الذّوات في حالة توافر شدة العشق وما يُورثه من حزنٍ في حالة الفقد، لكن هذا البكاء حين يخرج عن قاعدة التّنفيس عن الذّوات في حالة تكاثف شدة العشق والهيام فلا منفذ للخلاص إلا التجمّل بالصبر في الغم والحزنِ، لذا فليس كل شخص يمكنه أن يتلبّس باجواء الحزن والبكاء ويعيش لوعة الفراق، لذا تتراوح مديات الحزن وتمجيد الفقد، ثم بعد ذلك يُعرّج على ذاتهِ، فيُظهرها بمظهرٍ خارج عن سلطة الخضوع؛ لأنّه صبور على الشّدائد وغير مُمتثل لمصائب الدنيا وحوادثها .

حين نتصفّح شعر مهيار الديلميّ “نجد أنّ عناصر الطّبيعة الصامتة، ترتبط بالعاطفة وتمتزج بالحبّ عنده، وتصمد على طولِ ديوانه. وحتى في ما قصد الشّاعر وصفه منها وصفًّا حسّيًّا، حاول فيه أمام معجبيه إثبات مقدرته الفنية ، في تتبع الصّورة وملاحظة جزئياتها” (24). وهذا ما ظهر في ميادين قوله إذ يقول(25) :

ومنشورةٍ ستَـــرتْ نفــــسَها    فخاطت قميصاً ولاثت خِمارا

وعزَّتْ فصانت سوى ساقها    وما إن أباحته إلا اضطرارا

تُشمّــــــِر عـــــنه جــلابيبَها     لعادته أن يخوضَ الغِـــمارا

فكادت تُــــواريه ضــــنّاً به      ومن حسنها أنّـــه لا يُوارَى

تُشكِّكُني وهـــي طوع الريا       حِ تَتْبعُــــها يَمنَةً أو يَــسارا

أتـــــــدنو لتُسعفَني بالعِــــنا        قِ في مثلها أم تَصدُّ ازورارا

وتجلو عليــــك بناتِ الفسيلِ        إذا كَستِ السَّعَفــاتُ الثـــمارا

غدائــــرُ غيدٍ يُضــــفِّرنَــها         وتـــأبى عليـــهنّ إلا انتشــارا

إنّ الطبيعة الجميلة في العصر العباسيّ، قد فرّضت مداها الجماليّ، ما عزز السّلطة الذوقيّة لدى الشّاعر الديلميّ، لذا تعامل في نصّه الشعريّ على وفقِ نسقيّة التّشخيصيّ الفعليّ، فوصف الأشجار والنّخيل وكأنها موجود حسيّ، وعزز سلطته حين جعل في نصّه مقاربة جماليّة لهيكليّة السّياق الشّكليّ ؛ كي يوحي إلى أنّ الوصف يتعلق بمفاتن الأنثى ومواطنها الجسديّة، وهذا ما يجعل القارئ يخرج عن قولبة السّطحيّ وينبهر في مديات الخطاب الحسيّ، فيكتشف بعد حين مدى تشعب جمال الطبيعة في ذاكرة الشّاعر ومدى هيمنة المضمر الجمالي في النصّ الشّاعريّ، فكل ما وصفه هو حسيّ ولا يخرج عن معالم أنوثة القصيدة وهو بذلك يُعزز سلطة الذوق، ويؤكد مدى خروج الشّاعر عن بوتقة التقليد ومدى انبهاره بجمال  الطبيعة العينيّ . وفي نصٍّ آخر يعد مهيار الديلميّ إلى رسمِ صورة المرأة في معالم سلطة ذوقه فيقول  (26):

تَغرَّبْ فبـــــــالدار الحــــبيةِ دارُ        وفُـــــكَّ المطايا فالمُنــاخُ إِسارُ

ولا تسأل الأقــــدارَ عمّا تـــــجرُّه         مخــــــافةَ هُلكٍ والسلامةُ عارُ

إذا لم يَسعْها الأمنُ في عُقر دارِها       فــــخاطِرْ بها إنّ العلاءَ خِطــارُ

أرى إبِلي تَعــــصِي الحُــداةَ كأنما       بوازلُهــــا تحـــــتَ الحبالِ بِكارُ

تَقامصُ من مسِّ الهوان جُنوبُـــها        كأنّ الأذى طــــردٌ لها وعَـــوارُ

تحَسَّى القذَى المنزورَ من ماءِ أهلِها     وتأبىَ النمـــــيرَ العِدَّ وهْو بــحارُ

ومــــذ علِمتْ أن الخَشـــاشَةَ ذلَّــــةٌ      ففي خَطْمها مــــن أن تُخَشَّ نفَارُ

هنا يحاول الشّاعر الخروج عن التّقنين المكانيّ، فيُعلي من صيغة خطابه، إذ يرى أنّ النزوح عن الوطن هو شجاعة ذاتيّة تجعلك تخالف كل أنظمة القدر ومخاوفه المُتبطّنة في الذّوات، لضمان حياة أكثر رفعة وشرف  لكن!  هنا نتساءل أين تكمن سلطة الذوق في هذا الخطاب!؟ تكمن السّلطة  في بنية التصوير الحسيّ للوحة الإبل، فالشّاعر يُصوّر سوقها وتسابق حركتها وعدم خضوعها لرمزية الضعف؛ لكي يؤكد مدى جزع الذّات ومدى جدة الرّحيل لذا عزم على تروّيض إبله على المُغادرة والبحث عن البديل الأفضل، فتصوير شدة سرعة الإبل وشربها لماء عينيها؛ بسبب عدم سكون حركتها، ورفضها لشرب النّمير العذب، إنما هو يؤكد مدى رغبة الذات وشدة عزمها في الخروج عن هذه البقعة المكانيّة .

الخاتمة

ا – في سلطة الطلل بدت آثار التطور والحضارة واضحة المعالم  في هيكليّة القصيدة العباسيّة، فلم يعد الشّاعر واقفًا في

الطلل؛ كي يصف رموزًا بالية، بل أصبح يصف مظاهر القباب وآثار العمران الحضاريّ في لحظةِ وقوفهِ الطلليّ .

2 – ظهرت سلطة الطلل في القصيدة العباسيّة، من خلالِ جدية الوقوف في المكانِ الخالي من الأحبابِ، لكن! نسقيّة الوقوف

تختلف من شاعرٍ إلى شاعرٍ آخر؛ حسب دواعيه النفسيّة وجدية مشاعره الحسيّة .

3- أخذت الأنثى حيزًا كبيرّا في سلطة الطلل ، إذ انتقل الشّاعر حسيًّا من معالم المكان الطلليّ إلى معالم الاستحضار الفعليّ للأنثى .

4- وظّف الشّاعر سلطة ذوقه في مختلف الأغراض الشعريّة من مديح ورثاء وغزل ، إذ أخذ يُمازج ما بين هذه الأغراض ويوظفها حسب دواعي ذوقه وهيكلية الغرض الذي يجد قريباُ لذوات مجتمعه .

5- ظهرت سلطة الذّوق عند بعض الشعراء من خلالِ غرض المديح، فاظهر الشّاعر فيه سلطة البيئة ومعالم الترف الحضاريّ، الذي اخرج القصيدة عن حدودِ التقليدِ البدويّ إلى نسق الذوق الحضريّ .

6- حضرت نسقية الاستفهام التّساؤلي في سلطة الذوق، فقد جاءت ملاصقة لنسقية المكان ، لكنّ! خاصيّة التّوظيف قد اختلفت ما بين شاعرٍ وآخر، فبعضهم وظفها؛ كي يصف مدى شوقه لبلادهِ، وبعضهم وظفها؛ كي يصف مدى شوقه لحبيبته الرّاحلة .

7- عمد الشّاعر في سلطةِ ذوقهِ إلى التّعاملِ مع النّص الشعريّ، على وفقِ نسقيّة التّشخيصيّ الفعليّ، وهذا يدل على مدى تشعب سلطة الذوق وأثر الطبيعة والتّطور في القصيدةِ العباسيّة .

 

الهوامش

1- تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهريّ ، 5/ 1752 .

-النهاية في غريبِ الحديث والأثر، ابن الاثير ، 3/ 136 . 2

.  -تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين الزبيديّ ، 15/ 439 3

-الهادي إلى لغة العرب، حسن سعيد الكرمي،373 .4

ديوان البحتري:1/ 83- 84 .  -5

رافعة السراج،172، مجلة التربية والعلم، المجلد،16   -المكان في نقائض جرير والفرزدق الطلل أنموذجًا، د.6

العدد،3/ 2009م .

ديوان البحتري:1/ 104 -7

8-ينظر: التجديد في شعر الصنوبريّ(أطروحة دكتوراه)، أحمد علي أحمد جودة، 28-29  .

ديوان الصنوبري : 50 . -9

10-سيميائية المكان في شعر امرئ القيس، د. إخلاص محمد عيدان، د. صلاح كاظم هادي، 4، مجلة كلية الآداب جامعة بغداد، 104/ 2013م .

-ديوان الأرجانيّ، 1/ 182- 183 .11

.  -لسان العرب، ابن منظور، 2/ 1084-108512

المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، 318 . -13

-يننظر: الذوق الأدبي وتطوره عند النقاد العرب ، نجوى محمود صابر، 14 . 14

اللغة والتفسير والتواصل، د. مصطفى ناصف، 176 . -15

-ينظر: على هامش الأدب والنقد، علي أدهم، 175 .16

منصور بن اسماعيل الفقيه (حياته وشعره) ، د. عبد المحسن فرّاج القحطانيّ،92-93 .  -17

18- الإنسان في رؤية ابن الروميّ والمتنبيّ بين المدح والقدح (رسالة ماجستير)، جمعة بنت سفر سعيد الزهرانيّ، 19.

ديوان القاضي الجرجاني: 51  -19

المصدر نفسه،98 .  -20

-صورة المرأة في الشعر الأندلسيّ، د. سليمان القرشيّ، 35 . 21

ديوان الشريف الرضي،2/ 39- 40 .  -22

المصدر نفسه ،2/ 192- 193 .  -23

-الطبيعة في شعر مهيار الديلميّ(رسالة ماجستير)، حمزة حسن الرفاتي،37 . 24

-ديوان مهيار الديلمي، 1/ 351-352 25

-المصدر نفسه، 1/ 382 . 26

المصادر والمراجع

القرآن الكريم-

1-المجلس الوطنيّ للثقافةِ والفنون والآداب، الكويت، ط1/ 1995م  اللغة والتفسير والتواصل، د.مصطفى. ناصف،

المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، المكتبة الإسلاميّة للنشر، إستانبول، تركيا (د. ت). -2

أبي السعادات المبارك بن محمّد الجزريّ ت(630هـ))، تحقيق طاهر 3-النهاية في غريبِ الحديث والأثر، ابن الاثير (للإمام مجد الدين

4- أحمد الزاويّ، ومحمود محمّد الطناحيّ، منشورات إسماعيليان للنشر، ايران، ط4/ 1944م .

الهادي إلى لغة العرب، حسن سعيد الكرمي، دار لبنان للنشر، 1991م.-5

تاج العروس من جواهر القاموس، محب الدين أبي فيض السيد محمّد مرتضى الحسينيّ الزبيديّ(ت-6 1205هـ)،تحقيق علي شيري، منشورات دار الفكر، بيروت(د. ط)/ 1994م.

تاج اللغة وصحاح العربية، إسماعيل بن حماد الجوهريّ(ت 393هـ)، 5/ 1752، تحقيق أحمد عبد الغفور-7 العطار، منشورات دار العلم للملايين، بيروت، ط4/ 1987م .

ديوان الأرَّجانيّ، أحمد بن محمد الحسين الأرَّجاني(ت 544هـ)، تحقيق د. محمّد قاسم مصطفى، منشورات وزارة-8 الثقافة ، بغداد، ط1/ 1986م .

ديوان البحتري، أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى التنوخي(ت 280هـ)، تحقيق حسن كامل الصيرفيّ، دار -المعارف، القاهرة، ط3/ 1963م .

ديوان الصنوبري ، أحمد بن محمد الحسن الضبيّ(ت 280هـ)، تحقيق إحسان عباس، دار صادر، بيروت، ط1/ -1998م

ديوان القاضي الجرجاني (علي بن عبد العزيز ت ٣٩٢ هـ)، تحقيق ودراسة إبراهيم صالح و سميح إبراهيم صالح، دار البشائر، دمشق، ط١/ ٢٠٠٣م.

ديوان مهيار الديلميّ، أبو الحسن مهيار بن مرزويه الديلمي(ت 428هـ)، إشراف أحمد نسيم، منشورات دار الكتب المصريّة، القاهرة، ط١/ ١٩٢٥م .

الذوق الأدبي وتطوره عند النقاد العرب حتى نهاية القرن الخامس الهجريّ، نجوى محمود صابر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكنرية، ط1/ 2006م

صورة المرأة في الشعر الأندلسيّ، د. سليمان القرشيّ، منشورات دار التوحيديّ، المغرب، ط1/ 2015م .

على هامش الأدب والنقد، علي أدهم،دار المعارف،القاهرة،ط1/ 1979م .

أبو الفضل جمال الدّين محمّد بن مكرم)،تقديم عبدالله العلايليّ، تحقيق يوسف الخياط،(د.ط)/1988م . )  لسان العرب، ابن منظور

منصور بن اسماعيل الفقيه (حياته وشعره) ، د.عبد المحسن فرّاج القحطانيّ، دار القلم، بيروت، ط٢/ ١٩٨١م .

المجلات والدوريات

سيميائية المكان في شعر امرئ القيس، د. إخلاص محمد عيدان، د. صلاح كاظم هادي، 4، مجلة كلية الآداب

جامعة بغداد، 104/ 2013م .

رافعة السراج، مجلة التربية والعلم، المجلد، 3/ 2009م . المكان في نقائض جرير والفرزدق الطلل أنموذجاً،

الرسائل والأطاريح الجامعيّة

الإنسان في رؤية ابن الروميّ والمتنبيّ بين المدح والقدح، جمعة بنت سفر سعيد الزهرانيّ، رسالة ماجستير، جامعة أم القرى، كلية الدراسات العليا، 1997م .

التجديد في شعر الصنوبريّ، أحمد علي أحمد جودة، أطروحة دكتوراه، كلية الآداب ،جامعة اليرموك، 2014م

م2019 الطبيعة في شعر مهيار الديلميّ، حمزة حسن الرفاتي،رسالة ماجستير، جامعة آل البيت، كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة

 

 

 

1- مدرس دكتور كلية الكوت الجامعة – قسم القانون. Smeraslmen1955@gmail.com

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

free porn https://evvivaporno.com/ website